الفلكلور؛ إشكاليته وتاريخه

  هَذَا الكتابُ ترجمةٌ عربيةٌ لدراسةٍ بعُنوانِ "الفولكلورُ قضاياهُ وتاريخُه"، تُمثِّل بابًا مِنْ كتابِ "الفُولكلورُ الرُّوسِيّ" للمُؤلِّفِ يوري سوكولوف.

 

ويتكوَّن الكتابُ من قِسميْنِ: قسمٌ يحملُ عُنوانَ الكتابِ "الفلكلورُ قضاياهُ وتاريخُه" وهي دراسةٌ مترجمةٌ من فصليْنِ، للمؤلفِ الرُّوسيِّ يوري سوكولوف، و قسمٌ يحملُ عنوانَ "كتابُ الفولكلور الروسيّ ليوري سوكولوف"، يستعرضُ فيه المترجمُ عبد الحميد حواس أبوابَ الكتابِ.

 

                                                                                           ***

 

تعتبرُ دراسةُ "الفولكلورُ قضاياهُ وتاريخُه" عملًا متميزًا في حلقاتِ تطوّرِ الفلكُلورياتِ على المستوى العالَميِّ، وتكادُ أن تكونَ الدراسةَ الأولى التي تصوغُ الأسسَ النَّظريةَ لعلمِ الفلكلورِ وتناقشُ قضاياهُ المختلفةَ الفنيةَ والاجتماعيةَ، وتؤرِّخُ لمدارِسِهِ وتيَّاراتِه.

 

ويحملُ الفصلُ الأولُ من هذهِ الدراسةِ عُنوانَ: "طبيعةُ الفلكلورِ ومُشكِلاتُ عِلمِ الفُلكلورِ"، وفيهَا يَقصُر سوكولوف مفهومَ الفُولكلورِ على فنونِ القَولِ والإبداعِ الشَّفويِّ فقط بألوانهِ المُختلفةِ، وما يرتبطُ به من عاداتٍ وممارساتٍ شَعبِيَّةٍ. فيَسْتَبعدُ بذلك من إطارِ المُصطلحِ ألوانَ الفولكلورِ الأُخرى غيرَ القوليةِ، مُتفقًا مع المفاهيمِ السائدةِ في عصرِه.

 

ويُعرِّف سوكولوف الفولكلورَ بأنَّه: الإبداعُ الشِّعريُّ الشَّفاهيُّ لجماهيرِ الشعبِ العَريضةِ. ويَعُدُّه فرعًا خاصًا من فروعِ الأدبِ، فالأدبُ عندَه لا يقتصرُ على المَوادِ المَكتوبةِ أو الإبداعِ الفنيِّ المُدَوَّنِ. ويذهبُ لمناقشةِ بعضِ القضايا، التي يستندُ إليها في تأييدِ وجهةِ نظرهِ حولَ أدبيةِ الفولكلورِ وإثباتِها، من خلالِ نفيِها ومعارضتِها. وهذه القَضايا هي: مسألةُ اللا شخصيةِ: أي الادعاءُ بأن الأدبَ الشعبيَّ أدبٌ لا تظهرُ فيهِ السمةُ الشخصيةُ للمبدعِ، بينما الأدبُ المكتوبُ له مؤلِّفُهُ المُحددُ دائمًا. ومسألةُ اللا فنيةِ: حيثُ كانت الاتجاهاتُ القديمةُ تضعُ أدبَ الشَّعبِ باعتبارِه أدبًا غير فنيٍّ في مقابلِ الأدبِ الفنيِّ المدوّنِ. ومسألةُ الصورِ المتغيرةِ للنصوصِ الفولكلورية، ومسألةُ التقاليدِ.

 

فيذهبُ سوكولوف إلى أنَّه لا يوجدُ فرقٌ بين الأدبِ الشعبيِّ، والأدبِ المكتوبِ، حيث إن لكلٍ منهُما مُؤلفًا محددًا، إلا أن أسماءَ مُؤلفي الأعمالِ الأدبيةِ الشعبية لم تُنقَلْ لنا لأسبابٍ تتعلقُ رُبما بطبيعةِ حياةِ رُواةِ التُراثِ الشَّعبيِّ وأعمالِهِم. كما أن الرُّواةَ الشَّعبيينَ، لديهم القدرةُ على حَكيِ الحِكايةِ أو السيرةِ بنفسِ الأسلوبِ الفَنِّي والبلاغيِّ الذي يَتبعهُ المؤلفُ أو الأديبُ عند كتابتِهِ للقِصصِ الأدبيةِ، فعملُهُم الشفاهيُّ لا يَخلو أَبدًا من وسائلِ الصَنعةِ الفنِّيةِ ومهاراتِها.

 

     وإذا كانت الأسطورةُ أو الحكايةُ الشَّعبيةُ تُحكى بطرقٍ مختلفةٍ، نتيجةً لاعتمادِها الكاملِ على ذاكرةِ الراوي، فالقصةُ الأدبيةُ هي الأخرى قد يتمُ تناولُ موضوعٍ من موضوعاتِها أو شخصيةٍ من شخصياتِها، بأكثرَ منْ طريقةٍ من مؤلفين مختلفين، مثلما حدثَ مثلًا مع شخصيةِ "دون خوان" في آدابٍ عديدةٍ، وأحيانًا تخضعُ للترجمةِ للغاتٍ أُخرى، ما قد يُغيرُ من بعضِ تفاصيلِها.

 

     وكما يتقيدُ الراوي الشعبيُّ ببعضِ التقاليدِ الخاصةِ بالأدبِ الشعبيِّ، ولكن في إمكانِه أن يقومَ بالارتجالِ، فتلك العمليةُ يقابلُها في الأدبِ ما يسمى بالإبداعِ الشِّعريِّ، الذي لا يختلفُ مع الفُولكلورِ إلاَّ في الدرجةِ فقط، كما يعد كلٌ من الفُلكلورِ والأدبِ الفنيِّ انعكاسًا للصراعِ الطَبَقِيِّ بما يحققانِه من وظائفَ اجتماعيةٍ.

 

 ثُمَّ يناقشُ سوكولوف أيضًا مَسألتينِ تَخُصَّانِ طبيعةَ الفولكلورِ ومجالَ دراستِه هُما: البَقايا والمُخلَّفاتُ الثَّقافيةُ، هل يجِبُ أن تقتَصِرَ الدراسةُ في هذا المَجالِ على دِراسةِ بقايا الماضِي فَقط؟ ومسألةُ الدلالةِ الاجتماعيةِ للفولكلور.

 

ويتابعُ في بَقيَّةِ الفَصلِ حديثًا عن المشاكلِ المنهجيةِ في الدراساتِ الفُولكلوريةِ والصعوباتِ التي يجبُ أن يجتازَها الدَّارسِ.

 

 يحملُ الفصلُ الثاني من الدراسةِ عُنوانَ "تاريخُ الدراساتِ الفولكُلوريةِ"، وفيه يُلخِّصُ المُؤلِّفُ المراحلَ التَّاريخيةَ التي مَرَّ بها علمُ الفولكلورِ مُستعرضًا مدارسَه واتجاهاتِه المختلفةَ، حتى زمنِ دراستِه (نشرها عامَ ألفٍ وتِسعِمِئة وواحدٍ وأربعين).

 

حيثُ كانَ القرنُ التاسعَ عشرَ هو القرنُ الذي تراكمتْ فيه موادُّ وشواهدُ فولكُلوريةٌ جُمِعَ بعضُها قبلَ ذلك، غيرَ أن هذا الجَمع قد زادَ وتوسَّع في القرنِ التاسعَ عشرَ بتأثيرِ التَّوسعِ الاستِعمَاريِّ، وكان لافتًا للنَّظرِ وجودُ تشابهٍ بين كثيرٍ من الأساطيرِ والحكاياتِ الشَّعبيةِ عند شعوبٍ مختلفةٍ ومُتباعدةٍ. مثَّلت مَسألةُ تفسيرِ هذا التَّشابهِ مِحورًا مُهمًّا في العديدِ من المدارسِ، ومِن هُنا يأتي سببٌ لاختلافها إلى جانبِ الأسبابِ الأخرى التي تتمثلُ في أنَّ كلَّ مدرسةٍ قد تأثَّرت بالاتجاهاتِ العامةِ السائدةِ في زمنِها.

 

     المدرسةُ الرومانسيةُ: ظهرت هذه المدرسةُ في بداياتِ القرنِ التاسعَ عشرَ متأثرةً بالمناخِ الرومانسيِّ السَّائدِ في عصرِها، وكذلك بفكرةِ "القوميةِ"، فكانَ الاهتمامُ بأنَّ آثارَ الأدبِ الشعبيِّ تكشفُ عن الثَّراءِ والعُمقِ فيما يُسمى النَّفسيةُ الشعبيةُ أو القوميةُ. وظهر في ذلكَ الوقتِ عِلمُ اللغةِ الهنديةِ – الأوروبيةِ، ومنهجُه المقارنُ الذي يُمكن من خلالِه دراسةُ الظواهرِ الفلكلوريةِ من خلالِ المقارنةِ بين كلماتِ "اللُّغةِ الهِنديةِ-الأوروبيةِ"، المستخدمةِ في الشعرِ والأساطيرِ، والبحثِ في أوجهِ الشبهِ بينَها.

 

وأرجع هذا الاتجاهُ الشعرَ والأسطورةَ إلى وجودِ أصلٍ لُغويٍّ مُشتركٍ "اللغةُ الأمُّ" أي أصل كلِّ اللغاتِ الهِنديةِ – الأوروبيةِ.

 

     المدرسةُ الميثولوجيةُ: كان لهذهِ المدرسةِ العديدُ من الأتباعِ من جنسياتٍ مختلفةٍ، وقد ارتبطت أبحاثُهم بدراسةِ اللغوياتِ، وقدَّمت اللغةُ المادةَ الرئيسيةَ لهم في تفسيرِ مُعظمِ المَراحلِ القديمةِ لتطوِّرِ الأساطيرِ والمفاهيمِ الدينيةِ والشِّعريةِ. منهم من مَال إلى إرجاعِ أصلِ مُعظمِ الأساطيرِ إلى تأليهِ عناصرِ الطبيعةِ، ومِنهم من رأى أنَّها إعلانٌ عن التفكيرِ البِدائِيِ.

 

     وقد فسَّرَ “ماكس مولر” -أحدُ أتباعِ هذهِ المدرسةِ- نشأةَ الأساطيرِ بتلك الظاهرةِ التي أَسمَاها “مرضُ اللغةِ”، التي حلَّت فيها التَّشبيهاتُ والاستعاراتُ والرموزُ محلَ الكلماتِ؛ فقديمًا كانَ الإنسانُ البدائيُّ (الشعوبُ الهندُ أوروبيةُ)، عاجزًا عن التفكيرِ المُجَرَّدِ، وبالتالي لم يستخدمْ كلماتٍ أو ألفاظًا مجردةً، فكان يستخدمُ مجموعةً من التشبيهاتِ أمثال: أنَّها حارقةٌ، أو أنَّها مُشعةٌ وذلك لوصفِ الشَّمسِ، وبمرورِ الوقتِ يضيعُ المعنى المُرتبطُ بالشَّمسِ وتحدثُ تصوراتٌ خياليةٌ للظواهرِ الطبيعيةِ وتنشأُ الأساطيرُ حولَها، ما أدَّى إلى ما يُسمى بِظاهرةِ اعتلالِ أو مرضِ اللُّغةِ.

 

     مدرسةُ الاستعارةِ: فسَّر المستشرقُ الألمانيُّ تيودور بنفي T.Benfey، سببَ انتقالِ الأساطيرِ من الهندِ إلى الشعوبِ الأخرى الأوروبيةِ وغيرِ الأوروربيةِ نتيجةَ الصلاتِ التاريخيةِ الحضاريةِ بين الشعوبِ، وحركةِ التجارةِ، حيث قام التُّجّارُ العربُ واليهودُ بنقلِ الأساطيرِ من الشرقِ إلى الغربِ عبرَ البحرِ المُتوسطِ، مُفسِّرًا ذلكَ بمبدأِ الاستعارةِ أو الانتشارِ الثَّقافيِّ، ويُعطي لنا أمثلةً كثيرةً على حكاياتٍ تُرجمت للغاتٍ عدةٍ مثلَ حكايةِ "كليلة ودمنة" وغيرِها، حيث قامَ بتتبعِ انتشارِ القِصصِ الهِنديةِ في الأدبِ الشَّرقيِّ والغَربيِّ، لِذا تُسمَّى نظريتُه أيضًا بنظريةِ "الهجرةِ" أو "الرواياتِ المتنقلةِ" أو "الحكاياتِ الجوالة".

 

   المدرسةُ الفنلنديةُ: حاولَ أَنصارُ المدرسةِ (الفنلندية) أن يحسِمُوا مسألةَ تفسيرِ تشابهِ الحكاياتِ عن طريقِ المنهجِ الجُغرافيِّ التَّاريخيِّ، فهُم يَرَونَ أنَّ الموطِنَ الأصليَّ الأولَ للحكايةِ هوَ البلدُ الذي تقتربُ فيه حكايةٌ ما اقترابًا كبيرًا من صورتِها الأصليةِ المُفترضةِ، لذا حاولت هذهِ المدرسةُ إعادةَ الحكايةِ الأسطوريةِ لصورتِها الأوَّليةِ، وإعادةَ خلقِ الشَّكلِ المُفترضِ لَها ولِلُغتِها الأصليةِ المُفترضةِ، فقد ارتكزتْ رؤيتُهم على أنَّ نقطةَ النهايةِ في أيِّ حكايةٍ هي صورتُها التَّامةُ، وليسَ أكثرُ أشكالِها بساطةً وهي نقطة البداية، فاهتموا بالكشف عن نقطة البداية.

 

    المدرسةُ الأنثروبولوجيةُ: اتخذت هذه المدرسةُ بزعامةِ إدوارد تايلور منحنىً آخرَ في تفسيراتِها، حيث فسَّر تايلور ظهورَ الأساطيرِ وتشابهَ أساليبِ الحياةِ والتَّصوراتِ الدينيةِ لدى شعوبٍ مُختلفةٍ بوحدةِ العقلِ البشريِّ، وبالتالي وحدةِ مساراتِ التَّطورِ في الثقافةِ الإنسانيةِ بوجهٍ عامٍ، فقوانينُ التَّطورِ متماثلةٌ؛ حيثُ مرَّت كلُّ المجتمعاتِ بنفسِ مراحلِ التطورِ الحضاريِّ مُحتفظةً ببقايا المراحلِ القديمةِ، وهذا ما يُفسرُ تشابهَ العناصرِ الثقافيةِ بين شعوبٍ مُتباعدةٍ، وكذلك تشابهَ مظاهرِ حضاراتِ الشعوبِ البدائيةِ مع عناصرَ في أفكارِ الشعوبِ المُتحضِّرةِ، أي (توارثِ الشعوبِ المتحضرةِ للرواسبِ الثقافيةِ).

 

     وينتقدُ يوري سوكولوف هذه النظريةَ السَّابقةَ حولَ إرجاعِ تشابهِ الأساطيرِ إلى عاملِ وحدةِ الجِنسِ البَشريِّ ووحدةِ قوانينِ تطورِ الثقافةِ، والرواسبِ الثقافيةِ في حياةِ الشعوبِ المتحضرةِ، ويرى أنها أمورٌ شديدةُ التعميمِ، ولا يجوزُ الاستنادُ عليها، ولا ترتكزُ على أي أسسٍ ماديةٍ، مُتسائلًا عن العاملِ الذي يحكمُ انتظامَ التَّطورِّ البَشريِّ، وعن طبيعةِ تتابعِ مراحلِ النُمّوِ الثَّقافيِّ للإنسانِ.

 

    المدرسةُ التاريخيةُ: استندتْ هذهِ المدرسةُ في عملِها على أسسٍ تاريخيةٍ، فبحثت عن الأُسسِ التَّاريخيةِ للملاحمِ وللأنواعِ الشَّعريةِ، من خلالِ البحثِ في الوثائقِ عن الأسماءِ والأخلاقِ والعاداتِ الموجودةِ في المَلاحمِ، ومقارنةِ ذلك بالسجلاتِ والمَصادرِ التاريخيةِ لمعرفةِ العصرِ الذي وُضعت فيهِ الملاحمُ، ولكن أحدَ عيوبِ هذه المدرسةِ أنها أفسحتِ المجالَ للتخميناتِ والتأويلاتِ.

 

المدرسةُ السيكولوجيةُ: رأت هذه المدرسةُ بزعامةِ فرويد، أن الأساطيرَ هي وليدةُ المشاعرِ المكبوتةِ، والتي تظهرُ خلالَ الأحلامِ وفي الخيالِ، حيث حلَّلَ أسطورةَ أوديب، وبَيَّن لنا فيها رمزيةَ الجاذبيةِ الجنسيةِ وغيرةَ الطفلِ على أُمِّهِ مِن أَبيهِ.

 

     المدرسةُ الديمقراطيةُ الثَّوريةُ: أكَّدت هذه المدرسةُ على أهميةِ دراسةِ النَّصِّ الشَّعبيِّ دون عزلِهِ عن سياقِهِ الاجتماعيِّ وبيئتِهِ التي يعيشُ فيها، والبحثِ عن اختلافِ فولكلورِ الطبقاتِ الاجتماعيةِ المُختلفةِ، مع وضعِ تأثيرِ الطَّبقاتِ الحاكمةِ والكَنيسةِ على أيديولوجيةِ الجماهيرِ في الاعتبارِ.

 

 

 

بعدَ أن ينتهِي من الحديثِ عن المدارسِ، يستكملُ سوكولوف الفصلَ في عرضِ تطوراتِ حركةِ جمعِ الفولكلورِ في رُوسيا، فيتحدثُ عن موجاتِ هذا الجمعِ. ويشيرُ إلى التطوراتِ الحادثةِ بعدَ الثَّورةِ الرُّوسيةِ، حيث توسَّعَ الاهتمامُ بالفلكلورِ إلى فلكلورياتِ المدينةِ وأصحابِ الحِرفِ والمَصانعِ، وانتشرتِ الأغنيةُ الثَّوريةُ، فوصلَ الاهتمامُ بالفولكلورِ إلى المُستوى الجَماهيريِّ، حيث أخذَ الإبداعُ الجماهيريُّ في النُّموِّ نتيجةً لاتساعِ التَّعليمِ، ما أَدَّى إلى زيادةِ التَّقاربِ بينَ الأدبِ الشَّفويِّ الشَّعبيِّ والأَدبِ المَكتوبِ، وأَصبحَ الفولكلورُ يُدرّس في الجَامعاتِ.

 

                                                                             ***

 

 وفي القسمِ الآخرِ، يبدأُ المترجم باستعراضِ محتوى دراسةِ سوكولوف السابقةِ "الفولكلورُ قضاياهُ وتاريخُه"، ثم ينتقلُ إلى البابِ الثاني من كتابِ الفولكلورُ الروسيّ: "الفولكلورُ قبلَ ثورةِ أكتوبر" ويعرضُ ما قامَ بهِ سوكولوف فيه.

 

ففي هذه الدراسةِ  "الفولكلورُ قبلَ ثورةِ أكتوبر" يدرسُ سوكولوف الأنواعَ الفولكلوريةَ في المجتمعِ الروسيِّ قبلَ ثورةِ أكتوبر (التي تُعرفُ أيضًا بالثورةِ البُلْشُفِيّةِ، عامَ  1917 ألفٍ وتِسعِمئةٍ وسبعةَ عشرَ ميلادية، وتمثلُ التحولَ التاريخيَّ الذي هدمَ المجتمعَ الإقطاعيَّ القديمَ في روسيا وأسسَ المجتمعَ السوفييتيّ). يتناولُ سوكولوف هذه الأنواعَ من حيثُ بنائِها وطبيعتِها الأسلوبيةِ والفنيةِ، والموضوعاتِ التي تشتملُ عليها، وتطورِها التاريخيّ، كما يقدمُ ملاحظاتٍ قيّمةً حولَ العلاقةِ بينَ هذهِ الأنواعِ والسياقاتِ (الاجتماعيةِ أو الاقتصاديةِ أو التاريخيةِ) التي ساهمت في تشكيلِها وبلورتِها أو مثّلَتْ خلفيةً لها.

 

 من ذلكَ مثلًا ما ذهبَ إليهِ عندَ حديثِهِ عن احتفالاتِ الزِفافِ وأناشيدِه، فقد رأى أنَّ الهدفَ الاقتصاديَّ من الزواجِ الفلاحيِّ التقليديِّ كان يعلنُ عن نفسِهِ في كلِّ خُطوةٍ من طقوسِ الزِفافِ وأناشيدِه، والممارساتِ السحريةِ التي كانت ترافقُه عادةً ومنها ما يهدفُ إلى جلبِ الخيرِ، حتى إنّ اختيارَ العروسِ كان يرتبطُ بقوتِها الجسديةِ، لأنّ العروسَ في نظامِ الأسرةِ الكبيرةِ الأبويةِ، كانت تنهضُ بالعبءِ الأكبرِ في الحقلِ والبيتِ. ويلاحظُ سوكولوف التغيرَ الذي حدثَ في طقوسِ الزِفافِ وَفْقًا لتعديلِ الأسسِ الاقتصاديةِ للمجتمعِ، من ذلك أنّ الاهتمامَ قد تحولَ إلى شكلِ العروس بدلًا من قوتِها الجسدية.

 

ويتناولُ سوكولوف أصلَ الشعرِ وتطورَه، فيرى أنه قد تطورَ مع الأغنيةِ والرقصِ الكورالِيَّيْن، حتى انفصلتِ الأغنيةُ عن الموسيقى المصاحبةِ لها، واستقلَ النصُ الأدبيُّ عن النغمةِ، وفي الإبداعِ الشعريِّ المعاصرِ نجدُ هذا الأصلَ المختلطَ، حيثُ ينهضُ الإيقاعُ واللحنُ بدورٍ كبيرٍ فيه.

 

ويتطرقُ سوكولوف إلى أشعارِ الاحتفالاتِ المرتبطةِ بالتقويمِ السنويّ، وكيفَ تتجَدَّلُ في هذه الأشعارِ عناصرُ متنوعةٌ سحريةٌ وبدائيةٌ ومَسيحيةٌ وتاريخيةٌ وأسطوريةٌ لتشكلَ لُحمَةَ العملِ الفنيّ، ويشيرُ خاصةً إلى أغاني ما بعدَ الحصادِ، وما يظهرُ في موضوعاتِها من شكوى من العملِ الثقيلِ أو الحُلمِ بالمتعةِ أو مدحٍ للسادة.

 

ويتناولُ سوكولوف "بكائياتِ العروسِ" عندَ وداعِها لمنزلِها وأهلِها وأصدقائِها، ويقودُه هذا إلى بيانِ العملِ الإبداعيِّ للبكَّاءاتِ (مؤلفاتِ البكـائـيـاتِ ومؤدياتِهـا) اللاتي يصلْنَ إلى درجـةِ الاحترافِ أو التخصصِ، ويقدمُ نموذجًا منهنَّ ووسائلَ الصنعةِ الـفـنـيـةِ لديهنَّ. ويذهبُ إلى وجودِ تماثلٍ بين بكائياتِ الزِفافِ، وبكائياتِ الجُنْدِيَّةِ، وبكائياتِ الجنازةِ، من حيثُ الأسلوبِ والإبداعِ، الفرقُ فقط في الموضوعات. حيثُ ترتبطُ بكائياتُ الجنازةِ بالولولةِ والندبِ على المتوفي، أما بكائياتُ الجنديةِ فترتبطُ بتراثٍ قديمٍ يرجعُ إلى البكائياتِ التي كانت تُنشَد قديمًا وراءَ الرجالِ المتوجهينَ للحرب.

 

ويتطرقُ سوكولوف للتعازيمِ والرُقى التي تخضعُ لقوانينِ السحرِ المعروفةِ، ويجري معظمُها وَفْقًا لمبدأِ السحرِ «التشاكليِّ» الذي يعتمدُ في أساسِهِ على الاعتقادِ في علاقةٍ باطنةٍ بينَ ظاهرتينِ متشابهتينِ، ولو كانتا في الواقعِ مـتـبـاعـدتينِ تماماً. كما ترتكزُ على الإيمانِ بالقوةِ السـحـريـةِ «للكَلِمَـةِ» وقـدرتـِهـا علـى تحـقـيـقِ «المرادِ» إثرَ التفوهِ به .

 

     وقد اُستُعمِلَتِ الرُقى والتعاويذُ في الطبقاتِ الاجتماعيةِ كافة، ومورِسَت في المجتمعاتِ البُرجوازيةِ تحتَ رداءِ الموضةِ أو التقليعةِ للترويحِ الصالونيّ.

 

      ويُعرِّف الكاتبُ المَثلَ بأنه تلخيصٌ لخبرةِ الحياةِ الاجتماعيةِ وصدًى للوقائعِ التاريخيةِ، فيكشفُ المثلُ عن المعتقداتِ القديمةِ والبقايا الثقافيةِ وعن العلاقاتِ الاجتماعيةِ والأسريةِ، وهو مرتبطٌ بالأنواعِ الأخرى كالأدبِ الشعبيِّ والرسميِّ، ويتفقُ سوكولوف مع رأيٍ يقولُ بأنّ "المثلَ هو من خَلْقِ القُوى المتبادَلةِ للصوتِ والفكر" ذلكَ أنه يتميزُ بحسٍ إيقاعيٍّ خاصٍّ، مثلَ تقسيمِ العباراتِ فيه، وتكرارِ الأصوات.

 

      وتُستخدمُ الألغازُ في بعضِ المراسمِ الدينيةِ وفي احتفالاتِ الزواجِ حيثُ تُطرحُ الألغازُ على العريسِ قبلَ أن يجلسَ مع عروسِه، كما تحتوي بعضُ الأساطيرِ على ألغازٍ كأسطورةِ أوديب، ويكشفُ اللغزُ أحيانًا عن حياةِ الناسِ وأوضاعِهم الاجتماعية.

 

     ويتناولُ سوكولوف الحكاياتِ الشعبيةَ، فيرى أنّ الحكايةَ «حـقـيـقـةٌ» ذاتُ دلالةٍ اجتماعيةٍ عميقة. ثم يتطرقُ إلى وصفِ ظروفِ حكيِ الحكايةِ وتعطشِ المستمعينَ المجتمعينَ للكلمةِ الحيّة. وهذا يؤدي بهِ إلى دراسةِ الرُواةِ الشعبيين، والعلاقةِ الخاصةِ بينَ قدراتِ الراوي الإبداعيةِ وطِرازِ شـخـصـيـتـِه، والحكايةِ التي يرويها، ووسائلِ الصِّيغةِ في حكْيِه.

 

 ويتناولُ سوكولوف في دراستهِ هذهِ - كما يعرضُ لها المترجمُ - أنواعًا فولكولورية أخرى مثلَ: البيلينات (الملاحمِ الشعرية)، والأغاني التاريخية، والمنظوماتِ الدينية، والدراما الشعبية، والأغاني الليريكية، وفولكلورِ المصانعِ والوِرش، وغيرِها من أنواعٍ. يتناولها جميعًا غيرَ غافلٍ عن التطرقِ لأسلوبِها وبنائِها الفنيِّ، وتطورِها التاريخيّ.

 

أما البابُ الثالثُ من كتابِ "الفولكلورُ الروسيّ"، ويحمل عُنوان: "الفولكلورُ السوفييتيّ" . فيعالجُ فيهِ سـوكـولـوف الأنواعَ والأشكالَ الأدبيةَ السابقةَ، مـحـاولًا أن يكشفَ عن التغيراتِ التي طرأتْ عليها، على الفنِّ الإبداعيِّ الشفويِّ، بعدَ ثورةِ أكتوبر وتأسسِ المجتمعِ السوفييتيّ. ويلاحظُ أنّ النوعَ الرئيسيَّ الذي لقيَ انـتـشاراً في الفترةِ التاليةِ للثورةِ هو «الأغنيةُ الثوريةُ» الحربيةُ. ولم تختفِ كلُّ الأنواعِ الفولكلوريةِ التي كانت موجودةً قبلَ الثـورةِ، بـل اسـتـمـرَ كـثـيـرٌ منها في الحياةِ. وأبرزُ الأنواعِ الفولكلوريةِ التقليديةِ التي استمرت في التواجدِ بعدَ الثورةِ، هي الأمثالُ والأقوالُ والألغازُ والحكايةُ الشعبية، بل والبكائياتُ، بالطبعِ بعدَ أن تكيفتْ مع الظروفِ الجديدة.

 

  وصارتِ الحياةُ المعاصرةُ ومسائلُها تـسـودُ الإبداعَ الشعبيَّ الحـديـث، وأصـبـح المبـدعـونَ يـفـضـلـون تناولَ الأشياءِ التي جربوها وعـايـشـوهـا، مـتـحـدثينَ عن التناقضِ بين الحياةِ القديمةِ والآمالِ التي تبشرُ بها الحياةُ الجديدة. وقد خرجَ من رحمِ الأنواعِ القـديمـةِ أشكالٌ جديدة، مثلمـا حـدثَ للحكاياتِ التي تولّدَ عنها شكلٌ جديدٌ يمكنُ تسميتُه «حكاياتُ السير»، منها ما يدورُ حولَ حياةِ الراوي الشخصيةِ،  وما يتصلُ بحياةِ الشخصياتِ البارزةِ في صنعِ الدولةِ الجديدةِ.

ملفات تعريف الارتباط

نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط الخاصة بنا وملفات تعريف الارتباط الخاصة بالجهات الخارجية حتى نتمكن من عرض هذا الموقع وفهم كيفية استخدامه بشكل أفضل ، بهدف تحسين الخدمات التي نقدمها. إذا واصلت التصفح ، فإننا نعتبر أنك قبلت ملفات تعريف الارتباط.