علم نفس الحيوان علم قديم مثل علم نفس الإنسان والعلوم البيولوجية الأخرى . وقد أسس أرسطو Aristotle هذا العلم تحت رعاية الإسكندر الأكبر بمناسبة المحاولة الأولى التي قام بها لتنظيم ميدان العلم الطبيعي . وقد انقضت سنوات عديدة في جمع وتصنيف وتفسير كل ما تيسر من الحقائق والأقاصيص في تلك الأزمان ، والتي تتعلق بحياة الحيوان العقلية وسلوكه . وقد قام أيضاً أرسطو ومعاونوه بملاحظات مباشرة على عدد كبير من مختلف أنواع الحيوان . وقد جمعت هذه المادة أخيراً في كتاب « تاريخ الحيوان» وكتاب « النفس » . والكتاب الثاني بمثابة دراسة مقارنة للإنسان والحيوان .
ومن السهل جداً أن ننقد هذين المؤلفين على ضوء معرفتنا الحديثة . فقد كان أرسطو مثلا ، في حالة عدم وجود الحقائق المشاهدة ، يقوم بسد النقص في البحث بالأقاصيص والروايات . وكان أرسطو فضلا عن ذلك ، من المتمسكين بالمذهب الحيوي ، ولذلك كان تفسيره لنشاط الحيوان غائياً وتشبيهياً . وبالرغم من ذلك فإن مساهمته في تكوين علم نفس الحيوان كانت أعظم من مساهمة أي مؤلف آخر حتى عصر داروین Darwin . ويوجد عرض مختصر لأهم مكتشفات أرسطو وآرائه النظرية في كتاب حديث بقلم واردن(۱) Warden .
شارك علم نفس الحيوان بعد أرسطو بقية العلوم الطبيعية في مصيرها المشترك مدة ألفين من السنين أو أكثر . وكانت هذه الفترة كما هو معلوم فترة انحطاط عام في العلم . فقد انصرف اهتمام اليونانيين المتأخرين عن العلم واتجه إلى الفلسفة النظرية والأخلاق . وكان الاهتمام الرئيسي للرومانيين منحصراً في السياسة والمطامح الاستعمارية . وفي أثناء الفترة الأولى من العصر المسيحي احتل النشاط الديني المتحمس محل اهتمام الناس العادي بالعلم الطبيعي . وكانت أبحاث أرسطو في علم نفس الحيوان إما مهملة وإما محرمة ككثير من المؤلفات الوثنية الأخرى في العلم . واستمرت هذه الحالة خلال العصور الوسطى ، ثم زال هذا التحريم أخيراً حوالى ابتداء القرن الثالث عشر . وبمجرد حدوث ذلك أخذت مؤلفات أرسطو تعتبر المرجع الأخير في ميدان التاريخ الطبيعي . وقد حال هذا الاتجاه دون تقدم مناهج البحث المباشرة . وفى الواقع لم يحدث أي تقدم محسوس أو أصيل حتى عصر نهضة العلم الطبيعي في القرن السادس عشر .
وقد اتخذت منذ ذلك الوقت خطوات كثيرة سريعة نحو تقدم أغلب الدراسات البيولوجية . فظهرت كتب كثيرة في التاريخ الطبيعي استندت إلى ملاحظات جديدة كان جزء عظيم من اهتمامها متجهاً نحو سلوك الحيوان . ثم بعد ذلك منفصلة في نهاية كل فصل .
بقليل نشرت دراسات خاصة مستقلة وتفصيلية عن الأسماك والطيور والحشرات ومجموعات الحيوانات الأخرى ، وقد اخترع الميكرسكوب حوالى مطلع القرن السابع عشر ، وسرعان ما أدى ذلك إلى اكتشاف الكائنات الحية وحيدة الخلية وجاءت هذه التقارير المنشورة للطبيعيين والباحثين بمعلومات هامة عن سلوك الحيوانات في البلاد البعيدة ، وساعد تحسين وسائل الملاحظة وانتهاج وسائل جديدة في البحث على ازدياد المعرفة كما بين الكاتب ذلك في موضع آخر(2)
وأدى هذا التقدم العظيم في المعرفة إلى إثارة أفكار جديدة تتعلق بطبيعة عقل الحيوان . وقد اتبع بعض الطبيعيين رأى أرسطو ونسبوا إلى الحيوانات العليا صفات تشبه صفات الإنسان . وميز بعض الطبيعيين الآخرين تمييزاً فاصلا بين الحياة العقلية عند كل من الحيوان والإنسان ، وذهبوا إلى أن نشاط الحيوان إنما توجهه غرائز قد غرستها القدرة الإلهية ، وتختلف هذه الغرائز من نوع إلى نوع . والإنسان وحده هو الذي يتميز بالعقل وبالقدرة على النشاط الاختياري الذي يتضمن المسئولية الخلقية والروحية . وقد قامت بتأييد هذا الرأي رغبة اللاهوتيين في ضرورة وضع سيادة الإنسان على أساس كيفي" معين . وعلى عكس هذه النظريات القديمة كان موقف ديكارت Descartes الذي
يعبر عن تقدم الفكر في القرن السابع عشر . ذهب ديكارت إلى أن جميع الحيوانات حتى العليا منها إنما هي مجرد آلات حية ، وليس لها حياة عقلية . ونشاطها عبارة فقط عن الوظيفة الأوتوماتيكية للتركيب الطبيعي للبدن . وهكذا أصر ديكارية على أنه من الممكن أن يفسر جميع سلوك الكائنات الحية دون المرتبة الإنسانية على أساس مبادىء فسيولوجية ميكانيكية . ومثل هذا الرأي المتطرف في هذا الوقت يدل دلالة واضحة جداً على أن قادة الفكر في ميدان علم نفس الحيوان أخذوا يتحررون من قيود السلطة والتقاليد .
وقد ازدادت سرعة التقدم جدا بعد نشر کتاب داروين عن « أصل الأنواع *» في عام 1859 . ولم تكن هناك قبل هذا الوقت أية مشكلة أساسية يمكن أن يتركز حولها اهتمام علم نفس الحيوان ، وأثارت فكرة اتصال الحياة العقلية بين الكائنات الحية اهتماماً جديداً شاملا" بحياة الحيوان العقلية والسلوكية .
واستمر هذا الاهتمام في العصر الحديث متمثلا ً في علم النفس المقارن Comparative psychology، وأدت هذه الحركة المبتدئة بمرور الزمن إلى توطيد أركان هذا العلم باعتباره علماً بيولوجياً مستقلا. ولعل أحسن طريقة لفهم وجهة النظر الحالية لهذا العلم وبرنامجه هي القيام بتتبع التطورات الرئيسية التي حدثت منذ ذلك الوقت في شيء من الاختصار . ومن المستحسن في القيام بمثل هذا العرض أن تتناول على التوالى هاتين المرحلتين التاليتين من مراحل العصر الحديث :
(1) المرحلة القصصية ( 1859 – 1890 )
(ب) المرحلة التجريبية ( 1890 – )
إن جميع الكائنات الحية ، تبعاً لنظرية داروين ، تنتظمها سلسلة نشوئية طبيعية من الأنواع .. وتبدأ سلسلة الاتصال العيلى من أبسط الحيوانات وتنتهي عند الإنسان أعلى الأنواع وأكثرها تعقيداً . وليس هذا الاتصال تركيبياً فقط ، ولكنه وظيفي وعقلي أيضاً . وهو يتضمن النوع وسلسلة الأنواع في مجموعها . وقد حاول داروين أن يفسر سلسلة التطور على أساس مبادئ التغيير والانتخاب[2]الطبيعي . فإذا تغيرت مجموعات من الحيوانات عن أحد الأنواع الموجودة ثم أخذت هذه المجموعات تكتسب خصائص جديدة لها قيمة في استمرار بقائها فإنه من المرجح أن تصبح هذه المجموعات بمرور الزمن أنواعاً جديدة إذا تهيأت لها ظروف ملائمة للانفصال عن غيرها و للتناسل فيما بينها . وقد جمع داروين أدلة هامة على التطور التركيبي قبل أن يعرض نظريته . وفى خلال سنوات قليلة جمع عدد كبير من الباحثين الذين اهتموا بهذا الأمر أدلة جديدة كافية لإقناع العالم العلمي بشأن هذا الموضوع . ومع ذلك فقد كان من الضروري إقامة البرهان على التطور العقلى حتى يمكن إثبات اقتراح داروين كنظرية عامة ولذلك فلا عجب أن نجد جزءاً كبيراً من كتابات داروين تدور حول النظر والجدل في موضوع تطور العقل والسلوك.
وقد لاقت نظرية التطور في هذا الصدد كثيراً من الصعوبات الشاقة فأولا ، لم يكن هناك إلا القليل جدا من المعلومات الدقيقة عن القدرات العقلية حتى لأكثر أنواع الحيوان شيوعاً . ولم تظهر الملاحظة المنظمة ولا المناهج التجريبية إلا بعد عدة قرون ، وثانياً ، كان عدد كبير من قادة المفكرين في ذلك العصر يعارضون بشدة النظرية التي تربط عقل الإنسان بعقل الحيوان .
وقد أظهروا استعداداً للتسليم بأنه من المرجح جداً أن يكون جسم الإنسان من سلالة مخلوقات دنيا شبيهة بالقرود . ولم يكونوا أيضاً يعارضون تطبيق فكرة التطور العقلي على الكائنات الحية دون الإنسان . ولكنهم أصروا على أنه توجد بين الحياة العقلية للحيوانات العليا وبين الحياة العقلية للإنسان هوة شاسعة لا تستطيع نظرية التطور أن تجتازها . إن النواحي العقلية والخلقية والروحية للعقل الإنساني هبات خاصة من الإله وليس لها أي علاقة بعملية التطور وكان من بين من تمسك بهذا الرأي في أول الأمر بعض أنصار نظرية التطور المتحمسين مثل ولاس Wallace وهكسلي Huxley
كانت المهمة الأولى أمام داروين إثبات أن الغرائز البسيطة تميل إلى التعقيد كلما أخذت أنواع الحيوان تزداد تعقيداً في التركيب . ويجب أن يكون ذلك صحيحاً ، تبعاً لهذه النظرية ، لأنه من المحتمل أن يكون للتعقيد الوظيفي في مثل هذه الحالة قيمة في حفظ الحياة . وهكذا نشأ كل من التعقيد التركيبي والسلوكي نشوءاً طبيعياً نتيجة عملية التطور نفسها . وكانت المهمة الثانية أمام داروين إثبات أن الذكاء البدائي قد أخذ ينشأ من وقت إلى آخر عن مجموعة من الغرائز المعقدة . فإذا أمكن إثبات وجود علاقة بين الغريزة والذكاء ، فإنه من الممكن التسليم بتطور الذكاء فيما بعد لما لذلك من قيمة في حفظ الحياة . ولكن هذا الرأي القائل بأن الغريزة والذكاء مرحلتان متصلتان من مراحل التطور العقلي كان مضاداً للرأي الشائع في ذلك الوقت . وكان الرأي الشائع منذ عدة قرون يذهب إلى أن الغريزة والذكاء شيئان متعارضان بطبيعتهما . فالغريزة تميز سلوك الحيوان ، والذكاء يميز سلوك الإنسان . ولم يلق رأى داروين قبولا عاماً إلا بعد سنوات عديدة من الجدال والذكاء ، على حسب رأى داروین ، مشترك بين كل من الحيوانات العليا والإنسان بالرغم من أنه قد وصل في الإنسان إلى أقصى درجات الإتقان . ولذلك يجب أن نتوقع أن نجد في الحيوانات القريبة الشبه جداً من الإنسان ذكاء بدائياً من نوع ذكاء الإنسان . إن المشكلة الرئيسية أمام داروين هي في نهاية الأمر إقامة الدليل على صحة هذا الرأي . فلو أمكن إيجاد علاقة تسد هذه الثغرة لكان من الممكن إثبات الاتصال العقلي الكامل ، وأدى ذلك إلى الانتصار التام لمدرسة التطور بصفة عامة.
إن الصفات التي تشمل الحياة العقلية والخلقية والروحية للجنس تعتبر صفات إنسانية مميزة كما سبق أن ذكرنا ذلك . وقد رأى داروين ببصيرته النفاذة أن هذه القدرات قامت على أساس حياة اجتماعية راقية جداً . وذهب إلى أن المشاركة الوجدانية والمعاونة المتبادلة ومحبة الوالدين للأبناء ومحبه الأبناء لوالدين وما شابه ذلك إنما تكتسب في مثل هذا الموقف قيمة في حفظ حياة الجماعة وقد أصر أيضاً على أن « أي حيوان مزود بغرائز اجتماعية متميزة سوف يكتسب حتما إحساساً خلقياً أو ضميراً » إذا ما وصلت « قواه العقلية » إلى المستوى الإنساني أو قريباً منه . ومع ذلك فقد كان داروين متأكداً أن المجادلة وحدها ليست كافية . وقد أخذت الأبحاث التي قام بها داروين وأتباعه للوصول إلى أدلة ملموسة لوجود خصائص بدائية شبيهة بخصائص الإنسان في الحيوانات العليا تمهد لظهور الحركة القصصية .
كانت الأدلة الوحيدة الموجودة في ذلك الوقت هي القصص التي تصف المآثر غير العادية للحيوانات . وقد قام زعماء نظرية التطور بجمع هذه القصص من المؤلفات المنشورة ، وعن طريق المراسلات الخاصة ، ومن مجرد الإشاعة وظهرت عدة مجموعات من هذه القصص خلال الثلاثين سنة التي تلت إذاعة نظرية داروين . وكان أغلب اهتمام هذه القصص يدور حول الكلب والقط والحصان والفيل والقرد . وكثيراً ما كانت تتعرض هذه القصص أيضاً للحشرات الاجتماعية . وكان بعض هذه القصص مستمداً من مصادر غير موثوق بها ، ولكن أغلبها كان موثوقاً به على أنه مجرد حكايات فقط ، وعلى أية حال فإن المآثر التي رددتها هذه القصص كانت تفسر على أنها استحسان لسلوك الحيوان وتشبيه سلوكه بسلوك الإنسان . وحتى تلك الأعمال الشائعة جدا التي تصدر عن الحيوانات العليا فكانت تبدو في سياق هذه القصص المضحكة كأنها « إنسانية تقريباً » . ومن الصعب جداً أن يتوقع الإنسان إمكان إدراك الروح الحقيقية التي كانت سائدة في هذا الوقت بدون أن يقرأ بعض المقتطفات من مجموعة رومانس (3)Romanes أو من المجموعات المماثلة.
كانت هذه القصص بوجه عام ترمى إلى ذكر الأمثلة التي تبين وجود قدرات في الحيوانات العليا تشبه القدرات الإنسانية كالقدرات التالية مثلا ً : (1) القدرة على التفكير (2) التعاون الاجتماعي (3) الانفعالات والعواطف الأولية (4) إحساس خلقى بدائي . وكان يستدل على وجود القدرة العقلية عند الحيوانات من قدرتها على تعلم الحيل ، وتجنب الوقوع في الشرك ، وتفوقها على الإنسان في الدهاء في بعض الأحيان وما شابه ذلك . وقد رويت بعض القصص التي تبين استعمال حيوانين للإشارات أو الأصوات أثناء قيامهما معاً باقتناص الفريسة كدليل على التعاون الاجتماعي . ووضعت على الحيوانات الأليفة قصص عديدة توضح المشاركة الوجدانية ، وحب الاستطلاع ، والغيرة ، والمنافسة وغير الانفعالات . وبلغت هذه النزعة إلى تشبيه الحيوانات بالإنسان إلى حد مضحك حينما حاولت أن تبين أنه يوجد عند الحيوانات العليا إحساس بالذنب ، وإحساس بالعدل ، وغير ذلك من العواطف الخلقية . وكان الغرض الأساسي من وراء ذلك فيما يبدو هو أنه ما دام سلوك الحيوان شبيها بسلوك الإنسان فلا بد أن شعوره أيضاً شبيه بشعور الإنسان .
من الممكن توجيه الانتقادات الآتية ضد القصة كمصدر للمعرفة العلمية فيما يتعلق بالحياة العقلية للحيوانات وبسلوكها .
1 – من المحتمل أن يكون الملاحظ غير مدرب وغير قادر على إعطاء تقرير صحيح عما حدث حتى ولو كانت نواياه حسنة جداً .
2– من المحتمل أن يقع الالتباس بين ما في القصة من تفسير وبين ما فيها من حقيقة بحيث يصبح من المستحيل على العالم أن يفصل هذين العنصرين فيما بعد .
3 - وحتى إذا ما روى الحادث بدقة فهو في العادة حادث قد 'عزل عن العوامل الرئيسية السابقة التي سببته ( سواء كانت فردية أو نوعية ) والتي تستطيع أن تفسره وأن تعطيه ما يستحق من أهمية .
4 – يمثل الحادث بطبيعة الحال سلوكاً نادراً وشاذاً إلى درجة كبيرة بحيث لا يمكن أن يكون صادقاً من الناحية الإحصائية .
5 ـ وحتى إذا ما امتنع الإنسان عن تشبيه الحيوان بنفسه سواء كان ذلك في الميدان العلمي أو الميدان الأدبى ، فإنه من المحتمل أن تقع أخطاء الذاكرة والنقل ( إذا كان النقل لفظياً).
6 - من الصعب اختيار مادة موثوق بها وصحيحة من المصادر الكثيرة الموجودة . ومن الواضح أن هذا المنهج لا يستحق أن يعتبر علمياً بالمعنى الدقيق حتى إذا ما استخدم بحذر ، وهو أمر لم يكن يحدث في العادة .
كانت مجموعات القصص هذه تقرأ بكثرة ، وقد أثارت خيال الناس إلى درجة كبيرة . ومن الممكن أن يكون استخدام علماء العصر النابهين لمثل هذه الأدلة راجعاً في الغالب إلى الجدل الشديد الذي ثار حول نظرية الاتصال العقلي . وبالرغم من أن مثل هذه الأدلة لم تكن لها قيمة حقيقية إلا أنها كانت ذات تأثير هام في توطيد دعائم نظرية التطور بصفة نهائية . وفضلا عن ذلك ، فإنه بالرغم من أن الميل إلى تشبيه الحيوان بالإنسان كان خطأ إلا أنه كان نافعاً في القضاء على التمييز التقليدي بين الحياة العقلية لكل من الإنسان والحيوان . وعلى أية حال فإن القيمة الأساسية للحركة القصصية إنما كانت في استمرار الاهتمام العام الذي كان موجوداً في ميدان علم نفس الحيوان . وبمرور الزمن تحول هذا الاهتمام عن الجدل حول الاتصال العقلي واتجه نحو البحث العلمي وقد حدث هذا التحول حوالي عام 1890 . وأدى ذلك إلى المرحلة التجريبية التي استمرت حتى الوقت الحاضر.
ابتدأت الحركة الجديدة بمثابة ثورة ضد منهج ورأى المدرسة التي تكونت بعد داروين مباشرة . وقد أصبحت نظرية الاتصال العقلى مقبولة قبولا ً عاماً ولذلك لم تكن هناك حاجة بعد إلى استخدام المادة القصصية . وللسبب نفسه فتر الدافع إلى تشبيه سلوك الحيوان بسلوك الإنسان . وأخذت تظهر بالتدريج رغبة في دراسة سلوك الحيوان لمجرد الاهتمام بدراسته وبعيداً جداً عن موضوع المجادلات السابقة . وقد حدث أولا ً أن أخذت الملاحظة الدقيقة المنظمة للسلوك تحل محل القصة . ثم استخدمت بعد ذلك تجارب بسيطة على نمط تجارب المعمل . وتطلب ذلك ابتكار مناهج ووسائل فنية خاصة في ميدان لم يعمل أحد فيه من قبل حتى الآن . وفى أثناء نصف القرن الماضي أخد المنهج التجريبي بالتدريج يؤدي دوراً رئيسياً في العلم . ولقد صاحب تقدم المنهج التجريبي تقدم واضح في تحسين المناهج المعملية وإتقانها . وصاحبت هذا التغير في المضمون والاهتمام تغيرات هامة في التفكير النظري كما يمكن أن نتوقع . ولكي نستطيع أن نفهم الموقف الحاضر لعلم نفس الحيوان يجب أن نستعرض في إيجاز أهم التطورات التي حدثت في هذه المرحلة .
ظهرت الحركة الجديدة حوالي عام 1890 على أثر العمل الأول من نوعه الذي قام به أربعة من القادة العظام : لابوك ومورجان ولوب وفروزن . وكان سیر چون لابوك John Lubbock عالماً طبيعياً إنجليزياً ورجلا سياسياً ومن الممكن أن نرجع اهتمامه بسلوك الحشرات إلى تأثره بشخصية داروين . وكان لويد مورجان Lloyd Morgan بيولوجياً ومفكراً إنجليزياً ، وقد قام بدراسة سلوك الحيوانات الفقرية العليا دراسة تفصيلية . وكان جاك لوب Jacques Loeb وماكس فورن Max Verworn فسيولوجيين من المدرسة الألمانية وقد حاولا تحليل نشاط الكائنات الحية الدنيا على أساس مبادىء علمية دقيقة .
اشتغل كل من هؤلاء القادة الأربعة مدة طويلة في الميدان الذي اختاره لدراسته مستقلاً عن الآخرين . وقام كل منهم بابتكار المناهج التجريبية وتطبيقها ، كما كون كل منهم رأيه الخاص . وعند ما تلاقت هذه الدراسات الأربع مكونة حركة واحدة أصبح من المضمون نجاح علم نفس الحيوان الذي قام على أسس علمية صحيحة.
وكان لابوك أسبقهم في استخدام المناهج التجريبية . وقد ظهرت مجموعة من دراساته عن سلوك الحشرات في عام 1882 . وابتكر لابوك منهج المتاهة ومنهج المشكلة لاستخدامها في هذه الدراسة . وابتكر أيضاً طريقة ترقيم أفراد الحيوان حتى يمكن تعقب حركاتها بدقة . وكان أول من عرض نتائج دراسات السلوك في جداول تبين تغيرات الأفراد ومتوسطات الجماعات . وهو الذي وضع المبدأ الذي يستخدم الآن في معظم التجارب ويتلخص في أنه لكى يمكن اختبار ذكاء الحيوان يجب أن يوضع بين الحيوان وبين أحد البواعث الطبيعية عائق ما « بحيث يستطيع بقليل من البراعة أن يتغلب عليه » . وقد نشر لابوك بعد عدة سنوات من البحث كتاباً عن « حواس الحيوانات وغرائزها وذكاؤها » بدون أن يتضمنه قصة واحدة . لقد كان لابوك سابقاً لزمنه بأمد طويل سواء في المنهج أو في الرأي .
وكان مورجان أول من طبق المناهج التجريبية في دراسة سلوك الحيوانات الفقرية العليا . وقد قام بمقارنة النشاط الغريزي لأنواع عديدة من الطيور والحيوانات الثديية ، كما ابتكر اختبارات بسيطة لمعرفة الطريقة التي تتعلم بها واخترع استخدام أجهزة التفريخ لكي يبعد ما يحتمل أن يوجد للوالدين من تأثير في الأيام الأولى في إظهار غرائز الطيور . وقام في عام 1896 بإلقاء سلسلة المحاضرات في جامعتي هارفارد وشيكاغو ، ونشرت هذه المحاضرات فيما بعد بعنوان « الغريزة والعادة » وقد أثرت هذه المحاضرات تأثيراً مباشراً في ظهور البحث التجريبي في أمريكا كما بينت ذلك في موضع آخر (4)
وقد وضع مورجان قبل ذلك الوقت فكرة التعلم « بالمحاولة والخطأ » . ولعبت هذه الفكرة منذ ذلك الوقت دوراً كبيراً في التفكير النظري لعلم النفس بوجه عام . ولعل أشهر ما يعرف به مورجان هو القانون الذي وضعه في كتابه « علم النفس المقارن » الذي نشر في عام 1894 . وينص قانون مورجان على ما يأتي : « لا ينبغي في أي حال أن نفسر عملا ً بأنه صادر عن قوة نفسية عالية ما دام يمكن تفسيره بأنه صادر عن قوة نفسية تكون أدنى في سلم التدرج النفسي » . وليس ذلك إلا تطبيق قانون الاقتصاد في علم نفس الحيوان ، وكان هذا القانون معترفاً به منذ مدة طويلة في العلوم الطبيعية . وقد صادف هذا القانون فيما بعد قبولا ً عاماً وكان له أكبر الأثر في إحلال التفسير الصحيح لسلوك الحيوان محل نزعة التشبيه بالإنسان ، تلك النزعة التي كانت متغلبة في المرحلة القصصية .
وكانت أبحاث لوب الأولى مقصورة على الحيوانات الشبيهة بالنبات وهي الحيوانات الجوفمعوية العديمة العنق . وقد وجد أن هذه الكائنات الحية الدنيا تميل مباشرة نحو الضوء والجاذبية وبعض المنبهات الأخرى أو تميل بعيداً عنها وكانت مثل هذه الاستجابات التوجيهية في المكان أو الانتحاءات في النبات تعتبر فيما مضى عمليات كيميائية طبيعية لاشعورية . وانتهى لوب من النتائج التي توصل إليها إلى الاعتقاد بأن سلوك الحيوانات الدنيا انتحائى مثل سلوك النباتات.
ثم عمم هذه الفكرة فيما بعد وجعلها تشمل كل السلوك الغريزي تقريباً . وقد أنكر وجود الحياة العقلية في الحيوانات فيما عدا الحيوانات العليا التي يمكن إثبات قدرتها على التعلم . وكان هذا الموقف على وجه عام شبيهاً بموقف ديكارت Descartes الذي أشرنا إليه في مكان سابق ، ولكنه كان أقل تطرفاً منه . وقد كان هذا الموقف أكثر تطرفاً من الرأي الذي ورد في قانون مورجان . ومع أن رأى لوب قوبل بالرفض من كثيرين إلا أنه كان ذا أثر هام في توجيه الاهتمام بعيداً عن نزعة التشبيه بالإنسان وهي النزعة التي كانت سائدة في المرحلة السابقة و بمرور الزمن أصبح من المألوف أن يعتقد الناس ، كما اعتقد لوب ، أن الحشرة تضطر إلى الطيران نحو لهيب الشمعة ، كما أصبح من المألوف أن ينظر الناس إلى رأي رومانس الذي ذهب إلى أن الطير يفعل ذلك مدفوعاً بدافع « حب الاستطلاع» الفطري على اعتبار أنه رأى قديم .
وطبق فرورن المناهج التجريبية على الكائنات الحية وحيدة الخلية القادرة على الحركة أي البروتستة[3] Protista ونشرت دراساته الكثيرة في هذا الموضوع عام 1889 بعنوان « دراسات عن البروتستة » . وقام جيننجس Jennings فيما بعد وهو أحد تلاميذ فرورن الأولين بتوسيع دائرة أبحاث فرورن الأولى من نوعها عن الكائنات الحية الدنيا كما عمل على تحسينها . ووضع فرورن نظرية في الانتحاء أقل تطرفاً من نظرية لوب . فقد ذهب فرورن إلى أن الاستجابات الرجعية التي تصدر عن الكائنات الحية الدنيا إنما تحددها إلى حد كبير عوامل داخلية أو حالات فسيولوجية . إذ وجد أن مثل هذه الأنواع المتحركة التي قام بدراستها تتجه مباشرة نحو المنبهات الخارجية على طريقة الحيوانات عديمة العنق والنباتات عديمة الساق . وبالرغم من ذلك فقد اعتبر أن العوامل الداخلية المحددة للاستجابات الرجعية هي عوامل فسيولوجية لا عقلية . ولكنه لم يحاول أن يطبق هذا الرأى على أكثر الأنواع تعقيداً وهي الأنواع العديدة الخلايا . إن البحث الرئيسي الذي قام به فرورن هو افتتاحه ميداناً جديداً للتحليل التجريبي . وكانت للنتائج التي توصل إليها هو وتلاميذه من دراسة سلوك الكائنات الحية الدنيا ، كما سنرى فيما بعد ، أهمية نظرية كبيرة في المستقبل.
إن أبحاث السابقين ، مع أهميتها الكبيرة ، إنما تمثل مجرد طلائع العلم كما نعرفه اليوم . فهم لم يفعلوا أكثر من توجيه الانتباه إلى الطريق وذلك بابتكار بعض المناهج البسيطة القليلة وبتطبيقها على عدد قليل نسبياً من أنواع الحيوان . وقد بقيت بعد ذلك مهمة توسيع المنهج التجريبي بابتكار عدة مناهج صالحة جديدة ثم تهذيبها لتلائم أنواع الحيوان المختلفة الكثيرة . ومن الواضح أن البناء التدريجي لعدد كبير من الحقائق المنظمة التي تستحق اسم العلم إنما كان متوقفاً على التطورات التالية في هذا الاتجاه . وقد يكون من المهم أن نشير إلى بعض نواحي التقدم الهامة التي حدثت بعد ذلك في انتشار استخدام المناهج التجريبية . ومن الممكن الاطلاع في مواضع أخرى (6) على عرض شامل لهذه الفترة من التقدم السريع .
لقد شاهدت السنوات العشر التي تقع حول عام 1900 نهضة واضحة بين علماء النفس وعلماء البيولوجيا فيما يتعلق بإجراء البحوث التجريبية على الحيوان . فبدأ جيننجس (7) بحثه الشامل عن الكائنات الحية وحيدة الخلية ، كما أثبت وجود نشاط « المحاولة والخطأ ، وتكون العادات البسيطة في هذه الأنواع الدنيا من الحيوان . وأجريت دراسات عن التعلم عند الحيوانات غير الفقرية الأكثر تعقيداً ، قام بها علماء عديدون في ألمانيا وفرنسا وأمريكا . فقام يركي Yerkes بتعديل منهج المتاهة ليلائم سرطان الماء والسلطعون [4] ، وابتكر ثورنديك Thorndike متاهة البيت للأسماك . وقد أجريت أبحاث عدة أثناء هذه السنوات العشر حول سلوك الحشرات الاجتماعية . وهذه الأبحاث إنما هي استمرار للبحث الذي بدأه لابوك . وقام ثورنديك وكلاين Kline وآخرون من علماء النفس الأمريكيين بمواصلة البحث الذي بدأه مورجان عن الطيور .
إن أهم تقدم حدث في هذه السنوات العشر هو امتداد المناهج التجريبية لأول مرة إلى الحيوانات الثديية . وقد كانت الدراسات التي تجرى على هذه المجموعة من الحيوانات حتى الآن تعتمد على الملاحظة فقط. وفي الواقع ، كان الاعتقاد سائداً بأن هذه الحيوانات العليا لا يمكن أن تختبر اختباراً مفيداً تحت الشروط المعملية الاصطناعية . وابتدأ هذا الاتجاه الجديد في البحث التجريبي حوالي نهاية القرن على يد ثورنديك في جامعة هارفارد ، وكلاين وسمول Small في جامعة كلارك ، وبافاوف Pavlov في روسيا، وقد أجرى ثورنديك سلسلة طويلة من التجارب على الكلاب والقطط والقرود مستخدماً في ذلك كثيراً من صناديق المشكلة » أو « المحارات »[5]التي اخترعها لهذا الغرض. وأثار تحليله للتعلم والتقليد عند هذه الحيوانات اهتماماً عاماً ، كما أنه دفع الباحثين إلى مواصلة البحث . وقام كلاين وسمول بدراسة التعلم عند الفأر الأبيض باستخدام بعض صناديق المشكلة والمتاهات التي ابتكرت خاصة لهذا الغرض . وسرعان ما أصبح هذا الحيوان ، كما هو معروف ، الحيوان المفضل للاستعمال في المعمل . واكتشف بافلوف الفسيولوجي الروسي الفعل المنعكس الشرطي عند الكلب ، وبدأ بذلك اتجاهاً جديداً وهاماً في البحث ، وكانت دراسات هؤلاء القادة نموذجاً لكثير من الأبحاث التجريبية التي أجريت بعد ذلك على الحيوانات الثديية.
كان تطبيق المناهج التجريبية على الحيوانات العليا ذا أثر فعال في إثارة تلك الحركة الكبيرة التي استمرت حتى الوقت الحاضر . فقد كان ذلك يعني لعالم النفس أنه من الممكن أن تبحث الآن كثير من المشاكل المتصلة بالتعلم والذكاء عند الإنسان من الناحية التكوينية بالاستعانة بالدراسات التي تجرى على الحيوان . وعند ما تأكدت هذه الفكرة أخذت المعامل تنشأ في أبرز الجامعات الأمريكية ، كما ظهرت المجلات الدورية المخصصة لدراسة الحيوان . وأدى ذلك بدوره إلى ظهور مناهج جديدة منقحة وإلى الجمع التدريجي لكثير من الحقائق المنظمة عن سلوك الحيوانات ، وقد سبق أن استعرض المؤلف (8) في شيء من التفصيل في مقال نشر حديثاً التقدم المتواصل للحركة التجريبية خلال السنوات الثلاثين الأخيرة .
لقد تخلى الباحثون الأوائل في ابتداء المرحلة التجريبية ، ، كما رأينا ، عن الميل الشديد إلى تشبيه سلوك الحيوان بسلوك الإنسان . ولكن ليس معنى ذلك أن مبدأ التفسير على أساس التشبيه بالإنسان قد ترك نهائياً . ففي الواقع ، لقد قام قانون مورجان فقط بتأكيد ضرورة اتخاذ قدر معقول من الحكمة والحذر عند القيام بمثل هذا التفسير . وكان العلماء لا يزالون يعتقدون بصفة عامة أنه الصعب اعتبار الدراسات التي كانت تجرى على الحيوان دراسات سيكولوجية إلا إذا استنتجوا منها بعض الاستدلالات فيما يتعلق بالحالات العقلية عند الحيوان ومن الواضح أن هذه الاستدلالات يجب أن تعتمد في نهاية الأمر على المقارنة على أساس التمثيل بالحالات العقلية عند الإنسان في الحالات المماثلة . وقد مرت بضع عشرات من السنين قبل أن يرفض هذا المبدأ الخاص بالتمثيل التشبيهي من أجل التمسك بوجهة النظر الموضوعية الدقيقة ، وقد حدث كثير من النقاش في أثناء هذه الفترة حول عدد من المشاكل النظرية التي تتعلق بطبيعة العقل الحيواني . وسنشير هنا باختصار إلى بعض هذه المشاكل التي لها أهمية مباشرة في تحرر علم نفس الحيوان تحرراً نهائياً من تأثيرات السيكولوجيا الشعورية النزعة[6].
ثار كثير من الجدل حول مسألة الدليل الصحيح الذي يمكن استخدامه لتحديد وجود الشعور أو عدم وجوده في الحيوانات . وقد ذهب لوب إلى أن القدرة على التعلم هي الدليل الوحيد الموثوق به لوجود الشعور . وذهب لابوك ومورجان إلى أن مثل هذا الدليل تحكمى بحت ، إذ ربما يكون الحيوان شاعراً بما يقوم به من الأفعال المنعكسة والغريزية . وقد اعتقدا أن لجميع الكائنات الحية على الأقل شعوراً غامضاً على نحو ما . ولإنكار ذلك يحب أن تثار المشكلة الخاصة ،بوقت وكيفية ظهور الشعور لأول مرة أثناء تطور الأنواع الحيوانية .
وعلى أية حال فقد فقد دليل لوب معناه عندما أثبت جيننجز أن الكائنات الحية وحيدة الخلية أيضاً تستطيع أن تتعلم . وقد بدت هذه الحقائق الجديدة مؤيدة لرأى لابوك ومورجان وهو أن الحياة والشعور ظاهرتان متكافئتان . ويتفق مثل هذا الرأى تمام الاتفاق مع المذهب السائد الذي يقول بالاتصال العقلي .
انتقل معظم التفكير بعد ذلك إلى مشكلة وضع سلم للمستويات النفسية لاستخدامه في تصنيف الحيوانات . وقد اقترح مورجان سلماً يتكون من ثلاثة مستويات کالاتي:
( ا ) الحساسية – وهي عبارة عن شعور ضعيف ربما يكون موجوداً عند الكائنات الحية البسيطة .
( ب ) الشعور الواضح – وهو يتعلق باستخدام الخبرة السابقة في توجيه النشاط في المستقبل .
( ج ) الشعور بالذات – وهو يتعلق بالقدرة على التفكير التحليلي . وذهب مورجان إلى أن المستوى الأخير يتضمن وجود جهاز عصبی مرکزی معقد كما يتضمن استخدام اللغة وهو يوجد عند الإنسان فقط . وقد قام آخرون بإنشاء عدة سلالم مماثلة . وكان وضع أي نوع في السلم النفسي يتم في جميع الحالات بعد الوقوف على تعقيد تركيبه البدني وسلوكه . ولذلك فمن الواضح أن المركز العقلي الذي يوضع فيه النوع إنما هو مجرد استنتاج وليس حقيقة دلت عليها
الملاحظة المباشرة . وفضلا عن ذلك ، فحتى إذا كان مثل هذا السلم مقبولا فإن تطبيقه أمر مشكوك في قيمته . فما هي الفائدة التي نجنيها حقاً من وضع عالم الحيوان في نطاق مثل هذا التصنيف السيكولوجي البسيط المكون من ثلاثة مستويات .
قام واطسن (9) Watson حوالى عام 1912 بهجوم عنيف ضد جميع هذه النظريات التي تتعلق بطبيعة عقل الحيوان . ولقد بين واطسن المحاولات التي ترمى إلى الغوص في الحياة العقلية للحيوانات لم تفعل شيئاً أكثر من إثارة المناقشات العقيمة . وليس من الممكن أبدأ إنهاء هذه المناقشات لأن الإنسان لا يستطيع أن يلاحظ الحياة العقلية عند الحيوانات ملاحظة مباشرة .
وأكد واطسن أن محاولة استنتاج حياة الحيوان العقلية من مجموعة الظواهر التركيبية والسلوكية المعقدة إنما هو فقط عبارة عن الرجوع إلى مبدأ التمثيل التشبيهي ولكن هذا المبدأ غير سليم منطقياً . إنه عبارة فقط عن تفكير في دائرة مغلقة إن الحياة الداخلية للحيوانات ، إذا كان لها حياة داخلية ، إنما هي بعيدة دائماً عن الملاحظة الإنسانية . فمن الواضح إذن أنها تقع خارج ميدان البحث العلمي .
وليست جميع المحاولات التي ترمي إلى تفسير عقلية الحيوان إلا نظريات مدعية وغير مجدية . ولكي يصبح علم نفس الحيوان علماً حقيقياً يجب عليه أن يرفض مبدأ الاستدلال عن طريق التمثيل وبذلك يخلص نفسه من آخر أثر من آثار التشبيه بالإنسان . وفي حقيقة الأمر لقد قام واطسن بتتبع الحجج التي أثارها المفكرون الأولون ضد تشبيه سلوك الحيوان بسلوك الإنسان حتى نتائجها المنطقية .
أما في الناحية الإيجابية فقد ذهب واطسن إلى أنه من الواجب على عالم نفس الحيوان أن يبحث العلاقات بين المنبهات والاستجابات كما يمكن ملاحظتها في المعمل وفي البيئة الطبيعية . ولما كان كل من المنبه والاستجابة شيئاً موضوعياً فإن مثل هذا البحث سيضع علم نفس الحيوان حتما ضمن دائرة العلوم الطبيعية .
وكما بين واطسن ، سيصبح التنبؤ بالسلوك وضبطه أمراً ممكنا بدون أن ندخل في الوصف على الإطلاق أي تشبيهات عقلية . ومن الواجب أن ننظر إلى سلوك الكائن الحي في مجموعة كأنه نظام يفسر نفسه بنفسه ، إذ من الممكن تحليل النشاط المعقد إلى أفعال بسيطة . وهكذا حلت فكرة المستويات السلوكية محل الفكرة القديمة الخاصة بالمستويات النفسية . وإنه لمن الممكن ترتيب أنواع النشاط الحيواني من حيث درجة الذكاء الذي يعبر عنه بدون الالتجاء إلى ألفاظ عقلية . وذلك لأن السلوك الذكي انما يتميز بالتوافق مع الظروف البيئية توافقاً ناجحاً . ومن الممكن ملاحظة ذلك ملاحظة موضوعية . ومهما كان رأينا في امتداد نظرية واطسن إلى الميدان الإنساني فهي تبدو صحيحة كل الصحة وملائمة كل الملاءمة لعلم نفس الحيوان . ومع أنه كانت توجد في أول الأمر بعض المعارضة لهذا المبدأ الموضوعي إلا أنه قد أصبح الآن الرأى المسلم به في علم نفس الحيوان .
وكما سبق أن ذكرنا في هذا العرض السريع ، لقد حدثت عدة طفرات كبيرة أثناء الفترة التي ابتدأت حوالي عام 1890 . فحدث في أول الأمر التخلي عن المضمون القصصي وعن النزعة المتطرفة في التفسير على أساس التشبيه بالإنسان . ثم أخذ التقدم التدريجي في مناهج الملاحظة والتجربة يساعد على الحقائق الأولية . وكان لابتكار مناهج جديدة ولامتداد الطرق التجريبية وتحسينها أثر فعال في تنظيم هذه المعلومات . وأخيراً تبنى علم نفس الحيوان هذه النظرة الموضوعية وتخلى نهائياً عن مبدأ التفسير على أساس التشبيه بالإنسان . وقد أصبح من الممكن الآن ، بعد الانتهاء من هذه المشاكل الأساسية ، وضع برنامج شامل للبحث يكون مرشداً للأبحاث التالية . وسنعرض الخطوط العريضة لهذا البرنامج في القسم التالي .
إن البرنامج السليم لأى علم هو العمل على جمع كل المعرفة الممكنة على أسس منظمة . وأحسن طريقة لوضع مثل هذا البرنامج هو القيام بتقسيم ميدان المعرفة من وجهة نظر عامة إلى مشاكل وأبحاث هامة من ناحية ، وإلى مشاكل وأبحاث أقل أهمية من ناحية أخرى . ومن المستحيل أن نضع في الوقت الحاضر أكثر من برنامج تقريبي لعلم النفس ذلك لأن هذا العلم لا يزال في مرحلة التكوين الأولى . ومع ذلك فمن الواجب أن يكون لهذا البرنامج قيمة في توجيه الطالب فيما يتعلق بطبيعة ميدان البحث ومجاله كما نراه الآن . وستكون مهمتنا الأولى تصنيف أنواع السلوك التي يمكن تحليلها وبيان المشاكل التي تقع بطبيعة الحال تحت كل نوع ، وسيعين ذلك على القيام على وجه التقريب ببيان مجال المعرفة الممكنة التي تتعلق بفرد أو نوع معين ، وستكون مهمتنا الثانية هي المقارنة والمقابلة بين مناهج البحث الهامة العديدة التي تستخدم الآن في تحليل السلوك .
جرت العادة في الماضي على تقسيم سلوك الحيوان إلى قسمين رئيسيين : سلوك فطري وسلوك مكتسب . يشمل القسم الأول الأفعال المنعكسة والانتحاءات والغرائز . ويشمل القسم الثاني العادات وردود الفعل المكتسبة . ويعتمد هذا التقسيم الثنائي على الفكرة القديمة التي تقول بوجود ثنائية حاسمة بين العوامل الوراثية والعوامل البيئية في ميدان السلوك . وقد نبذت هذه الفكرة الآن نتيجة للدراسات الكثيرة التي أجريت عن الوراثة عند الحيوانات. وتدل الأدلة على أن العوامل الوراثية والبيئية تعمل معاً أثناء مرحلة النمو كلها . وتكون هذه العوامل متداخلة لا مستقلة منذ وقت الإخصاب . ويعني ذلك أنه توجد في جميع أنواع السلوك ناحية فطرية وناحية مكتسبة . ومن الصحيح بدون شك أن كثيراً من صور السلوك الأولى والبسيطة وراثية في الأغلب إذ أنها تظهر قبل أن تستطيع عوامل البيئة أن تؤدى دوراً ذا أهمية كبيرة .
ومن الصعب ، على أية حال ، أن نثبت الأهمية النسبية لهذين العاملين فيما يتعلق بأنواع كثيرة من السلوك المعقد الذي يظهر فيها بعد أثناء الحياة . وعلى كل حال فليس للتقسيم الثنائي قيمة تذكر في تصنيف جميع أنواع ردود الفعل الكثيرة التي توجد عند الحيوان . إن مشكلة البحث عن الأصول التي يتكون منها كل نوع من أنواع السلوك ستترك هكذا مفتوحة ، كما هو الواجب ، للبحث المستقل.
تجد في الملخص التالي محاولة لتقسيم السلوك إلى أنواع تقابل بعض الوظائف البيوسيكولوجية المعينة . وقد ذكرت هنا ، كما هو ملاحظ ، مجموعتان رئيسيتان من أنواع النشاط.
(ا) قدرات الاستقبال الحسى ؛ (ب) وقدرات رد الفعل . وتشمل المجموعة الأولى العمليات الحسية والإدراكية ، وتشمل المجموعة الثانية ردود الفعل السلوكية التي تحدث في المعمل وفي ظروف البيئة الخارجية . وإن الأنواع الكثيرة التي تدخل تحت كل قسم رئیسی انما تتبع تقريباً الخطوط الطبيعية للتقسيم الوظيفي. فمثلا ، إن الأنواع التي تدخل تحت قدرات الاستقبال الحسي تقابل الأجهزة الحسية التي توجد على عام في الكائنات الحية . وفضلا عن ذلك ، فإن أنواع السلوك التي تدخل تحت قدرات رد الفعل إنما ترجع إلى وظائف الحياة الهامة المحددة . وعلى العموم فإن التقسيم الذي يعرض هنا يتفق مع برنامج البحث العام الذي يتبع الآن في علم نفس الحيوان .
ا ـ قدرات الاستقبال الحسى
الحساسية الكيميائية : ذوق ، وشم، والحاسة الكيميائية العامة
الحساسية الحرارية : حاسة الحرارة
الحساسية اللمسية : حاسة الضغط
الحساسية الصوتية: السمع
الحساسية الضوئية: البصر
الحساسية الكهربائية : الحساسية للمنبهات الكهربائية
الحساسية الاتزانية: حاسة الاتزان
الحساسية الداخلية: الحواس الحركية والعضوية
2– قدرات رد الفعل
-الحركات البسيطة : التآزر الحركي، والقبض، والانتقال في المكان : والمشي ،والسباحة ، والطيران ، والزحف وهكذا .
-السلوك الغذائي : الأعمال المتعلقة بالحصول على الطعام والماء وتناولهما
-السلوك الوقائي : البتر الذاتى ، ونمو العضو من جديد، ردود الفعل الخاصة بالتجنب والدفاع ، ووسائل الهجوم ، والقتال
-السلوك التناسلي : النشاط التناسلي الأولى ، المغازلة ، الجماع ، العناية بالصغار وهكذا
أنواع خاصة من السلوك : قاصرة على أنواع معينة من الحيوان
-حالات عدم النشاط : السبات في فصل الشتاء، النوم، النوم المغناطيسي وهكذا .
إصدار الأصوات والتواصل
السلوك الجمعي – في داخل النوع : التجمع ، الهجرة ، القيادة ، العلاقات المنزلية والعائلية ، اللعب ، الخ .
السلوك الجمعي- بين الأنواع : التطفل، اشتراك فردين من جنسين مختلفين في المعيشة ، اشتراك جنسين مختلفين في المعيشة دون أن يسود أحدهما الآخر أو يعتدى عليه ، الحياة الجماعية الطبيعية ، الخ
السلوك الخاص بالتوجه في المكان : التوجه الإيجابي والسلبي نحو أنواع مختلفة من المنبهات ، التوجه نحو المسكن ، الخ . المزاج والتعبير الانفعالي .
عوامل نزوعية في السلوك : دلالات الباعث والدافع والأهمية النسيبة لهذه العوامل في أعمال الحياة النموذجية.
تغير السلوك : دلالات التعلم والحفظ التي تبين مدى القدرة على تكوين أنواع جديدة من التوافق
الذكاء العام : المستوى العام للقدرة السلوكية على أساس تقدير جميع دلالات القدرات الخاصة بالاستقبال الحسى ورد الفعل .
تتضمن أنواع السلوك الكثيرة المذكورة في هذا الملخص ، كما يمكن أن نتوقع ، مشاكل مختلفة تحتاج إلى مناهج خاصة في البحث . ومن الممكن أن نمر على بعض الأمثلة مروراً سريعاً . إن أعم المشاكل التي تعرض لنا أثناء تحليل كل قدرة للاستقبال الحسي هي كما يأتي :
(أ) مدى الحساسية للمنبهات المؤثرة . (ب) عتبات التمييز. (ج) أهمية الحساسية النوعية في وظيفة الإدراك السوى . فأعضاء السمع والبصر غالباً ما تكون دقيقة جداً بحيث يوحى ذلك بإمكان القيام بتحليل أدق في هذه الميادين . هل يستطيع الحيوان استخدام العلامات المستمدة من علو الصوت ونوع نغمته وشدته كأنها كيفيات حسية مستقلة ؟ ما هو مقدار الدقة التي يستطيع بها نوع معين تحديد مكان الأصوات ؟ هل رؤية اللون موحدة ؟ كيف تقارن رؤية النصوع بتمييز الحجم والشكل والنظام ؟ ويجب أن يكون واضحاً أن مشاكل التحليل الحسى هنا إنما هي المشاكل ذاتها التي يقابلها الباحثون في الميدان الإنساني . ومناهج البحث بالطبع مختلفة جداً ، كما أنه ليس من الممكن الحصول على تقارير استبطانية من أفراد الحيوانات التي تجرى عليها التجارب والمشكلة الرئيسية فيما يتعلق بكثير من قدرات رد الفعل إنما هي الحصول على معرفة صحيحة بأسلوب حياة الحيوان في بيئته الطبيعية . ومثل هذه المعرفة الأولية الوظيفية ضرورية حتى يمكن تهيئة الشروط المعملية المناسبة لقياس الدافع ، والتعلم ، والذكاء . وسنقوم في الفصل التالي بوصف بعض المشاكل والمناهج المتعلقة بهذه الميادين التجريبية الثلاثة كما سنذكر بعض الأمثلة عنها.
ويستحسن قبل أن نتكلم عن المناهج الخاصة أن نناقش باختصار جداً الاتجاهات الرئيسية العامة الثلاثة التي تخص حقاً هذا العلم . وهذه الاتجاهات هي ما يأتي : (ا) الملاحظة والتجريب ( ب ) التحليل التكويني .
(ج) التأليف المقارن وليست هذه الأساليب المختلفة للبحث متميزة بعضها عن بعض كل التمييز من ناحية الممارسة العملية . فهناك كثير من التداخل سواء في المناهج أو في المضمون . وبالرغم من ذلك فهناك فروق جوهرية فيما يتعلق بوجهة
النظر العامة أو بأسلوب الاتجاه في البحث . وفضلا ً عن ذلك فهذه الاتجاهات العامة للبحث مختلفة في أغراضها وفي اتساع أبحاثها . ويشغل كل اتجاه رئيسى من هذه الاتجاهات مكاناً هاماً في البرنامج الشامل لعلم نفس الحيوان .
تؤدى الملاحظة والتجريب الدور الرئيسي في هذا العلم كما في العلوم الطبيعية الأخرى . ومن الواجب الانتفاع بهذا الاتجاه العام والرئيسي في جميع الدراسات المتعلقة بسلوك الحيوان . ذلك لأن هذا الاتجاه هو الوسيلة الوحيدة للحصول على حقائق معينة جديدة . ويختلف التجريب عن الملاحظة اختلافاً أساسياً من حيث الاستعانة بالضوابط المعملية التي تضمن للنتائج قسطاً أكبر من التحديد والدقة . فيعرف المنبه تعريفاً أحسن ، وتزال جميع أنواع المؤثرات الأخرى ، وتكون الاستجابة إلى المنبه أكثر إحكاماً وتحديداً . ومن الممكن القيام بمثل هذا الضبط باستخدام الغرف المظلمة ، والغرف التي لا ينفذ إليها الصوت ، والعرض الأوتوماتيكي للمنبهات ، والأجهزة المقيدة لحرية الحيوان الذي تجرى عليه التجربة ، والوسائل المعملية الأخرى الكثيرة. وفضلا عن ذلك ، فمن الممكن أن توضع بعض المشاكل الخاصة التي قد لا تحدث أبدأ في الطبيعة .ويمكن تكرار هذه المشاكل حتى يتم الحصول على نتائج موثوق بها من الناحية الإحصائية . وبالرغم من ذلك فإن الدراسات التي تعتمد على الملاحظة في هذا الميدان مهمة ، ومن الواجب أن تسبق هذه الدراسات دائماً محاولات التحليل التجريبي . وتوفير الشروط الملائمة للحياة في المعمل ، ووضع الخطط التجريبية المناسبة إنما يقتضيان معرفة شاملة لنشاط الحيوان في بيئته الطبيعية . وفضلا . ذلك فمن الواجب أن تدرس أغلب قدرات رد الفعل المذكورة في الملخص السابق دراسة جزئية على الأقل ، باستخدام طرق البحث المنظمة في المجال الطبيعي . هذا صحيح على وجه خاص بالنسبة إلى السلوك الوقائي ، والسلوك الجمعي ، والسلوك التناسلي ، والقدرة على التوجيه نحو المسكن وما شابه ذلك . وتختلف الملاحظة عن التجربة في نهاية الأمر من حيث الدرجة فقط ، ويميل كل منهما إلى تكميل الآخر في أي برنامج كامل للبحث.
يمثل التحليل التكويني المنهج الخاص بدراسة ترقى السلوك الخاص بنوع معين من الحيوان . وينصب الاهتمام هنا على سلسلة التغيرات التي تحدث في جميع سلوك النوع أثناء دورة الحياة الكاملة . ويتضمن ذلك تحديد الزمن الذي يبدأ فيه ظهور كل نوع من النشاط ، وتسجيل التغيرات التي تطرأ عليه خلال مراحل النضوج والانحطاط . ومن النادر ، من الناحية العملية الواقعية ، يستمر التحليل التكويني للحيوان إلى ما بعد البلوغ ، وذلك في الغالب لأن المرحلة الأولى من النمو أكثر أهمية وأكثر ملاءمة للدراسة . ومن هذه الدراسة ، في الواقع ، يمكن أن نستمد أحسن الأدلة التي تتعلق بالتفوق النسبي لكل من عوامل الوراثة والبيئة . ومع ذلك فقد تشمل الدراسة التكوينية الكاملة جميع حياة النوع الحيواني . ويتضمن التحليل التكويني بالطبع الملاحظة وكذلك التجريب البسيط في بعض الأحيان . وعلى أية حال فإن المشاكل ووجهة النظر لتختلف اختلافاً جوهرياً عن الدراسات الفسيولوجية العادية التي تستخدم فيها الملاحظة والتجريب . ولكى يصل التحليل التكويني إلى معرفة النظام العام لسلوك نوع من الحيوان أثناء دورة حياته كلها يجب عليه أن يعمل حساب مثل هذه العوامل المتغيرة مثل السلالة والجنس واختلاف العمر .
يمثل التأليف المقارن المنهج التطوري العام لدراسة سلوك الحيوان على وجه عام . وهو منهج بطبيعته يهتم بدراسة نشوء النوع ، بينما يقتصر التحليل التكويني على المشاكل الخاصة بنشوء الفرد . ويتضمن منهج التأليف المقارن مقارنة المستويات السلوكية للأنواع والأجناس والمراتب والأصناف والقبائل وغير ذلك من الجماعات المشابهة . وقد تقتصر هذه المقارنة على عدد قليل من الأنواع أو المراتب المقارنة . أو قد تمتد إلى الجماعات الكثيرة إذا ما سمحت بذلك الأدلة القائمة لدينا . وقد تقتصر المقارنة على نوع واحد من النشاط كالبصر مثلا ً ، أو قد تتسع فتشمل جميع ذلك السلوك المركب الذي سميناه « الذكاء العام » في الملخص الذي ذكرناه في القسم السابق . وبالاختصار ، فإن التأليف المقارن يراعى جميع الفروق الموجودة بين الجماعات المختلفة من حيث القدرات السلوكية .
إن الهدف الرئيسي للمنهج المقارن هو تعقب ظهور التعقيد في السلوك ، وهو التعقيد الذي حدث عندما أخذ تعقيد التركيب البدني للأنواع الحيوانية يزداد على مر العصور . وسيؤدي ذلك في النهاية إلى تأليف شامل يتضمن تطور الذكاء العام من أبسط الكائنات الحية إلى الإنسان أرقى نوع في مرتبة الحيوانات الثديية العليا . ويتطلب مثل هذا التأليف برنامجاً شاملا ً كاملا ً لدراسة بعض أنواع الحيوان التي تمثل جميع مستويات التعقيد السلوكي . وإن ذلك ليستلزم عملا من الضخامة بحيث يمكن أن يعتبر كأنه الهدف النهائي ، وربما الهدف المثالي ، لعلم نفس الحيوان . وعلى أية حال فمن الواجب أن نعترف بأنه حتى الآن لم يعمل شيء يستحق الذكر نحو الوصول إلى هذا الهدف ومع ذلك فيجب أن يكون من المعلوم أن حقائق علم نفس الحيوان وتفسيراته إنما تجد مكانها الهام والمعقول ضمن البحوث المقارنة الشاملة ويثير المنهج المقارن بعض الصعوبات الأساسية التي قد تؤدي إلى تعطيل التقدم المنظم . وربما ينشأ أهم هذه الصعوبات من الاختلاف الكبير القائم بين أنواع الحيوان من حيث البناء والوظيفة . ويمكن الوقوف على مدى هذه الاختلافات بالاطلاع السريع على ما كتب في كتاب حديث (10) في الفصل الخاص المورفولوجيا والفسيولوجيا المقارنة للكائنات الحية . والفروق هنا ظاهرة جداً فيها يتعلق بآليات رد الفعل التي يعتمد عليها جميع أنواع النشاط . فمثلا بعض الحيوانات تزحف ، وبعضها يمشى ، وبعضها يعوم ، وبعضها يطير . ومن الصعب ، في الواقع ، أن يبتكر جهاز يمكن استخدامه لاختبار مثل هذه الأنواع المختلفة .
ومع ذلك فمن الواضح أنه يجب أن تقدم المشكلة ذاتها إلى جميع أنواع الحيوانات التي نقارن بعضها ببعض إذا كنا نريد الوصول إلى نتائج صحيحة فيما يتعلق بالفروق الموجودة في المستوى السلوكي . ومن الواجب أن تكون الاختبارات مناسبة لها جميعاً على قدر المساواة . وإنه لمن الضروري أن تبتكر بعض الأجهزة الأساسية الصالحة لاختبار عدد معقول من أنواع الحيوان حتى يستطيع المنهج المقارن أن يقوم بتقدم حقيقي.
كان الاهتمام الرئيسي لعلماء النفس حتى الوقت الحاضر متجهاً إلى الدراسات المعملية لا إلى الدراسات التي تجرى في المجال الطبيعي . ويجب أن تكون أسباب ذلك واضحة جداً . فأولا ، لقد كان الدافع الأولى للحركة الحاضرة هو تكوين المناهج التجريبية . ولازالت بعض الجهات ترى أن لدراسات المجال الطبيعي أهمية ثانوية وأنه من المستحسن تركها للطبيعيين . وثانياً ، يظهر أن الموضوعات التي كانت تخضع بسهولة للدراسة المعملية كانت موضوعات سيكولوجية بالذات كما كانت أقرب إلى الدائرة الإنسانية . وتنحصر هذه الموضوعات على وجه عام في أنواع السلوك الآتية :
( ا ) قدرات الاستقبال الحسي.
( ب ) دوافع السلوك.
( ج ) التعلم والذكاء .
أما أغلب الدراسات المتعلقة بأنواع السلوك الأخرى المذكورة في الملخص الوارد في القسم السابق فقد قام بها علماء البيولوجيا ومع ذلك فتوجد بعض الشواهد التي تدل على أن هذا الاهتمام الضيق بالبحث المعملى قد بدأ يتلاشى وأخذ يحل محله اتجاه تنظيمي أكبر شمولا . ومما يدل على ذلك زيادة عدد دراسات المجال الطبيعي الشاملة والقيمة جداً التي أجريت على الحيوانات العليا والأنواع الحيوانية الأخرى.
ومن العوامل الأخرى التي كان لها تأثير في تضييق دائرة البحث الاهتمام المتواصل بدراسة سلوك الحيوانات الفقرية العليا – الطيور والحيوانات الثديية ويرجع ذلك بلا شك إلى ذلك الاعتقاد السائد وهو أنه بدراسة هذه الجماعات الحيوانية يمكن تقديم أكبر فائدة ممكنة إلى علم نفس الإنسان . وعلى أية حال فإن دراسة نشاط الحيوانات غير الفقرية والحيوانات الفقرية الدنيا قد تركت في الأغلب لعلماء البيولوجيا مع الاهتمام الخاص بمشاكل السلوك . ويبدو أن هذه الحالة ، كما تدل الشواهد الحالية ، ستستمر هكذا في المستقبل . وهناك اتجاه آخر لاهتمام علماء النفس تمثله العناية الفائقة بعملية التعلم كما يقوم بها الفأر الأبيض في الاختبارات المختلفة . فجزء كبير من نتائج الدراسات المعملية في الوقت الحاضر يتعلق بإحدى نواحي هذه المشكلة العامة . والهدف هنا هو القيام بتحليل عملية التعلم تحليلا دقيقاً على أمل الوصول إلى نظرية عامة تنطبق على جميع الكائنات الحية . ومع ذلك فإنه يبدو من المعقول أن دراسة مثل هذه الحيوانات الثديية العليا مثل الكلاب ، والقطط ، والراكون ، والنسانيس ، والقردة العليا قد تلقى ضوءاً كبيراً على طبيعة عملية التعلم عند الإنسان . وهناك من الأسباب ما يدعونا إلى الاعتقاد بأن هذا الاهتمام الزائد عن الحد بسلوك الفأر قد أخذ يصحح الآن بذلك الاهتمام الحديث بدراسة الحيوانات العليا .
لقد حددت هذه الاتجاهات العديدة ، بشكل هام ، اختيار المناهج والنتائج التي سنعرضها في الفصل التالي . وذلك لأننا سنهم في ذلك الفصل بشرح أحدث التطورات التي حدثت في هذا الميدان حتى الوقت الحاضر . ويعنى ذلك أننا سنقصر عرضنا المختصر على الموضوعات الثلاثة التي سبق أن ذكرناها والتي يتركز حولها معظم البحث المعملي . ولهذا السبب أيضاً سنقصر كلامنا على الحيوانات العليا وذلك لأن أدق المناهج قد ابتكرت لدراسة هذه الحيوانات .
وفضلا عن ذلك فسينال الفأر الأبيض في هذا العرض نصيباً أكبر مما يستحق حقيقة ، وذلك لأنه قد أجرى عليه كثير من الاختبارات في المعمل بدرجـة تفوق كثيراً ما أجرى على أي نوع آخر من الحيوانات .
المراجع المشار إليها في الفصل
مراجع عامة
Jennings, H.S. Behavior of the Lower Organisms. New York: Columbia University Press, 1906.
Morgan, C.L. Introduction to Comparative Psychology. New York: Charles Scribner's Sons, 1894.
Romanes, G.J. Animal Intelligence. London: K. Paul, 1881.
Thorndike, E.L. Animal Intelligence. New York: The Macmillan Company, 1911. (Col. papers, 1898-1901.)
Warden, C.J. A Short Outline of Comparative Psychology. New York: W.W. Norton and Company, Inc., 1927.
Warden, C.J., Jenkins, T.N., and Warner, L.H. Comparative Psychology. Vol. I, Principles and Methods. New York: The Ronald Press Company, 1935.
Warden, C.J., and Warner, L.H. The development of animal psychology in the United States during the past three decades, Psychol. Rev., 1927, 34, 196-205,
Watson, J.B. Behavior: An Introduction to Comparative Psychology. New York Henry Holt and Company, 1914.
[1] قام بترجمة هذا الفصل الدكتور محمد عثمان نجاتی .
[2] عنوان الكتاب بالكامل : أصل الأنواع عن طريق الانتخاب الطبيعي( المترجم )
[3] البروتستة هي الكائنات الأولية وحيدة الخلية سواء كانت حيوانات أو نباتات ( المترجم )
[4] نوع من سرطان الماء يعيش في الأنهر ( المترجم )
[5] المحارة (problem-box; puzzle-box) صندوق يقتضى فتحه من الداخل عدداً من العمليات من جذب وضغط ورفع إلخ . ( المترجم )
[6] الشعورية mentalism المذهب القائل بأن علم النفس معنى ، كليا أو جزئياً، ببحث الظواهر الشعورية ، في مقابل المذهب السلوكي behaviorism ( المترجم )
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط الخاصة بنا وملفات تعريف الارتباط الخاصة بالجهات الخارجية حتى نتمكن من عرض هذا الموقع وفهم كيفية استخدامه بشكل أفضل ، بهدف تحسين الخدمات التي نقدمها. إذا واصلت التصفح ، فإننا نعتبر أنك قبلت ملفات تعريف الارتباط.