موضوعات علم النفس(الموضوعات النظرية)

الفصل الأول:مقدمة


-علم النفس والمدينة الحديثة
-خطة الكتاب العامة

 

الفصل الثاني:علم نفس الحيوان (المناهج والنتائج)

-مقدمة
-قدرات الاستقبال الحسي
-دوافع السلوك
-التعلم والذكاء

 

الفصل الثالث: علم نفس الطفل

-تطور الانفعالات في الأطفال
-استجابة الطفل للسلطة
-موضوعات هامة في علم نفس الطفل

 

الفصل الرابع: مفاهيم علم النفس الاجتماعي ومناهجه

-طبيعة التجمعات البشرية

-ثلاث تجمعات اجتماعية

-التفاعل الاجتماعي

-مناهج علم النفس الاجتماعي

 

الفصل الخامس: سيكولوجية الحشد

-ثلاثة نماذج للحشد

-تكوين الحشد

-أثر الميكانيزمات في جماعات الحشد

 

الفصل السادس علم النفس المرضي (الاضطرابات الكبرى)

-خصائص الاضطرابات الكبرى

-تصنيف الذهان

-الذهان العضوي

-الذهان الوظيفي

 

الفصل السابع: علم النفس الفسيولوجي

-الاتجاه العام

-الوظائف الحسية

-الوظائف الحركية

-الدماغ والسلوك

-ميكانيزمات البدن والشخصية

 

الفصل الأول[1] :مقـدمة

بقلم: (ج. ب. جيلفورد)

جامعة: (كاليفورنيا الجنوبية)

 

عندما يسجل تاريخ العلم - بعد مرور قرن من اليوم – يمكن وصف القرن العشرون بأنه عصر العلوم السيكولوجية، كما يمكن وصف القرن التاسع عشر بأنه عصر العلوم البيولوجية، وما قبله من القرون عصور العلوم الفيزيائية والكيميائية. وسبب ذلك أن علم النفس قد ترعرع في هذا القرن، وأحرز أكبر قسط من التقدم السريع، مثل العلوم البيولوجية التي نضجت، ووطدت أقدامها بين سائر العلوم في القرن السابق.

 

سلوك الإنسان في العالم الحديث:

يُعَدُّ سلوك الإنسان في العالم الحديث آخر شيء يخضع للدراسة العلمية، ومن الواضح أن التقدم الذي حققه الإنسان في العلوم الطبيعية كان أسرع بكثير مما حققه في العلوم الاجتماعية، مما أدى إلى اختلال بالغ في توازن المعارف الإنسانية. والنتيجـة الخطيرة التي أدى إليها هذا الوضع، هي أن قدرته على ضبط القوى المادية - سواء أكان هذا الضبط للخير أم للشر - قد زادت إلى أقصى حد من إمكانياته في تدمير نفسه، ومن المسلم به أن هذه الإمكانيات يجب - تحقيقاً للتوازن - أن تقاومها إجراءات جديدة في الضبط الذاتي والضبط الاجتماعي، إذا أردنا للإنسان البقاء، وتحسين هذه الوسائل الضابطة يتوقف إلى حد كبير على زيادة معرفتنا بسلوك الإنسان، وخاصة بكيفية تفاعله مع أقرانه. ويجب أن تستمد هذه المعرفة من أقرب المصادر، وهي علم النفس وما يجاوره من العلوم الاجتماعية.

 

واحدة من أكثر المبادئ رسوخاً في علم النفس، هي أن سلوك الإنسان يتأثر بشكل كبير بالاستثارات الماضية والراهنة التي يتعرض لها الفرد. والشخص العادي في عصرنا هذا مُعرض لاستثارات معقدة إلى أقصى حد إذا قورنت بما كان يتعرض له أسلافه، كما أنها أكثر امتزاجاً بالعناصر الاجتماعية، فزيادة السكان والهجرة إلى المدن، وزيادة الأسفار، وتحسين وسائل الاتصال والتواصل، كل هذا من شأنه أن يزيد الأفراد تعاملًا مع بعضهم البعض، وبالتالي يوسع نطاق الاستثارة والتفاعل. فالإنسان العصري، بالقياس إلى أسلافه، يعيش في جو من الاستثارات الصادرة عن المجتمع، وأكثرها لفظي، سواء عن طريق الكلام أم الكتابة. وسبل الاتصال في أكثر البلاد حضارة ممهدة وميسرة إلى حد يجعلنا باستمرار مُعرضين لتلقى الاستثارات من كل صوب، حتى من أقصى أطراف الأرض. فما نفعله أو نعقد العزم على فعله، مشاعرنا وأفكارنا وتفكيرنا قد تتأثر بالاستثارات الجديدة التي نتعرض لها في حياتنا اليومية، وهذا يمكن أن يشمل الأحداث التي حدثت في (لندن) أو (موسكو) أو (طوكيو) قبل لحظات قليلة من تناول فطورنا. كما يمكن أن يؤثر ما يفعله أو يقوله أو يفكر فيه مجموع الشعب على أفكارنا وتصوراتنا ومشاعرنا.

إن الحكومات والأحزاب السياسية والأفراد الذين يتوقون إلى السلطة، سرعان ما يستولون على سبل الاتصال كوسيلة لضبط سلوك الشعب، سواء سمينا مجهودهم هذا بـ"التربية" أم بـ"الدعاية". وبفضل هذه الوسائل وغيرها، يتاح مجال لتطبيق أساليب التحكم التي لم نشهدها من قبل. واليوم، ليست القنابل هي الأسلحة التي تستخدمها الشعوب في حروبها، بل هذه الحصون الماكرة من الألفاظ. وسواء قصد من الجهود لضبط الآخرين ما يمكن عده خيراً أوشراً، فإن إحكام طرق الضبط يتوقف خاصة على كشف المبادئ السيكولوجية للتفكير والاستجابات الإنسانية. ولا بد أيضًامن الاعتراف التام بقيمة المبادئ السيكولوجية إذا أردنا ترقية النظم والقوانين الاجتماعية التي تكفل السلام بين الناس، وتسمح لهم بالتطور وفقاً لقدراتهم ورغباتهم. ومع ذلك، لا يزال الكثير من هذه المبادئ غامضًا وغير مفهوم بشكل جيد، كما أن كثيرًا منها يطبق في الواقع دون إدراك واضح بذلك. وكثير منها أيضًا قد أقيم على أساس علمي سليم، غير أنه لم يستخدم إلا في حدود ضيقة، وبطريقة غير ملائمة. ولا شك أن أكثر المشكلات خطورة في الوقت الحاضر هي مشكلة العلاقات الإنسانية في نواحيها السياسية والصناعية والاقتصادية. وبالتالي، يتوقف مصير الإنسانية على الحل الحكيم لهذه المشكلة.

 

علم النفس والمدنية الحديثة

 

سبب تعدد ميادين علم النفس:

إن علم النفس يهدف عمليًا إلى خلق أجيال أحسن من البشر، وإلى تحسين مستوى الأجيال الحالية، إلا أن نشاط هذا العلم يشمل المملكة الحيوانية بأسرها. فعلم النفس بمعناه الواسع يدرس نشاط الكائنات الحية أنواعاً وأفراداً. وعندما يتناول الإنسان بوجه خاص فهو مسوق إلى دراسته من حيث هو قادر على تحصيل المعرفة[2]، وذلك من جميع وجوهه، وفى جميع علاقاته، خوفًا من أن يفوته أمر هام يخصه. وعندما يشرع علم النفس في دراسة سلوك جميع الكائنات الحية، من أعلاها إلى أدناها، وفى الإحاطة بطبيعة الإنسان من شتى نواحيها، فمن الطبيعي أن يتطلب علم النفس التفرع في ميادين مختلفة. ولا يصدق هذا على محاولة الكشف عن الوقائع والمبادئ فقط، بل يصدق أيضًا على تطبيق هذه الحقائق والمبادئ على المشكلات الإنسانية. وبالنظر إلى حياة البشر ومشاكلهم، فإن سبل الحياة والمشكلات التي تعتمد على المعرفة السيكولوجية هي أكثر تنوعًا وشمولًا من أي مصدر آخر.

فهناك، باختصار، ميادين عدة لعلم النفس التطبيقي، كما أن هناك ميادين عدة لعلم النفس النظري. وسنعني في الفصول القادمة بهاتين الناحيتين: ناحية المعرفة السيكولوجية، وناحية تطبيقها واستخدامها، وسنرى ما يقوم به الـ "سيكولوجي"، من حيث هو عالم في معمله وفى ميدان أبحاثه، وسنشاهد ما يفعله في عيادته وفى مكتبه، حيث يعمل كمهندس بشرى من نوع جديد.

كما سنرى كيف أن كشوف عالم النفس في سبيلها إلى تغيير تفكير الإنسان واتجاهاته، وإلى التأثير في حياة شعوب كثيرة لا تزال حتى اليوم تجهل وجوده.

 

كيف يغير علم النفس طرق التفكير:

ولكي نبين كيف يستطيع علم حديث أن يوجه طرق تفكير الناس إلى اتجاهات جديدة، نذكر على سبيل المثال تعاليم (داروين - (Darwin الخاصة بتطور الأنواع. وسنذكر أيضًا مثال آخر أسبق في تاريخه من المثال السابق، وهو قول (كوبرنيكوس - (Copernicus بأن الأرض ليست مركز الكون. إن مثل هذه الآراء الثورية لا تغير فقط تفكير الإنسان، بل تغير أيضًا طرق معيشته ونشاطه.

واليوم نرى أن تعاليم علم النفس تؤثر – وربما ستظل تؤثر – تأثيراً يكاد يكون أكثر خطورة من التأثيرات السابقة في نظرة الناس إلى الحياة، وخاصة عندما يتعلق الأمر بنظرتهم لأنفسهم وإلى أقرانهم. وعلى الرغم من عدم حدوث ثورة فجائية في علم النفس مثل التي أثارها (داروين)؛ فإن ذلك ربما يعود إلى تهيؤنا للتغييرات التي يحدثها هذا العلم. غير أن هذه التغيرات لا تقل واقعية عما سبقها، كما أنها، بدون شك، لا تقل عنها في عمقها وبعد مداها.

 

موقفنا من السلوك المضطرب:

تهدف الفصول القادمة إلى الإشارة إلى بعض هذه التغيرات الهامة. وإن كان لم يشر صراحة إلى هذه التغيرات فمن الممكن أن يستنبطها القارئ المتيقظ من بين السطور التي يقرأها. ولنذكر على سبيل المثال المواقف العامة التي يقفها الوالدان وغيرهم من اضطرابات السلوك. فالأسباب التقليدية التي تعزى إليها هذه الاضطرابات تشمل: «تجارب الشيطان»، و«الغرائز البهيمية»، و«الوارثة السيئة»، أو هذا القول المألوف: «عدم ضرب الطفل يفسده»؛ ومجرد ذكر أحد هذه الأسباب قد يبرر سلوك الوالدين أو المعلمين، ويحرم الطفل من الرعاية اللازمة، أو قد يدفع إلى بذل جهود صارمة لمقاومة هذا الأثر «السيء» بإجراءات قد تؤدى بالطفل إلى حالة أسوأ مما كان عليها من قبل. أما علم النفس فإنه ينظر إلى اضطراب السلوك، كما ينظر إلى أي شكل من السلوك، على أنه نتيجة لمجموعة من القوى الطبيعية التي تسلك في عملها سبلًا قد نعرفها كثيرًا أو قليلًا. ويكمن الحل في الكشف عن القوى المؤثرة في سلوك كل طفل على حدة، وفى تطبيق الإجراءات الإصلاحية اللازمة. وموقف السيكولوجي من اضطراب السلوك أشبه ما يكون بموقف الطبيب إزاء المرض أو النقص الجسمي. فاضطراب السلوك يجب أن يشخص بدقة قبل أن يعالج.

 

الاتجاه الإكلينيكي في مقابل الاتجاه الشخصي:

ولننظر، على سبيل المثال أيضًا، في مشكلة وثيقة الارتباط بالمشكلة السابقة، وهي الخطورة النسبية لأنواع مختلفة من اضطرابات السلوك. وقد أخذ رأى الآباء وكثير من المعلمين في هذا الموضوع، حيث اتفقوا على أن: السرقة والغش والكذب وعدم الطاعة والألفاظ البذيئة والحلف والتدخين، هي من بين الاضطرابات السلوكية الأكثر خطورة. بالمقابل، فإن علماء النفس يميلون إلى تصنيف: نوبات الهبوط والمخاوف غير العادية والقسوة والشكاية المستمرة والهروب من الاتصالات الاجتماعية والحرد، وغيرها من الاضطرابات النفسية على أنها من بين الاضطرابات السلوكية الأكثر خطورة.

 

والفرق بين الموقفين فرق أساسي في وجهة النظر. فالوالدان وكثير من المعلمين يعدون أكثر السلوك خطورة ذلك السلوك الذي يخالف المعايير الأخلاقية العرفية، أو ما يتعارض مع سلطة الآباء، أو ما يؤدى إلى الإخلال بالنظام الرتيب للمنزل أو المدرسة. أما علماء النفس فإنهم يبحثون عن الأعراض المنذرة بالخطر من سوء التوافق. فهم يقلقون عندما يلمسون في الطفل ما يدل على نكوصه غير العادي عن مواقف الحياة، أو ما يدل على سرعة إثارته العصبية، وعلى اصطناعه أساليب غير مألوفة للحصول على ما يبغى، كأن يلجأ مثلا إلى نوبات الطبع العنيفة. فعلماء النفس يدركون أن بعض العادات، إذا تمادى فيها المرء، تؤدى به مستقبلا إلى الإخفاق والتعاسة. ومن الطبيعي ألا يحبذ أحد حتى السيكولوجي كل ما يخالف قانون الأخلاق مثل السرقة والكذب والغش وغيرها. غير أن السيكولوجي يعلم أن مثل هذه المخالفات أقل تنبؤاً، بما سيصاب به الطفل من كوارث في المستقبل، من غيرها من الأعراض التي قد تثير اهتمامه. ويعلم السيكولوجي أيضًا أن السلوك الإجرامي للبالغين غالبًا ما يكون نتيجة لسوء التوافق والانحراف.

 

ويمكننا أن نلخص هاتين النظرتين المختلفتين لاضطرابات السلوك، بالقول بأن الأهل يقفون موقفاً يغلب عليه الطابع الشخصي والخلقي، إذ أنهم معنيون بالسلوك المزعج لهم، أو السلوك الذي ينعكس عليهم شخصياً، في حين أن عالم النفس يبتعد في موقفه عن الاتجاه الشخصي، ويقترب أكثر من الموقف الإكلينيكي [3]، إذ أنه لا يهتم بنتائج سلوك الطفل المباشرة، بقدر اهتمامه بنمو الطفل لكي يصبح في المستقبل منتجاً مفيداً سعيداً. ولا شك في أنه سيأتي اليوم الذي سيدرك فيه الآباء والمعلمون قسطًا أوفر من الروح الإكلينيكية في معالجة ما يصدر عن الصغار الذين في رعايتهم من سلوك مزعج، وسنشاهد عندئذ تقدمَا واسعًا في طريقة تنشئة الصغار، وبالتالي نقصًا محسوسًا في تبديد المجهود لدى الكبار.

 

السبل الأخرى التي يؤثر بها علم النفس في الحياة الحديثة:

اكتفينا فيما سبق بذكر مثالين من بين الأمثلة الكثيرة التي تبين كيف تتغير الحياة الحديثة بتأثير علم النفس. وقد تناول هذان المثالان موضوع تربية الأطفال. وفي وسعنا أن نذكر على سبيل المثال أيضًا مراحل أخرى من الحياة. غير أننا سنترك ذلك للفصول القادمة.

وحسبنا أن نقول إن ميدان التربية مثلًا يتطور باستمرار، منذ روضة الأطفال حتى الكليات الجامعية؛ ويعود ذلك في الغالب إلى الاكتشافات، والتطبيقات السيكولوجية. وسنقف على تغيرات أساسية، إذا قارنا بعناية بين الحالة منذ مائة سنة - بل منذ ثلاثين سنة - والحالة الراهنة، فيما يختص بالكتب المدرسية والامتحانات وغيرها من وسائل التدريس. وقد أمد استخدام الاختبارات السيكولوجية التربية ببعض الأدوات التي لا غنى عنها لتحقيق التوافق بين الطفل والمدرسة، وبين المدرسة والطفل، وللتوجيه المهني وغير ذلك من الأغراض المفيدة الأخرى.

 

وقد وجد أيضًا علم النفس ميداناً لتطبيق علمه في الأسواق التجارية، والمؤسسات الصناعية، والمنشآت الجنائية، وفي العيادة الطبية، والمستشفى، وفي الشئون السياسية. والواقع أنه حيث توجد ضرورة للتعامل مع الناس، وحيث يعنينا اختيارهم، وتوجيههم، وتدريبهم، ومعرفة اتجاهاتهم، واختياراتهم، واهتماماتهم، سنجد مجالًا لاستخدام المعارف والمناهج السيكولوجية. وإننا نحيل القارئ إلى الفصول القادمة ليطلع اطلاعاً أولى على الدور الذي يقوم به علم النفس في جميع هذه الدوائر من الحياة.

خطة الكتاب العامة

يوجد العديد من النظم التي يمكن اتباعها، والدفاع عنها في دراسة علم النفس، ويعد نظام تتابع الفصول الذي اُعتمِد في هذا الكتاب واحدًا منها. وقد خصصت الفصول الأولى بوجه عام للميادين النظرية، في حين خصصت الفصول الأخيرة للميادين التطبيقية، مع بعض الاستثناءات القليلة.

وقد بدأ العرض بعلم نفس الحيوان، وذلك لعدة أسباب: أهمها أن أصل التفكير الإنساني وتطوره، فيما يختص بسلوك الكائنات الحية عامة، يظهران بوضوح إذا ما عرضنا لنمو علم نفس الحيوان. فإن تصوراتنا للحياة وللطبيعة البشرية وللظواهر الذهنية - وفى الواقع التصورات الفلسفية بوجه عام - توازي في سيرها تغير مواقفنا من سلوك الحيوانات. ويمكن لأولئك الذين يعتقدون أن الخصائص البشرية قد مرت بتطورات كثيرة من أبسط الأشكال إلى أكثرها تعقيدًا أن يجدوا دراسة سلوك الحيوانات الدنيا ذات دلالة كبيرة. ولا يحتاج المرء إلى قبول فكرة التطور البشري لكي يقدر كشوفات على نفس الحيوان حق قدرها. ولقد كشفت دراسة الحيوانات الدنيا عن كثير من المبادئ التي تعيننا على فهم الطبيعة البشرية. أضف إلى ذلك أن كثيرًا من الدراسات التي أجريت على الحيوانات لا يمكن إعادتها على الإنسان - كما هو الأمر في الميادين الطبية والفسيولوجية - وذلك نظرًا لفداحة الثمن الذي يدفعه الإنسان على حساب راحته وحياته. ويأتي علم نفس الطفل بعد علم نفس الحيوان، وبذلك يمتد المبدأ التطوري خلال أربعة فصول على الأقل. ومن المحتمل أن عدداً قليلًا جدًا من علماء النفس وغيرهم من العلماء يتمسكون بالرأي القائل بأن نمو الفرد من الجنس البشرى يعيد نمو الأنواع الحيوانية كلها. ولكن تطور الطفل بما فيه حياته الجنينية هو من جهة أخرى حلقة الاتصال بين سيكولوجية الحيوان وسيكولوجية الإنسان البالغ، ويذهب بعضهم إلى أن هذه الحلقة تفيد فعلا في فهم معنى التسلسل من الحيوان إلى الإنسان، في حين أن فريقًا آخر يعدها وسيلة للتمييز بين مستويات وسطى من نشاط الوظائف السيكولوجية، ومع ذلك يجد فريق ثالث أن الأمر أكثر من ذلك، حيث أن معظم المفكرين يرون أن دراسة أطوار الطفولة والمراهقة ليست مهمة فقط لتحقيق نمو الأفراد على أحسن وجه، ولكن أيضًا لفهم ما يحدث للبالغين، وكيف تشكل شخصياتهم في الواقع. وحيث أن علم النفس التربوي فن يهدف إلى إيجاد الوسائل المحققة لأحسن شكل من النمو، خاصة في الطفولة، وعلى الرغم من أنه ميدان تطبيقي، فقد عولجت موضوعاته عقب الفصل المخصص لعلم نفس الطفل.

 

وقد أفسحنا المجال واسعاً لعلم النفس الاجتماعي، لأنه على الرغم من حداثة إخضاعه للدراسة العلمية، فإنه جليل الأهمية للإنسان بالقياس إلى ما ذكرناه سابقاً. ومن الطبيعي أن نقرب بين علم النفس الاجتماعي وعلم نفس الطفل، لأن نمو الطفل يتوقف إلى حد كبير على نوع الاستثارات المعرض لها، ولأن هذه الاستثارات معظمها اجتماعية المصدر. ويتطور علم النفس الاجتماعي بسرعة، وليس هناك اتفاق عام على ما يجب التزامه من حدود، وأهم ما يصطنعه من مفاهيم ومعان. ومنهج الدراسة المتبع في هذا الكتاب، وكذلك الموضوعات التي اختيرت بوجه خاص، من المحتمل ألا تختلف عما قد يقرره معظم علماء النفس المتخصصين في علم النفس الاجتماعي. وقد يجد القارئ بعض الاختلاف في دراسة العالم الاجتماعي لهذا الميدان، من حيث اهتمامه ببعض الموضوعات دون غيرها. ومن اليسير فهم مثل هذا الاختلاف نظرًا للفروق الموجودة بين عالم النفس وعالم الاجتماع، من حيث الأسس وطرق الدراسة التي تميز علم كل منهما.

 أما علم النفس المرضى فإنه يتناول دراسة السلوك الشاذ. ويدخل في نطاق السلوك الشاذ الأفعال التي تنحرف بصورة واضحة عما هو شائع أو متوقع، أو تلك التي تعجز عن أن ترتفع إلى المعايير الاجتماعية. وتتدرج أنواع السلوك الشاذ من طرفها اليسير كالانحرافات البسيطة: (أعمال قريبة من السواء، أفعال غريبة وما إليها)، إلى الطرف الآخر من المخالفات السلوكية الصارخة، والأعمال الخطرة أو الجنونية، أو حالة من العجز والتدهور.

 

ومن الخطوات الكبرى في تقدم التفكير الحديث الاعتراف بأن هناك أمراضاً عصبية وعقلية، كما أن هناك أمراضًا جسمية [4]. ومع أن التحول العظيم الذي طرأ على موقفنا من المصابين بالأمراض العقلية والنفسية لا يزال ناقصاً، غير أنه تحول جوهري في أساسه. وإن كان تقدمنا في فهم السلوك الشاذ لا يزال محدوداً، فإنه ينطوي على حقائق جوهرية هامة، ولم يساهم هذا التقدم في تحسين وسائلنا لمساعدة ضحايا السلوك الشاذ ووقاية الآخرين من أضراره فحسب، بل أدى إلى تقدم معرفتنا بالإنسان السوى تقدماً عظيمًا.

 

يعد علم النفس الفارق، أو دراسة الفروق الفردية، واحدًا من أهم المساهمات التي يقدمها علم النفس في تحقيق رفاهية الإنسان. فالفروق البشرية في القدرات والرغبات والمزاج هي عوامل حاسمة تؤثر على السياسات والتطبيقات في مجالات متعددة مثل التربية والحكم والعمل وغيرها، وترتبط بشكل مباشر برفاهية الناس بوجه عام.

والحقائق الأساسية التي تقوم عليها هذه الفروق أي أنواعها ومداها وأسبابها ونتائجها عظيمة الأهمية لعدد كبير من المهن التي تقتضى من أصحابها معاملة الآخرين، كما أنها عظيمة الأهمية للهيئات التي تقوم بوضع القوانين وتدعيمها.

يعد علم النفس الإكلينيكي فرعًا تطبيقيًا يركز على معالجة المشكلات التي تنشأ نتيجة الانحرافات السلوكية والنفسية عن المعايير الاجتماعية المقبولة، محاولًا علاج هذه الانحرافات بقدر الإمكان عن طريق الاتصال المباشر الشخصي. وتعد مهنة السيكولوجي الإكلينيكي مهنة سريعة النمو، تعمل جنباً إلى جنب مع الطب العام والطب العقلي والخدمة الاجتماعية في معالجة الأفراد المحتاجين إلى تحقيق توافق أكثر فاعلية مع بيئتهم.

 

ومن الميادين التطبيقية التي تأتي دراستها بعد علم النفس الإكلينيكي، الميادين التي تتناول مختلف المشكلات التي تدخل في نطاق علم النفس التوجيهي، وعلم النفس الصناعي. ومن مشكلات التوجيه المهني يمكن أن نذكر من جهة، اختيار الموظفين والعمال، بحيث يحصلون في تأدية عملهم على أكبر قدر من الرضا، سواء ممن يستخدمونهم، أم ممن يشرفون عليهم، أو من أنفسهم. وهناك من جهة أخرى المشكلة العامة التي تتناول تصنيف الموظفين والعمال. وكل هذا يتمثل في التوجيه التربوي والمهني للشبان والبالغين الذين يرغبون في معرفة كيف يضعون الخطة لتطورهم الذاتي، وكيف يحكمون اختيار مهنتهم. كما أنه يتمثل في كيفية تحديد نوع العمل الأكثر ملاءمة لمن سبق استخدامهم في المؤسسات العامة والخاصة، وتحديد نظام ترقيتهم. ونظرًا إلى طول فترات التدريب التي يقتضيها الاستعداد لعدد كبير من المهن - ومن المحتمل أن تزداد هذه الفترات طولا في المستقبل - فإنه من الهام جدًا أن يتجنب الناشئون بقدر الإمكان الأخطاء التي يقعون فيها غالبًا عند اختيار مهنتهم. يشعر أصحاب الأعمال بشدة بالحاجة إلى تحسين الإجراءات التي تحول دون إرهاق ميزانية مؤسساتهم، وذلك بترقية الموظفين المناسبين لتعيينهم في وظائف المراقبة والإدارة.

ويحتاج من يمارس عملاً من الأعمال إلى معرفة الأساليب الأكثر فعالية لتعلم العمل وتحسين أدائه، وكذلك المعرفة بالعوامل البيئية والإدارية التي تعزز الإنتاجية وتقوي الروح المعنوية بين العمال. وفي هذه الإشارة السريعة إلى علم النفس الصناعي يجب ألا نغفل تطبيقاته في مهن أخرى، مثل الطب، وطب الأسنان، والقانون، والطيران، والإعلان، والعلاقات التجارية. وسيشار إلى هذه الموضوعات فيما سيأتي من فصول.

 

أما الفصول الثلاثة الأخيرة[5] فهي تتناول موضوعات نظرية، غير أن ميادينها أقل إثارة للاهتمام من الميادين النظرية التي سبق ذكرها. فعلم النفس الفسيولوجي أول ميدان خضعت فيه الدراسة للمنهج العلمي. ومن عوامل نموه أن الفلاسفة الذين كانوا يناضلون لحل مشكلات العقل الإنساني اتجهوا شطر معمل الفسيولوجيا لمعرفة كيف تعمل أعضاء الحس والأعصاب والدماغ لمد الإنسان بالوعي الشعوري والمعرفة. ومنذ هذا الزمن أخذت طرق البحث تنمو لجعل دراسة العمليات والوظائف العقلية ذاتها أكثر تنظيمًا وإخضاعا للضبط العلمي. ومن الحقائق المثيرة للاهتمام التي تعكسها الأبحاث في علم النفس هي العلاقة الوثيقة بين العمليات العقلية والسلوكية بشكل عام، وما يحدث في الجسم من أحداث عضوية. وكلما اتسع نطاق علم النفس حاولت البحوث التي تتناول هذه الروابط أن تساير هذا التوسع. وكثير من الباحثين لا يشعرون بالرضا العقلي إلا إذا فسروا الظاهرة الشعورية أو السلوكية على أساس بعض الظواهر الجسمية. ومعرفة هذه الروابط توحى إلينا أيضًا - وبطرق شتى - بوسائل جديدة لضبط السلوك، عن طريق استخدام العقاقير مثلًا، أو عن طريق التغذية والعلاج بإفرازات الغدد، وغيرها من الطرق المشابهة.

 

أما موضوع الجماليات فقد ظل مرتبطًا بالفلسفة أكثر من سائر فروع المعرفة، وعلى الرغم من عجز العلم عن الإجابة عن كل الأسئلة المتعلقة بالقيم، إلا أنه يمكنه دراسة استجابات الأفراد للمثيرات الصادرة عن الأشياء والمواقف التي توصف بالجميلة، أو القبيحة، أو الهزلية، أو المفجعة بطريقة موضوعية. وإذا نظرنا إلى الجماليات من هذا الجانب، فإنه يمكننا إدراجها ضمن فروع علم النفس.

ويقدم الفصل الأخير من الكتاب بعض أسس علم النفس النظرية. ويذكر أن أفراد أسرة علم النفس لم ينعموا بالسلام دائمًا، فكانت الآراء تختلف كثيرًا فيما يجب أن تكون عليه ماهية علم النفس، ومهمته، وطبيعة المنهج الذي يجب أن ينتهجه في حقائقه، وتأويل نتائجه. فكانت تظهر من حين إلى آخر مدارس سيكولوجية جديدة، أو وجهات نظر جديدة. وقد نشأت الحركات الجديدة من عدم الرضا ببعض اتجاهات الحركات القديمة مما أدى إلى مقاومتها، وقد ساهمت كل حركة في إضافة شيء ذي قيمة باقية إلى مجموع المعارف السيكولوجية. ولم تحل جميع المسائل التي أثارتها هذه المنازعات، غير أنه قد اتُفِق على كثير منها. وفى الوقت الحاضر يمكن القول أنه لم تنشأ في الربع الأخير من هذا القرن مدرسة جديدة ذات مطالب جديدة مما يقيم الدليل على ما يسود الجو الآن من سلام نسبي.

وهناك ميدان هام في علم النفس لم يخصص له مكان في هذا الكتاب، ولم يشر إليه إشارة خاصة، ونقصد ميدان علم النفس التجريبي. ويرجع هذا إلى عدة أسباب: كان علم النفس التجريبي في بدء الأمر يكاد لا يتميز عن علم النفس الفسيولوجي الذي كان منذ حوالي مائة سنة بمثابة علم النفس المعملي الجديد، في مقابل علم النفس الفلسفي أو التأملي، وكانت أبحاثه الأولى تتناول الإنسان البالغ السوي، وكان غرضه وصف العقل الإنساني النموذجي وفهمه.

وبينما استمر على النفس المعملي في دراسة العمليات العقلية لدى البالغين الأسوياء، امتدت الدراسة التجريبية إلى جميع الميادين الخاصة، حتى لم يصبح من حق أي ميدان أن يدعى اختصاصه في علم النفس التجريبي دون غيره من الميادين. ومن المحتمل أن يظل الإنسان البالغ السوي هو المرجع في المقارنة. ومن الشائع في أي كتاب في علم النفس العام، أو أي مدخل إلى علم النفس، أن تدور الدراسة حول الإنسان البالغ السوي. وفي هذه الحالة لم يبق إلا شيء ضئيل جدًا يذكر بصفة خاصة تحت عنوان علم النفس التجريبي، فيما عدا مناقشة المنهج التجريبي، وأسسه المنطقية، وطرقه، وعملياته، من حيث تطبيق هذا المنهج في معمل علم النفس العام، ونأمل أن نكون قد قدمنا في الفصول الخاصة بكل ميدان من ميادين علم النفس أمثلة كافية لتطبيق المنهج التجريبي في الدراسات السيكولوجية. وتفاصيل هذا المنهج من حيث تطبيقه على الشخص البالغ السوي لا يمكن الحكم على قيمتها حكمًا حصيفًا إلا باكتساب الخبرة داخل معمل علم النفس.

 

-[1] ترجم هذا الفصل الدكتور: (يوسف مراد).

 

[2](Homo sapiens)-:  أي الإنسان العارف، في مقابل الإنسان الصانع: Homo faber. ( المترجم ).

 

[3] : أي الموقف الذي يقفه الطبيب في عيادته أو عند سرير المريض. (المترجم).

 

 

[4] : أي أن الأمراض النفسية والعقلية هي ظواهر طبيعية خاضعة للتفسير العلمي، شأنها شأن الأمراض الجسمية.(المترجم).

 

[5]: حيث أن الترجمة العربية لهذا الكتاب منشورة في مجلدين، آثرنا تخصيص المجلد الأول لعلم النفس النظري، والثاني لعلم النفس التطبيقي. فأدخلنا في محتويات المجلد الأول الفصل الخاص بعلم النفس الفسيولوجي، والفصل الخاص بالجماليات. أما الفصل الأخير – وهو الذي يعالج وجهات النظر المختلفة في علم النفس – فقد أبقيناه في مكانه كخاتمة عامة للكتاب. (المشرف على الترجمة ).

ملفات تعريف الارتباط

نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط الخاصة بنا وملفات تعريف الارتباط الخاصة بالجهات الخارجية حتى نتمكن من عرض هذا الموقع وفهم كيفية استخدامه بشكل أفضل ، بهدف تحسين الخدمات التي نقدمها. إذا واصلت التصفح ، فإننا نعتبر أنك قبلت ملفات تعريف الارتباط.