هذا الكتاب يمثل عرضاً وتشخيصاً للحركة الرومانتيكية في الموسيقى وليس تعريفاً بها فقط، وليس تأريخاً للموسيقى في القرن التاسع عشر، منذ موت بيتهوفن إلى موت فاجنر. بل هو بالأحرى تأريخ للفكر الموسيقي في عصر من العصور التي تبدو غامضة لنا.
فالرومانتيكية، وهي الحركة التي بدأت في عام: 1800م، والتي لم تكن في رأي بعض الأجيال التالية موضع فخار لأية أمة من الأمم التي أصيبت بميكروبها.
وهو أيضاً ــ أي الكتاب ــ محاولة لتحديد ما ميز هذه الحركة من خلال محورها وهو الفن، هذه الحركة أو هذا الفكر كان قد تخلل كل مناحي الحياة من فن وفلسفة وسياسة، وقد كانت الروح الرومانسية جارفة لدرجة أنه لم يكن من الممكن أن يتجنبها أو يظل بمنأى عنها أي شعب في أوربا على التعاقب من انجلترا ثم ألمانيا وصولاً إلى فرنسا. ومن ناحية الفنون فقد ظهر أثر هذه الحركة أولاً في الشعر ثم بعد ذلك في التصوير وأخيراً في الموسيقى.
=================================================
كانت الحركة الرومانتيكية في الموسيقى في أساسها حركة ثورية موجهة ضد آباء الجيل الثوري وأجداده. لذا فإنها كانت تُكن بغضاً للكلاسيكية وإلى ما رأته كلاسيكياً، لذلك احتوت الرومانتيكية على بعض النقائض والتي منها إعجاب بعض أعلام الحركة بموتسارت وبيتهوفن ومقاومة هذا الإعجاب وإقصائه بطريقة عنيفة، ومن بين هذه النقائض أيضاً حب هذا العصر للاستعراض المسرحي، وميله ــ رغم ذلك ــ إلى المؤلفات الشخصية الانطوائية ذلك لأن الرومانتيكية كانت تنزع إلى الذاتية، هذه النزعة ــالذاتية أو الموضوعية ــ في لغة الموسيقى يؤكدها حرص فاجنر على الجمع بين الطابع الشخصي وخلق موسيقى قادرة على أسر العالم.
إلى جانب أن الرومانتيكيين كانوا لا يميلون إلى قطع الصلة التي تربطهم بالعقلية الجماهيرية، وكانوا مولعين بالأشياء المألوفة كما كانوا يخشون الابتعاد كثيراً عنها، فالجمهور كان أول شيء يعملون له حساب، ومن بين هذه التناقضات التي ظهرت في الموسيقى الرومانتيكية التناقض بين الموسيقى البحتة والموسيقى ذات البرنامج، فقد كان برليوزــ مثلاً ــ لا يستطيع تصور وجود موسيقى غير ممتزجة بعناصر الفنون الأخرى، فقد كان يرى أن السيمفونيات في حاجة إلى إلهام الشعر حتى وإن اتبعت قواعد الموسيقى البحتة.
وتأكيداً على هذه النقائض نرجع إلى ما كتبه مندلسون الذي كان يرى أن: "الأفكار التي تعبر عنها المؤلفات الموسيقية الجيدة واضحة وليست بحاجة إلى كلمات تحتويها."
هذه التناقضات كانت موجودة في شخصية أي موسيقي رومانتيكي بمفرده.
لكن الأكيد هو أن: الموسيقى البحتة ــرغم ما أُثير ــ لم تظهر إلا بعد أن اختفت الرومانتيكية على الأقل ظاهرياً، وعلى على الرغم من الاختلاف الظاهر بين موسيقي العصر الرومانتيكي إلا أنه كان يخفي تحته تشابه كبير.
وفي عام 1800 حدث تغير ملحوظ بين الموسيقي المبدع والمجتمع، فبعد العصور الوسطى التي كان يُنظر له فيها بنوع من الازدراء والاستهانة من الأدباء، فقد تحسن حاله ابتداء من القرن الثالث عشر. لكن وحتى نهاية القرن الثامن عشر اعترف الموسيقيين بوجود أسياد لهم وكانت الكنيسة في ذلك الوقت هي أقوى سيد.
وفي الموسيقى كما كان الحال أيضاً بالنسبة للفن التشكيلي كان الموسيقي حراً في نطاق المهمة المكلف بأدائها، فقد كان مايكل أنجلو يقوم برسم أحد سقوف أية كنيسة أو أحد جدرانها بغير أن يحدد له أي إنسان الحدود التي ينبغي أن يلتزمها خياله.
على الجانب الآخر نجد أن الموسيقيين لم يكونوا مستائين من هذا الوضع فلم يكونوا يرون أن في هذا الأمر ما يعد اعتداءً على حقوقهم فعلى سبيل المثال مونتفردي نرى أنه كان إزاء هذا الأمر يشعر أنه في خدمة نظم اجتماعية وأنه في النهاية خاضع للعصر الذي ولد فيه.
يمكننا أيضاً القول أنه حتى نهاية هذا القرن لم يكن من المستطاع ــ نتيجة لذلك ــ تصور وجود غير موسيقى المنفعة أي أن الموسيقى كانت تؤلف بناء على طلب خاص أو لمناسبة فلم يكن حتى ذلك الوقت وجود لما يسمى ((فن الفن)) ولم يظهر حتى ذلك الوقت ما يسمى بالفن البرجوازي فقد كان الفن وكانت الموسيقى محصورة في طبقة النبلاء الأرستقراطيين.
وفي تلك الفترة ربما لم يظهر مثال للمؤلف الموسيقي المثير للدهشة أكثر من باخ الذي ارتبط فنه ارتباطاً وثيقاً بالمجتمع الذي عاش فيها، إلا أنه وإن كان يُعد أعظم المؤلفين الموسيقيين المبدعين إلا أنه على أية حال لم يكن أكثرهم حرية أو استقلالاً فقد كتب مؤلفاته لأغراض (كتنويعات جولد برج) التي تعد إحدى مؤلفاته الكبرى فقد كتبها لتمضية الوقت ليلاً أو للترفيه عن أحد النبلاء الذي كان يعاني الأرق، مما يعني أنه وإن كانت هذه المؤلفات شكلت بعد ذلك الفن في أسمى معانيه وأصبحت خالدة إلا أن باخ لم يقصد في النهاية هذه الغايات فقد ابتدعها من أجل عصره ومن أجل النبلاء الذي خدم عندهم. وإن صح هذا القول عن باخ فإنه يصح كذلك على أغلب الموسيقيين في القرن الثامن عشر إذ يصح هذا القول عن هايد بل حتى موتسارت نفسه. وإن كان قد حاول التحرر من التبعية إلا أنه أخفق، فأوبراته التي كتبها كانت بناء على طلب أنطون كلاين الذي كان موظف من أصحاب النفوذ في مانهايم، وكل مؤلفاته كانت بناء على طلب خاص أو لمناسبة محددة، مع ملاحظة أنه على الرغم من هذه القيود إلا أن ما طلب كان يطلب منه كان يثير حوافز الخلق بداخله.
المؤلف الوحيد ــ في هذا القرن ــ الذي عرف كيف يخلق جمهوره هو جورج فريدريك هيندل.
وما لم يستطع النجاح فيه موتسارت قد نجح فيه بيتهوفن، فلم يضع بيتهوفن نفسه في خدمة الأرستقراطيين، لكنه بدلاً من ذلك جعل الأرستقراطية في خدمته يشهد لذلك العديد من النوادر على عدم احتفائه بأولياء نعمته من كونتات وأمراء وارشيدوقات، فمع بيتهوفن كان لأول مرة يظهر فنان غير خاضع لأية قيود، إلى جانب ذلك كان بيتهوفن هو أول مؤلف موسيقي يبدو أنه اتبع في أكثر مؤلفاته مبدأ ((الفن للفن)). في مقابل رومانتيكي آخر ظهر في الشعر وهو الشاعر صمويل تيلور كوليردج والذي ذكر في مقاله (عن التذوق) سنة 1810 فقد ذكر نظرة متعارضة مع نظرة القرن الثامن عشر الذي رأى الجميل ما كان له نفع من الناحية الأخلاقية فحسب، وذلك عندما قال: إن الجمال لا يخضع لشيء سوى ذاته.
فلم تكن صوناتات بيتهوفن المؤلفات التي ألفت بقصد الترفيه أو من أجل المجتمع فهي خلافاً لذلك أمثلة للفن الخالص. ونتيجة لذلك كانت سوناتاته الأخيرة ورباعياته الأخيرة أشبه ما تكون بالمناجاة الذاتية.
ومعه ــ بيتهوفن ــ بدأ يحدث التغير فبدأت تضعف رابطة الوحدة القائمة بين العمل الرسمي والإبداع الفني، فقد كانت شخصية بيتهوفن هي التي زودت العصر الرومانتيكي بنموذج لتصوره (للفنان)، وبعده ظهوره بدأ عصر كتبت فيه السيمفونيات والأوراتوريات وموسيقى الصحاب الشاعرية والكورالية بل والأوبرات دون تكليف من أحد، فقد كتبت هذه الموسيقى من اجل جمهور متخيل من أجل المستقبل أو الخلود إن أمكن. لكن بطبيعة الحال لم يختفي نهائياً الفنان الذي يعمل من على خدمة المجتمع.
وكان من المظاهر الغريبة ذات الدلالة المتناقضة التعلق بفكرة القومية في العصر الرومانتيكي. فالتعلق الشديد بفكرة القومية إلى جانب عزلة الفنان عن المجتمع. في السابق كانت هناك عصور اتسمت بالطابع القومي في الفن، وهناك من الفنانين من حاول التسامي على تلك النظرة من أمثال بيتهوفن الذي كان مواطناً موسيقياً عالمياً. وقبل عام 1800 لم تظهر أي سمات قومية قوية إلا عند المؤلفين الموسيقيين الذين لم تبلغ مكانتهم قمة العظمة الشاهقة. لكن ازداد الطابع القومي حدة خلال العصر الرومانتيكي.
كانت بداية العصر الرومانتيكي أثناء عهد إمبراطورية نابليون، وكان الركوكو آخر طراز ظهر في القرن الثامن عشر، وحاول القرن الثامن عشر أن يفصل بين الفنون وكان لسنج الذي دافع في مقاله البالغ الأهمية عن الفن الذي وضع عنوان له (اللاكؤون) عن مراعاة الفصل التام بين التصوير وفن الشعر. وحدد لكل منهم طريقة لما يستطيعان تمثيله، على عكس الرومانتيكيون الذين امتزجت عندهم في فن واحد.
وكانوا يعتبرون أن الموسيقى هي العلة الأولى أو الأصل الذي بعثت منه كل الفنون فكما يقول هوفمان: إن الموسيقى هي أكثر الفنون رومانتيكية، إنها تكاد تمثل وحدها الفن الرومانتيكي الخالص.
وكما اعتبر الرومانتيكيون الموسيقى مركز كل الفنون وجوهرها وينبوعها، كذلك اعتقدوا أن المؤلفات الموسيقية البحتة هي مركز الموسيقى برمتها.
إلا أن المؤلف الموسيقي الرومانتيكي لم يعد شاعراً بنفسه ــ كما يمكن ــ بل قام باستلهام الفن الشقيق وهو الشعر كما فعل برليوز مع روايات فيكتور هوجو ولم يقف الأمر عند الأدب وحده بل اتجه إلى التصوير.
(إيراد وصف ليست صـ 43 كاقتباس في الحلقة)
نوع جديد من تعدد الجوانب لدى الفنان
امتازت هذه الفترة ــ والتي يمكن اعتبارها امتداد للعصور السابقة ـــ بالفنانين أصحاب الازدواج أو التعدد الفني مع الجمع بين هوايات أو عوالم مختلفة كل الاختلاف فاليست الموسيقي المثقف كان إلى جانب ذلك كاتب مقالات وفيلسوف صالونات، وكفاجنر الذي لم يعتقد طوال حياته أنه شاعر وموسيقي فحسب، بل اعتقد أنه شيء أكثر من ذلك، إذ ظن نفسه ناقداً للحضارة وفيلسوف ورجل دولة أو ربما مخلص للإنسانية عن طريق الفن، وكهوفمان الذي كان موظفاً حكومياً ورسام كاريكاتير وقاص. هذه نظرة تبين التعدد الذي امتاز به هذا العصر.
وكانت قد جرت العادة فيما قبل عام 1800 على انحدار الموسيقيين من موسيقيين وعائلات موسيقية ــ وإن كانت هناك بعض الاستثناءات ــ أو ظهورهم في آخر المطاف بعد عدة أجيال موسيقية.
لكن في العصر الرومانتيكي اختلف الأمر فلم تعد الأرستقراطية تلعب نفس الدور وأصبحت الطبقة المتوسطة تلعب هذا الدور.
وتوفرت القدرة في هذه المرحلة على الكتابة والتحرير الذين كانا أثرهما أن انتقلت الموسيقى من كونها حرفة إلى أن تصبح ثقافة فالغالب عليهم جميعاً الكتابة وبصورة أخص كتابة الرسائل حتى إن موتسارت وبيتهوفن حرروا بعض الرسائل، تميزت تلك الرسائل بأنها أدبية بامتياز، رغم ذلك هناك مَن لم تستهوه فكرة الرسائل كبرامز.
وكان في اكتشاف الرومانتيكيون لما في موسيقى الآلات وموسيقى الصحاب ــ أي في الموسيقى التي لا تعتمد على الآلات ــ ما يمكن أن نطلق عليه التعبير عما يتعذر قوله والتعبير عن أشياء أعمق مما تستطيع الكلمات إيصاله، وكان جلهم يعدون بيتهوفن واحداً منهم دون النظر إلى مؤلفاته الغنائية إذ كان تألقه أساساً في جانب صوناته للبيانو والوتريات والكونشيرتو والسيمفونيات. رغم ذلك فقد عدوه واحدا منهم، واكتسب عندهم عدم وجود الكلمات ــ وهي صفة سلبية ــ معنى إيجابياً جديد. يمكن القول: أنهم أحسوا أن بيتهوفن تميز بوجه خاص بعمقه لأنهم لم يفهموه على حقيقته. وبذلك أصبحت الموسيقى في هذا العصر شيئاً سحرياً وغامضاً، ففيها هروب من الوضوح إلى عالم تشوبه الظلمة، ولا يستبعد فيه السحر.وأصبح أيضاً الاستغراق في اللاوعي والولوع بغموض الليل سمة من سمات الرومانتيكين
وأولع الرومانتيكيون على الخصوص بنوعين من أنواع الموسيقى وعملوا على تنميتهم هما: الأغنية والأوبرا ظهر هذا الولع في اهتمامهم على الخصوص بإعلاء شأن موسيقى الآلات وأحدثوا تغيراً في الدور المخصص للموسيقى المصاحبة لكلٍ من الأغنية والأوبرا.وأأ
فقد كانت الأوبرا الإيطالية تعترف على الدوام بصدارة الصوت البشري، كما اعترفت بالشكل الموسيقي المحدد المكتمل. أما في الأغنية الرومانتيكية أو الأوبرا الرومانتيكية التي جاءت فيما بعد فقد طالبت الموسيقى المصاحبة بنصيب أعظم ظهر أثر هذا في النهاية في الأغاني التي تؤلف كأنها مقطوعة للموسيقى يصاحبها سطر لحني للصوت الآدمي أقرب إلى التلاوة الخطابية ولم يكن العصر الرومانتيكي من العصور التي تميزت بمؤلفاتها الموسيقية. (الحلقة)
كذلك كان الفن على الدوام في خدمة السلطة الحاكمة أو في خدمة الكنيسة والطبقة الأرستقراطية، رغم ذلك حاول الفنان الرومانتيكي ضرب نوع من العزلة على نفسه لخلق أعمال ذاتية ولعدم الوقوع في هذا التناقض، لكنه في النهاية لم يستطع وشعر بنوع من التناقض، تناقض بين كونه خاضع للجمهور أو السلطة أو ذاته المبدعة التي تسعى لخلق شيء فريد.
وحاول البعض الوقوف في منطقة وسطى لحل هذا التصدع الذي ظهر بين عزلة الفنان ومحاولة التقرب للشعب عن طريق تنمية الأغاني الشعبية والوصول للجمهور. تلك الأغنية التي كانت موضع تندر وشيئاً مثيراً للضحك، وتغيرت هذه النظرة في القرن الثامن عشر فتنبهت إنجلترا ونبهت الأذهان لما في هذه الأغنية من أشياء بدت وكأنها ملامح من الطبيعة والعصور القديمة، ظهرت هذه الحركة في الأدب، وفيما بعد انتقلت إلى مرحلة الفلكلور في ألمانيا وسار الموسيقيون على نهج الشعراء وقد حققت الأغنية الشعبية نصراً باعتبارها أغنية نابعة من روح الشعب.
وكانت الموسيقى في هذا العصر قد نشأ بينها وبين الأغنية الشعبية علاقة وطيدة ترتب عليها استحداث نزعات لم تكن معروفة في العصور السابقة، وأصبحت دواء للملل أو عامل من عوامل الإثارة. لكن مع الوقت ازداد الانفصال بين الفن والحياة شيئاً فشيئاً الموسيقى على الخصوص وقلت كذلك العناية بها حتى في دور العبادة، أما الذين أصيبوا بداء الرومانتيكية فقد أرادوا من الموسيقى أن تنقلهم إلى عالم آخر فلم يعد شعورهم بالحياة يكتمل إلا عندما يستمعون لشيء ما وأصبحت الموسيقى في نظرهم بديلاً للحياة وتحولت الموسيقى من حلية للمجتمع إلى الانفصال عن الحياة والمجتمع.!
وتأثر تفسير الموسيقى بالنظرة الرومانتيكية وفسرت موسيقى الماضي في ضوء رومانتيكي بل وادعى الرومانتيكيون أن بيتهوفن واحد منهم كما قال هوفمان عند كلامه على السيمفونية الخامسة أن بيتهوفن رومانتيكي صميم، أما شومان الذي كان يرى أن بيتهوفن هو أعظم أعلام الموسيقى البحتة، إلا أنه في سنة 1835 قال: أنه تمكن من تبين ناحية تصويرية في خفية في مؤلفات بيتهوفن مماثلة تماماً لما في مؤلفاته. ولم يكن فقط بيتهوفن هو من ظهر للرومانتيكيين في صورة متغيرة، فقد رأوا ماضي الموسيقي كله على هذا الحال. ولم يعتبر هوفمان بيتهوفن فقط هو الرومانتيكي بل اعتبر كذلك موتسارت وهايدن، أما موتسرات فقد مجده كلاً من فاجنر وليست وشومان ومندلسون وإن أساء برليوز فهمه، أما هايدن فقد كان في نظر الرومانتيكيين شخصية واضحة إلى أبعد حد، إلى درجة حاورا فيما يصنعون بهذه الشخصية.
وكانت إحدى الخصائص التي استحدثتها الرومانتيكية الموسيقية أن ظهرت نظرة جديدة إلى الماضي، نظرة لم تعرفها عصور الفن الأولى، ظهرت نتيجة لإحياء الماضي البعيد هذا اتجاه عاطفي إلى تفضيل كل شيء ينتمي إلى العصور الوسطى أي اتجاه إلى كل شيء بعيد فيه أثر الماضي وسحره ، ونتيجة لذلك ظهر علم جديد هو علم الموسيقولوجيا وأُلفت العديد من المؤلفات وكذلك أنشئت عدة جمعيات مثل جمعية الموسيقى القديمة في لندن التي اضطلعت بمهمة نشر الأعمال النادرة القيمة التي ألفها موسيقيون انجليز القدامى اتسمت هذه الأبحاث بطابعها الموضوعي إلى جانب ما فيها من مشاعر ذاتية إلى جانب تلك النفحة الرومانتيكية.
ظهرت بعد ذلك حركة غريبة كان الغرض منها هو تقيم جديد ليوهان سبستيان باخ، باخ الذي كان دائم الحضور ولم يختف اسمه إطلاقاً. غير أن تقدير باخ في هذا العصر العقلاني كان مقتصر على باخ عازف الأرغن الكبير، وكان باخ في نظر النصف الثاني من القرن الثاني عشر عليماً مدرسياً فكانت لمؤلفاته قيمة في تعليم الموسيقى أي أنه كان من أفضل النماذج التعليمية في حوالي عام 1800 انبعث الاهتمام مرة أخرى بيوهان سبستيان باخ جاء هذا الاهتمام نتيجة لإعجاب دائرة من المعجبين به والمتأملين لفنه ظهرت هذه الحماسة في إنجلترا وألمانيا بلغ هذا الإعجاب إلى الغاية التي جعلت أحد المعجبين الانجليز أن يقر بأن مؤلفات باخ: إنجيلاً موسيقياً ليس ثمة ما يضارعه أو يضاهيه.
في ذات الوقت بألمانيا كان رئيس الموسيقى في جامعة جونتجن يوهان نيقولاس يؤلف كتاب عن باخ وهو الذي وضع أسس النظرة الجديدة لباخ. وأصبح باخ خاصاً بكل الناس فلم يعد يخص دائرة محدودة من الأصحاب. وبلغت عظمته إلى الدرجة التي عبر عنها جوته بقوله: عندما نستمع إلى موسيقى باخ فإننا نشعر كأننا حاضرين عصر الخليقة في زمان خلق العالم.
يكاد يكون خلا أحد في العصر الرومانتيكي من تأثير باخ فقد مثَلَ باخ للرومانتيكين ميراثاً خطيراً فهو كان على طرف نقيض إلا أنهم رغم ذلك تمكنوا بكل تقدير واحترام من وضعه في موضعه الصحيح.
وفي الوقت الذي قامت فيه الحركة الرومانتيكية بإحياء الماضي وغالت في التعبير عن الوجدان فقد رفعت أيضا من شأن النزعة الاستعراضية والفرتيوزية إلى درجة لم تسبق، وازدادت الفوارق بين التعبير الشخصي وبين التألق الاستعراضي.
في القرن الثامن عشر لم يكن هناك أكثر من ثلاث أمم يمكن أن ينسب إليها بصورة قاطعة طابع قومي في الموسيقى هذه الأمم مثلت ثلاث اتجاهات هي: الاتجاه الإيطالي، الاتجاه الفرنسي، الاتجاه الألماني وإن كان في هذا الاتجاه الأخير الرؤية غير واضحة. وخارج إطار الأوبرا لم تتصف الجماهير بتسامحها فقط، بل هي لم تعرف معني التعصب، واستوردت إنجلترا للموسيقى الإيطالية بشكلٍ خاص، ولم يكن في إيطاليا ذاتها تعصب للموسيقى.
أما في لغة بيتهوفن الموسيقية فمن الصعب العثور على أية لهجة محلية ذلك لأن اللحن ذاته لم يكن هو ما يهم بيتهوفن كثيراً، لأنه كان يعيد تشكيل العمل حتى يصل إلى مقصده، وفي موسيقاه لجأ إلى تذكارات قومية كما لجأ إلى أشكال صارمة لتحقيق غاياته.
وتأثر بهذه الحماسة شوبرت نفسه الذي بدت مؤلفاته إيطالية في طابعها إلى الحد الذي يفوق أغاني روسيني نفسه كما قام بيتهوفن بتأليف عدة مؤلفات غنائية على نصوص إيطالية وبالأسلوب الإيطالي.
ومما امتازت به هذه الحركة أيضاً هو تخيل النفس في بلدان غريبة أو عصور قصية، وكانت هذه من سمات الرومانتيكية. لكن رغم ذلك، فمع برليوز يصح اعتبار تحول الأسلوب الإيطالي من لغة عالمية للموسيقى إلى لغة قومية بل تحول بمعنى أصح إلى لغة إقليمية من خلال أعماله الموسيقية.
وقد أدى اكتشاف العالم إلى اكتشاف جديد لأروبا إذ تولدت اللغة العالمية إلى عدة لهجات أو لغات قومية، لكن الأمر كان أكثر تعلقاً بالشخص القائم على الكلام وعلى الغاية منه فإذا كان الشخص المتكلم ذا شخصية أصلية كان ذلك أدعى لأن يكون إنتاجه متجاوز القومية والمحلية وكانت هناك صلة وثيقة بين محاولات تأكيد الطابع القومي في الموسيقى الرومانتيكية، وما ظهر من عناية بإحياء الأغنية الشعبية القومية والمحلية.
لكن لا صلة البتة بين الاهتمام بالجوانب القومية وعظمة المؤلف الموسيقي، فشوبان مثلاً الذي يعتبر من عظماء الموسيقيين حتى إذا لم تظهر على الإطلاق أية صلة بين أعماله وبولاندة، لكن رغم ذلك لم يظهر نزاع حول زعامة الموسيقى سواء من الإيطالية أو الفرنسية والألمانية فقد كانت الغاية من الموسيقات الثلاث بوجه عام وعلى الأخص عند الموسيقيين الألمان، إنسانية أو عالمية وكانت إنجلترا هي الدولة الوحيدة التي لم تعنى بأغانيها الشعبية وبنعومتها القومية في الموسيقى الإخراجية قرابة انتهاء القرن.
أما أعظم ما ورثه هذا العصر هو قالب الصوناتة التي عبر عنها بيتهوفن أقوى تعبير، استهوى الجميع وتمدد مصير الحركة الرومانتيكية بتأثير عظمة هذا الميراث، واكتمل شكل السيمفونية بفضل هايدن وموتسارت وبيتهوفن وكان الرومانتيكيون أكثر عناية ببيتهوفن عن كلا من موتسارت وهايدن، واكتملت السيمفونية عند بيتهوفن وحققت بناءها الشامخ لأول مرة باعتبارها ممثل نداء إلى الفرد وإلى جموع البشر أو نداء إلى الفرد بين جموع البشر، ففيها تأثير وجداني ودعاية في أسمى صورها.
كان اتجاه الرومانتيكيون منذ البداية غرضه التهاون في الشكل السيمفوني.
وظهر هذا التراخي في الفكر السيمفوني بأشد صوره في أعمال هيكطور برليوز، وكان التحمس في تقدير بيتهوفن ومحاولة مزج ما هو ثوري وما هو غريب هو ما ربط برليوز وسيمفونيته (قصة حياة فنان) بعالم السيمفونية إلا أنه وقد ضمت هذه السيمفونية خمس حركات بدلا من أربع وكانت المفاجأة الكبرى أنه قد نجح في في جعل الحركة الأولى من السيمفونية تتوافق مع القالب التقليدي برغم الفكرة التصويرية التي حددت لها وكان التحرر الذي يكاد يكون تاماً للشكل السيمفوني مع فرانز ليست فألف قصائد سيمفونية ما بين (1849 ــ 1858) كانت كل قصيد مستوحاة من فكرة شاعرية وكان وفقاُ له لا بد أن يُذكر تفسير القصيدة السيمفونية في كل مرة تعرض فيها. إلا أن ليست لا يمكننا القول إنه لم يعترف بالشكل
ومن بين المظاهر التي تميز بها هذا العصر في هذا العصر الموسيقى تفضل الأشكال الصغيرة وتعد هذه الظاهرة نتيجة مكملة لما حدث من التراخي في الأشكال الكبيرة والتضخم وقبل ظهور هذا العصر لم يكن هناك بطبيعة الحال واقتدوا بالمثل الي ضربه بيتهوفن والاختلاف الوحيد هو أنهم لم يعنوا بالسعي إلى تحقيق التركيز وحده، بل اهتموا بالتعبير عن المشاعر الكامنة في أية لحظة من اللحظات الموسيقية.
على العكس كانت الأغاني والأوبرا أسعد حالاً من موسيقى الآلات البحتة، ومن السيمفونية على الأخص. وقد بلغت الحركة السيمفونية المثل الأعلى للأغنية وما حققته من الوحدة بين الموسيقى والنص، لكن في الأوبرا لا يمكن القول إن التغير الذي طالها كان تغير في الشكل، لكن ما حدث هو مجرد تتطور أو تغير ولم تعد الأوبرا كونسيرت مصحوبة بأحداث درامية زائفة. وابتدعت الأوبرا الرومانتيكية ما يسمى بالمشاهد الموسيقية والمشاهد الدرامية، وانتقل مركز الثقل شيئاً فشيئاً إلى ناحية الأوركسترا.
وكان العصر الرومانتيكي هو أول عصر موسيقي يعيد الصلة بعهود موسيقية بعيدة، كما استلهم موسيقيوا هذا العصر من مؤلفات موسيقية أخرى، لكنهم رأوا هذه العصور وهذا الماضي بمنظور رومانتيكي فأسأوا الفهم، وكانت بداية هذه الإساءات مع باخ، الذي على الرغم من هذا قد عدوه واحد منهم من حيث روحه الإبداعية وقدره الرومانتيكيون تقديراً كبيراً فبرامز وشوبرت وشوبان وليست ومندلسون كل هؤلاء اعترفوا بعبقريته.
وأياً كان الدور أو التأثير الذي تركه باخ على الرومانتيكيون فلا يمكن عده رائداً للعصر الرومانتيكي وإن كان الرومانتيكيون قد رأوه بمنظورهم. كما رأوا عصر بالسترينا الأكثر توغلاً في لقدم في صورة رومانتيكية.
أما هايدن فإنه يعد أقدم الأباء الثلاث (هايدن ــ موتسارت ــ بيتهوفن) الكلاسيكين وإن كان الرومانتيكيون لم يكونوا على خلاف مع موتسارت أو هايدن إلا أنهم مجدوا بيتهوفن وعدوه القديس الراعي لهذا العصر، فنجد موقف شوبان من هايدن هو موقف الإقلال من شأنه، فيقول: أن المرء لن يتعلم شيئاً جديداً من هايدن، ولم يعد يثير الاهتمام في العصر الحالي، لكنه في الأخير كان الشعور نحوه هو شعور بالود المقترن بالتعالي، ذلك بالنسبة لعامة الرومانتيكيون لكنه كان في نظر الرومانتيكيون الجدد (برليوز وليست وفاجنر) ليس له أي وجود.
أما موتسارت فكان تقديره بالنسبة للرومانتيكين هو تقدير لموتسارت مؤلف الأوبرا أو على الخصوص أوبرا دون جيوفاني، حيث رأى الرومانتيكيون في دون جوان شخصية مناظرة لشخصية فاوست جوته، ذلك إلى جانب تغيرهم لاسمها من دون جيوفاني إلى دون جوان والذي يظهر من خلاله تراجع تقدير الرومانتيكيون لآية من آيات الأوبرا، ولم يرق لهم ما في النصوص من تحرر خلقي فقد رأوا أن ذلك أمراً يتنافى مع الأخلاق. ولم يرى الرومانتيكيون في موتسارت مؤلف موسيقى الآلات أكثر شيئاً من موسيقي صاحب أشكال مصقولة. لكن رغم ذلك كان موتسارت في بعض مؤلفاته سمة من سمات الرومانتيكية كطابعه السوداوي.
أما بيتهوفن فكان الرائد الحقيقي للعصر الرومانتيكي، وأبرز الرومانتيكيون الملامح التراجيدية في منجزاته على الرغم من أن بيتهوفن ابن للقرن الذي ولد فيه متفائلاً وهو من المؤمنين بفلسفة لو وأهمل الرومانتيكيون جانب المزاح عند بيتهوفن.
احتوت موسيقى بيتهوفن على قدر كبير من القوة وأقوى مظهر لهذه القوة هي المشاعر الجديدة التي ظهرت في موسيقاه وظهرت على الأخص في النقلات المتباينة الحادة وفي حركات الاتجاه نحو القوة بوجه عام، أي تدرج شدة الصوت وخفوته كما هو الحال في السيمفونية الخامسة وحركتها الختامية. لكن الجانب الرومانتيكي الحقيقي عند بيتهوفن فقد ظهر في صوناتاته ورباعياته السيمفونية، وكان الرومانتيكيون يبحثون في أعمال بيتهوفن عن الصلة بين الحركة والهدف الشعري في أعماله، لكن بيتهوفن لم يذكر أي شيء عن مقصده هذا، لكن فاجنر عبر عن هذه الصلة تعبير المتيقن لقضية مسلم بها. في رسالته التي بعث بها إلى أوليج: أهم ما يميز مؤلفات بيتهوفن هو كونها قصائد بالفعل وفيها محاولة لتمثيل موضوع حق.!
هذه المحاولات المستميتة من الرومانتيكيون للبحث وراء الموسيقى عن المعنى أدت في النهاية إلى ابتعاد موسيقى بيتهوفن عن معناها الأصلي وأصبحت كالمتتالية القصصية.
ولا يرجع تقدير الرومانتيكين لبيتهوفن _رغم هذا التخبط_ إلى كونه ثائراً فقط بل لأنه متمرد وهم بطبيعتهم كانوا محاربين للكلاسيكية.
ويمكن تعريف شوبرت كما أخبر في الرسالة التي كتبها كتعريف لنفسه عندما أراد أن يتقدم لشغل وظيفة مساعد رئيس الأوركسترا في بلاط الإمبراطور فرانسيس الأول والتي جاء بها أنه من أبناء فينا واشتغل في الكورال ودرس التأليف على يد أنطون ساليري ومعروف في فينا وله مؤلفات وخمس قداسات، وعلاوة على ذلك فهو شخص غير مرتبط بعمل على الإطلاق. وهذه أيضاً حقيقة أخرى فقد قدر له _وهو الذي عاش حياة بوهيمية_ ألا يرتبط بأي عمل على الإطلاق فقد كان مستقلاً مثل بيتهوفن، وعاش حياة بوهيمية كان دافعه الحافز الإلهي الكامن في أعماقه على الخلق والإبداع، وقد كان يتجنب الصالونات ويشعر بالعزلة حتى بين أصدقاءه. وقد عانى شوبرت من الاضطهاد السياسي الذي ساد ألمانية في عصره والذي كان له آثار غير محمودة على مشروعاته الأوبرالية.
على عكس ما لقي شوبان من بؤس في الحياة وفقر فقد حالفه الحظ كموسيقي فظهوره في هذا الوقت قد هيء له الاستفادة من الأعمال التي اكتملت عند بدايته كأعمال موتسارت وهايدن، وبيتهوفن كان حي ويعمل وإن كان بيتهوفن وصل من العظمة إلى درجة عالية، إلا أن شوبرت يمكن القول انه كان مساوياً له إن أمكن القول بوجود أي مؤلف موسيقي مساوياُ له فهو شوبرت. وبرغم تأثر شوبرت من الآخرين وتأثره بهم إلا أنه كان ذا شخصية فريدة اتصفت بصفات جعلته رومانتيكياً وبدأ في سنواته الأولى يكتب السمفونيات وتميزت هذه المؤلفات بخاصيتين رنين صوتي جديد وهارمونية خصيبة ونوع من الميلودية، واعتمد على المزج بين هايدن وموتسارت على أن موسيقاه التي ألفها لم تكن من النوع الذي يغري أو يحث على التساؤل وكان في مؤلفاته صاحب استطرادات.
وعندما كان شوبرت شاباً كان أول ما ألفه رباعية وترية وبعد ذلك في خلال الخمس سنوات التالية كتب ما يقرب من إحدى عشرة رباعية اقتدى فيها بكلا من هايدن وموتسارت وظل شوبرت غير محرر من تأثير بيتهوفن وأخرين فترة كبيرة، من هذا التأثر بالكلية في مؤلفاته للبيانو والصوناتات والمقطوعات المفردة والتي بدت في مجموع موسيقى البيانو الرومنتيكية وكأنها بغير حاجة إلى جمهور ولا حتى مستمع واحد
في الوقت الذي لم تظهر فيه أصالة شوبرت كاملة في مؤلفاته الخاصة بالآلات ظهرت أصالته في أغاني الليد ومن الممكن التسمح في القول واعتبار أن تاريخ الأغنية قد بدأ مع شوبرت
كان طابع شوبرت في الليد طابع كلاسيكي رومانتيكي معاً، ويرجع السبب في دعوته بأنه رومانتيكي فليس لأنه لحن أشعار لمشاهد رومانتيكية سطحية بل السبب في ذلك يرجع في ابتعاده عن كل تأثير إيطالي وكل ما يشبه الكانتاته. والسبب الذي جعل شوبرت كلاسيكياً هو التوازن الذي حققه في أغانيه بين الميلودية والنص والإيقاع الكلامي وفي أن يكون اللحن واصطحابه خاضعين لنص الأغنية. ويرجع أيضاً السبب في كونه رومانتيكياً إلى ما في الألحان التي وضعها للأصوات الغنائية والموسيقى المصاحبة من غزارة وتدفق. وهو أيضاً رومانتيكي من جهة اتصاله بالأغنية الشعبية. وقد اكتملت أعماله بسبب توافق الكلمة مع النغمة. وعلى يديه أصبح الليد فناً رومانتيكيا مميزاً.
إن كانت طبيعة شوبرت أنه أميل إلى الذاتية وإلى التأثر والشك والنزوع إلى النقد، إلا أنه قد كتب سبعة قداسات.
على الرغم مما قيل من كون شوبرت مؤلف موسيقي عظيم، إلا أنه لم يكن مؤلفاً لدرامات موسيقية فالأعمال الدرامية التي ألفها قد لاحقها الفشل. لكن هذا ليس معناه الفشل الكلي فليس هناك ما يدعو لأن يكون أي مؤلف عظيم للدرامات الموسيقية موسيقياً عظيماً من طراز شوبرت إذ أن مهامه تتطلب خصائص أخرى. ولم يكن شوبرت بدعاً بين الموسيقيين فعظماء الموسيقيين الذين ألفوا سمفونيات وموسيقى صحاب مثل هايدن وشوبرت ومندلسون وبرامز بل وبيتهوفن نفسه قد افتقروا إلى الحاسة الدرامية ربما الاستثناء الوحيد كان أماديوس موتسارت، إلا أنه في النهاية قد غير العصر الرومانتيكي من نظرة المؤلف الموسيقي إلى الأوبرا فقد جعل مؤلف الأوبرا رجلاً متخصصاً. كان سبب جعل الحركة الرومانتيكية للأوبرا رجال متخصصين أنها نظرت إليها نظرة جادة أكثر مما فعل القرن الثامن عشر وأصبح تأليفها يستغرق الكثير من الوقت.
كانت الأوبرا في احتياج لتطبع بالطابع الرومانتيكي إلى مادة وفيرة هذه المادة التي كانت قد تجمعت خلال قرنين من الزمن، ورأى الرومانتيكيون أن بداية الازدهار الفعلي لبذور الرومانتيكية في الأوبرا قد بدأ مع أوبرا دون جيوفاني، إلى جانب صبغ الرومانتيكيين لأعمال الرومانيين بالصبغة الرومانتيكية.
وقدم فيبر أول عمل له وهو في الثانية عشرة من عمره، حين أصبح فيما بعد رئيس للأوركسترا في براج دخل في صراع مع منافسي ومديري المسارح الأرستقراطيين. من الممكن اعتبار فيبر نداً لموتسارت، نظرة إلى أعماله نجد القداسات وكونشيرتات الآلات وصوناتات وأنواع أخرى من موسيقى الصحاب للبيانو المنفرد والمجموعات، ثم المارشات، إلا أنه لم يكن صاحب مؤلفات كنسية أصيلة. إلا أنه كتب مؤلفات خاصة للبيانو وكونشرتوين للكلارنيت وأشياء أخرى تجلي فيها طابعه الذي كان يعتمد فيه على مزج الناحية التعبيرية في صورتها المتطرفة بأعلى قدر من التألق وكانت مخيلته حاضر بها على الدوام استعراض المهارة والبراعة. أما في ناحية الأوبرا فقد كان فيبر من الظواهر النادرة بين الموسيقيين الألمان الذي من الممكن القول انه قد ولد مؤلفاً للأوبرا. وقد عزى هذا التألق في والنجاح في كونه مؤلفاً درامياً موسيقياً لحدته ووضوحه وإسرافه في إيضاح تصويره الشخصيات ثم انطلاقه، إلى جانب هذه الحدة اتسم بميل ناحية القومية.
دير فرايشوتس: هي أوبرا لفيبر أوبرا رومانتيكية ألمانية مكونة من ثلاثة فصول استغرق فيبر فيها ثلاث سنوات وهي من أعمال فيبر الخالدة، والسبب في ذلك هو موهبته القوية والمتفردة، فلم يعرف فيبرالقيود التي يلتزمها المؤلفون الموسيقيون السمفونيون أصحاب الاتجاهات الكلاسيكية، ولم تكن النواحي الميلودية في أعماله وحدها ذات طابع آخاذ بل ونقلاته اللحنية وما فيها من حرية فائقة، إلى جانب حسن تقديره للحركة المسرحية والإيجاز والتكثيف الذي ظهر في كل المقطوعات، إلى جانب ناحية خفية وهي فرادة شخصية العمل. كان فيبر له طابع شخصي أخذته عنه الموسيقة الألمانية وأصبح كأنه طابعها الشخصي القومي. وهو صاحب الفضل في أن أصبحت الأوبرا أوبرا شعبية ألمانية.
بعد فيبر تفرعت الأوبرا الرومانتيكية إلى فرعين أحد هذين الفرعين اتجه إلى إنشاء أوبرات رومانتيكية شعبية على نمط الفرايشوتس أما الفرع الآخر فقد سارت على نفس نهج أوبرا أوربانتي بعد ظهورها. بالنظر إلى الأوبرات التي وجدت في هذه الفترة نجد أن الرومانتيكية لم تتردد في الانغماس في الألاعيب المسرحية السقيمة.
وفي عام 1850 تم عرض أوبرا جينوفيفا لشومان لكن لسوء الحظ لم تصاف أي نجاح على الإطلاق، وكان الخطأ الذي وقع فيه شومان هو الذي جعل الأمر هكذا، فقد اختار شومان موضوع لا يعطف عليه الناس ذلك إلى جانب ضآلة حظ جينوفيفا من الرومانتيكة بالنسبة للعصر الذي ظهرت فيه، إلى جانب خلو الأوبرا من الألاعيب المسرحية البدائية التي اعتادها المستمعون أيضاً.
لعل من أبرز الدلائل على التناقضات الذي احتواها العصر الرومانتيكي من ظهور اتجاه إلى جانب النزعات القومية في الأوبرا يهدف إلى إنشاء أوبرا دولية تمتزج فيها عناصر ألمانية وإيطالية وفرنسية، في نسب متفاوتة. كان العنصر الفرنسي أوقى هذه العناصر الذي نتيجة له كانت باريس موطن هذا النوع من الأوبرا. كان نتيجة لذلك ولافتتان العديد مكن الموسيقيين بالأوبرا أصبحت باريس المركز الثقافي الأوربي وكان لا بد نتيجة لذلك مراعاة الذوق الفرنسي يظهر هذا الوجه الرومانتيكي لهذ الأوبرا الباريسية في الابتعاد عن موضوعات العصور القديمة غير أن الأوبرا الباريسية وإن كان لها طابع قومي إلا أنه لم يكن قومي بما فيه الكفاية، فقد تزودت بكل مظاهر العصر الرومانتيكي الخارجية، إلا أنه لم يتوفر لها قدر كاف من الرومانتيكية. فقد كانت تخفي في داخلها ميولاً سياسية غير متوفقة مع العمل الفني الرومانتيكي فقد هاجمها العديدين منهم شومان وفردي وفاجنر، وتحولت الحركة الرومانتيكية مع فاجنر إلى مرحلة أخرى سميت بالرومانتيكية الجديدة كانت تهدف إلى استيعاب الأوبرا لكل فروع الموسيقى.
في هذا الفصل تتم مناقشة كيف تطورت الموسيقى وموسيقى الصحاب الرومانتيكية بعد بيتهوفن لنرى كيف استطاع مندلسون التوفيق بين مواهبه المختلفة، فمندلسون الذي لم ينتهك إطلاقاً القواعد التي فطر عليها منطق الموسيقى. فقط اتبع في أعماله طابعاً كلاسيكياً تشع منه ملامح رومانتيكية مقارنة بـ(لويس شيور) الذي كانت أوبراته رومانتيكية إلى حد كبير، ولويس شيور ينتمي إلى جيل أقدم من جيل مندلسون أي ينتمي إلى جيل فيبر ولكنه مختلف عنه فقد ظل موتسارتياً طوال حياته ولم يكن رومانتيكياً أصيلاً وكانت تقلبات العصر قد حالت دون بقائه في نطاق الكلاسيكية الخالصة لذا فإنه ظل حائراً بين التجارب والمحاولات المختلفة. فبعد أن ألف مؤلفات على الطريقة الموتسارتية كتب صورة نغمية مميزة في شكل تناول فيه الموضوع القديم الخاص بتغير الفصول واقترب شيور من برليوز في اعتقاده بعدم الشكل السيمفوني البحت وحاجته إلى استثارة شاعرية الأشكال التقليدية بمضمون جديد.
ــ لكن مندلسون اقترب من شيور في كانتاته السيمفونية رغم ذلك كما في مصنف رقم 52 التي سماها أنشودة المديح وهي ذات اتجاه رومانتيكي، كذلك في بعض الأعمال الأخرى واتبع بيتهوفن مؤلف السيمفونية الريفية لكنه تجنب في جميع أعماله الشاعرية في التصوير والإحساس
كذلك تظهر النزعة الرومانتيكية عنده في الاعتماد على الألحان في استلهام موضوعات خارجية ويظهر هذا الطابع الرومانتيكي في أقسام التفاعل التي زادت حيوية بفضل طابعها المرح وفرط ما فيها من كلف بمشاهد طبيعة الشمال الحزينة.
بدأ شومان حياته الموسيقية ثائراً أو ثائراً رومانتيكياً من أخلص نوع فلا يجاريه أحد من الرومانتيكيين في هذه الناحية حتى شوبان نفسه، وقد اعتمد شومان على البيانو كوسيط للتعبير عن انفعالاته في مرحلة الانتفاضة العاصفة من حياته أي حتى المصنف الثالث والعشرين من مؤلفاته. وبعد هذه الأعمال التي جاءت نتيجة لاندفاعه في الخلق، فقد شعر بالحاجة إلى تجسيم أعماله في أشكال أقل اتصافاً بالذاتية. وقد وصف هذا الصراع بأن هناك روحين تسكنان صدره وقد عبر عن هذا الأمر في مقالاته وفي الشخصيات التي ابتكرها في مقالاته
كان ليست مختلفاً عن هؤلاء حتماً فقد كان شعاره هو تجديد الموسيقى عن طريق صلتها الباطنية بالشعر مثل شومان وبرليوز إلا أنه لطبيعته الثورية لم يرض الاستمرار في التقيد بشكل الصوناته الكلاسيكي التقليدي وقد كان من المعجبين بباخ ولم يظهر منه ما يدل على إعجاب بهندل وبيتهوفن وشوبرت لكنه أثنى على شومان لأن شومان أدرك في وضوح أن الموسيقى بوجه عام وموسيقى الآلات على الأخص ينبغي أن تكون وثيقة الصلة بالشعر وسائر الصور الأديبة إلا أنه رغم ثناؤه عليه إلا أنه وجه إليه نقد لأنه لم يستمر في توثيق هذه الصلة.
لكن ليست هذا يستحق الإشادة لأنه استطاع تنفيذ المُثل التي نشدها وبلغ غايتها في كل مجالات الموسيقى التي طرقها أي عالم البيانو والغناء بل في مؤلفاته السيمفونية وقد جعلت حياته والأحداث التي مر بها من أكثر المؤلفين استقلالاً واطلاقاً وبعد تنقله وحياته فهو المولود بمقاطعة سوبرون الهنجارية لأبوين ألمانيين والذي تنقل فيما بعد بين باريس وانجلترا وانتهى به المطاف إلى الانتقال إلى روما 1861 وفي 1865 فأصبح الراهب ليست ولجأ إلى رحاب الكنيسة الكاثوليكية وهذه نزعة رومانتيكية حميمية كانت شائعة بين الشعراء فهذا ما يفعله أي رومانتيكي إلا أنه كان مثالياً لأبعد حد فلا وجود في أعماله لأية نزعة واقعية ولم يحاول تأليف موسيقية أو نهايات ذات ذوق سقيم ومن ناحية البناء الموسيقي، لم يتبع ليست نمطاً واحداً بالذات، وإن ظهر عنده ميل إلى جعل المؤلفات تبدأ ببدايات مترددة تصل في النهاية إلى نهايات مجيدة فقد كان ليست يشعر بخطورة هذا الانطلاق وهذه الحرية، لذا شعر بحاجة إلى ربط الأجزاء معاً معتمداً على اللحن الأساسي.
ــ والملامح الرومانتيكية الصميمة في مؤلفات فرانز ليست التي كتبها لموسيقى الآلات تحتوي على خليط عجيب من عناصر متعددة أول هذه الملامح هي الثقة الوثيقة بين الموسيقى والشعر فالشعر يلهم الموسيقى ثم تتصرف الموسيقى بعد هذا الإلهام وفقاً لمشيئتها وهناك مظهر آخر هو محاولة المزج بين الفكر والشعور البالغ حد النشوة واستثارة المستمع.
وقد أخذ عن ليست العديد من الفنانين أمثال بدريتش سمتانا وأنطونين ديفورجاك وغيرهم.
أما المؤلف الذي كان نقيض أو على طرف النقيض من ليست هو يوهانس برامز فعلى عكس الذي كان يسخر من الماضي ولا ينظر إليه نظرة تقدير فقد كان برامز يبحث عن نماذج في الماضي يمكن الاقتداء بها.
كما كان ليست من الرابسوديين (المؤمنين بالانطلاق في الإبداع) على عكس برامز الذي يمسك دائماً بحرفية الأشكال والقواعد المعترف ونادى ليست بالمزج بين الموسيقى التي سعت للتوافق في الماضي من نواحي الإبداع ولم يكن ليست موسيقى أما برامز فقد أثبت أن تأليف الصوناتات والثلاثيات والرباعيات لازال أمراً سهلاً.
والتغير الذي حول أحد أنصار حركة الانتفاضة العاصفة وجعلته يتحول من مجرد مؤلف يتبع هواه إلى موسيقي يتحكم في إرادته الإبداعية إلى مؤلف يحتل مكانه في موجهة الموسيقيين الآخرين يمكن الكشف عنه بالرجوع إلى خاصة أساسية أخرى هي نظرته إلى الأغنية الشعبية. لكن الناحية الرومانتيكية في موسيقاه قد تمثلت في محاولته إعادة جنة الموسيقى الكلاسيكية المفقودة، ولكننا إذا نظرنا إلى ناحية الأصالة عند برامز سنجد أنه لم يعبأ بها فهو لم يحرص على تجنب تكرار الصيغ والقوالب وهو في هذه الناحية قد سار على نهج الأعلام القدامى الذين أدركوا استحالة ظهور أسلوب بغير اعتماد على قوالب قائمة.
وقد شابهت سيمفونية برامز في حياته فالسيمفونية التي تبدأ في صورة بالادا شعري حتى بلغ مجال التسليم بالقضاء والقدر وتختم برفضه الموت، تماثل في تركيبها الرومانتيكي برامز وطابعه أي البداية المشتعلة حماسة، ثم التعلق بالماضي موطن السعادة ومحاولة إعادة هذه السعادة واستلام برامز للاعتقاد بأنه قد جاء متأخراً عن عصره زاد من حذقه الذي استمر إلى نهاية حياته.
ــ أما أنطون بروكنر الذي كان يكبر برامز بما يقارب عشر سنوات إلا أن تطوره كان أبطأ منه وتأثيره لم يظهر إلا متأخراً، لكن في تاريخ الموسيقى الرومانتيكي لا بد أن يكون لاسمه وجود وهذا ليس راجع لتسميته إحدى سيمفونياته بالسيمفونية الرومانتيكية لكن الأصح أن أعماله السيمفونية هي أعمال السيمفونية هي أعمال رومانيكيية بامتياز إلا أنه كان ذا شخصية فريدة مختلفة عن الآخرين كما أن انجاز بروكنر الفني (على عكس مؤلفات برامز التي ظهرت متأخرة) يكاد لا ينتمي إلى زمان ونقل بروكنر ــ على علاته ــ الشكل ذا الحركات الأربع لسيمفونيات بيتهوفن وسيمفونية شوبرت في دو كبير وقام هو الآخر بملء هذا الشكل بمضمون عن الموسيقى البحتة التي تخصه وحده ولم يشعر بروكنر بأي ميل إلى الموسيقى ذات البرنامج، لكنه في الجانب الديني والشعور بالتعاطف نحو الطبيعة يلتقيان في شعور صوفي. ومن ثم فبوسعنا إجلاس بروكنز على عرش التيوصوفية الموسيقية وهذا الطابع الذي يعد طابعاً رومانتيكياً فهو يمثل الموسيقى في أخلص أنواعها في نطاق خطواتها التقليدية بعد تفاعلها مع أفكار خفية وتحويلها إلى شيء يستطيع الحس إدراكه في صورة إشعاعات منبعثة من أنغام الوتريات ومن الآلات النفخ بوجه عام.
انتقلت الموسيقى من مكانها الأساسي أو القديم أي بيوت العبادة إلى قاعات الموسيقى ودور الأوبرا في العصر الرومانتيكي بسبب تفضيلهم لموسيقى الآلات التي أرشد بيتهوفن الرومانتيكيين إليها حتى جعلوا موسيقى الآلات أي الموسيقى التي لا تعتمد على كلمات مفضلة مقربة إلى قلوبهم، لكن الكنيسة البروتستانتية كانت في وضع سيء بالمقارنة بالكنيسة الكاثوليكية ذلك أن حركة الإصلاح التي قام بها لوثر كانت تدعوا إلى جعل الشعائر الدينية الجديدة لا تخضع لأي قيود.
ــ لكن العصر الرومانتيكي قد أحس بالتدهور الذي حدث، وأدرك أن العلة الأساسية هي تعدد نظم الشعائر الدينية التقليدية وأنها تفتقر إلى الوحدة ولم يكن من الممكن حدوث وحدة دون إحداث تجديد عميق للحياة الدينية وهى المهمة التي تكفل بها فريدريخ فيلهلم الرابع ملك بروسيا أو الرومانتيكي الجالس علي العرش فقد مارس فريديخ سلطانه في توحيد الشعائر التي أدت إلى الرجوع إلى الماضي لضعف الروح المبدعة التي كانت نتيجة لذلك ــ ذلك استلزم ــ العودة إلى باخ الألماني وبالسترينا الإيطالي وشارك في هذا التحمس للعصور القديمة مندلسون وظهرت حماسته في المزامير والموتيتات التي ألفها لكورس الكاتدرائية في برلين والتي لم يتبع فيها أسلوب بالسترينا بل اتبع أسلوب البندقية بل اتبع أسلوب بنديتو مارشيلو إلا أن مندلسون لم يكن قادراً على إنشاء أسلوب كنسي بروتستانتي حتى في حالة اعتماده على باخ لذلك كانت مزاميره غريبة عن قاعات الموسيقى وعن موطنها المتخيل في الطقوس، لكن ذلك لم يمنع من وجود أتباع كُثُر لمندلسون يقدرون بالمئات.وظهرت بعد ذلك حركة في روسيا تزعمها روخوس فون ليلينكرون هدفها وضع نظام محدد للطقوس.
وكان الأمر بالنسبة للكنيسة الكاثوليكية بفضل طقوسها الموغلة في القدم أهون. ولم يكن الشكل مقتصراً على روما وإيطاليا فقد كانت عامة في العالم المسيحي، على أن هذه الوحدة في الشكل لم تمنع وجود بعض الحرية، هذا التسامح ظهر في وجود الأشكال القوية والسماح بالتعبير الشخصي ففي خلال القرن الثامن عشر لم تسع الكنيسة إطلاقاً إلى تقيد الموسيقى الكنسية وقد كان المؤلف الموسيقي يقدم في الكنيسة كل أشكال الموسيقى الدنيوية كالصوناته والكاناتاته واقتربت المسافة بين الموسيقى والناحية الدينية المقدسة لكن هذا الوضع قوبل بالاحتجاج كان ذروة هذا الاحتجاج في القرن التاسع عشر على يد الرومانتيكيين الذين طالبوا بالعودة إلى أسلوب الغناء الصرف.
أما ليست فكان أهم نموذج لما يطلق عليه (بمسيحية القرن التاسع عشر) كان ليست الحالة التي لحقت بالدين في أن الفن قد هجر قلب المعبد واتجه نحو العالم الخارجي ورأى أن الموسيقى التي مصدرها الناس والله لا بد أن تكرس نفسها لهما أي أن تسعى للارتقاء بالإنسان لكن هذه الموسيقى لا بد أن تتسم بالوقار فعليها أن تجمع بين المسرح والكنيسة وتكون درامية ومقدسة معاً. وكلام ليست يبين مدى الانفصام الذي شعر به فهو يريد موسيقى تخدم الكنيسة والمسرح تحقق وحدة بين المسرح وبيت العبادة.
ولجأ ليست ــ الذي تحول من البروتستانتية إلى الكاثوليكية ــ وأصبح الأب ليست ولجأ إلى روما لكي تقيه من إغراقه في فرتيوزية ((الحياة الدنيا)) التي سيطرت على حياته. ولم يكن هذا الاتجاه تام النجاح إلا في حياة الرهبنة ولا في فنه، لحسن حظ هذا الفن.
أما شارل جونو فقد كان سائراً على نفس خطى ليست فلا يوجد اختلاف كبير بينهما من ناحية التشتت بفعل الصراع الداخلي إلا أن جونو كان أقل مكانة من ليست، فجونو قد تردد كثيراً ــ في شبابه ــ بين أن يسلك طريق الكهنوت وحرفة الموسيقى وإن كان لا يذكر إلا بوصفه مؤلف أوبرا مارجريت (فاوست) وأوبرا (روميو وجوليت) إلا أنه ظل طوال حياته من المؤمنين المتدينين كما تشهد مؤلفاته الأخرى وقداساته التي لا تقل عن خمسة عشر قداساً، إضافة إلى مؤلفات كنسية أخرى، وقد كان مشابهاً لليست في بعض الأشياء ومنها الإحاطة بالأناشيد الجريجورنية والدراية بأسلوب بالسترينا. والجرأة على التجديد إلا أن قداساته لم تكن كنسية صرفه، بل كانت أكثر اتصافاً بالشاعرية والطابع الذاتي ويصح نفس الكلام عن سيزار فرانك عازف الأرغن الذي كتب (الخلاص 1871، 1872) ففي مؤلفاته تظهر أساليب تعبير لها طابع دنيوي إلى حد ما لا تتوافق مع موسيقى الكنيسة الحقة.
إن أعظم مؤلف موسيقي في العصر الرومانتيكي كان أنطون بروكنر وذلك لنشأته في الكنيسة ومحاوطته بالقداسات المصحوبة بموسيقى أقطاب الكلاسيكية وقد تأثر بمؤلفات جاكوبوس جالوس، إلا أنه لم يؤلف موسيقى لا ذات طابع ولا طابع رومانتيكي إنما واصل ــ كما فعل هايدن وموتسارت ــ التأليف باتباع قالب الصونانه في قداساته الأوركسترالية أو السيمفونية.
إلا أنه كان مختلف عن ليست وبرامز فلم يحرص على الوعي بالصلة التي تربط أسلافه ويظهر موقف بركنر خاصة في أعماله التي كتبها للكنيسة فقد تمخض عن فن عجيب لا ينتسب إلى عهد بالذات فقد مزج الكورال وأسلوب الغناء الصرف والطابع الكلاسيكي بطريقة شخصية فطرية ساذجة تظهر في موسيقاه الدينية بأوضح مما تظهر في موسيقاه الدينية بأوضح مما تظهر في فنه السيمفوني كأنه شيء شخصي ساذج يدل على عدم التأمل. فقد كتب هذه القداسات إنسان معذب يتأثر عميقاً بالدين فإن ما كتب (تسبيحة الشكر) إنسان لا يتطرق إليه الشك بأنه من مخلوقات الله.
كانت الرومانتيكية حركة ميالة إلى الكاثوليكية ولذلك استهوت الطقوس حتى المؤلفين من غير الكاثوليكيين وفتنوا بها، فشوبان مثلاً لم يقم بتأليف شيء بروتستانتي، إلا أنه في نهاية حياته كتب قداس مقام دو صغير مصنف 147 وكذلك ركويم مقام ري بيمول كبير مصنف 148 وقدم القداس الأول بنفسه في قاعة الموسيقى وأبان عن تقديسه في هذا القداس لمريم العذراء التي فتن بها العصر الرومانتيكي، وكانت هناك نزعة رومانتيكية بانت في استخدامه للأوزان القديمة ويمكننا القول أن الموسيقيين من غير الكاثوليكيين أحسوا بقلة العون الذي من الممكن أن تمده بهم كنائسهم من ناحية الطقوس لهذا لجأوا إلى الأوراتوريو الذي قدم لهم هيندل أعظم نماذج منه.
ــ أما مندلسون فقد بين في أوراتوريو بولس الرسول تأثير هيندل ممتزج بباخ وبعد عشر سنوات أتم الأوراتوريو الثاني الذي تمسك فيه بنصوص الكتاب المقدس إلا أنه جعل بطل الأوراتوريو أحد أنبياء العهد القديم ولجأ فيه إلى بعض إشارات كورالية رقيقة وقد اقترب من هيندل فيه أكثر من باخ صاحب موسيقى الآلام إذ حكى بأمانة أحد المشاهد من الكتاب المقدس فيه من مندلسون والكلاسيكيين أكثر منن الرومانتيكية، ووصلت أوتورياته إلى إنجلترا فأغلب الأتوريات التي ظهرت في القرنين الثامن والتاسع عشر لم ترذ على كونها تدريبات أكاديمية أو موسيقى مقبولة للجماهير. وانتهت قصة هذه الأوتوريات، إلا أن هناك عمل في عالم الأوتوريو لمندلسون لم يكن له أي ارتباط بهيندل أو باخ وهو الأوتوريو المسمى (الفالبورجيس الأولى ــ مصنف رقم:60) كانت أشعاره من وضع جوته.
وكان من النواحي التي اهتم بها ممثلي العصر الرومانتيكي في الموسيقى هو الاتجاه على تحويل شيء لا يدرك حسياً إلى شيء يمكن إدراكه حسياً من الأمور التي يتجلى فيها طابع شومان وليس جوته باعتباره شاعر، هذه المشاهد اعتبرت أنجح وحدة تحققت بين الموسيقى والشعر فشومان يمكننا اعتبار مؤلفاته ذروة ما ظهر في العصر الرومانتيكي.
عبر تاريخ الأورتوريو ظهرت العديد من الأنواع فبالعودة إلى القرن السادس عشر سنجد أن تاريخه سابق على الأوبرا فتاريخه أقدم وأصلب لكنه بلغ ذروته عند هيندل وأعاد القرن التاسع عشر إحياء نموذج هيندل وقام بتدعيمه، والأورتوريو الرومانتيكي لا يختلف عن أوتوريو هيندل فهو يعتمد على نصوص دينية وكذا نصوص دنيوية وتاريخية، واختلف هيندل عنهم في اعتماده على نصوص دنيوية تاريخية. لكن منذ القرن السابع عشر وما بعده استغنى الرومانتيكيين عن الراوي مما جعل الاقتراب بين الأورتوريو والأوبرا أدى إلى الخلط بينهما.
ــ فالأوتوريو من الأشكال الهجينة التي يمكن الخلط بينه وبين الأوبرا كما قلنا إلا أن الأورتوريو الرومانتيكي ظل محتفظاً بطابعه الديني أو التهذيبي وذلك راجع لاستمرار تأثير هيندل كما يرجع إلى اثنين من مؤلفي الأورتوريو الألمان وهم شبور ومندلسون الذين كانا لهما أثرا في إنجلترا في عهد الملكة فيكتوريا.
أما برليوز فقد كان يمقت كل شيء تاريخي علاوة على أنه كان يجهل هذه الناحية جهلاً مطبقاً، أما ليست فقد شارك في عالم الموسيقى الدينية باثنين من الأورتوريو الذين كتبا بإلحاح منبعه أعماق روحه. وفي عمله المسمى القديسة إليزابيث تجلت حريته في أوضح صورها عندما أنهى العمل في ذروة سيمفونية وهو عمل رومانتيكي بامتياز.
أما برامز حالت طبيعة كونه غير كاثوليكي وألماني دون قيامه بتأليف قداس أو تسبيحة لذلك قام بتأليف (ركويم ــ مصنف رقم 45 سنة 1866) وكذلك أغنية النصر (عمل رقم 55 في سنة 1871) وكانت من أغاني المناسبات أو مستلهمة من وحي اللحظة) ذلك العمل الذي قال عنه فاجنر أن برامز قد لبس باروكة هيندل وألف تهليلة. لكن الذي لا شك فيه حقاً هو أن برامز تأثر بباخ وهيندل أيضاً تأثر بمندلسون في بعض الأعمال الكورالية القليلة كليلة فالبورجس الأولى.
تعتبر الأغنية نوع من الأنواع الذي عبر العصر الرومانتيكي من خلالها عن نفسه فيها بحرية، وتركُز إبداع شوبرت حول الأغنية يوحي بأن تاريخ الأغنية الرومانتيكية قد اعتمد أساساً في مظاهرها في ألمانيا أما في إيطاليا فقد كان كل شيء له طابع الأغنية وثيق الصلة من ناحية بالأغنية الشعبية ثانياً بالأوبرا التي انصرف إليها اهتمام المثقفين، فروسيني على سبيل المثال له مؤلفات ذات طابع شاعري وأخرى في عالم موسيقى الصحاب وأغاني شعبية من صنع خياله كأريتات أو مؤلفات أوبرائية كثنائية البحارة. ولم يختلف الموقف بالنسبة للمعاصرين له أو من أتوا من بعده كفردي لكن من ناحية أخرى لم يكن لمؤلفي الأغاني الإيطاليين وجود، ولم يظهر كذلك أي مؤلفين عظام للأغاني من الفرنسيين خلال العهد الأول من العصر الرومانتيكي.
أما برليوز فقد كتب بعض أغاني الليدر وأنواع أخرى من الأغاني إلا أنها بالنسبة للسيمفونيات تعتبر مجرد أشتات صغيرة متناثرة.
ــ أما في ألمانيا فقد كانت الأغاني منهمرة كالسيل وقد كان الخليفة الحق لشوبرت هو روبرت شومان، لكن هذه الأغاني لم تكن أغاني جيدة للدرجة التي جعلت شومان يستخرج من خمسة مجلدات من مجلدات أغاني الليدر سوى ثلاث أغنيات ، أما مندلسون الذي ألف أكثر من ثمانين أغنية تناولها بالطريقة القديمة فقد اعتمدت على عذوبة الميلودية لكن ما أبدعه لا يقف إلى جانب أغاني شوبرت، إلا أنه حين شعر بميل نحو تأليف أغاني ذات صبغة شعبية فلم تزد على كونها محاولات للتقليد ولم تتصف بروعة الاستغراق في الأسى وعدم المبالاة التي نصادفه عند شوبرت.
أما مع شومان فقد أصبحت الأغنية فجأة محور إبداعه الفني وقد لحن ما لا يقل عن 138 مؤلفاً غنائياً وكان ينشد من وراء ذلك تحرير الكلمات من لغة العقل وتحقيق امتزاج الكلمات بالموسيقى اعتماداً على ما فيها من وحدة المشاعر في شيء يمثل عملاً فنياً عالمياً.
أما من ناحية نصوص الأغاني فقد بدأ شومان من حيث انتهى شوبرت أي بدأ بنهايته ولم يكن لجوته _أهم من اعتمدت عليه أغاني شوبرت_ نصيب في أغاني شومان أكثر من بضع فقرات في ديوان الشرق والغرب في سنوات شومان الأخيرة، وقد ظهر جيل جديد من الشعراء أكثر امتلاءاً بأفكار العصر الرومانتيكي ألهبوا مشاعر شومان من بينهم يوسف فون ايخندروف بحساسيته الفذة ومن البداية بدأ البيانو والموسيقى المصاحبة يلعبان في أغانيه دوراً مختلفاً عن دورهما عند شوبرت فالتوازن أمر أساسي عنده وكانت الكلمات هي الرائد والبيانو هو التابع لها فعنده بدأ البيانو يلعب دوراً جديداً فازداد رنينه إرهافاً وأصبحت مهمته إبراز الملامح الدقيقة في الشعر، كما كان مولعاً بحلقات الأغاني وفي الحالات التي كان شومان يعثر فيها على شعراء من أصحاب أرواح مماثلة لروحه مثل يوستنيوس كان يبدع مقطوعات موسيقية فريدة من نوعها فياضة بالجمال والشاعرية ـ وبمرور السنين بدأ يتخلى عن طابع الاتجاه إلى الخاصة ــ كجمهور ــ ورغب في النزول إلى الكافة وألف ألبوماً كاملاً للأغاني الصغار وإن كان قد عجز عن البساطة التي أرادها. وبعد ذلك في سنوات انهياره لم يستطع تحقيق البساطة التي أرادها.
ظهر أيضاً إلى جانب شومان لوفي الذي كان يكبره بحوالي عام وعاش بعده أربعة عشر عاماً ظل يتنقل خلال سنواته، كان أشبه برحالة ودون ذلك في سيرته التي وضعها في كتاب.
كانت أغانيه منقسمة إلى قسم ظهر فيه عبقريته، وقسم أخر اتسم بالسوقية لكنه كان صاحب أسلوب رومانتيكي صميم توافرت له القدرة على التوفيق بين أية نغمة ذات طابع شعبي وبين الصنعة الموسيقية الحديثة بطريقة تميزت بأنها بسيطة وقد تميز لوفي بخاصية كانت نادرة في الحركة الرومانتيكية وهي المزاح.
ومن أتباع شومان كان روبرت فرانز الذي كان من المتخصصين في الأغنية وإن لم يكن تأثره مقصوراً على شومان إذ تأثر أيضاً بليست ،وكان اهتمامه بمجال الأغاني والاستروفية أو الأغاني الشعبية إلى جانب روحه القومية والمحلية وهذه من الخصائص الرومانتيكية، لكن برامز لم يجعل نفسه تحت رحمة الشعر بل كان في نظرته للنصوص حريص على جعل الغلبة للموسيقى ولم يكن يهتم بتصوير دقائق النص وتمسك برامز بالشكل الاستروفي وكانت أغانيه دقيقة التلوين وروحه رومانتيكية.
ولم تكن نظرة كلاً من فاجنر وليست للأغاني مماثلة لشوبرت أو شومان وأتباعهما، فلم يكن فاجنر مؤلفاً لأغاني الليدر بل كانت جهوده في عالم الأوبرا والسيمفونية وذلك من ناحية تسخيرها لخدمة الأوبرا، إلا أن أوبراته مملئة بشاعرية الأغاني وقد حقق فاجنر إنجازات في عالم الأغنية الرومانتيكية في قصائده الخمس المعروفة باسم (فيزندونك)
أما ليست فإن الأغنية فقدت شكلها وتحولت إلى أريوزو عاطيفية فكانت الأغنية عبارة عن تفاصيل واضحة تماسكت بواسطة فكرة ميلودية مفردة.
أما فولف فقد كان هو سيد الأغنية، وهو إلى جانب ذلك صاحب مواهب متعددة في نهاية هذا العصر الرومانتيكي. وكان الوحيد الذي لم يعرف التساهل في ذوقه الأدبي، فكان في لحظات إبداعه يتجه إلى شاعر بعينه ويركز عليه.
وابتدع هوجو مقطوعات فريدة عبرت عن عمق المشاعر وأشدها تركيزاً.
ــ وطرأ التغيير على الحركة الرومانتيكية من ثقل الانفعالات والأغوار الفلسفية البعيدة التي انغمست فيها والإغراق في العاطفية، بعد أن أسرفت في تقدير جديتها وقد حدث في روسيا أن تجردت الأغاني فيها إلى حد ما من الطابع الرومانتيكي.
بل تم اكتشاف قصائد مناهضة للرومانتيكية كان قد كتبها (بيرانجيه) وبدأ ميل نحو الواقعية، ولم تعد معاني الأغاني هي المعاني الرومانتيكية.
كان الرومانتيكيون يميلون إلى بعض الآلات الموسيقية خلال هذه الحقبة فهم وإن كانوا ألفوا وكتبوا بين حين وآخر مؤلفات قائمة على الجمع بين الآلات الموسيقية، إلا أنهم قد اقتصروا شيئاً فشيئاً في مؤلفات الكونسرت وموسيقى الصحاب على الوتريات البحتة من ناحية وعلى البيانو من ناحية أخرى.
وقد كان البيانو هو الآلة الحقة للعصر الرومانتيكي، فهي آلة موسيقية رومانتيكية شاملة من حيث تعبيرها عن الأحاسيس الشخصية الدفينة، ومن حيث تألقها وانبهار الجماهير بها.
وأصبح البيانو آلة موسيقية قادرة على كل شيء، لأنه استطاع أن يدخل في نطاق كل المؤلفات الموسيقية من الأوبرا إلى السيمفونية فالأغنية، فأصبح هو آلة العصر الرومانتيكي والوسيلة المثلى لتي تعبر عن وجدان الفرد.
أما مندلسون فقد كان قدر كبير مما ألفه على آلة البيانو لم يخرج على نطاق التقليد، وقد ظهر قصور إمكانياته منذ أن ألف أول ثلاث مؤلفات بيانو له وقد نعى مندلسون في رسالة أرسلها إلى موشيليس ــ إجدابه في الإحاطة بتعابير البيانو المستحدثة. فلم يكن من الممكن ظهور صوناتاته لمقام كبير بغير معرفة لصوناتات بيتهوفن الأخيرة. وقد تأثر كذلك بفيبر، أيضاً يظهر تأثره بباخ وطابعه في أغلب المقطوعات السبع المتمايزة أي المقطوعة الأولى الأندانتي التي بدت شبيهة بإحدى المقدمات.
من بين المقطوعات التي ألفها مندلسون للبيانو (دراسات) كانت هذه الدراسات دراسات شاعرية على غرار مقطوعات مألوفة أخرى لكلٍ من كلمنتي وبرامز وموشيليس إلا أنه كان بعيد كل البعد عن مظاهر الفرتيوزية فهو إلى جانب أنه كان من أساتذة الموسيقى الأعلام لم يكن عنده ميل لتعليم الآخرين.
أما شوبان وشومان وليست قد كانوا هم الموسيقيين الذين استطاعوا إنقاذ موسيقى البيانو من الضحالة التي كانت وشيكة التردي فيها.
فلم يكن ليست صاحب فرتيوزية، فقد بل كان قادراً على إكمال هذه الفرتيوزية بأشياء أعظم وأسمى قدراً.
ــ أما الموسيقي الذي خلق نموذجاً للفرتيوزية ولم يكن من عازفي البيانو نيقولا باجانيني وكان عازف فيولينة وينتمي إلى جيل أقدم من جيل الرومانتيكية، وهو وإن لم يكن رومانتيكياً إلا أنه قد أثر تأثيراً قوياً على الرومانتيكيين وكان الجمهور مسحوراً به وكذلك الموسيقيين سحرهم قدرته على التعبير الغنائي وقد كان اهتمام عازفي البيانو به فائق على عازفي الفيولينة فقد كان أسلوب من الصعوبة التي لم يستطيعوا تقليدها فأسلوبه كان غير قابل للتقليد.
لم يحرص شومان أو ليست ولا شوبان على الفرتيوزية وحدها لأن رسالتهم كانت محاربتها بنفس أسلحتها، فقد كان البيانو عند ثلاثتهم بعيد الاختلاف عما كان عليه، عند موتسارت وبيتهوفن وشوبرت فإن كان من الممكن نقل الأوركسترا أي موسيقى البيانو لبيتهوفن أو شوبرت أو حتى فيبر إلا أنه لا يمكن هذا في حالة (الكرايزلاريانا) لشومان أو مقدمة شوبان كذلك أيضاً برليوز فما حدث يعد فتحاً في عالم جديد من النغم الساحر. ورفض شومان فيما بعد الابتعاد عن الإشارات المميزة فهو مثل كل الرومانتيكيين يعشق التخفي ويستطيع من خلف القناع إطلاق مشاعره بغير ضابط أو رابط ولم يكن شومان موسيقي ذات برنامج كانت موسيقاه تستوحى من الشعر لكنها كانت موسيقى قبل كل شيء.
وفي الفنتازية التي كتبها تحقق حلم الرومانتيكيين اعتماداً على رقة الأنغام الموسيقية واعتماداً على وسائل البيانو وقدراته التعبيرية والتي فيها خضعت الفرتيوزية فيها خضوعا كاملاً للموسيقى الشاعرية وللشعر الموسيقي
أما ليست فقد كانت نظرته مختلفة فهاجم الفرتيوزية الخالية من الفن بلا هوادة، ولم يقتصر في فنه على إعادة صياغة بعض مؤلفات الفيولينة أو غيرها من الآلات إنما كانت له أفكار تقنية وكانت ولازالت مثيرة للدهشة.
وقد كان ليست يؤلف موسيقاه للجمهور لكنه قرابة انتهاء حياته بدأ يكتب مقطوعات قليلة فيها مناجاة نفسية بحق، لكنه وقت التأليف كان دائم التفكير في الصالونات ولم يبتدع شيئاً مماثلاً (لمشاهد من الطفولة) بل أبدع مجموعات كثيرة للصالون لم يكن من بينها أية (كرايز ليريانا) وكان دائم الفتح لعوالم يضيفها إلى البيانو، كان يكاد يحتكر الترجمة إلى لغة البيانو ومَثَلَ القدرة على الإبداع والارتجال اعتماداً على ما استولى عليه من مواد لحنية بتسخيرها لأغراض الفرتيوزية وسمى هذه الطريقة استلاف الألحان ومن الغير بأسماء مختلفة منها (مدونات البيانو) لكنه على كل حال لم يفلح في تهدئة روحه الثورية فلم يشغل أحد من الرومانتيكيين روحه بأمور المستقبل مثله، وكانت غايته هي تقريب الموسيقى من الشعر ولم تكن موسيقاه تنتمي إلى أي بدل فهو مثل أوديسيوس.
وكان شوبان مؤلف البيانو الذي اتحد في موسيقاه العنصر القومي والعبقرية والطابع القومي في الموسيقى كأي فن لن يعني سوى القليل إذا لم يكن قرين العبقرية في حق شوبان الذي خلق بحق الموسيقى البولاندية. ويمكن القول أن حياة شوبان على قصرها كانت رومانتيكية من ناحية ما فيها من أوجاع وآلام فهو كما قال برليوز (كان يموت طوال حياته). لكنه كان طفلاً معجزاً في فرتيوزيته وفي إبداعه الفني وتميزت حياته بطابعها الرومانتيكي ولا يرجع هذا إلى طبائعه بل إلى الأمراض التي عانى منها وإلى بعده عن وطنه إلا أنه كان متزناً يحسن التصرف في المسائل العلمية وكان شديد الوفاء لأصدقائه وعائلته وإن كان شومان وليست بدأا حياتهما بالتأليف للبيانو ولكنهم أبدعوا في عالم موسيقى الصحاب إلا أنه بدأ وانتهى مؤلف للبيانو وحده.
ــ وترجع أهمية إلى أنه ظل من بداية حياته الفنية إلى نهايتها موسيقياً صاحب أصالة. ومانت مؤلفاته بها بلاغة وفصاحة تبين عن دخيلة نفسه بإخلاص وصدق. وامتاز بأنه يضفي على كل مقطوعاته ما يجعلها تبدو وفي صورة الارتجال وإن كانت في حقيقتها راسخة الشكل رغم كل ما يبدو فيها كأنها مستلهمة من وحي اللحظة. وهو أول من حاول التفرقة بين الجوانب القومية والجوانب العالمية في تكوين المؤلف الموسيقي شوبان.
ــ وفي الأغلب كان هو أول ممثل للموسيقى القومية، وأعظم هؤلاء الموسيقيين شأناً رغم ذلك يمكن القول أن المؤلفات القومية لم تمثل أكثر من جانب من مجموعات شوبان وقد كان تأثيره كبير جداً فظهر له مقلدون في الشمال والجنوب وفي وارسو وأسلو إلى بالرمو ومن بطرسبرج حتى باريس ولم يستطع أن يتجاهله. ولا تصح مقارنته بليست وشومان من ممثلي الرومانتيكية الأولى بل هو ممثل رومانتيكية جديدة.
كان العصر الرومانتيكي هو أعظم عصر لفرتيوزية البيانو فهو أعظم عصر اكتشف فيه الخفايا الكامنة في أعماق البيانو.
ــ ويمكننا القول إن هيلر كان منحازاً كلية إلى معسكر شومان والموسيقى الانطوائية، ورغم صداقته لشوبان وليست إلا أنه احتفظ بطابعه الرومانتيكي والذي ظهر في تفضيله كتابة المؤلفات الموسيقية القصيرة ذات الطابع الليريكي. أما أدولف هنزلت فقد طرح الفرتيوزية جانباً واشتغل في التدريس والإشراف على تعليم الموسيقى في روسيا وقد تأثر بشوبان إلى الدرجة أن تأمل مؤلفاته يجعلنا نظن أننا نتأمل قائمة مؤلفات شوبان فلا تضم هذه القائمة سوى مقطوعات قليلة لموسيقى الصحاب وكلها مصحوبة بالبيانو.
ــ أما شارل الكان الذي لم تظهر في كتابات شوبان أية روح غاضبة أو أية انتقادات لاذعة مماثلة في قسوتها لنقده لألكان الذي رأى فيه استخفاف بالفن والطبيعة مريعاً وأنه ممتلئ بالسوقية. مفتقر إلى الخيال وشك في وجود الموهبة لديه.
اتسم الطابع الرومانتيكي بالازدواج في الموسيقى لجمعه بين نقيضين الأول هو: الاتجاه المتطرف للموسيقى الانطوائية. والثاني: الاتجاه المتطرف ناحية الاستعراض المسرحي. وابتعد عدد كبير من الرومانتيكيين عن الأوبرا بالكلية فقد اقتصر على سبيل المثال. كلاً من بيتهوفن وشومان على تأليف أوبرا واحدة. ولم يقدم برامز على تأليف أوبرا مطلقاً لكن الرومانتيكيين رغم ذلك قد وقعوا في خطأ كبير لإعجابهم بالكاتب الساخر الدرامي كارلو جوتسي إذ كان سائد الاعتقاد أن المزج بين عناصر مختلفة غير متجانس أمر دال على الشاعرية.
أما في أوبرات فاجنر فقد تحمست الأوبرا الرومانتيكية الجديدة التي مهد لظهورها فيبر ومارشنر وسبونتيني ومايربير لكن فاجنر على الرغم من اتباعه نفس الطريق إلا أنه سرعان ما أصبحت الأوبرا التي أبدعها عملاً فنياً آخر.
وكان فاجنر يعتبر نفسه مؤلفاً درامياً موسيقياً ــ مؤلف موسيقى بحتة ــ ورأى أنه قد جمع بين شيئين مختلفين هما تحقق الالتقاء بين شكسبير وبيتهوفن.
ومثل فاجنر سياسة القوة في الفن وعمد إلى اتخاذ موقف من الجميع، ورأى أن وسيلة السيطرة هي الدراما لكن الدراما غير كافية، فاعتمد على الحوار مع الموسيقى واعترف فاجنر أن سلفه الحق هو بيتهوفن مؤلف السيمفونية التاسعة، هذه السيمفونية التي كانت في نظره تتويجاً لموسيقى الآلات. لكنه استغرق وقتاً طويلاً لكي يصبح موسيقياً للموسيقى التي يستطيع الاعتماد عليها في إحداث التأثيرات.
كان تفكير فاجنر مشغولاً بإعداد مشروع دراما تدور حول أسطورة نبلونج انتهى منه قرابة 1848 وأتم الجزء الأخير فيها في صورة دراما أسمها (لوهنجرين) ولكنه لتعذر عثوره على مادة إنسانية خالصة فيه ولعدم تمكنه من الحصول على حكايا ت فلكلورية فقد اتجه إلى الأساطير وقدم موضوعاً عن آلهة اسكندناوه، وكان دافعه لخاتم نبلونج هو تحمسه للمأساة اليونانية.
ــ أما إبداع فاجنر أو ما كان قادراً على إبداعه هو (العمل الفني الشامل) الذي يمكنه من التأثير في الجماهير والاستحواذ على مشاعرهم فهو كما يقول: لا تظهر عظمته إلا إذا اعتمد على مواهبه مجتمعة ــ الشعرية والموسيقية والإخراجية والتأليفية والمحاضرة ــ وقد جعل للموسيقى المصحوبة بالمشاهد المكانة الأسمى في عمله.
وقد كانت الطريقة التي اتبعها فاجنر في تأليف خاتم نبلونج، كان أن أكمل النص أولاً ثم وضع الموسيقى بعد ذلك، وقد استمر العمل عليها (26 عاماً) إلا أنها قد جاءت مليئة بالتناقضات.
كان فاجنر رغم انشغاله في العمل على أوبرا لوهنجرين يفكر في أسطورة نبلونج كان يريد بها أن يصل إلى معانٍ إنسانية خالصة تعذر عليه الحصول عليها في المادة التاريخية أو 9الفلكلور فاتجه إلى أساطير آلهة اسكندنافية ولم يكن غرضه قومي من وراء ذلك، إنما التحمس للمأساة اليونانية وضع الموسيقى في المكانة الأولى وكانت موسيقاه مصحوبة بمشاهد، فهو لم يكن يستطيع تأليف موسيقى جيدة غير مصحوبة بمشاهد. وكان فاجنر يرى في كتابة الأوبرا والدراما أن الدراما الموسيقية لا بد أن تكون تابعة للدراما هذا على عكس موتسارت الذي كان يرى "الشعر ينبغي أن يكون ابناً طيعاً للموسيقى إلى كل أوبرا جيدة"
وكان فاجنر يعتمد على شيكسبير وكان يرى أنها أفضل أو تجاوز مآسي اليونانيين ذلك لأنها نجحت في التغلب على ضرورة وجودة الكورس.
واعتمد في وضعه لخاتم نبلونج على إكمال النص ثم وضع الموسيقى تدليلاً لنظريته.
وكان فاجنر قد كتب قبل اكتمال العمل في غسق الآلهة تريستان وايزولدة وأساطير الغناء في نومبرج كانت الأوبرتان نتيجة لأعظم الصلات الغرامية في حياة فاجنر الأولى كانت بماتيلدة فيزندونك، فقد كان فاجنر مغرماً بالاستفادة من تجارب لأغراضه الفنية.
ــ وأصبحت الأوبرا تمثل ذروة العمل الفني الرومانتيكي الجديدة كما مثلت نقطة تحول في تاريخ الموسيقى، وكانت وايزولدة تمثل لفاجنر خضوعاً كاملاً للموسيقى كانت وايزولدة أوبرا أوركسترالية انتصرت فيها الموسيقى حيث توقفت الحركة الدرامية الظاهرة لتفسح المجال للموسيقى.
أما أساطين الغناء ففيها عرض فاجنر عصراً من العصور السعيدة القليلة في ألمانيا والذي يمكن اعتباره من أعظم العصور وتظهر فيها بعض الأنغام الجادة، وكانت هذه هي المرة الأولى التي يخلوا فيها عمل من أعمال فاجنر من فكرة الخلاص الرومانتيكية وفيها اقتصر على نهاية سعيدة تم فيها مصالحة كل الأطراف المتخاصمة لأنها كانت في العصر الذي بدأت فيه تظهر بوادر الحرب الفظيعة التي نشبت في القرن التالي.
وأشارت أساطين الغناء بالربط بين عدة موتيفات رمزية تمثل الموضوع وتحقق وحدة بينها وما ظهر فيها من امتزاج بين الجوانب الموضوعية والذاتية وبين العناصر العامة والخاصة. وهي دراما اجتماعية تظهر فيها الخصومة التي يشعر بها الفرسان تجاه البورجوازية ومتطامانها النقابية وتظهر فيها آثار سوء التفاهم بل والعداء برفضه فيها المتعصبون في النقابة انضمام واحد غير طبقتهم لكنه يحتي المجتمع ويعتمد على البورجوازية ويطلع بدور الوسيط رجل مجز ممثل تهم هو هانس زاكس الاسكافي الشاعر وفي الناحية الموسيقية حقق فاجنر غاية ما يستطاع تحقيقه لإظهار فكرة الصراع بين القديم والجديد ترمز بالقديم لأسلوب باخ والكوانترابنط ولم يقلده وتمكن فاجنر بالعودة للماضي من الخريف من أسلوبه وظهر جانب لسخرية الحقيقة في أساطير العناء وفيها انتصر أعظم انتصار قد دلنا مثلاً من النقد الذاتي.
يتميز هذا العمل الذي هو آخر أعمال فاجنر بالمقدرة التي ظهرت في الأسلوب وقد ظهر فيه امتزاج عميق بين أسرار الكنيسة الكاثوليكية وأدق تفاصيل المسرح لكن هذ العمل يجب فهمه على أساس صلته بالأوبرا الرومانتيكية. وتعد (بارسيفال) هي العمل الفني والدرامي المقابل للعديد من المقالات التي نشرها فاجنر خلال الفترة الأخيرة من إقامته في بايرويت، كما تعد واحدة من النماذج التي ختم بها العصر الرومانتيكي. فالحركة التي بدأت تميل للعصور الوسطى وعزلت الفن عن الحياة وأدركت في النهاية أن سبيل الهروب من الحياة من خلال تجربة فنية، وحل الفن محل الحياة والدين.
ــ ولم يكن فاجنر موسيقي رومانتيكي بالمعنى الذي وصفه به معاصروه شوبان وشومان وبرامز، بل إن اعتباره ضمن الثلاثة الرومانتيكيين الجدد برليوز وليست خطأ وإن كان هو نفسه قد أيد هذا الرأي، ذلك لأن موسيقاه ليست من النوع الذي يخاطب المستمع ليسمو به عن طريق الفن إنما بدل من ذلك فهي تحاول أن تهز مشاعره وتسكره لتتغلب عليه وتأسره.
كانت الموسيقى عند فاجنر وسيلة لإدراك غاية، فلا يمكن اعتباره موسيقي فحسب!
ــ إلى جانب ذلك فإن فاجنر في كتابته للدراما لم يقترف سوى أخطاء قليلة والشيء الوحيد عنده الغير محتمل في هذه الناحية هو طول الرواية الذي يدعوا للملل، أما فاجنر المؤلف الموسيقي فقد كان مجرد مؤلف موسيقي روتيني وإنا كان هناك بعض الأشياء المثيرة للدهشة كصغر سنة عند كتابة (زينينزي)
ــ وكان الفن المسرحي ــ الذي قدمه فاجنرــ الأوبرائي وثيق الصلة بولع رومانتيكي صميم عند فاجنر يهدف إلى عرض أحداث القرون الوسطى في القرن العاشر بواسطة الموسيقى، وإذا كان من الممكن اعتبار أوبرا عايدة لفردي المثل الأعلى وذروة ما تعنيه الأوبرا الإيطالية فقد كانت لوهنجرين هي المثل الأعلى للأوبرا الألمانية الرومنتيكية وذروتها، لذلك فإنها لم تكن مصادفة أن أول أوبرا تشق طريقها إلى المسرح الإيطالي هي أوبرا لوهنجرين.
وفي الفترة التي امتدت خمس سنوات ما بين انتهاء فاجنر من لوهنجرين وبين البدء في عمل آخر وهو ذهب الراين كانت هذه الفترة التي مثلت التأمل النظري في حياة فاجنر وبدأت تظهر فيها شخصيته ويظهر تفرده في عالم الموسيقى فأصبح يمثل نفسه وبانت أصالته واعتمد في هذه الفترة على تطوير أسلوبه، ففي هذه الفترة اعتمد فاجنر في أسلوبه على نوع التوالد الداخلي وبدأ تأثره بمعاصريه يقل شيئاً فشيئاً، وقد كان فاجنر من القوة التي جعلته يفرض على عصره لغته الموسيقية الشخصية المغرقة في ذاتيتها على عصره، وإن لم يكن فرضه هذا على العصر برمته، وقد كان أثر فاجنر عالمياً وإن تأخر هذا الأثر لما بعد وفاته. وتحمس له العديدين في إنجلترا منهم هوستن ستيوارت تشامبرلين وباريس العديد من الشعراء والأدباء منهم بودلير الشاعر.
لكن في الحقيقة إن أثره على من جاءوا بعده اقتصر دائماً على إبداعه الموسيقي ففاجنر الموسيقي هو الذي تحقق له الخلود.
في باريس اتبعت الجراند أوبرا الطريق الذي رسم لها بعد ظهور أوبرا خرساء بورتيسي (1828) لأوبير وأوبرا وليم تل (1829) لروسيني وأوبرا (روبير الشيطان) (1831 )
ثم جاءت الأوبرا كوميك واتبعت كذلك نموذج أوبير في أوبرا فرديافولو بعد استحداث تنويعات لها، ومن مؤلفات الأوبرا كوميك (نجمة الشمال ــ 1854) وأيضًا منها الموكب الديني التي كانت تسمى (دينورا) والتي كان بها إحدى السمات الأساسية للأوبرا الإيطالية والفرنسية في العصر الرومانتيكي وهي سمة الجنون. وكانت سمة هذه الأوبرات رومانتيكية ذلك أنها اعتمدت على موضوع تاريخي، تدور أحداثه في أوربا تتحدث عن الخرافة كما احتوت هذه الأوبرات على بعض اللمحات الميلودية والأوركسترالية. وكانت هذه الأوبرات في صورتها الأولى ــ لأوبرا كوميك ــ تضم شذرات من الحوار غير الغنائي ثم تحولت إلى أوبرا بمعنى الكلمة بعد سنة من تأليفها. وكان فاجنر يرى هذه الأوبرا ومقرف ومبتذل.
أما سان صانس الذي قدم أوبرا شمشون ودليلة أن يحسن الاستعادة من الأصول القديمة للأوبرا إلى جانب الأساليب المستحدثة، ويعد أسلوبه يمثل الطابع الفرنسي الرومانتيكي بعني الكلمة.
أما أوبرا كارمن وهي أوبرا رومانتيكية وهي التي قرر نيتشه أن موسيقاها يصح اعتبارها من النوع المقابل لأوبرات فاجنر وقال إنها موسيقى خصبة دقيقة فيها بناء ونظام ثم اكتمال في النهاية. لكن الطابع الرومانتيكي فيها جاء نتيجة لما فيها من ألوان اسبانية، ومكانتها ترجع إلى براعة الهارمونية والترابط بينها وبين الكونترا بونط كما في موسيقى باخ وقد استهوت هذه الأوبرا غير نيتشه يوهان برامز.
كانت إيطاليا أقل البلدان تأثراً بالرومانتيكية ذلك لأنها صاحبة تقاليد عريقة في الأوبرا إلى جانب ذلك كانت هناك ندرة فيها في عالم السيمفونية وموسيقى الصحاب تستحق الذكر ولم يظهر فيها غير أعمال كنسية وكونسرت قليلة جداً فقد كانت الأحوال السياسية قد أحدثت نوع من الاكتفاء الذاتي، رغم ذلك ظهرت الخصائص الرومانتيكية في إيطاليا فقد ظهرت النزعة القومية والاهتمام بها.
من الممكن اعتبار بلليني مع جايتانو دونزيتي ومعهم المئات أتباع لروسيني، وكان بلليني الذي لم يمتد أثره الفني طويلاً لوفاته المبكرة هو الوحيد الذي استطاع منافسة بلليني، وانطبع بلليني بالطابع الرومانتيكي الذي بدأ في موضوعاته التي اختارها. ويرى ألفريد اينشتين أن بلليني: لا يعد مفكراً أو فيلسوفاً كبيراً من النواحي المتعلقة بغايات الأوبرا وأهدافها، فقد كان تلميذاً ضعيفاً في التأليف الموسيقي.
وأبدى فردي رأيه في بلليني وقال: كانت لدى بلليني مواهب غير عادية لا يستطيع أي كونسرفتوار أن يزوده بها وهو يفتقر إلى الخصائص التي كان من الواجب أن تزوده بها الكونسرفتوارت. فقد كان من أعلام الروتنيين في التأليف الأوبرائي، وأوبراته كانت تخلوا من الصقل الفني لكنه في أوبراته فيما بعد أظهر تقدم يدل عل معرفته ونضجه الروحي، وساعد الحظ بلليني في وقت متأخر في أوبرا نورما التي لقيت استحسان الرومانتيكية الألمانية والتي بها أعاد الأوبرا الإيطالية إلى الطريق الصحيح، وقد تركت نورما في الحركة الرومانتيكية أثراً. وكان بلليني يُنتَقَد كونه فقير في التوزيع الأوركسترالي، لكنه رغم ذلك كان غنياً بالمشاعر ويتميز بنوع من السوداوية.
إن كان دونيزيتي الذي كتب ما يزيد على الستين أوبرا مهملاً في عمله وغير طموح وتدفعه الحاجة إلى الإبداع ولم يدفعه الطموح إلا في خلال الفترة التي كانت فيها المنافسة بينه وبين بلليني وتعد أوبرا لوتشيا ديلا ماريمور أفضل أوبرا سيريا ألفها.
وقد ظهر في إبداعه الطابع الشعبي إلى حد بعيد، وندر وجود ميلودية فيها وكذلك ندر وجود أية أغنية لم يظهر فيها طابع العبث وعدم الجدية ولم يكن في أعماله وجود لأي فاصل بين الفنان وبين الجمهور.
وكانت درة إبداعاته (دون باسكولي) وهي أوبرا بوفا بحتة تم تأليفها في ثمانية أيام.
كان فردي هو الموسيقي الذي اكتملت على يديه نهضة الأوبرا الإيطالية، واشترك هو وفاجنر في شيء واحد وهو كونهم متعاصرين وناضل كلا منهما. ففاجنر حارب عصره، أما فردي فناضل لتحقيق مثال نبيل للأوبرا الإيطالية وكان هذا عن دراية تامة بتقاليدها وتطورها فلم يقبلها على علتها. وكان فاجنر متناقض، فهو يزدري الجمهور لكنه رغم ذلك سعى للاستحواذ على قلبه. على عكس فردي الذي تقبل صوت الشعب على أنه صوت الرب وكان يتحمل الصدمات في هدوء، إلى جانب ذلك كان فردي عظيم الانتباه إلى نقاء الطابع الإيطالي في الفن وكان يقدر بيتهوفن تقديراً عميقاً، وكان غير راضٍ عن اعتماد موسيقاه على أي شيء خلاف صدق المشاعر والتزام الأمانة والاستقامة في التعبير بالأنغام.
وكان يغضب عندما يسمع الناس يتكلمون عن الفن على أنه وسيلة ترفيه. وكان طابع أوبراته هو البساطة والصدق وعدم التكلف، ولم يكن فردي يعنى بالوسط الذي يحيط بالإنسان في أوبراته باستثناء أوبرا عايدة.
كان فردي على عكس فاجنر يعتمد على طائفة من كتاب النص الذين اتصفوا بطابعهم الروتيني، وكان قلما يرضى عما كتبوا رضاءاً تاماً وغالباً ما كان يوجههم في تصميم المشاهد بل وفي كتابة الشعر أيضاً وكان له طريقة منضبطة يعتمدها دائماً. وكان كل شيء في أوبراته يتبع نظاماً منضبطاً إلا أن صراحة ضميره الفني في مسائل الدراما جعلت هذه المصادر الروتينية التقليدية تختفي.
ــ وعلى الرغم من أن حياته من الممكن اعتبارها وحدة لا تتجزأ لكن من الممكن تقسيمها إلى عهود متعددة أول فتراتها هي التي تبدأ بأوبرا (الكونت سان بونيفاشيو) وتمتد إلى أوبرا استيفليو 1850 فيها ظهر فردي محاولاً تقليد معاصرين الفترة الثانية تضمنت الأوبرات الثلاثة (ريجوليتو) (والتروفاتوري) (ولاترافيا) وهي ما جعلته أكثر الموسيقيين الإيطاليين شعبية وألف في هذه الفترة نوعاً من الموسيقى وصفه بيتر جاست بأنه: (هراء يصدر عن الأرغن اليدوي يديره المتسولون بالموسيقى) وتبدأ الفترة الثالثة عندما اهتم فردي بالجراند أوبرا ثم انتهت بأوبرا عايدة أكثر فترة اتصفت بالطابع الإيطالي وآخر فترات حياته الفنية وفترة أخرى وهي التي اهتم فيها بعطيل وفالستاف من شكسيبر فكانت حياته تعد اتجاهاً تقدمياً مستمر فكانت حياته الفنية مستقيمة بلا اعوجاج.
وفي أعمال فردي _خاصة الأخيرة منها كانت هناك فواصل زمنية تفصل بين العروض الأولى للأوبرا المختلفة وزادت العناية بالإخراج. وكانت وكان أن ساعدت الأوبرا الشعبية على تدعيم مكانته، وكان نتيجة لذلك أن كُلف بتأليف أوبراتين لباريس هما (مذبحة صقلية) التي ترجمها بنفسه إلى وكانت الثانية (دون كارلوس).
وكانت أوبرا عايدة وظهورها بعد رحلة طويلة في عالم الأوبرا كالأوبرات الثلاثة التي سبقتها (سيمون بوكانجرا) و(الحفلة التنكرية) و(قوة القدر) هي المرحلة الثالثة من مراحل إبداعه الفني وهي أوبرا كتبت لمناسبة خاصة وهي افتتاح قناة السويس ولم يقبل بعد هذه الرحلة التي ملأت الأفاق النص على علاته إنما تدخل في كتابته من حيث البناء والتفاصيل وكان بها آريات شاعرية ومشاهد مفعمة بالموسيقى ويبدو أن الفكرة الكامنة في الأوبرا الإيطالية لم تتحقق في أي أ,برا أخرى في صورة أفضل مما تحققت بها.
كانتا هاتين الأوبراتين هما آخر أعمال فيردي وبدونهما لن تكتمل الصورة ففيهما رجع إلى شكسبير وأرد أن يقدم الملك لير كأوبرا لكنه لم يجد المغنيين اللائقين لأدوار الدراما لأنه كان يرى أنهم يجب أن يكونوا بارعين في الغناء وحده وإنما في الأداء لأن براعتهم في الفن وحدها لا تكفي كما يقول.
وبالعمل مع أريجو بويتو وجد ضالته ووجد أنسب شريك له في هذه المهمة. والذي ظل وسيظل أخلد أثر تركه بويتو في الموسيقى هو قيامه بإعداد نصين أوبرائيين من روايتين لشكسبير أحدهما تراجيديا والأخرى كوميديا استجابة لرغب فردي وقد حافظ في عطيل على طابعه ــ فردي ــ وعلى الطابع الأوبرائي الإيطالي. وظل للغانء الغلبة على الأوركسترا إلا أنه لم يعد يتجه للناحية الميلودية المتفجرة بقدر اتجاهه إلى التعبير الصادق وأهم ما ظهر في تعابير فيردي الموسيقي المتقدم في السن هي القوة والنقاء.
لتكتمل صورة تطور الأوبرا في القرن التاسع عشر لا بد أن تتحكم عن نوع آخر من الأوبرا كان من نتاج العصر الرومانتيكي ذلك أنه لم يكن معروف في العصور السابقة وهو (الأوبريتا أو الأوبرابوف) وهو ينسب إلى أوفيناخ، ففي بداية القرن التاسع عشر زادت النزعة الرومانتيكية والميل إلى العاطفة والتعلق بالتاريخ والحكاية الخرافية واقتربت هذه الاتجاهات النقدية الساخرة من الأوبرا الجادة وابتعادها عن الأوبرا كوميك وساعد ذلك الاستبداد السياسي في إلإإيطاليا الذي قمع الميول الساخرة في الأوبرايوفا قمعاً تاماً واستقت الأوبريتا في القرن التاسع عشر عناصرها من الزيتشجبيل الشعبية الفيناوية وكوميديا العمال في برلين بأغانيها العرضية البسيطة وفن الأوبرا كوميك بشكل خاص وفي عام 1856 أصدر أوفيناخ نشرة حاول فيها تحديد الأسس التي اعتمد عليها
ــ وكان أوفيناخ يريد من وراء ذلك إحياء نوع من المرح الخفيف من التي ظهرت في أوائل عهد الأوبرا كوميك.
ــ وكان أوفيناخ شخصية جديرة بالتأمل فهو ابن موسيقي يهودي متجول يدعي ايزاك يودا ايرست من بلدة أوفيناخ على نهر الماين وكان يقتات من العزف في المعابد اليهودية وقاعات الرقص وبعد ميلاد جاك أظهر نبوغاً منذ طفولته في عزف التشيلو وألحقه أبوه بالكونسرفتوار، بدأ حياته الإبداعية بتاأليف فالسات ورومانسات ومقطوعات للصالون تعزف على التشيلو والبيانو، كتب أكثر هذه المقطوعات بالاشتراك مع فلوتو وكانت محاولاته الأولى للمسرح عن طريق تلحين فودفيل اسمه (باسكال وشامبور) لكنه لم يلقى نجاحاً، إلا أن أوفيناخ لم يكن صاحب دعوة فلم يكن يعني بالنقد وكان بالنسبة له وسيلة للترفيه والتسلية وأماط أوفيناخ بأعماله اللثام عن الفساد الذي ساد عصر الإمبراطورية الثانية لنابليون الثالث، وكانت أوبريتاته وموسيقاه تحمل إشارات إلى الأحداث المعاصرة، ويمكن القول أن أوفيناخ يتميز في أعماله الهامة بالقدرة الدرامية والبراعة في صياغة الألحان ذلك إذا استبعدنا باليهاته التافهة والمقدمات التي يستدل في أداءها مئات ومئات من الأشخاص وكذلك الطورليات الموسيقية.
ولقد أثنى عليه نيتشه في رسالة بعت بها إلى صديقه المؤلف الموسيقي بيتر جاست 21 مارس 1888 حيث استمع إلى ثلاث مقطوعات وهم الغراندوقة ولا بيركول وابنة حامل النقرزان
وقد كان أرثر سوليفان الخليفة الحق لأوفيناخ فاستقل عن كل تأثر سواء من أوفيناخ أو من الدراسة ولحسن حظه التقى بكاتب نص جيد هو جلبرت وحاول مثل أوفيناخ في نهاية حياته تأليف أوبرا رومانتيكية (ايفانهو ــ 1891) وتشابهت أوبراته مع أوبرات أوفيناخ.
اتجهت الأمم في القرن السادس عشر إلى تدعيم وتقوية طابعها القومي، وتميز الأسلوب القومي الذي استحدث في إيطاليا بسحره وروعته وظهر شكل من أشكال الموسيقى بملامح إيطالية، وكان ظهور الطابع الموسيقي القومي في الموسيقى الدنيوية أكبر منه في الدينية فاحتفظت القداسات والموتيتات والتراتيل بخصائص دولية لكن من الممكن القول: أن هذا الطابع القومي الذي بدأ ينتشر لم يكن رائجاً لندرة وجود أي فوارق أو حدود خاصة في أشكال موسيقى الآلات، إلا أنه ومع بداية القرن السابع عشر تغيرت هذه الفكرة وبدأت تظهر اتجاهات قومية تزعمتها إيطاليا وفرنسا ولم يكن لإسبانيا دور وكذلك ألمانيا بسبب النزاعات والحرب لم يظهر لها طابع مستقل إلا في موسيقى الكنيسة وموسيقى الأرغن، وكانت إيطاليا هي المتزعمة للموسيقى الأوربية بفضل اكتشاف الأسلوب المونودي واستخدامه في الموسيقى والأوبرا.
وفي بداية القرن الثامن عشر لم تعترف أوربا بغير دولتين موسيقيتين هما إيطاليا وفرنسا لكن في عام 1750 تغيرت الأحوال فظهر إلى جانب هاتين الدولتين الموسيقيتين دولة أخرى وهي ألمانيا ويرجع الفضل في ذلك إلى شخصيات قليلة قوية وإلى الكثير من صغار مؤلفي الموسيقى الذين وهبوا أنفسهم لموسيقى الآلات وكان الفضل الأكبر لوضع الموسيقى الألمانية لثلاثة ليوسف هايدن، وموتسارت، وبيتهوفن.
تظهر الصلة بين القومية والرومانتيكية عند الشعب التشيكي في بوهيميا الذي لم له قبل العصر الرومانتيكي أية موسيقى صميمة حتى وإن تمتعوا بوفرة في الموسيقيين البوهيميين كان الحافز الفني الذي ألهب الشعور القومي عند التشيكيين في الأدب بتأثير من كتابات (هردر) والرومانتيكيين الألمان، وقد ظهرت أول مجموعة أغاني شعبية تشيكية إلى الوجود في العشرينات وفي عام 1826 عرضت أول أوبرا تشيكية على المسرح وهي (الكمسري) من تأليف فرانس شكروب (1801ــ 1862) وبعدها قام بتأليف أوبراتين أخريين.
وظهرت الشخصية في الموسيقى التشيكية (أو الاستقلال والوضوح) بعد ظهور بدريش سميتانا
وقد فرض سميتانا طابعه القومي على أبناء بلدة بعد كفاح مع الرجعيين من النقاد، أما الذي جعله موسيقي قومي تشيكياً هو أنه لم يكن من الفنانين الذين التزموا حدود وطنهم بل أصبح موسيقياً أوروبياً، وكانت شهرته القومية ترتكن على أوبراته وقصائده السيمفونية، وكان في تأليفه الموسيقي لم يكن يقدر على تأليف أي موسيقى مستوحاة من الشعر، ولم يكن رغم ذلك صاحب قدرة إبداعية أصيلة في موسيقى الصحاب، وكانت أعماله ذات روح تشيكية، أما ما جعله موسيقياً قومياً هو أنه لم يكتفي بكونه تشيكياً بل لأنه كان موسيقياً أوربياً لم يلتزم بحدود وطنه.
ــ ولم تكن الروح التشيكية تتلخص في مجرد رأي أو قناع شعبي غرضه التخفي أو نزعة سيكولوجية لذلك حققت نموذج مثالي للأوبرا الشعبية المرحة التي لا يكاد يوجد لها مثال سابق. وقد اقتدى في كتابته للسيمفونية ولو صح اعتباره من أتباع ليست فمن الممكن أيضاً اعتبار دفورجاك من أبتاع برامز وإن كان بعد ذلك قد استطاع تجاوزه وكان دفور جاك يستوحي في رقصاته من الرقصات الشعبية الصقلبية والأغاني الشعبية لكنه عبر عن ذاته من خلال الأغاني وأغاني الكورال ويعد دفور جاك شريك لسميتانا في إنشاء الموسيقى التشيكية.
كان الاتجاه الرومانتيكي حديث عهد فقد ظهر بها متأخراً، إلا أنها تحتل مكانة مرموقة واختلف استقبال هذه الروح داخلها ما بين قابل على علاتها ورافض بالكلية وبين متوسط بين بين، هذا وإن كان الفريق الأول يكتب له الدوام، وكانت التربة التي استقبلته هذه الروح مكونة من عنصرين الأول: تراث كبير منوع من الألحان الشعبية وطقوس ترجع لعصور قديمة كالعصر البيزنطي، وفي الربع الأول من القرن التاسع عشر قام كل من كلمنتي وجون فيلد بعرض مواهبهم الفرتيوزية وكان القيصر قد أغلق الباب أمام الأوبرا الإيطالية فترة قصيرة سرعان ما فتح الأبواب ثانية وقد كان كاتيرينو كافوس (1776 ــ 1840) مدير الأوبر الإمبراطورية وكان من فنيسيا واستطاع تزويد فرق الأوبرا في بطرسبرج سواء الإيطالية أو الفرنسية بل وحتى الروسية بالموسيقى المطلوبة. لكن تحمس الروس للموسيقى الإيطالية لا يمكن أخذه على عجز الروس أو قدرتهم على تقبل أي شيء غريب عنهم، إنما ذلك يرجع 1إلى تشابه في الولع بالنواحي الحسية أو إلى شوق أهل الشمال بالتزود بشيء من خصائص الجنوب وهي نزعة رومانتيكية إلا أن أليكسيس نيقولفيتش فيرستوفسكي قد ألف أوبرات ست رومانتيكية كان منها (بان تفار دوفسكي) (وفاديم) و اثنتا عشرة عذراء نائمة 1832 وفبراسكولد 1835 وهي أهمهم وكانت عظيمة التـأثير على الأجيال التالية، هذا إلا أن المنشئ الحقيقي للموسيقى القومية الروسية هو ميخائيل إيفانوفيتش جلينكا صاحب أوبرا حياة من أجل القيصر. وإن كان قد بدأ هاوياً ويتشابه جلينكا مع سميتانا في حرصه على الإحاطة بكل ما يجري في أوربا من ناحية الموسيقى وإن لم يشعر بأي ميل إلى للاستسلام كلية للموسيقى الأوربية، وأوبرا حياة من أجل القيصر وأوبرا رسلان وليودميلا كان بهما ثمة تفكك فلم تزيدا على كونهما سلسلة صور متألقة وتشابهت الأوبراتان في مشاهدهما القومية والمحلية ففي رسلان وليودميلا نجح جلينكا بالفعل في اكتشاف الطابع الروسي الشرقي واستطاع تجسيمه في أنغام بدا فيها أعظم جانب من السحر والرقة
ــ ما قام به جلينكا والأجيال المتأخرة مهد الطريق لحدوث تغير في الموسيقى جاء هذا التغيير على يد (ألكسندر سرجيفتش دارجوميسكي) وهو وإن كان هاوٍ إلا أنه قام بدور كبير في تاريخ الموسيقى الروسية. وكان قد تقابل مع جلينكا وأعطاه المذكرات التي حصل عليها أثناء زيارته وكانت هي المصدر الوحيد الذي تعلم منه دارجوميسكي فن التأليف الموسيقي وكان على عكس جلينكا المتعدد المواهب، كان دراجوميسكي ينحصر في تلحين الكلام
ــ رغم ذلك كانت آثار الموسيقى الغربية في إبداعه هينة، وفي عام 1855 صنع من أحد نصوص بوشكين أوبرا سالكا والتي يمكن اعتبارها أوبرا رومانتيكية فموضوعها يتشابه مع أوندين الذي حوله كلا من هوفمان ولورتيسنج إلى أوبرا
وكان بيت دارجوميسكي في عام 1859 موضع لقاء العديد من الموسيقيين الشبان الذين مثلوا الموسيقى القومية في الجيل التالي.
ــ ولعل أفضل من يعبر عن الحركة الرومانتيكية وشبابها هي أعمال المؤالف (بورودين) وإن كانت أعمال قليلة، كان بوردين ابن غير شرعي لأمير كرجي من روسيا وكان ذا طابع مرح وكانت تعيقه الكثير من الأشياء عن تأليف الموسيقى ولم يكن يكمل عمله إلا قسراً ولا تزيد أعماله عن سيمفونيتين وقصيدة سيمفونية واحدة ورباعيتين وتريتين وأوبرا واحدة، وكانت موسيقاه بها بعض التأثر بمن سبقه من بيتهوفن وبرامز وإن كانت امتزجت بتعابيره التي تعبر عن شخصيته. لكن عظمة بورودين الموسيقية تظهر بوضوح في الأوبرا التي يتمها والتي أكلمها ريمسكي، وكان مورسورجيسكي أكثر أفراد هذه الجماعة أصالة فهو لم يخرج خارج روسيا إلا إلى الجنوب وعاش حياة قصيرة امتازت ببوهيمية ولولا أصدقائه الذين كانوا يتشاركون معه الفرقة لما بقيت أعماله وأفضل هذه الأعمال كانت الأغاني والأوبرات وأقلها قصيدة سيمفونية بعنوان (ليلة فوق الجبل الأجرد) وصور في معرض للبيانو وتميزت الأساليب الموسيقية التي لجأ إليها مورسورجسكي في رسم الشخصيات بفطريتها وإدراكها معاً. وكان يرى أن الفن يبغي تحقيق صلة بين البشر وهو ليس غاية في ذاته. وقد جاءت رومانتيكيته من أن فنه يتجه إلى الناس ــ أما آخر المنتمين إلى جماعة الخمس هو نيقولاي ريمسكي كان هو الوحيد بين أفراد المجموعة الذي شعر بالحاجة إلى الإحاطة بكل النواحي التقنية والتعليمية في التأليف الموسيقي. ولم يلجأ كورساكوف إلى الأساطير الروسية إنما لجأ إلى الحواديت الروسية الخرافية وكان من أعظم أعلام التلوين الأوركسترالي
ــ وكان تشايكوفسكي بعيداً عن جماعة الخمس وإن ظلت علاقته طيبة بهم واختلف تشايكوفسكي عن جماعة الخمس واتجهت أعماله إلى المؤلفات السيمفونية لا المصنفات الغنائية وكتب إلى جانب هذا افتتاحيات وقصائد سيمفونية، ولكنه كان أساساً من كتاب الموسيقى البحتة، وكان يميل إلى المبالغة والتضخيم في الأشياء وهذا من اعراض الرومانتيكية.
كانت ملامح القومية في الموسيقى في بلدان الشمال ضعيفة تكاد تتقدم وأخص بلدان الشمال كانت الدنمارك التي استمدت أكبر جانب من قوتها الدافعة من الموسيقي الألمانية وكان شيوخ الموسيقي النماركية من مواليد ألمانية لكن هذا لم يمنع من أن يقوموا بتمجيد الأغاني الشعبية الدنماركية في أغانيها وأوبريتاتهم، كان الطريق سهلاً أمام الرومانتيكية في جميع البلدان خصوصاً المسرح الذي بفضل مجموعات الأغاني الشعبية التي تنتمي إلى التراث القومي وأفضل هذه المجموعات كتبها أحد الدنماركيين الأصالى وهو برججرين تلميذ فايزة وأستاذه نيلسن جاده أحد الموسيقيين الدنماركيين القوميين، وكان مؤسس الحركة الرومانتيكية في الدنمارك هو يوهان بيتراميليوس هارتمان (1805 ــ 1900) بل في كل اسكندناوه وقد نشأ هارتمان نشأة وفق الأسس الألمانية إلا أنه تأثر ببعض المؤثرات الفرنسية كما تأثر بالمؤثرات الإيطالية.
ــ وكان نيلسن جادة الذي ينتمي إلى جماعة الرومانتيكيين الألمان الذي كتب ما لا يقل عن ثماني سيمفونيات والذي في بالاداته وكانتاتاته قد تأثر بشومان وفي موسيقى الصحاب وموسيقاه الذي ألفها للبيانو وكان متأثراً بمندلسون وهو من الكلاسيكيين الذين تبدو في موسيقاهم بعض ألوان رومانتيكية.
ــ أما السويد فقد بدأت تاريخها الموسيقي أيضاً متأثراً بألمانيا والفرق بينمها في أن السويد في القرن الثامن عشر قد أنجبت مؤلفاً وطنياً هو يوهان هلمينج رومان (1694 ــ 1767) والذي كان يلحن موسيقاه الكنسية والاحتفالية على النهج الإيطالي ويرجع ذلك إلى تأثره بهندل
ــ والحركة الرومانتيكية في السويد كانت قد بدأت بجمع تراث الأغاني من الشعبية من النفائس القومية القديمة وهي أغاني ذات طابع راقص فياضة بالمشاعر فكانت الأغاني هي أول نشاط إبداعي في السويد والأناشيد الكورالية التي اشتهر بها أودولف فريدريخ ليندبلاد لكن الأوبرا لم تعرف أي اتجاه قومي حتى جاء ايفار هالستروم (1826 ــ 1901) والذي التزم في أوبراته بالموضوعات القومية لكنه رغم ذلك كان مؤلف أوبرا يفتقر إلى الناحية الدرامية.
ــ والنرويج هي آخر دولة في شبه الجزيرة الاسكندنافية تنضم إلى الأمم الموسيقية ففي بداية القرن التاسع عشر كمان النرويجيين يستمدون موسيقاهم الدينية من عازفوا الأرغن والدنيوية من موسيقيوا المدن ومن أوائل الموسيقيين الذين جاءوا بألحان قومية فالديمارتران (1790ــ 1828)
وأيضاً هالفدان شيرولف (1815 ــ 1863) وكان أكثر الموسيقيين النرويجيين القوميين أصالة ريكارد نوردروك (1842 ــ 1866) مؤلف النشيد النرويجي وأيضاً إدفار جريج (1843 ــ 1907) الذي وإن لم يكن الطابع النرويجي عنده نقي مائة في المائة إذا كان جده الأعلى اسكتلندياً لكن الطابع النرويجي واضح في موسيقاه وكان جريج من مؤلفي المنمنمات وكان يتبع فيها الشكل الكلاسيكي
ــ لكن فنلندة ففي تطورها الموسيقي كانت تقف بين السويد وروسيا وكانت فنلندة تمتلك ملحمة عريقة في القدم هي الكاليفالا التي ترتل في إيقاع ذي نبر خماسي وعرفت كل الأسس والتطورات التي مرت بها جيرانها ومن السخرية أن فريدريك بابسيوس منشئ الموسيقى القومية الفنلندية القومية من مواليد همبورج، لكن أول موسيقي عبر عن روح فنلندة هو روبرت كايانوس، ولقد ألف قصائد سيمفونية ومتتالية أوركسترالية ورابسوديات فنلندية، وكان من أعظم موسيقي فنلندي هو يان سيليوس وهو وإن كان بدأ موسيقي قومي رومانتيكي إلا أنه اقترب من تشايكوفسكي وهو وإن جاء متأخراً على الرومانتيكية إلا أن رومانتيكيته ثبتت.
في القرن التاسع عشر كانت هناك أمم أخرى في أوربا قد عبرت عن نفسها في عالم الموسيقى وكان الاتجاه القومي يستمد قوته من وجود أصحاب الشخصيات البارزة التي تظهر في ذلك الوقت أما في هولندا فلم يكن هناك ظهور واضح للاتجاه القومي في أي وقت من الأوقات على الرغم من التراث الهائل من الألحان الهولندية القديمة. وفي بداية القرن التاسع عشر وجد موسيقي عظيم وكان معلم أجيال بيترزون شيلنك إلا أنه سرعان تدهورت بعده الموسيقى بعد ذلك ظهر موسيقي وطني عظيم وهو جان برتيلمان (1782ــ 1845) لم يقتصر عمله على موسيقى الصحاب إنما كتب أيضاً قداساً جنائزياً.
أما الجيل الذي تلا ذلك فقد خضع خضوعاً كاملاً لتأثير الرومانتيكية الألمانية أو رومانتيكية لايبزج بمعنى أصح وكان الداعي له يوهان فرهولست.
إلى نهاية القرن السادس عشر كان الموسيقيون في بلجيكا ينشرون الموسيقي الإيطالية، كان من هؤلاء فيلارت من بروج ولاسوس من مونز وغيرهم وكما أنه لا يوجد في هولندا موسيقي مماثل في قيمته قيمة رامبرانت في التصوير، كذلك لم يكن هناك أي موسيقي جدير بأن يوضع إلى جانب المصور روبنز، والموسيقي الوحيد الذي له مكانة هو هنري دو مون الذي كان يعمل موسيقي للكنيسة في بلاط الملك لويس الرابع عشر واللحظة التي يمكن أن يصح إطلاقنا عليها التي يوجد فيها فن بلجيكي حقيقي كانت في حوالي 1830 وذلك بفضل الحركة الثورية التي انتهت بإنشاء دولة بلجيكية يحكمها ملك، وقد كان الأثر القومي ضئيل، يدلنا على لك لو رجعنا إلى سيزار فرانك الموسيقار المولود في ليبج الذي يعد أمره مُحير هل هو من الفالونيين كما يظهر من محل ميلاده؟ أم هو ألماني كما يتضح من انتماؤه لسلالة الراين؟ أم هو بلجيكي لأنه أهدى أول أعماله إلى أول ملك للبلجكيين؟ هذا إلى جانب ذهابه إلى باريس وإنشاؤه لمدرسة موسيقية بها؟
ـ بغض النظر عن تصنيفه، إلا أن أهميته تنبع من مؤلفاته العديدة التي كتبها لموسيقى الآلات. وكان فرانك مولع بباخ وبيتهوفن وبأغاني شوبرت، لكنه من أبناء القرن التاسع عشر، وقد رحب بأسلوبه _القرن التاسع عشر_ المصقول وبالتوتر الذي ساد هارمونياته. وكان يربط بين أسلوبه البوليفوني وأسلوبه الهارموني، وقدم العديد من الروائع، إلا أنه رغم ذلك قد ساير عصره وألف مقطوعات تافهة ظهر فيها فساد الذوق.
أما الموسيقى التي أطلق عليها موسيقى هنجارية ــ في القرن التاسع عشرــ كانت عبارة عن الأعمال التي قام بعزفها الموسيقيون الشعبيون وتميزت هذه المقطوعات بالتلاعب في إطالة الأنغام وتقصيرها دون إخلال بالإيقاع، وقد قام الغجر بإجراء تحولات ومبالغات في هذه الموسيقى حتى أوصلوها إلى ما يشبه الكاريكاتور.
ــ وكان (روبرت فولكمان ــ 1815 ــ 1883) الذي استوطن هنجاريا وهو أصلاً من لوتش بسكسونيا وكان من المتحمسين للحركة الرومانتيكية وكان إلى حد ما من أتباع شومان وقد كتب موسيقى أوركسترالية وموسيقى الصحاب تميزت بطابعها الرومانتيكي يتضح منها أن الموسيقيين الوطنيين لم يشعروا بوجود صعوبة تحول دون قيامهم بإنشاء موسيقة قومية وفي عالم السيمفونية نجد ميشيل براند (1814 ــ 1870) الذي كان يكتب تحت اسم (موزوني) يصمم على استخدام لهجة قومية في سيمفونياته، وفي عالم الأوبرا نجد فرانس إركل (1810 ــ 1893) مؤلف النشيد الوطني يولف أوبرتان هنجاريتان تمثلان الطابع القومي.
كان الوضع في بولندا كهنجاريا فلم ينجح أي موسيقي بولاندي لاحق ــ كما فعل شوبان ــ في أن يرفع القومية ويجعلها لغة عالمية وقد كان ستانسلو مونيوشيكو (1819 ــ 1872) خلق فن الغناء البولاندي والأوبرا البولندية. وقام هو ومن بعده بالنهوض بالحياة الموسيقية في ببولندا ، من ناحيتي التأليف والأداء.
كانت الحركة الرومانتيكية كاتجاه تخص منطقة الشمال، ولم تزد الحركة الرومانتيكية في إسبانيا على كونها اتجاه قومي من علامات الوعي بالذات، كانت غايته هو صبغ الموسيقى بصبغة قومية ذلك لأن إسبانيا احتفظت على الدوام بآثارها وتراثها الموسيقي العريق، وكانت هناك بوادر لصبغ الموسيقى الإسبانية بصبغة إيطالية، اكتمل هذا التأثر بالطابع الإيطالي بعد دخول أسرة البوربون مدريد في عام 1700 وإن ظلت الروح القومية كامنة، وانقلب بعض المؤلفين إلى مؤلفين ذات طابع إيطالي، إلا أن دومنيكو سكارلاتي قد تأثر بالموسيقى الإسبانية وهي ما تشبع بها فيما بعد تلميذه سولير (1729 ــ 1873) وكانت الدراما هي الوسيط الفني التي لجأت إليه إسبانيا للتعبير عن طابعها القومي. وكان أشهر موسيقي إسباني عُرف هو روسيني، وكانت أهم الأعمال التي عبرت عن الاتجاه القومي هي رواية من فصل واحد تسمى (الخطيبة والكونسرت ــ 1839) وأخرى من ثلاث فصول تسمى (المهرب ــ 1889)
أما في البرتغال وإن كانت توقفت صلتها بإسبانيا إلا أنها في ظل الحكم الملكي في نهاية القرن السادس عشر وبداية القرن السابع عشر فقد فيها (دوراتي لوبوفي) في عالم الغناء و (مانويل كولهو) في عالم موسيقى الآلات وكان من الممكن قيام نهضة قومية لولا تهدم المكتبة الكبرى من آثار زلزال 1755 أما في القرن الثامن عشر فقد ساد الطابع الإيطالي. أما اختلافها عن إسبانيا فقد كان بسبب ظهور مؤلف موسيقي الآلات (دومنجو بومتميو ــ 1775 ــ 1842) الذي كان قد تعلم في إيطاليا وباريس ولندن وسار على نهج هايدن وموتسارت في مؤلفاته السيمفونية وموسيقى الصحاب.
وكان قد سبق الوعي الموسيقي القومي حركة لجمع الأغاني الشعبية في سائر أنحاء البرتغال، أما جيل الموسيقيين الأكثر وعياً بالاتجاه القومي فلم يظهر للوجود إلا في أعقاب العصر الرومانتيكي.
أما في الولايات المتحدة الأمريكية فلم يكن هناك وجود لأي حركة رومانتيكية موحدة، ولا وجود لأي موسيقى قومية كبيرة، ربما كان ذلك نتيجة لحداثة الدولة، وقد كان الهنود الحمر في عزلة عن التيارات الحضارية لحرصهم على المحافظة على طابعهم، لكن أنغامهم رغم ذلك جمعت واعتمد عليها موسيقيين في إنشاء موسيقى على الطريقة الأوربية الغربية وكانت من هؤلاء الموسيقيين فيليب هينريخ، ورغن أن الزنوج ليسوا من السكان الأصليين إلا أنهم أثبتوا موهبتهم في التأليف الموسيقي وكانت الأغاني في هذا الوقت تعتبر من دلائل الحركة الرومانتيكية في أمريكا.
ــ وفي شمال شرق الولايات المتحدة الأمريكية الذي كان ذوقه أميل إلى الموسيقى الإنجليزية فقد ظهرت فيه موسيقى رومانتيكية من أصل وطبيعة مختلفة.
وفي العصر الرومانتيكي لم يعد الموسيقيون الأمريكيون قادرين على الاحتفاظ باستقلال حتى في الأداء الموسيقي، ففي نهاية العصر زاد التأثر بفاجنر بدلاً من مندلسون وشومان، وعلى عكس الدول الغربية القوية التي اضطرت بسبب تعداد السكان إلى محاولة خلق وحدة فنية، كانت أوربا مضطرة بتأثير الرومانتيكية إلى زيادة الحدود القومية في مسائل وحدة الموسيقى فلم يعد هناك بلد صغير لا يعبر عن روحه القومية من خلال الموسيقى.
في القرن التاسع عشر تغيرت الأحوال عن سابقه، ففي السابق كان الفلاسفة قد حددوا للموسيقى أدني منزلة في سلم الفنون، واقتصرت أغراضها على التعبديات الكنسية وبصورة عرضية على الصلات الاجتماعية الدالة على التحضر، ذلك لأنهم كانوا يخشون أثرها الحسي أو تأثيرها في الإغواء. وقد اعترف كانط بقدرة الموسيقى على تحريك الروح في جملة صور متنوعة، بل اعترف بأن أثرها يفوق أثر الشعر بذاته ورأى فيها أنها متعة أكثر منها شيء ينمي العقل ومن ناحية قيمتها للعقل فهي أقل قيمة من باقي الفنون، وتأثر كانط أيضاً بنظرية (المدلولات الانفعالية) التي كانت سائدة في عصره والتي كانت تقول: إن جوهر الموسيقى يكمن في القدرة على محاكاة تقلبات الروح المختلفة والتي كانت ذات أصل يوناني.
لكن كانط وإن اعترف بالموسيقى كفن ووسيلة لنقل الأفكار الاستاطيقية إلا أنه استهان بمرتبتها بين الفنون الأخرى وهذا النوع من الاستاطيقا لم يُرى في موسيقى الآلات أكثر من لعب، ولا تزيد قيمتها على نقوش الأربيسك واتفق كانط مع روسو الذي تضمن رأيه أيضاً انتقاص من قدر الموسيقى. وقد كانت موسيقى الآلات عند روسو كما كانت عند كانط ذات أهمية ثانوية، لكن يوهان هردر (1744 ــ 1803) الذي كان في البداية نصير لروسو، إلا أنه فيما بعد قد وصف الموسيقى بأنها تمثل صراعاً عاطفياً ينتهي نهاية موفقة بعد أعنف صورة من صور الصراع.
كان لفلاسفة وكُتاب العصر الرومانتيكي أراء في الموسيقى، فشلنج كان يرى أنها ــ الموسيقى ــ فن تجرد من أية طبيعة مادية، فهو محمل على أجنحة خفيفة، تكاد تكون روحية. وهذه الفكرة أدت إلى القول بأن الموسيقى المثالية لا تسمع لأنها لا حسية وتتجاوز الحس. وعلى العكس من ذلك رأي العالم الدنماركي هانس كريستان أوريستد (1771 ــ 1851) فقد وصفها بأنها شيء حسي مصدره إلهام روحي وكان من مظاهر الرومانتيكية في فلسفته أنه كان يرى أن ما تحدثه الموسيقى في النفس من إثارة ليست وليدة تأمل واعي بل هي شيء يحدث في مجاهل اللاوعي.
أما هيجل ففي محاضراته عن الاستاطيقا رأى أنها ((فن المشاعر وتقلبات الروح ومهمتها لا تقتصر على إعادة بعث الناحية الموضوعية في الحياة ... فإنها على العكس من ذلك تمثل سبل استثارة أعماق الإنسان، المترتبة على طبيعته الذاتية وروحه المثالية.))
ــ أما شوبنهاور فقد كان يرى أن الكلمات (مجرد إضافة دخيلة ولها قيمة ثانوية) ورأى أن الموسيقى حقها أن توجد وحدها مستقلة استقلالاً تاماً عن النص وعن الحركة في المسرحية في الأوبرا ورأى أن قدرتها على التأثير تتكشف على أكمل وجه في عروض موسيقى الآلات البحتة.
ــ واتجه آخرين منهم أوجست كاليرت أستاذ الفلسفة بجامعة برسلاو في كتابه
(مذهب الاستاطيقا ــ 1864) إلى اعتبار موسيقى الآلات البحتة أكثر السبل الفنية فاعلية في التعبير عن أشياء ساكنة في أعماق الروح لم يتم التعبير عنها. لكن فلاسفة القرن التاسع عشر الذي تميزوا به هو إجماعهم على زيادة إعلاء شأن الموسيقى.
أما إنجلترا فقد نظرت إلى الموسيقى في القرن الثامن عشر نظرة حسية وقد تحقق نصر مين على يد الفيلسوف هربرت سبنسر في مقال (في أصل الموسيقى ووظيفتها 1857) يقول: ينبغي أن تحتل الموسيقى أسمى مكانة بين الفنون الرفيعة وذلك بوصفها أكثر الفنون مشاركة في صالح البشر وبغض النظر عن السرور الفوري الذي تزودنابه الموسيقى داوماً، فإننا نستطيع أن نثني على التقدم الكبير الذي أحرزته والذي أصبح يعد ممن مميزات عصرنا.
كذلك تحقق نصر أيضاً على يد جيمس سالي في كتابه الإحساس والحدس دراسات في علم النفس والاستاطيقا 1874، وبذلك يتضح أنه كان من بين السمات التي تميزت بها الحركة الرومانتيكية إعلاؤها من شأن الموسيقى باعتبارها أكثر الفنون إثارة وبذلك يعد فاجنر زعيم الرومانتيكية فلم يكن هناك وجود لأي موسيقي تضاهي موسيقاه من حيث إثارتها وانغماسها في الملذات الحسية.
كان الاتجاه الرومانتيكي ميالاً إلى إزالة الفواصل بين الفنون وأظهر صورة لذلك نجدها عند الشعراء والفلاسفة وقد اعتبر هردر ــ وإن كان قد اعترف بقيمة موسيقى الآلات ــ أن وحدة الشعر والموسيقى ذروة الفن. أما يوسف برجلينجر فقد اعترف أن الموسيقى الدينية أو موسيقى الكنيسة هي ذروة كل الفنون. ولم تكن إزالى الفواصل بين الدين والفن والفكر والشعر فقط فلقد دعا أوجست فيلهلم شليجل إلى التقاء بين الفنون فالتماثيل ينبغي أن تدب فيها الحياة وأن تتحول إلى لوحات مصورة وينبغي أن تتحول الصور إلى أشعار والأشعار إلى موسيقى، وكل الأراء جنحت إلى جعل الصدارة لموسيقى الآلات. بل لقد اقترنت النظرة للموسيقى في النهاية بفكرة وحدة الوجود إذ قال هوفمان (إن روح الموسيقى تتخلل كافة مظاهر الطبيعة) وقد تحول الاتجاه الفرنسي كذلك من النزعة الكلاسيكية إلى النزعة الرومانتيكية.
وانتهى الأمر باضطلاع فرنسا بمهمة النهوض بالعالم. وكانت كلمة موسيقى تعني (المؤلف والقائم بالأداء والفرتيوزو) وبدأ الإعلاء من شأن الموسيقى ولقد حدد الدور الذي يقوم به الفنان برليوز وليست وحاول محاربة ما هو رديء في مقالات النقد الموسيقى التي تنشر على الناس إلى جانب محاربة التعليم الموسيقي القاصر، وكان الإيمان بالفن هو أسمى تعبير عن الخليقة: فنحن نؤمن بالفن كما نؤمن بالخالق والمخلوق. وأو كما يقول برليوز: كانت عقيدة رومانتيكية أما مازيني فقد استنكر الكلاسيكية الراسخة وتخيل أن يجيء المخلص للموسيقى في صورة ابن وتلميذ لإيطاليا يرتقي بالموسيقى الإيطالية بحيث تصبح موسيقى أوروبية اعتماداً على مزج العناصر الخلاقة في كلا منهما ــالموسيقى الإيطالية والموسيقى الألمانيةــ وذلك تمهيدياً لظهور موسيقى المجتمع دراما الموسيقي التي تمثل التي تمثل المستقبل وكان ماتزيني متوافق مع نظرة فاجنر في هذه الرؤية.
كان من جراء تناقض الحركة الرومانتيكية وجمعها للأفكار ومتناقضاتها أن ظهر فريق عارض جماعة الشعراء والكتاب والموسيقيين الذين طالبوا بالاندماج الكامل بين الفنون وأبدى هذا الفريق نفوره من كل ما يقال عن ارتباط الموسيقى بالشعر أو رسالتها في المجتمع أو قدرتها على الإصلاح الروحي وتزعم هذا الفريق إدوارد هانسليك 1825 ــ 1904 وكان ناقد عظيم النفوذ في (صحيفة النوي فراي بريسة) كان هانسليك يرى أن كل الذين يعتقدون أن الرومانتيكية الجديدة تمثل خطراً، وقد اعترض على الفكرة القائلة بأن الموسيقى وجدت لإثارة المشاعر، ولكنه
على خلاف الكثيرين من الرومانتيكيين كان يحبذ إقامة حدود فاصلة بين الفنون وكان السيكولوجي الإنجليزي إدموند جيرني في كتابه قدرة النغم يرى أن الموسيقى ومهمتها أن تحقق انطباعات عن أشياء مجهولة هي قوالب موسيقية تمثل أشياء لا تخرج عن نطاق الموسيقى وجمالها لا يمكن أن يستمد من أية قاعدة خارجة فهي ليست فناً تصورياً، بل هي فن لا تصويري أي لا يصور أشياء سابقة له في الوجود.
حرص الرومانتيكيين على وجود علاقة واتصال بينهم وبين العصور السابقة لكن ذلك لم يكن ليتم لهم دون عون الموسيقولوجيا، فالموسيقولوجيا بمكن القول أنها ساعدت على تحقيق نظرة خلاقة إلى الماضي وهي إلى جانب ذلك ابنة العصر الرومانتيكي، وقد كتب تشارليس بيرني في تاريخ الموسيقى وجون هوكنز أيضاً كما كتب يوهان جورج البرخسبر جر أستاذ بيتهوفن في أسس تعليم التأليف الموسيقي كلاً حسب وجهة نظره ومنظوره
ــ وكان أن حدث تغيير في نظرة الرومانتيكية إلى عصر تال هو القرن السادس عشر إذ كانت آثار الوطنية الرومانتيكية والعزة القومية قد بدأت في الظهور بوضوح وفي برلين اتجه رجال القانون المرموقين ككارل فو ن فنترفيلد 1784 ــ 1852 إلى دراسة الموسيقى الدنيوية في القرن السادس عشر.
أما أمبروز في أعماله فقد أكد على المحاذاة بين التطور في الموسيقى وفي تقدم الفنون التشكيلية أي محاولة النظر إلى كل الفنون كتعبير عن روح حضارية موحدة.
كانت الرومانتيكية جامعة لمتناقضات عديدة، لكن هذا التناقض تلاشى مع الوقت وفي نهاية الحركة الرومانتيكية تعذر الجمع بين النقائض وبموت فاجنر لم يعد هناك أسلوب في الفن فهو الذي كان قد افترض في عمله الفني الشامل مشاركة كل الفنون ببعض جوانبها في سبيل خلق وحدة أسمى وأبلغ ذروته في الموسيقى الخاصة به أو في أوركستراه السيمفوني على سبيل الدقة وفي النهاية تحلت الحركة الرومانتيكية إلى كرنفال من الأساليب فأصبح الفن مستهلك وكثر عدد المستهلكون من الدهماء الذين لا يستطيعون تذوق الفن أو الذين لا يملكون ذائقة فنية من الأساس وبدأ نوع من الفتور والإنهاك فاختفت أنواع من الفنون. فالحركة الرومانتيكية قد جمعت بين الفتوة والشيخوخة وأثبتت الموسيقى أنها كانت جديرة بإيمان أوائل جهابذة الأدب الرومانتيكي بها ونجحت في إثبات ذلك على أكمل وجه إذ تحققت الآمال المرجوة منها كونها مركزاً للفنون رفعة لتفوق الموسيقى على كل الفنون فعلاً..
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط الخاصة بنا وملفات تعريف الارتباط الخاصة بالجهات الخارجية حتى نتمكن من عرض هذا الموقع وفهم كيفية استخدامه بشكل أفضل ، بهدف تحسين الخدمات التي نقدمها. إذا واصلت التصفح ، فإننا نعتبر أنك قبلت ملفات تعريف الارتباط.