إن الطبيعة البشرية طبيعة اجتماعية. ولمَّا كانت الأسئلة المركزية للفلسفة تُعنى بما يعنيه أن تكون إنسانًا؛ فقد ظل الفلاسفة يفكرون في ماهية الخصائص الأساسية للمجتمع منذ العصور القديمة. وبحلول القرن التاسع عشر، انفصل مجموع علوم الأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا والاقتصاد والسيكولوجيا عن الفلسفة، وقد نشأت الأسئلة المركزية لفلسفة العلوم الاجتماعية بمولد هذه التخصصات الإمبريقية. ومع أنها ميزت أنفسها بمناهج جديدة، ظلت نظرياتها متصلة بتلك التي ارتآها الفلاسفة من أفلاطون إلى ميل. تنظر فلسفة العلوم الاجتماعية في بعض تساؤلات الفلسفة المستديمة من خلال الانخراط في الدراسة الإمبريقية للمجتمع البشري.
يمكن الإحاطة بالأسئلة المُميِّزة لفلسفة العلوم الاجتماعية في ثلاثة موضوعات واسعة: المعيارية (normativity)، والطبيعانية (naturalism)، والاختزالية (reductionism). تُعنى تساؤلات المعيارية بمكانة القيم في البحث العلمي الاجتماعي: هل يمكن للعلم الاجتماعي، المرتبط ارتباطًا وثيقًا بشواغل السياسة الاجتماعية، أن يكون موضوعيًّا؟ تتناول العلوم الاجتماعية أيضًا نشأة القيم والقواعد والمعايير داخل المجتمع البشري ووظيفتها، ومن ثم فإنها تمس أساس الأخلاق. أما سؤالات الطبيعانية فتُعنى بالعلاقة بين العلوم الطبيعية والاجتماعية، فتتساءل مثلًا: هل يجب أن تحاكي العلوم الاجتماعية مناهج العلوم الطبيعية الناجعة، أم أن للمجتمع البشري أبعادًا تتطلب أساليب أو أشكالًا فريدة من التنظير؟ أما الاختزالية فتساؤلاتها تبحث كيفية ارتباط البنى الاجتماعية بالأفراد المشكلين لها: هل للكنائس قوى سببية تتجاوز قوى رعاياها وتتعداها؟ أو: هل يمكن تفسير ارتباطات المستوى الاجتماعي جميعها في ضوء المعتقدات والأهداف والاختيارات الفردية؟
نهايةً، تتعلق تساؤلات فلسفة العلوم الاجتماعية بمكاننا في الكون: ما مصدر القيمة؟ وكيف ترتبط الطبيعة البشرية بالطبيعة غير البشرية؟ وأي شيء يمكننا إدراكه؟ ومن ثم، يسهم التفكر في العلوم الاجتماعية في تحقيقات الفلسفة الأساسية.
تشيع مناقشة موضوعات هذا الكتاب في الأعمال النظرية والمنهجية في العلوم الاجتماعية. وعلى هذا، يسهم التفكر في الموضوعات الفلسفية أيضًا في التحقيقات الأساسية للعلوم الاجتماعية. وفلسفة العلوم الاجتماعية بطبيعتها نشاط عابر التخصصات متعددها، وهي قادرة -إن أُتِيَت على وجهها الصحيح- أن تنهض بالفلسفة والعلوم الاجتماعية معًا.
سنتعرج في أرجاء الكتاب برمته متأرجحين بين أمثلة البحث العلمي الاجتماعي والحِجاج الفلسفي، وسيكون للأمثلة دوران في مناقشتنا. أولهما أن الأمثلة توضح كيفية تضمين الأسئلة الفلسفية المهمة في البحث العلمي الاجتماعي. وسوف نستخلص هذه الأسئلة وننظر في الإجابات التي قدمها الفلاسفة والمنظرون العلميون الاجتماعيون، ثم -وهذا دور الأمثلة الثاني- سنستعملها كأساس لاختبار الرؤى الفلسفية. ويكون للمواقف، التي تبناها الفلاسفة، أن تساعدنا في حل الأحجيات العلمية الاجتماعية التي انبثقت عنها التساؤلات في المقام الأول. لذا؛ دعنا نبدأ بالنظر في بعض أمثلة البحث العلمي الاجتماعي. وفي البند التالي، سنتناول بالتفصيل قضايا المعيارية والطبيعانية والاختزالية التي تثيرها تلك الأمثلة.
ظهرت الديمقراطية الحديثة في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر تزامنًا مع زيادة المشاركة الشعبية في التصويت وشغل المناصب؛ إذ وضعت الجمهوريات في فرنسا والولايات المتحدة سلطة اتخاذ القرار في أيدي الممثلين المُنتخَبين. وحينها، افترض المنظرون أن استجابة القادة لإرادة الشعب ستُنهي الحرب، وقد حاجَّ إيمانويل كانط في مقال بعنوان «السلام الدائم» على هذا النحو:
«إن الدستور الجمهوري حاليًّا، فضلًا عن صفاء مصدره؛ إذ هو مستمد من المنبع الخالص لفكرة الحق، لديه أيضًا إمكانية تحقيق النتيجة المرجوة؛ أعني السلام الدائم. وإليك تعليل ذلك: إذا تطلب تقرير قيام حرب أو عدم قيامها موافقة المواطنين -كما هو معمول به بموجب هذا الدستور- فمن الطبيعي أن يزِنوا الأمر جيدًا قبل أن يقدموا على أمر خطير كهذا؛ فهم لا محالة يقضون على أنفسهم، حين يقضون بالحرب، بأن تحل على بلادهم مآسي الحرب.» (Kant 1903 [1795], 121–2)
تأخذ حجة كانط بعين الاعتبار المسار العقلاني لفعل مجموعة الناس يحكمون أنفسهم؛ نظرًا إلى أن تكاليف الحرب باهظة جدًّا، سيكون من غير المنطقي أن يصوت مواطنو الدولة للحرب ما لم يكن الأمر مُلحًّا. لذلك؛ ستحجم الحكومات المنتخبة عن خوض الحرب. ويبدو هذا تفكيرًا منطقيًّا سليمًا إن نظرنا إليه كحجة فلسفية. لكننا نعرف مما خبرنا به الناس أنهم ليسوا عقلانيين تمامًا. وعلى هذا، ينبثق سؤال مثير للاهتمام: هل الدول الديمقراطية أقل احتمالًا لخوض الحرب؟ ظل هذا السؤال في قلب الأدبيات العلمية الاجتماعية الموسوعية. وتشير الأدلة إلى أنه نادرًا ما تخوض الدول الديمقراطية حربًا في ما بينها مع أن هذه الدول ليست أقل خوضًا للحروب عمومًا، والواقع أن الارتباط (correlation) قوي حدَّ أن البعض قد ارتأى أن يكون هذا «السلام الديمقراطي» قانونًا للعلوم الاجتماعية.
يُعَدُّ السلام الديمقراطي أحد الحالات الكثيرة التي ألهمت فيها المواقفُ والحجج الفلسفية أبحاثَ العلوم الاجتماعية مباشرةً. وقد يُخيَّل إليك أن هذا من شأنه أن يصلح من الافتراضات الفلسفية لنظريات العلوم الاجتماعية على الدوام، لكنه لا يفعل. على سبيل المثال: تفترض حجة كانط أن الخيارات الحرة للمواطنين تحدد إذا ما كانت الأمة ستخوض الحرب أم لا. وإذا التزم الباحثون بافتراضات كانط المسبقة، فإن بحثهم سينصب على البحث في سبب تصويت الأفراد أو عدم تصويتهم لصالح السياسيين المروجين للحرب. أما ما حدث فهو على النقيض من ذلك؛ فقد فحص كثير من علماء الاجتماع إذا ما كانت بعض أنواع المؤسسات الحكومية بعينها تسبب الحرب أو تخمدها. بعبارة أخرى، كان افتراضهم الفلسفي عكس افتراض كانط: توجد مسببات/ علل الحرب في المستوى الاجتماعي. كما أن البحث العلمي يميل إلى التنوع في افتراضاته، حتى عندما يكون السؤال البحثي مُركَّزًا، مثل سؤال «لماذا لا تخوض الدول الديمقراطية حربًا في ما بينها؟». تتذرع الإجابات المختلفة بالتزامات فلسفية متمايزة. وفي هذا المجال، تنطوي الفوارق الفلسفية على سجالات بشأن إذا ما كان يمكن تفسير الأحداث البشرية من خلال القوانين السببية/ العلِّية، وأيضًا إذا ما كانت المجتمعات تتعدى الأفراد الذين يشكلونها.
لطالما كان علماء الأنثروبولوجيا مفتونين بالمعتقدات المتعلقة بالفاعلين الخارقين للطبيعة. يشيع عن البشر رؤيتهم العالم مأهولًا بكائنات تستطيع أن تمر عبر جدران صلبة أو تتحول من شكل إنسان إلى شكل حيوان. وغالبًا ما تبدو المعتقدات نقيض الإدراك العام البسيط. وفي دراسة شهيرة للأزاندي، وهي جماعة إثنية في وسط إفريقيا، لاحظ إي. إي. إيفانز بريتشارد ممارسات بدت غير متماسكة بالنسبة إليه؛ فمن بين الأزاندي، كان السحرة/ المشعوذون (witches وفق ترجمة إيفانز بريتشارد) أشخاصًا لديهم القدرة على التسبب في سوء الحظ؛ فعندما يمرض شخص ما فجأة ويموت، قد يكون ساحر مسؤولًا عن حدوث هذا، وحينها تطلب الأسرة القصاص. ومن أجل تحديد هوية الساحر المسؤول، كان الأزانديون يمارسون استشارة وسطاء الوحي، فيجيبهم الوحي، وبعدها كانوا يؤدون «سحر الانتقام» لقتل الساحر. تنشأ حالات عدم الاتساق عند وجود وفيات متعددة ووسطاء متعددين. كتب إيفانز بريتشارد:
«إذا عُرِف أن ساحرًا Y قد اقتُصَّ منه لموت رجل X، فسيصير الإجراء برمته محض عبث؛ إذ يقتص أقرباء Y لموته من ساحر Z.» (Evans-Pritchard 1937, 27)
هل كان Y ساحرًا أم لا؟ كان كذلك وفقًا لأقرباء X (لأن الوحي قال بهذا)، وقد قتله سحر انتقامهم. أما وفقًا لأقرباء Y، فإنه كان رجلًا بريئًا قُتِل على يد الساحر Z، كما أثبته وسيطهم وسحر انتقامهم. يشير إيفانز بريتشارد إلى أن وسطاء الوحي وسحر الانتقام في الممارسة كانوا أسرارًا من أسرار العائلة، وهذا يحول دون كشف التناقض، لكنه لا يكاد يحل الأحجية؛ فمبقدورنا أن نرى أن الممارسة تناقض نفسها من حيث المبدأ. فلماذا لم ينتبه الأزانديون إلى هذا؟
عندما كتب إيفانز بريتشارد عن الأزاندي، كان علماء الأنثروبولوجيا في خضم جدال حول «العقلانية البدائية»؛ فقد اقترح بعض علماء الأنثروبولوجيا في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين أن طرق التفكير قد تطورت، إذ كانت مجموعات مثل الأزاندي لا تزال في مرحلة مبكرة من التطور السيكولوجي، حيث لم يترسخ المنطق بعد، وكان التفكير السحري هو السائد. بينما اعتقد آخرون -من بينهم إيفانز بريتشارد- أن تنوع الممارسات والمعتقدات البشرية، التي يمكن ملاحظتها الآن، لا تمثل آثارًا متبقية من فترة سابقة، وللبشر جميعًا القدرات العقلية نفسها؛ فالسحر عند الأزاندي يبدو محيرًا لنا فقط لأننا لم نفهمه بعد، ومن ثم تكمن المشكلة في فهم الأزاندي فهمًا صحيحًا. إذا فهم الأزانديون ممارستهم لسحر الانتقام كما فعل إيفانز بريتشارد، فلن يتمكنوا من الاستمرار في ممارستها بحسن نية. وإذا هم مارسوا سحر الانتقام بحسن نية، فلا بد أن إيفانز بريتشارد قد أساء فهمها. ومن ثم، كيف يتأتى لنا فهم ما يعنيه «السحر» للأزاندي؟ يمكن طرح سؤالات الأنثروبولوجيا النظرية والمنهجية هذه بطرق مألوفة لدى الفلاسفة إلى حد بعيد: كيف لي أن أعرف محتويات عقل الشخص الآخر؟ هل كل البشر عقلانيون؟ وما يكون «للعقلانية» أن تُدرَك بأي حال؟
لماذا رفضت روزا باركس التخلي عن مقعدها في الحافلة لراكب ذي بشرة بيضاء؟ عندما طلب سائق الحافلة من روزا باركس وثلاثة ركاب ذوي بشرة سوداء آخرين أن يفسحوا للاستزادة في عدد الركاب ذوي البشرة البيضاء، امتثل الآخرون. ولا شك أنهم أيضًا كانوا يضيقون ذرعًا بالقوانين المزدرية لهم، غير أن تحدي أمر السائق كان لينطوي على مخاطر عقاب عالية. ولذا؛ كان لدى كل فرد دافع قوي لعدم تحدي نظام العزل في تخصيص المقاعد في حافلات مونتغومري في ولاية ألاباما. ومع ذلك، إذا تضامن الجميع معًا فلربما تغيرت القوانين. ولم يُكتَب النجاح نهايةً لحركة الحقوق المدنية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي إلا لأن عددًا كافيًا من الناس تحدى العقوبات. تواجه الحركات والثورات الاجتماعية جميعها المشكلة نفسها، وكل شخص لا محالة سيرى أن المشاركة محفوفة بتكاليف مهولة، وفي الوقت نفسه، ينتفع الجميع إن تغير النظام. إذن فالاختيار العقلاني لكل فرد هو الجلوس جانبًا وترك الآخرين يدفعون تكاليف المشاركة بمعزلهم. وإذا فشلت الحركة فلن يخسر الفرد شيئا. أما إذا نجحت، ينتفع أولئك الذين تخلوا عن مقاعدهم منها بالقدر الذي انتفعت به روزا باركس. وبذا -وعلى سبيل المفارقة- لن تقوم حركات اجتماعية ولا تندلع ثورات أبدًا. تبرز مشكلات من هذا النوع -التي يُطلَق عليها أحيانًا مشكلات «المنتفعين بالمجان/ الركاب بالمجان (free riders)» في كثير من الحقول الاجتماعية؛ تتجلى في علم الاقتصاد في ما يُسمَّى بـ«تراجيديا المشاع»، ونجدها في الأنثروبولوجيا أحجيةَ كيفية تطور التعاون البشري.
وعلى الأقل أحيانًا، تنجح الثورات والحركات الاجتماعية، ويحافظ الناس على الموارد العامة، ونتعاون بإيثار. يمكن حل مشكلات الانتفاع المجاني، لكن كيف؟ تشتمل إجابات هذا السؤال على تصورين مختلفين للغاية للطبيعة البشرية. تنظر الرؤية الليبرالية الكلاسيكية إلى البشر على أنهم مختارون مستقلون؛ يسعى كل منهم إلى تحقيق مصلحته المثلى. ويتبع هذا أن الاجتماع البشري لا يكون ممكنًا إلا حين تجعل الحوافزُ الأفعالَ، التي تعود بالفائدة على المجموعة، تعود بالفائدة أيضًا على الفرد. يمكن لنظم المعايير والقوانين أن تدعم التنسيق الاجتماعي، لكنها تثير تساؤلات جديدة: لماذا يتبع الناس معايير تتعارض مع مصالحهم الذاتية؟ على الجانب الآخر من الانقسام الفلسفي، يرى الجماعانيون (communitarians) البشر اجتماعيين في الأساس ومُوجَّهين بعضهم تجاه بعض؛ فالهوية المصاحبة للمجموعة ومعاييرها جزء لا يتجزأ من حياة الإنسان في نظرهم. وفي هذا الجانب من القضية، تتصدر الأسئلة المتعلقة بالفاعلية: كيف يمكن للفرد أن يقرر أن بعض المعايير الاجتماعية خاطئة ويتصرف بطرق تخرب روح الجماعة الثقافية السائدة؟ وما القوة التي يمتلكها المعيار الاجتماعي؟ ومن أين تنشأ؟
في كل واحد من هذه الأمثلة، كانت المفاهيم والأسئلة، التي طالما أثارت اهتمام الفلاسفة، قريبة من السطح. ويتخذ علماء الاجتماع في تعقبهم هذه الأسئلة مواقف بشأن الأمور التي لها جذور عميقة: تصورات الفاعلية البشرية والعقلانية والتسويغ الإبستمولوجي والقيمة والتسبيب (causation) والمجتمع. تكمن المهمة الفلسفية حينئذ في ربط الالتزامات العلمية الاجتماعية بالأدبيات الأوسع في الفلسفة. وأيًّا يكن، سنجد نهايةً أن أناسًا على درجة عالية من الذكاء قد تفكروا في هذه الأمور طيلة السنوات الألفين الفائتة أو نحو ذلك. ويمكن للوعي بالقضايا الفلسفية وبالقدرة على التقييم النقدي للالتزامات الفلسفية لنظرية أو منهجية أن يصقل البحث العلمي الاجتماعي على نحو ملموس. ويتمثل الوجه الآخر لصلة الفلسفة العميقة بالعلوم الاجتماعية فيما يقدمه علماء الاجتماع من إجابات لإشكاليات فلسفية عتيقة. وقد ارتكز المفكرون، الذين نُعرِّفهم الآن على أنهم فلاسفة، على النظريات الاجتماعية بنات عصورهم. واليوم، لدينا مورد غني بالدليل والنظرية الإمبريقية التي ترتبط ارتباطًا مباشرًا بالتساؤلات الفلسفية التقليدية؛ فكما توجد فلسفة في العلوم الاجتماعية، يوجد في الفلسفة تنظير اجتماعي. وتحاول فلسفة العلوم الاجتماعية إخضاع كليهما للتدقيق النقدي.
قبل التعمق في مناقشتنا، يجب قول شيء عن كلمة «علم». كما سنناقش عما قريب، تتمثل إحدى القضايا الكبرى في فلسفة العلوم الاجتماعية في إذا ما كان التحقيق في العالم الاجتماعي مختلفًا عن التحقيق في العالم الطبيعي. غالبًا ما تؤطر هذه القضية كجدال حول ما يمكن اعتباره «علمًا». شهدت كثير من التخصصات سجالات شرسة حول إذا ما كان ينبغي اعتبار هذا المجال «علميًّا». يقع الحديث عن «فلسفة العلوم الاجتماعية» على بعض الآذان بالفعل وقع التركيز على مجموعة محدودة من النظريات والمناهج والتساؤلات. غير أن المقاربة المثلى للسؤال عن طبيعة العلاقة بين التحقيق الاجتماعي والتحقيق في العالم غير الاجتماعي لا تكون من خلال تحديد ما يكون علمًا وما لا يكون. تتعلق أسئلتنا بشكل التحقيق في العالم الاجتماعي وبنيته، وستُطرَح الأسئلة المهمة لوضع حد للاحتماليات من البداية. لذا سيُفهَم العلم الاجتماعي في هذا الكتاب على نطاق واسع على أنه استيعاب الاستقصاء الإمبريقي النسقي في ممارسات البشر مع اهتمام خاص بتلك الأشياء التي نقوم بها معًا، كأجزاء من مجموعات اجتماعية أكبر. وهو ينطوي صراحةً على مناهج من قبيل المقابلات الشخصية وملاحظة المشارك. ولن تُقصَر النظرية -ما لم يُعيَّن خلاف ذلك- على حديث المسببات/ العلل والقوانين. تنطوي النظرية (theory) على كل طريقة يصوغ بها علماء الاجتماع نتائجهم ويعرضونها.
إن للسؤال بشأن ما يُعَدُّ علمًا اجتماعيًّا بعدًا عمليًّا أيضًا. ما المجالات التي تدخل في نطاق فلسفة العلوم الاجتماعية؟ ترتكز الأمثلة المذكورة أعلاه على الأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا والاقتصاد والعلوم السياسية، ولكن ماذا عن اللسانيات والسيكولوجيا والتاريخ؟ ماذا عن الطب والتمريض والصحة العامة وعلم الجريمة والدراسات التربوية وإدارة الأعمال؟ هنا -مرة أخرى- سننتهج مقاربة واسعة النطاق وشاملة. توجد مجموعة من الأسئلة الفلسفية -سنُجمِلها عما قريب- تتقاطع مع نظريات جميع التخصصات التي ذكرناها ومنهجياتها وأكثر من ذلك. ومن المؤكد أن ثمة -أيضًا- قضايا فلسفية خاصة بالتخصصات. تدعم مجالات التاريخ والسيكولوجيا والاقتصاد الآدابَ الفلسفية المتطورة. والواقع أن السلسلة، التي يُعَدُّ هذا الكتاب جزءًا منها، تشتمل على كتابات تتعلق بفلسفة الاقتصاد (Reiss 2013b) وفلسفة السيكولوجيا (Bermudez 2005). ستكون كتابتنا لصيقة القضايا الشائعة في جميع دراسات السلوك البشري والتفاعل.
عادةً ما يُقسَّم تخصص الفلسفة إلى مجالات نظرية القيمة والإبستمولوجيا والميتافيزيقا. تُعنى نظرية القيمة بقضايا تتعلق بمصدر القيم والقواعد والمعايير ومبررها: ما الذي يجعل فعلًا ما مباحًا أخلاقيًّا أو لوحة فنية ما جيدة؟ أما الإبستمولوجيا فتتعلق بالمعرفة البشرية: ما الذي يشكل المعرفة؟ وكيف تسوغ المعرفة؟ أخيرًا، تتساءل الميتافيزيقيا عن السمات الأساسية للعالم: ما المسببات/ العلل؟ هل البشر أحرار؟ ماذا يعني أن تكون عقلانيًّا؟ ولا بد أنه اتضح من الأمثلة الثلاثة المقدمة في البند 1.1 أن فلسفة العلوم الاجتماعية ترتكز على جميع هذه الحقول الفرعية الثلاثة. فأي شيء إذن يجعل فلسفة العلوم الاجتماعية مميزة كمجال للتحقيق في الفلسفة؟
تفيد الإجابة المقدمة إلى الآن أن الأسئلة الفلسفية تنشأ عن ممارسة مجموعة من التخصصات الإمبريقية المسماة بـ«العلوم الاجتماعية». وهذا جيد إلى الآن، ولكن هل هناك أي شيء يربط هذه الأسئلة معًا؟ لا أعتقد، على الأقل، ليس بأي معنى قوي. وأي محاولة لتحديد فلسفة العلوم الاجتماعية بشكل صارم عرضة لسيل من الأمثلة المضادة/ المناقضة. والأهم من ذلك أن من شأن مثل هذا الانضباط الصارم أن يعوق تحقيقاتنا. ستجد في دراستك الفلسفة أن سؤالًا ما يؤدي إلى آخر، بطرق غير متوقعة أحيانًا. يتقاطع حقل الفلسفة مع خطوط التحقيق الفكرية، ويجب أن تظل الحدود بين المجالات ضبابية إذا أردنا تعقب ما تقودنا إليه استقصاءاتنا. ومع هذا، سنجد أنفسنا نؤوب إلى مسارات بارزة يكثر التردد إليها. وستعم جنبات هذا الكتاب الموضوعاتُ الثلاثة المميزة لفلسفة العلوم الاجتماعية: المعيارية والطبيعانية والاختزالية.
تلج القضايا المتعلقة بالمعايير والقيم والقواعد في العلوم الاجتماعية بطريقتين مختلفتين إلى حد ما. من ناحية، تُعَدُّ الأعراف والقيم والقواعد الخاصة بمجتمعات معينة جزءًا مما تدرسه العلوم الاجتماعية. ومن ناحية أخرى، توجد معايير وقيم وقواعد يقرها علماء الاجتماع وتشكل جزءًا من مجتمعهم الخاص. دعونا نبدأ بالثانية.
ظهرت فكرة أن الدول الديمقراطية لا تشن حربًا على دول ديمقراطية أخرى في خطاب السياسة الخارجية الأمريكية وممارساتها. وليس بمستغرب أن يدعم العلم الاجتماعي السياسة الاجتماعية على هذا النحو. وقد يحاجُّ البعض في واقع الأمر أنه لا سبيل إلى ابتكار برامج اجتماعية فعالة إلا بمعرفة كيفية عمل العالم الاجتماعي. يفترض هذا الخط الفكري سلفًا أن العلم الاجتماعي والسياسة الاجتماعية مستقلان أحدهما عن الآخر. فيما قد جادل بعض النقاد أن منفعة السياسة الخارجية الأمريكية أثرت في الاستقصاء العلمي الاجتماعي لفرضية السلام الديمقراطي. والواقع أن تعريف «الديمقراطية» و«السلام» -كما قد يتراءى لك- أمر بالغ الأهمية لعملية البحث. أما النقاد فيرون أن هذه المفاهيم لا يمكن تعريفها بطرق مستقلة تمامًا عن القيم السياسية المتبناة. لذا؛ فالالتزامات بالكيفية التي ينبغي أن ندير بها سياستنا الخارجية تؤثر في البيانات والنظريات التي تستند إليها هذه السياسة. وبهذه الطريقة، ينخرط علماء الاجتماع في سجالات بشأن السياسة الاجتماعية، وعليهم الدفاع عن نتائجهم بوصفها نتائج تحقيق «موضوعي».
سوف نستعرض كثيرًا من القضايا المتعلقة بالقيم والموضوعية. ويُعنى السؤال الأساسي بـ«الخلو من القيمة» (value-freedom)، وسيكون هذا موضوع الفصل الثاني. هل يجب إجراء البحوث العلمية الاجتماعية دون الالتزام بقيم أخلاقية أو سياسية؟ يعتقد كثير من فلاسفة العلوم الاجتماعية أن الإجابة هي «لا»؛ فدائمًا -بل بالضرورة- يوجد نوع من الالتزام. وهذه الإجابة تفتح الباب لأسئلة جديدة؛ فهناك مجموعة متنوعة من الطرق التي تظهر بها القيم الأخلاقية والسياسية في البحث العلمي الاجتماعي. ومن الواضح أن انتقاء البيانات لتناسب أجندة سابقة يشكل تحيزًا ويقوض الموضوعية، وتبعات التأثيرات الأخرى ليست بهذا الوضوح؛ فنحن بحاجة إلى فهم الطرق المتنوعة التي يمكن للعلم من خلالها أن يكون محملًا بالقيمة. وعواقب التأثيرات الأخرى ليست واضحة إلى حد بعيد؛ إذ إننا بحاجة إلى فهم الطرق المتنوعة التي يمكن للعلم من خلالها أن يكون ذا قيمة. ثم علينا أن نتساءل: إذا كانت العلوم الاجتماعية خِلوة من القيمة (بطريقة معينة)، فهل يمكن أن تكون موضوعية؟ يربط هذا السؤال بين إبستمولوجيا العلوم الاجتماعية ومسألة الخلو من القيمة. وسنتطرق إلى سؤال الخلو من القيمة مرة أخرى في الفصل الثامن والبنود 4.1 و 6.1 و7.3 و12.4؛ لما له من بعد إبستمولوجي.
أضفت حقيقة أن كثيرًا من المشروعات في العلوم الاجتماعية سياسيةٌ صراحةً على سؤال «الخلو من القيمة» مزيدًا من التعقيد. تتغيا النظرية النقدية والبحث النسوي وأشكال متنوعة من بحث الفعل التشاركي التغيرَ الاجتماعي؛ فهي كلها تسعى إلى تطوير المعرفة التي تجعل المجتمعات أكثر عدلاً والبشر أكثر حرية. هل يمكن لهذه المشروعات أن تنتج معرفة علمية اجتماعية؟ قد يتردد المرء في قول هذا بدايةً، لكن إن نحينا هذا جانبًا، فماذا نعتقد بشأن البحث الذي يهدف إلى تحسين تعلم الطلاب أو الحد من الجريمة؟ غالبًا ما تُستخدَم العلوم الاجتماعية في المشروعات «الهندسية» التي تعمل صراحةً في خدمة السياسة الاجتماعية. وتضع أمامنا هذه المشروعات تحديًا لكي نفكر بعمق فيما يشكل الموضوعية في العلوم الاجتماعية.
تستكشف السؤالات المتعلقة بدور القيم في العلوم الاجتماعية نهاية الطرق التي نصل بها إلى مفهوم «الحقيقة» و«القيمة». في العلوم الاجتماعية، تنشأ هذه القضايا حين يحاول المنظرون تطوير معالجات القيم والمعايير والقواعد المعمول بها في المجتمعات البشرية. في المناقشة المتقدمة للمنتفعين بالمجان، رأينا بعض الطرق التي غالبًا ما تتذرع بها العلوم الاجتماعية بالمعايير في نظرياتها. اعتقدت روزا باركس أن الفصل العنصري كان خطأ، وكان هذا سببًا/ مبررًا مهمًّا لفعلتها. ولطالما أُشيرَ إلى أن أحد السبل، التي تتغلب بها الحركات الاجتماعية والثورات على مشكلة المنتفع بالمجان، هو أن الأعراف والقيم المشتركة للمجموعات الاجتماعية تلزم أعضاءها الفعل المشترك (سنناقش هذه النظرية بمزيد من التفصيل في البند 7.1). وفقًا لوجهة النظر النظرية هذه، ثمة ما يتصل بكون روزا باركس سكرتيرة الجمعية الوطنية للنهوض بملوني البشرة (NAACP)، وباستجابة (NAACP) السريعة بتنظيم مقاطعة للحافلات. وغالبًا ما يتذرع التنظير العلمي الاجتماعي بالمعايير والقواعد والقيم عند تفسير كل من الفعل الفردي وأحداث المستوى الاجتماعي كالحركات الاجتماعية أو الثورات. وهم ملزمون، بفعلهم هذا، بتقديم التزامات ميتافيزيقية بشأن ماهية المعايير وطبيعة ارتباطها بالفعل الفردي والجماعي. وهذه من الأسئلة الأساسية لنظرية القيمة. خُصِّص الفصل التاسع لهذه القضايا، كما تُناقَش أيضًا في البندين 7.4 و10.3.
ربما يكون السؤال المُميِّز لفلسفة العلوم الاجتماعية هو إذا ما كانت العلوم الاجتماعية تختلف عن العلوم الطبيعية وكيف تتخلف عنها؛ فالعلوم هي نماذج فكرية (براديمات) للمعرفة الإمبريقية، سواء لما يمكن معرفته ولكيف تُقام هذه المعرفة. لكن ليست كل العلوم متساوية؛ فقد أُعلِنت الخيمياء وعلم التنجيم ذات مرة «علومًا»، لكن لا أحد يأخذ الآن نظرياتهما على أنها معرفة. ومن ناحية أخرى، تُعَدُّ الفيزياء -وخصوصًا ميكانيكا نيوتن- على نطاق واسع نموذجًا للمعرفة العلمية. لذا؛ طالما كان سؤال إذا ما كان العلم الاجتماعي مماثلًا للعلم الطبيعي مركزيًّا لشرعية العلوم الاجتماعية منذ نشأتها. والطبيعانية/ المذهب الطبيعاني اسم لمجموعة متنوعة من الرؤى التي تقول بأن العلوم الاجتماعية ينبغي أن تماثل العلوم الطبيعة على نحو بارز. وأولئك الذين يعتقدون أن العلوم الاجتماعية بحاجة إلى منهج مميز، أو شكل من أشكال التنظير، أو أنطولوجيا -كما قد خمنت- مناهضون للمذهب الطبيعاني/ لا طبيعانيين. لكن، لسوء الحظ، يُستخدَم المصطلح بطرق متنوعة. لذلك، سيكون من المفيد الانخراط في القليل من التعريف الاصطلاحي.
نظرًا إلى أن القضايا، التي يدور حولها الجدال، تغطي مجموعة متنوعة من الموضوعات، فسيكون من المفيد في البداية التمييز بين الطبيعانية الإبستمولوجية والطبيعانية الميتافيزيقية؛ فالصور الإبستمولوجية للطبيعانية تُعنى بقضايا النظرية والتفسير والمنهج. وغالبًا ما يُعرَض للمرء، في الأدبيات المتعلقة بالمنهج العلمي الاجتماعي، تمايز بين البحث «الكيفي» و «الكمي»؛ ذلك أن البحث الكيفي يستخدم المقابلات الشخصية وملاحظة المشارك والمجموعات البؤرية والأساليب المماثلة، ويعبر عن نتائج بحثه في شكل سردي، مرتكزًا -في غالب الأحيان- على الحالات التوضيحية وتحليل المضمون للمقاطع الطويلة من النص، أما البحث الكمي فيعتمد على طرق مقيسة بطريقة ما، ربما من خلال المسوحات أو التجارب، ويهدف إلى الكشف عن الارتباطات والمسببات/ العلل، وقد يعتمد على نماذج مصاغة رياضيًّا. وعادةً ما يُصَرُّ -حين يُقدَّم هذا التمايز في الأدبيات المنهجية- على أن البحث الكيفي يختلف اختلافًا عميقًا عن البحث الكمي. لذلك فإن المؤلفين، الذين يتخذون هذا الموقف، عادةً ما يتبنون وجهة نظر إبستمولوجية مناهضة للطبيعانية.
أما الطبيعانيون الميتافيزيقيون فيرون أن البشر جزء من العالم الطبيعي، ومن ثم يجب فهمهم من منظور المسببات/ العلل نفسها والآليات نفسها التي تحرك جميع الكائنات الأخرى، ويجادل الذين يعارضون المذهب الطبيعي الميتافيزيقي أن البشر أو المجتمعات البشرية تتمايز بعضها عن بعض على نحو عميق. يُعَدُّ رينيه ديكارت المناهض الرئيس للطبيعانية بطابع ميتافيزيقي؛ لأنه يعتقد أن العقول البشرية نوع من الجوهر غير المادي، فما يجعلنا بشرًا ليس جزءًا -حرفيًّا- من العالم الطبيعي. اكتسبت المناهج التطورية والنفسية مؤخرًا أهمية جديدة في العلوم الاجتماعية المعاصرة، وهي طبيعانية على نحو قياسي بالمعنى الميتافيزيقي. على سبيل المثال: ترى التفسيرات التطورية، المتعلقة بكيفية نشأة التعاون، البشرَ مشاركين الحيوانات الأخرى أغلب السمات. ويكمن التحدي في تفسير كيفية نشأة سماتنا الخاصة، كالتعاون الإيثاري، من خلال الانتخاب. يتعلق الجدل بشأن الطبيعانية الميتافيزيقية على المستوى الأعمق بما إذا كانت الطبيعة البشرية جزءًا من العالم الطبيعي أم خارجة عنه.
إن الفهم الأمثل للطبيعانية هو فهمها كحلقة وصل بين سجالات فلسفية وثيقة الارتباط بعضها ببعض. وإنما يجري العمل -كما ينبغي له- لإجابة سؤال «هل ينبغي للنظريات/ للمناهج/ للأنطولوجيات العلمية الاجتماعية أن تماثل العلوم الطبيعية؟» على مستوى أقل بكثير من التجريد. لذلك؛ كثير من القضايا، التي ستُناقَش في فصول لاحقة، تندرج ضمن موضوع الطبيعانية.
يشكل تساؤلان رئيسيان جوهر النقاش بشأن الطبيعانية الإبستمية: هل يتطلب فهم السلوك البشري أساليب خاصة؟ هل يتطلب فهم السلوك البشري أشكالًا من النظرية تختلف عن تلك الموجودة في العلوم الطبيعية؟ في مناقشة روزا باركس وحركة الحقوق المدنية السالفة الذكر، أُطِّرت المشكلة في ضوء «المنتفعين بالمجان». بالنظر إلى هذا المنظور، قد يستخدم عالم الاجتماع موارد نظرية الألعاب لتحليل الحركات الاجتماعية وتفسيرها. وبصياغة تفضيلات اللاعبين بعد تجريدهم في حركة اجتماعية، يمكن التعبير رياضيًّا عن الادعاءات الرئيسة للنظرية. فيما يعتقد بعض الناس أن هذا النوع من النظرية يهمل قضايا بحثية مهمة لأنه يجرد الأفراد التاريخيين. بينما ينبغي السؤال عن الكيفية التي كان يفكر بها روزا باركس وقادة الحقوق المدنية الأخرى في التحديات التي واجهوها، ولا يمكن التعبير عن هذا بمصطلحات الارتباطات ولا تحليلات نظرية الألعاب. سيكون هذا السجال موضوع الفصل الثالث الرئيسي، وسينتصب مجددًا في الفصل الخامس. طُوِّرت الأساليب «النوعية/ الكيفية» المتقدم ذكرها لاكتشاف الكيفية التي كان يفكر بها فاعلون تاريخيون كروزا باركس في وضعياتهم. في الفصل الرابع، سنلقي نظرة فاحصة على إبستمولوجيا هذه المناهج.
تُعَدُُّ تساؤلات العلِّية/ العلاقة السببية مباحثَ أساسية في كل من الإبستمولوجيا والميتافيزيقيا، وهي تتجلى في أرجاء العلوم، لكنها ذات صدى خاص في العلوم الاجتماعية. يستفسر سؤال الإرادة الحرة إذا ما كان الفعل البشري محتومًا علِّيًّا، أما في العلوم الاجتماعية فيتحول هذا التساؤل إلى سؤال عن التفسير: هل يمكن تفسير الفعل البشري علِّيًّا؟ يجادل مناهضو الطبيعانية أن ذلك غير ممكن؛ لأن البشر يأتون الفعل لمبررات/ أسباب، والأسباب/ المبررات ليست مسببات/ عللًا. سنستعرض هذه القضية في البند 5.1، وسوف يتطرق البند 9.3 إليها مرة أخرى. يرى التحليل الإمبريقي للتسبيب -الصادر عن هيوم- أن العلل/ المسببات تتطلب قوانين؛ فهل توجد قوانين للعالم الاجتماعي؟ يُطرَح السلام الديمقراطي أحيانًا كقانون، غير أن هذا محل جدل. ورأى كثير أن إبداع السلوك البشري وتعقيده يستبعدان نوع الشرعية القانونية الموجودة في العلوم الطبيعية. شاعت في العقود الأخيرة الماضية تحليلات التسبيب التي لا تربط المسببات/ العلل بالقوانين على نحو وثيق. سنستقصي في الفصل الحادي عشر هذه التحليلات المتباينة للتسبيب وتبعاتها على التنظير العلمي الاجتماعي.
تقر فرضية السلام الديمقراطي -كانت قانونًا أم لم تكن- علاقة سببية/ علِّية بين الديمقراطية والسلام. كيف يمكن اختبار مثل هذه الفرضية السببية في العلوم الاجتماعية؟ تكمن المشكلة -كما يعلم قراء هيوم جيدًا- في أن الدليل على فرضية مثل السلام الديمقراطي هو وجود ارتباط: لم يُلاحَظ أن خاضت الدول الديمقراطية حروبًا بعضها ضد بعض. تقر النظرية علة/ مسببًا غير ملحوظ. طورت العلوم الاجتماعية عدة منهجيات تهدف إلى حل هذه المشكلة الإبستمولوجية. يقيم الفصل الثاني عشر التقنيات الصورية/ التداولية للنمذجة السببية ودراسات الحالة والتجريب.
وسيتبقى لنا القضية الواسعة النهائية التي تستدعي موضوع الطبيعانية، وهي: دور العقلانية والقواعد في الفهم العلمي الاجتماعي. تتقاطع هذه القضية مع موضوع المعيارية، لكننا هنا معنيون بمكانة القواعد في التنظير العلمي الاجتماعي. غالبًا ما يحتكم علماء الاجتماع إلى القواعد، لكن قد يتساءل المرء إذا ما كانت القواعد تفسر كل شيء حقًّا. هل حقيقة أن هانا يُفترَض بها أن تفعل شيئًا ما يفسر سبب قيامها به؟ غالبًا ما يجادل الطبيعانيون ذوو الطابع الميتافيزيقي أن هذا لا يفسر ذاك، لكن هذا يعتمد إلى حد ما على كيفية تصوُّر المعايير والقواعد والقيم. سيُخصَّص الفصل التاسع أساسًا لهذه المشكلة، مع أنها ستظهر في الفصل الرابع، والبند 5.1، والبند 10.3 أيضًا.
اعتدنا أن يصور لنا الفلاسفة العلوم مُرتَّبة في تسلسل هرمي؛ فالفيزياء هي الأساس الذي تُبنى عليه الكيمياء، وتتبعها تواليًّا البيولوجيا والسيكولوجيا ثم العلوم الاجتماعية. أما وقد بنينا بيتًا من البطاقات مثل هذا، فقد يتساءل المرء عما تتطلبه تسويته بالأرض: هل يمكن اختزال العلوم الاجتماعية إلى السيكولوجيا التي تُختزَل بدورها إلى البيولوجيا؟ وهل يُختزَل كل شيء نهايةً إلى الفيزياء؟ وتلك هي تساؤلات الاختزالية. ومثلها مثل الطبيعانية، تُعَدُّ الاختزالية موضوعًا يشمل كثيرًا من القضايا، وهي مثلها أيضًا في أنها تُصحَب بتنوعات إبستمولوجية وميتافيزيقية. ويعتمد التباين بين هذه التنوعات على الكيفية التي يُفهَم بها الاختزال؛ فقد قال البعض بأن الاختزال علاقة بين النظريات. ارتأت الاختزالية الإبستمولوجية أنه يمكن استبدال النظريات على مستوى ما بنظريات على مستوى أدنى. على سبيل المثال: يمكن تفسير كل شيء قابل للتفسير بواسطة السوسيولوجيا نهايةً في ضوء مصطلحات السيكولوجيا (ولا يحتاج المرء إلى الاستمرار في هذا بالطبع؛ فثمة أسباب لعدم قابلية اختزال السيكولوجيا إلى البيولوجيا). من ناحية أخرى، ترى الادعاءات الميتافيزيقية المتعلقة بالاختزالية أن الكيانات أو الخصائص أو العمليات أو الأحداث على مستوى ما ليست سوى كائنات على مستوى آخر؛ فلا وجود للعقول (minds)، وإنما أدمغة/ أمخاخ (brains) فقط، كما قد يرى الاختزالي. ومن الممكن تبنِّي موقف مناهض للاختزالية بنكهتي الإبستمولوجية والميتافيزيقية على النحو الذي نجده في التمايز بينهما في الطبيعانية، كما يمكن أن تكون اختزاليًّا في نوع دون الآخر. سنتعرض لكثير من الفلاسفة وعلماء الاجتماع الذين يقبلون الاختزالية الميتافيزيقية لكنهم لا يعتقدون أن نظريات العلوم الاجتماعية يمكن استبدالها بالسيكولوجيا.
تتداخل موضوعات الاختزالية والطبيعانية، لكنها ليست متمادّة. وكثيرٌ ممن يحاجّون بشأن الاختزالية (سواء كانت إبستمولوجية أو ميتافيزيقية) مدفوعون بالتزامات طبيعانية. قد يجادل المرء أنه نظرًا لوجود عالم واحد متصل سببيًا والبشر جزء منه (الطبيعانية الميتافيزيقية)، يجب أن تختزل الخصائص الاجتماعية والسيكولوجية إلى الخصائص الفيزيائية. كتعميم تقريبي، ربما يكون من الإنصاف القول أن كل الاختزاليين طبيعانيون. لكن العكس ليس صحيحًا: ليس كل الطبيعانيين اختزاليون. يمكن أن يحتوي العالم الطبيعي على مجموعة متنوعة من الأنواع الأساسية من الأشياء التي لا يمكن اختزالها جميعًا إلى ركيزة أولية، وفي نفس الوقت تحتاج العلوم الاجتماعية والطبيعية إلى استخدام نفس بنيات النظرية والمنهجيات. ومرة أخرى، من الصعب حل القضايا عند النظر إليها على هذا المستوى المجرد. يستمد موضوع الاختزالية الواسع جوهره من عدة قضايا محددة في فلسفة العلوم الاجتماعية.
من المرجح أن يتعرض طلاب العلوم الاجتماعية لعبارة «الفردانية المنهجية» في سياق دراستهم. إنه اقتضاء يوجب على النظريات الاجتماعية تفسير الأحداث الاجتماعية في ضوء اختيارات أفراد الناس ومعتقداتهم ومواقفهم؛ فهي -إذا ما عُبِّر عنها بهذه الطريقة- فرضية اختزالية على نحو إبستمولوجي. بيد أنه غالبًا ما تكون الحجج بشأن الفردانية المنهجية مزيجًا من الاعتبارات الميتافيزيقية والإبستمولوجية، وسيُخصَّص الفصل السابع للفصل بين هذه القضايا. يتمثل السؤال الميتافيزيقي في إذا ما كانت الكنائس والمدارس والجيوش وما إلى ذلك أشياء متجاوزة ومتعدية الأفراد. يعُدُّ الاختزالي أن الحركة الاجتماعية أو الدولة الديمقراطية ليستا أكثر من مجرد أنماط من الأفعال الفردية. لطالما كانت نظرية الألعاب أداة قوية خصوصًا لتحليل الطريقة التي يمكن أن تنشأ بها خصائص المجموعة عن الاختيارات الفردية. سيقدم البند 5.2 تمهيدًا موجزًا جدًّا عن نظرية القرار ونظرية الألعاب، وسنتفحص هذه الأدوات وتطبيقها في جميع البنود التي تستدعي الموضوعات الاختزالية.
تختزل الفردانية المنهجية كائنات المستوى الاجتماعي إلى الاختيار والفعل الفردي. ومعظم من يدافع عن هذا النوع من الاختزالية لا يقدم على تفسير الخيارات الفردية في ضوء الخصائص السيكولوجية أو البيولوجية. مما يثير تساؤلًا بشأن إذا ما كان للفاعلية والفعل الفردي شكل من الأولوية التفسيرية. أضاف عدد من البرامج البحثية الحديثة في العلوم الاجتماعية أبعادًا جديدة إلى هذا التساؤل؛ فنظرية الألعاب هي شكل نموذجي/ باراديمي للفردانية بقدر ما تفترض أن الأفراد يتحرون بعقلانية الأفعال ذات المنفعة الأكبر. كشفت الأعمال الحديثة في علم الاقتصاد السلوكي عن طرق مذهلة يفشل فيها البشر في تحقيق هذا الافتراض. سننظر في كيفية تأثير هذه النتائج في نظرية الألعاب في البند 5.3. وتتوافق هذه التجارب مع كثير من الأعمال في السيكولوجيا المعرفية، التي يبدو أنها تفسر السمات الواسعة النطاق للسلوك البشري في ضوء عمليات اللاوعي، أو العمليات الفرعية/ دون الشخصية (ستكون الآليات، التي اكتشفتها السيكولوجيا المعرفية المعاصرة وعلم الأعصاب، أمثلة على العمليات أو الخصائص «الفرعية»). في البند 6.4، سنناقش نظريات تطور التعاون البشري التي تستدعي التطور الثقافي من خلال القوى الانتقائية التي تعمل على المجموعات البشرية. تقترح هذه العائلة من النظريات الإمبريقية صورة يُقصى فيها مستوى الفاعلية (المعتقد والقصد والاختيار) ويحل محله القدرات المعرفية الفرعية/ دون الشخصية والأنماط الاجتماعية الفوق-شخصية. ليست كالاختزالية القديمة تمامًا، غير أنها تبدو مثل شبح لها.
يشير اللااختزاليون -أو «الشموليون» كما يُطلَق عليهم غالبًا- إلى الظواهر الاجتماعية التي تبدو مستحيلة التفسير أو التحليل بالمصطلحات الفردانية، والمعيارية واحدة من هذه الظواهر. والقول بأنه لا يمكن اختزال «ما ينبغي له» إلى «ما هو عليه» من المألوفات الفلسفية؛ لا يمكن تعريف معيار ولا قاعدة بنمط من السلوك. في الفصل التاسع، سنتعرض بالفحص لبعض المحاولات العلمية الاجتماعية والفلسفية لفعل ذلك.
أضحت الأنطولوجيا الاجتماعية مساحة نشطة في التحقيق الفلسفي، وسنتعمق في اثنتين من مجالاتها. أولًا: يظهر أن للأوضاع/ للمكانات (statuses) والأدوار الاجتماعية استعمالات تفسيرية؛ فثمة أمور يمكن قولها بشأن المعلمين -مثلًا- لا تبدو مكافئة لأي حقائق بشأن أفراد بعينهم. تُعَدُّ الأوضاع/ المكانات والأدوار الاجتماعية «أبنية/ تراكيب (constructions) اجتماعية» بالمعنى الحرفي المتمثل في أن مرجع وجودها (أيًّا كان ما يعنيه هذا) إلى الفعل البشري. والعرق -خصوصًا بالصورة التي يظهر عليها في الولايات المتحدة- مثال مثير للاهتمام والإرباك، وسوف نستعرض هذه الفكرة في الفصل الثامن. في القرن التاسع عشر، تُصوِّر العرق كحقيقة بيولوجية طبيعية عن البشر، فسرت فوارق بشرية بما اشتملت عليه من فوارق اجتماعية وثقافية. وبحلول منتصف القرن العشرين، رُفِضت فكرة أن العرق بيولوجي في العلوم. ورغم هذا كله، يظل العرق موضوع دراسة من الأهمية بمكان -ومتغيرًا مستقلًّا في الغالب- في العلوم الاجتماعية. عادةً ما تسير الاختزالات من المستوى الأعلى إلى المستوى الأدنى؛ إذ تُختزَل الخصائص الاجتماعية إلى خصائص سيكولوجية أو بيولوجية، بينما يبدو العرق «مختزلًا» بإقصاء البيولوجي والإبقاء على الاجتماعي. ما الذي يعنيه أن نقول إن العرق بناء اجتماعي؟
والفعل المشترك هو المساحة الثانية من مساحات الأنطولوجيا الاجتماعية التي سنُعنى بها. والأفعال المشتركة هي الأمور التي لا يستطيع شخص إتيانها بمفرده، مثل غناء أغنية ثنائية (دويتو) أو الانتصار على جيش نابليون. كان في كثير العقود الأخيرة اهتياج في أعمال الفلسفة المتعلقة بإذا ما كان يمكن تفسير الأفعال المشتركة أو فهمها كمجموع أفعال قصدية فردية، أو إذا ما كان ثمة شكل من القصدية المشتركة. ستكون هذه القضية موضوع الفصل العاشر.
Excelsior![1]
هذا الكتاب مُوجَّه إلى كل من طلاب العلوم الاجتماعية وطلاب الفلسفة. وحين درست مساقات كان المستهدفون منها على هذا القدر من التنوع، وجدت أن المساق ينتفع بالمعرفة التي قد يسهم فيها الطلاب. وأنا أشجعك، وأنت تقرأ هذا، على استعمال خبرتك الفلسفية أو العلمية الاجتماعية. إذا كنت متخصصًا في علم الاجتماع، فاستعن بأمثلة من مجالك لاختبار الرؤى المطروحة. ربما لا يكون هذا واضحًا لك، لكن القضايا الفلسفية التي تُناقَش هنا مُضمَّنة في أدبيات تخصصك النظرية والمنهجية. تساءل: أي شيء في مجالي عرضة للخطر إن أُجيب هذا السؤال بطريقة أو بأخرى؟ وإذا كنت متخصصًا في الفلسفة، فستسمع أصداء من مساقاتك الأخرى وقراءاتك. استخدم هذه الحجج والمفاهيم والمواقف لنقد الحجج في النص وتفصيلها وبيان فروقها الدقيقة. استمع أيضًا لرجع الصدى الوارد من العلوم الاجتماعية؛ فعند العلوم الاجتماعية ما تسهم به -كما تقدم الحِجاج فيه- في تساؤلات الفلسفة القديمة بشأن الوضع البشري.
في حين أن هذا النص مكتفٍ ذاتيًّا، فقد افترضت أنك ستقرأه جنبًا إلى جنب مع بعض الأدبيات الأساسية في هذا الحقل. إن كتابة كتاب في الفلسفة يشبه إلى حد ما كونك مرشدًا سياحيًّا، وأريدك أن تنزل من الحافلة وتستكشف بنفسك. ذات مرة، شبَّه فتغنشتاين اللغة بـ«مدينة قديمة: متاهة من شوارع صغيرة وميادين ذات منازل قديمة وجديدة ومنازل مسبوغة بإضافات من آمادٍ مختلفة» (Wittgenstein 1953, Section 18). والمجالات الفكرية مثلها مثل المدن أيضًا، وقد حاولت -بينما آخذك في جولة- أن أجد مسارًا يستكشف المعالم المهمة ويجعل رسم المدينة بأكملها جليًّا. سيسوق النص بإجمال بعض الحجج والسجالات المهمة، ومن ثم يوفر بعض السياق لقراءتك المساهمات المعاصرة والأدبيات المهمة تاريخيًّا.
سيشتمل كل فصل على بعض نصيحة تتعلق بمزيد المطالعة، إلى جانب عدة تجميعات عامة بشأن فلسفة العلوم الاجتماعية. تشتمل المجموعة التالية على مقالات إجمالية تتناول موضوعات هذا النص بمزيد من التفصيل:
The Blackwell Guide to the Philosophy of the Social Sciences (2003 لـ Turner وRoth، وPhilosophy of Anthropology and Sociology (2006) لـ Turner وRisjord، وThe SAGE Handbook of Social Science Methodology (2007) لـ Jarvie وZamora-Bonilla، وThe Oxford Handbook of Philosophy of Social Science (2012) لـ Kincaid، وThe Encyclopedia of Philosophy and the Social Sciences (2013) لـ Kaldis، وPhilosophy of Social Science (2016) لـ Cartwright وMontuschi، وSocial Philosophy of Science for the Social Sciences (2019) لـ Valsiner.
[1] (تعبير ثقافي قصدنا ألا نعربه) وهي كلمة لاتينية تعني «لأعلى دومًا أو قدمًا دائمًا" وكان الكاتب الأمريكي ومحرر القصص المصورة ستان لي يختم بها عموده الشهري في نشرات مارفل Bullpen Bulletins، واشتهرت حين قالها منهيًا بها دوره الشرفي في فيلم Avengers. [المترجم]
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط الخاصة بنا وملفات تعريف الارتباط الخاصة بالجهات الخارجية حتى نتمكن من عرض هذا الموقع وفهم كيفية استخدامه بشكل أفضل ، بهدف تحسين الخدمات التي نقدمها. إذا واصلت التصفح ، فإننا نعتبر أنك قبلت ملفات تعريف الارتباط.