1
تقع مدينة "إكس" بالقرب من مدخل سفوا وعلى مقربة منها توجد بحيرة ذات مياه كبريتية رائحتها تسطع في الأنوف. لما حللت إلى مدينة إكس كان سواد المصطافين قد رحل، وأمست الفنادق والأندية بعد ازدحامها مقفرة.
مثلُ هذا البلد، وهذا الفصل، وتلك الطبيعة، وذلك الخمود الذي استولى على كل ما يحيط بي من الأشياء ينسجم مع نفسي الخامدة وشبابي العاطل انسجامَ النغمات في اللحن الجميل. وكنت قد لقيت وأنا أجتاز مدينة شمبيري صديقي د. لويس فوجدته على الحال التي أنا فيها: جبين مُتغضِّن، وصدر منقبض، وجثمان مُرهَق بخواطر النفس. فدلَّني على بيت منعزل في المدينة يقوم بتدبيره طبيب بالغ السن طيب القلب هو وزوجه، وقد جعلاه للمستشفين مصَحًّا ومثابة. وعدني لويس أن يأتي إلى إكس فيقيم معي إذا ما فرغ من عمله، وسأجد ولا شك بوجوده روحًا وغبطة.
نزلت بدار الطبيب فلقيني أهلها لقاءً جميلاً، وأفردوا لي حجرة تطل نوافذها على الحديقة وما وراءها من مروج. وكانت الحجرات الأخرى قد خلت من نازليها، فما يجتمع على المائدة إلا أهل الدار ومريض أو ثلاثة من فقراء شمبيري وتورينو، قدموا الحمامات بعد انصراف الجماهير ليجدوا العيش أخف مؤونة وأقل كلفة. فلم أجد في الجماعة من يستطيع أن يطارحني الحديث، أو يعقد بينه وبيني مودة. أحس الطبيب وزوجه ذلك فأقبلا يعتذران إليَّ عن إبطاء الموسم في المدة، أو إسراع الزائرين في العودة. ثم أخذا يكلمانني عن فتاة أجنبية قعد بها عن الرحيل هزال مُلِحٌّ يخشيان أن يحُول إلى فناء بطيء. يقولان إنها وفدت عليهما منذ شهور واتخذت مسكنها من الدار في طابق منعزل، وظلت فيه هي وجاريتها لا تنزل إلى قاعة الاجتماع، ولا تأكل على المائدة العامة، وإنما يُحمَل إليها الطعام في غرفتها، ولا يراها الناس إلا في شبَّاكها مطلة من خلال الأغصان على الحديقة، أو على السلم عائدة من نزهتها بين جواسق الجبل. فأدركتني لهذه الفتاة رقة ورحمة. ذلك لأني وجدت في حظها مَشابِه من حظي. برغم ذلك لم أجد من نفسي باعثًا على رؤيتها، لأني لا أريد أن أرى أحدًا ولا أن يراني أحد، فقد خَبَتْ وقدة القلب وعادت جذوته رمادًا. كما أنني ما كنت أفكر كثيرًا في الحب، بل كنت على النقيض من ذلك أغتبط وأُزْهَى بقتلي تلك الأهواء الطفلية في قلبي، وقدرتي على تحمل بُؤ يَ الحياة بنفسي. أما السعادة في هذه الدنيا فما كنت أحسب لها وجودًا.
2
كنت أقضي أيامي في غرفتي أطالع الكتب التي بعث بها إليَّ صديقي من شمبيري؛ وفي الأصائل أخرج فأرود وحدي ما توعَّر وأوحش من مواقع الجبال التي تكتنف وادي إكس من جهة إيطاليا. فإذا أمسى المساء عدت مهدود القوى، فأجلس إلى المائدة ثم آوي إلى مخدعي فأرتفق قاعدة الشبَّاك ساعات طويلة، أتقصَّى بالنظر وجوه السماء فأشعر بانجذاب أفكاري إليها كما يشعر الواقف على شفا الهاوية بانجذاب جسمه إلى قاعها. ذات ليلة لمحت وأنا أطل من نافذتي على الحديقة نافذة مضاءة بجانب غرفتي، يشرق منها محيا امرأة قد اتكأتْ كما اتكأتُ، وأخذت تُباعد بيدها عن جبينها خُصَل شعرها الفاحم المتهدل لترى هي أيضًا الحديقة، ولتنظر إلى جلال الجبال وجمال السماء وقد ازدهر فيهن القمر. ثم ورَد صوتها على سمعي وهي تتحدث وتأمر داخل الغرفة، ففعلت لهجتها الأجنبية الصافية في قلبي فعل السُّلاف، وأثَّرت نبراتُ صوتها السقيم الرخيم في نفسي تأثير السحر، وبقي ذلك الصوت العذب يطن في أذني طنين الصدى البعيد حينًا من الزمن بعدما أغلقت النافذة.
كنت أفكر في رجع هذا الصوت وفي أثره، وما كنت أحسب أن سيكون له في حياتي رنين بعيد المدى عميق الأثر. ثم كان الغد فشُغِلتْ عنه شعابُ قلبي فنسيته. حتى كان أحد الأيام فبينما أنا داخل بعد العصر من باب الحديقة الصغير بصرت بهذه الفتاة الغريبة جالسة على أحد المقاعد تحت نظر الشمس تستدفئ بأشعتها الفاترة. لم تشعر بصوت الباب حين أغلقته فلم تُرَعْ، وظلت تحسب نفسها وحيدة، ولبثت أنا طويلاً أرمقها خِفْية بمجامع عيني لا يفصلنا إلا بضع خطوات. هي ممشوقة القد، بائنة الطول، قد أرسلت على جسمها الناحل غلالة من الجوخ مبسوطة الغضون محلولة العُرى، فكانت فيها أشبه بدُمية من المرمر في ثوب فضفاض تُعجَب بقوامها وروائها، دون أن تميز جزءًا من أجزائها. نبَّهها وقع قدمي على جفيف الورق، ففتحت جفنين فاترين، عن عينين ساجيتين، في صفاء البحر أو زرقة اللازَورد، يحف بهما أهداب طوال سود يحتال على تقليدها حسان الشرق بالصناعة ليزِدْن في نَجَل العيون، وكَحَل الجفون، وحدة النظر، وقوة الجاذبية. فقد كانت أشبه بنيران الشهب الثاقبة في حلَك الليل. ولها أنف إغريقي أشَمُّ، يعلوه جبين مرتفع ضيق، وشفتان رقيقتان على زاويتيهما أثر الذبول من حرقة الهم، وثغر شتيت الثنايا صدفي اللون كثغور الغيد من سكان السواحل الرطبة على البحار أوالجزر، ووجه كالبيضة المكنونة بدأ يناله النحول من ناحية الصدغ ومن أسفل الفم. وفضلاً عن هذه الملامح الساحرة، والمخايل الشاعرة، يستهويك من هذا الوجه سقام ليرجع سببه إما إلى هوى محرق، وإما إلى جوى مُبرحِّ، فيغترق بصرك حتى تنطبع فيه الصورة الخالدة. ذلك عرض لمرض من أمراض النفس تنم عليه قسامة بارعة، وجهارة رائعة، وجمال لا تعلق به قريحة مصور، ولا تسمو إليه مخيلة شاعر.
مررت بها عجلان فحيَّيتها باحتشام وتجلَّة، فتورَّدت وجناتها المصفرة، وانطلقت أنا في الممشى أمامها لا أربع على شيء حتى بلغت غرفتي وأنا مضطرب الحواس واجف القلب. وبعد هنيهة بصرت بالفتاة تعود إلى المنزل، فألقت على نافذتي نظرة فارغة ثم دخلت مخدعها. ومر اليوم يعقبه اليوم وأنا أراها على تلك الحال في تلك الساعة، إما في الحديقة، وإما في الفناء، دون أن أفكر أو أجسر على الدنو منها، حتى كنت أقابلها أحيانًا في زورقها على البحيرة، أو على حمارها فوق الرُّبى والخمائل، يصحبها لفيف من البنات الصغيرات يقُدْنَها ويقطفن لها ثمر الفريز، فما أُظهر لها مما يُوجِبه الجوار من دلائل العطف والاهتمام أكثر من تحية ألقيها في إجلال وحشمة، فتردها هي في ذهول وهم، ثم يأخذ كل منا سمته فوق الجبل أو على متن الماء.
كنت أشعر بانقباض الصدر واضطراب البال في كل مساء لا أراها في نهاره. فأنزل إلى الحديقة دون سبب معروف ولا داعٍ موجب؛ وأمكث فيها على الرغم من برودة الليل أراعي نافذتها بنظري، وأتحامل على نفسي فلا أنصرف حتى أرى ظلها خلال الستائر، أو أسمع نغمة من بيانها أو نبرة من صوتها. وقصارى القول أني أحسست في قلبي نوازع الهوى وأعراض الصبابة قبل أن يقع في ظني أني أحب.
على أن هذه العاطفة القوية لم تصحبها في نفسي رغبة في استطلاع سر هذه العزلة، واختراق هذا الحجاب الواهي الذي ضربناه بيننا باختيارنا. وماذا يعنيني من امرأة ضاوية الجسم أو عليلة الفؤاد قابلتها عرضًا في هذه البلاد الأجنبية؟ لقد نفضت يدي من شواغل الحب، ولم أُرِد أن تصلني بالحياة ثانية علاقة من علاقات النفس والحس، أو يستولي عليَّ وهن من ضعف القلب أو مرض الشعور. لقد كنت أحتقر الحب لأني لم أرَ فيه إلا الدلال العابث، والدنس المُريب.
3
من تكون هذه المرأة؟ أهي مخلوقة من نوع الإنسان، أم طيف من طيوف الغيب؟ ولعمري أهي فارغة القلب فتستطيع أن تجيب عن حبي بمثله؟ ألها أب وأم وأخوات وإخوة؟ أم لها زوج ضرب الدهر بينها وبينه، فهو ماثل في قلبها وهي ماثلة في قلبه، وهو يعيش على حبها كما تعيش هي على حبه؟
على أن أسرة الطبيب الشيخ لم تكن لتتكرم مثلي عن مهاجمة هذا السر، فأجابت داعي الفضول واستحبَّت لنفسها ولأضيافها أن يخوضوا في شأن هذه الفتاة الأجنبية، وراحوا يستقطرون أخبارها، ويتسقَّطون أسرارها، ويتكهنون بما حجب الغيب من أمرها، ويجعلون ذلك حديث المائدة وموضوع السمر، فكان ذلك يقع في أذني دون أن أسأل عنه أو أثير البحث فيه، بل كنت أحاول منعه أو قطعه فلا أستطيع.
علمت من أمر هذه الفتاة أنها تقطن باريس، وأنها زوج لشيخ كريم سار ذكره في القرن الماضي بطائفة من الأبحاث العلمية أضافت إلى حصائل العقل البشري ثروةً وفرةً. راعه ما رأى من جمالها، وفتنه ما عرف من ذكائها، فتبناها قبل أن يبني بها ليترك لها بعد موته اسمه وماله. وأحبته هي محبة الولد البار للوالد الحنون، حتى اعتراها منذ عامين نحول شفَّ جسمها، وأقلق زوجها فاستوصفت الأطباء فأمروها بالرحلة إلى الجنوب تغييرًا للهواء وترويحًا للنفْس. فجابت معها أقطار سويسرا وإيطاليا. ولكن تبدُّل الأجواء، وتغيرُّ الهواء، لم يمسحا عن جسم العليلة شحوب السقم، ولم يعيدا إليها كمال القوة. فجاء بها إلى مياه إكس طبيب من جنيف مخافة أن يكون ما بها مرضًا من أمراض القلب.
4
أخذت بواكير الثلج تلفع رؤوس التَّنُّوب على قمم سفوا، لذلك عزفت عن التجوال في الجبال، ورحت أرتع في رُبى الوادي بين خمائله وجنانه، ودأبتُ أقضي شطرًا من النهار على متون الماء حتى عرفني الملاحون. كذلك كانت الفتاة تستقل زورقها الحين بعد الحين إلى جولات لا تطول مدتها ولا يبعد مداها. ونُوتِيَّتها الذين يتولاهم شيء من الزهو والفخر بقيادتهم لها لا يغفلون عن النظر في وجه السماء يرقبون ظواهرها ويستطلعون سرائرها، فإذا رأوا مخايل المطر، أو أحسوا دلائل الخطر، نبهوها إلى ذلك فتعود، على أن الجو خدعهم ذات مرة فهونوا عليها عبور البحيرة كي تزور أطلال دير الهتكمب على العَدْوة الأخرى. فأقلعوا بها، ولكنهم ما كادوا يبلغون الثلثَين من عرض البحيرة حتى عصفتهم ريح هوجاء أُرسِلت عليهم من مضايق وادي الرون فأثارت الأمواج، وطاحت بشراع السفينة ولا عدة للملاح غير مجدافين يكافح بهما الموج الهاجم والخطر الداهم عن الفُلك الهلوع. لم يعد الرجوع في طوقه ولا إمكانه، وبينه وبين صخور الهتكمب نصف ساعة من الجهد الجهيد والرهق الشديد والغرق المتوقع. وكان قدَرُ الله أو حظ نفسي يقود في هذا اليوم وفي هذه الساعة زورقي المتين على وجه الماء، ومعي أربعة من شداد المجدفين أقلعت بهم إلى جزيرة من جزر البحيرة. وكانت عيناي تتبعان زورق الفتاة على مدى الطرف، وابتدرنا العاصفة بقلب واحد عسى أن ننقذ الزورق الهالك المكروب. على أن الله كتب للهالكين السلامة، فقيَّض للزورق ساعةَ لحقناه موجةً كالجبل قذفت به إلى الساحل أمام أطلال الدير. وكان الملاح المسكين يطلب منا المعونة والغوث بحركة المحزون وحالة المجنون وصوت المُدلَّه، ويشير بيده إلى جوف الزورق، فدنونا ثم نظرنا فإذا الفتاة هامدة الجسم فاقدة الرشد، وإذا الماء قد غشىَّ ساقيها وذراعيها بطبقة من الزبد والصقيع، إلا صدرها وما علاه فقد كان بنجوة من الماء. وكان رأسها كرأس الميت مسندًا إلى صندوق صغير من الخشب، وشعرها متهدلاً على سالفتيها وكتفيها كجناحي طائر أسود قد غرق إلى نصفه في غدير، وجهها الباقي على إشراقه وروائه تنتشر عليه سكينة النوم الهادئ انتشار الجمال الرائع تتركه الروح على وجوه الفتيات يوم الفناء. أبدًا ما رأيتها ولن أراها في مثل هذه السحنة الإلهية القدسية. فهل كان الموت ميلادًا لهذه الصورة السماوية، أم أراد الله أن ينقش على لوحة خاطري لأول انفعال أكمل هيئة لأجمل صورة، لتكون على الدوام لعيني مثالاً مشهودًا، ولقلبي تمثالاً معبودًا؟
بادرنا إلى الزورق لننشل المحتضرة ونحملها إلى خلف الصخور. وتقدم بحار فأخذ بقدميها وجعلت أنا كاهلها ورأسها على صدري ثم حملناها دون أن تحس ولا تعي إلى كوخ صياد تحت صخرة الهتكمب كان الملاحون يتخذونه فندقًا يُؤوون إليه مَن يعبرون به البحيرة إلى زيارة آثار الدير. كان هذا الكوخ مشتملاً على حجرة ضيقة مظلمة مغبرة من الدخان. وبجانب المدفأة سلم خشبي يصعد بك إلى حجرة عليا واطئة تنيرها كوة ناظرة إلى البحيرة، قد شغل فراغها ثلاثة أسرَّة ذوات أبواب من الخشب أُغلِقت عليها. دخلنا الكوخ فإذا أهله رقود فوق الأسرَّة. فلما شعروا بنا استيقظوا، وأقبلت ربة البيت ومعها فتاتان فأخذن السيدة وألقينها على حَشِيَّة قريبة من المدفأة، وأوقدن لها نارًا هادئةً من القش وأعواد الرَّتم، وخرجنا نحن وأخذ النسوة ينضون عنها ثيابها ليجففنها ويمسحن عن جبينها وشعرها ما تقطر من ماء البحيرة، ثم رفعنها وهي لا تزال غائبة إلى أحد الأسرَّة بعد أن مددن عليه ظِهارة بيضاء أدفأنها بحجارة ساخنة من حجارة الموقد على عادة القرويين في هذه الجبال، وجرعنها نُطفًا من الخل والنبيذ عسى أن يعود حسها، وترتد إليها نفْسها، فما رجعن بطائل. فلما ذهبت عنايتهن هواء، وعناؤهن هباء، انفجرن بالبكاء والعويل، وطفقن يرددن قولهن: "ماتت الآنسة! تُوفِّيت السيدة! لم يبقَ إلا البكاء ودعاء القس".
ما أظن أحدًا في الناس وقع له ما وقع لي أثناء هذه الساعات الطوال من شخوص البصر وهيام الفكر في جو من التأمل العجيب والتفكر الشديد، فقد كنت مُوزَّع القلب مُقسَّم الخاطر بين الحب والموت، لا أدرى ماذا يبيته لي الغيب في ضمير الليل: أيكون لي من هذا الوجه الملكي الماثل أمام عيني حزن وألم يبقيان بقاء الأبد، أو حب وعبادة يتخللان مني مسالك الروح في الجسد؟
دخل النسيم نديًّا باردًا فملأ الغرفة وأطفأ المصباح الخامد، ولكن النائمة لم تهب ولم تتحرك. وسمعتُ النسوة المساكين يصلين جماعة صلاة الصبح في خفوت وقنوت ورهبة، فوقع في نفسي أن أصلي أنا أيضًا، فجثوت على الأرض وشبكت يديَّ على حافة السرير، وحدقت ببصري في وجه الفتاة، ثم صليت وأطلت الصلاة بقلب خاشع وجفن دامع وشعور متقد؛ وسالت مذارف عيني فحجبت عني صورة من أدعو لها الله وأرجو لها اليقظة.
كنت أستطيع أن ألبث على هذه الحال ساعات طوالاً دون أن أشعر بمرور الزمن، أو أحس ما نال ركبتي من أذى البرد وصلابة الحجر. ولكنني شعرت فجأة بيد لمست يدي وسقطت برفق على رأسها كما لو تريد أن تنحي شعري عن وجهي وأن تبارك عليَّ. فصحت من الدهش ونظرت فإذا عين المريضة شاخصة، وإذا فمها ناسم باسم، وإذا يدها مبسوطة تبحث عن يدي وهي تقول: "لك الحمد يا رب، لقد رزقتني أخًا!"
فأمسكت يدها المبسوطة إليَّ ونحَّيتُها عن جبيني إكبارًا لها أن تمسني، ثم قلت: «كلا يا سيدتي لست أخًا، وإنما أنا عبد لهواك وظل لشخصك، لا أبتغي الوسيلة إلى نعيم الدنيا وسعادة الآخرة إلا بأن يكون لي الحق في تذكار هذه الليلة، والاحتفاظ بصورة هذه الحورية التي تستطيع وحدها أن تُحبِّب إليَّ الموت لأجلها، أو تُهوِّن عليَّ الحياة في ظلها »
وبينما كنت أنطق هذه الكلمات بلسان ثقيل متردد، وصوت خافت متهدج، كان ورد الحياة يتفتح في وجنتيها، وابتسامة حزينة تنتشر على شفتيها، وشك مريب في هذه السعادة يبدو في عينها.
ولما أعياني احتمال هذه الصدمة، واستقَّلتني من رهبة الصمت وجلال الموقف رعدة، دعوت النسوة فأقلبن. وما كادت تقع أنظارهن على الفتاة حتى هفت قلوبهن من دهشة المفاجأة، واعتقدن أن انبعاثها من غشيتها معجزة. وجاء في هذه الساعة الطبيبُ الذي بعثنا في طلبه البارحة، فأمرها بالراحة ووصف لها نقيعًا من أعشاب هذا الجبل، فهدأ به قلبها وسكن.
5
لم أكن في هذه الآونة مالكًا لمشاعري، ولا ضابطًا لخواطري، حتى أوضح في نفسي هذه الأفكار المبهمة. فقد كنت أشبه برجل آده عبء فادح فألقاه عن ظهره ثم انطلق عافيًا من تعبه، لم يكن ذلك العبء الذي ألقيته وتخلصت منه غير قلبي. فإنني منذ أعطيتها إياه شعرت لأول مرة بتمام الحرية وكمال الحياة. إنما خُلِق الإنسان للحب. فهو لا يشعر برجولته وإنسانيته إلا يوم يشعر حقيقة أنه يحب.
كان ذلك الشعور في نفسي غير مُعيَّن ولا مُبيَّن ولا محدود. فقد كان كمالاً لا يقدر ولا يفصل، ووحدة لا تجزأ ولا تحلل، لا من طريق الفكر ولا من طريق العقل. لم يكن مبعثه جمال هذه المرأة الفاتن الذي أعبده، لأن ظلال الموت لم تزل ممدودة بين جمالها وعيني؛ ولا الصلف والزهو بأنها تحبني، لأني أجهل مكاني منها، فربما كنت في عينها حلماً بدا ثم تبدد؛ ولا الأمل في نيل هذه المتعة الجميلة، لأن إجلالي لها كان فوق هذه الشهوات السافلة والملذات الباطلة فلا أخطرها ببالي. كان مبعث شعوري وسروري شيئًا آخر غير هذا كله: كان عاطفة نزيهة نقية هادئة لا يشوبها غرض من أغراض الحياة، ولا عرض من أعراض المادة.
أفاض هذا الاعتقاد على حبي سكينة الدوام، وهدوء اليقين، وسعة اللانهاية، ونشوة الفرح، الذي لا تقر فورته، ولا تسكن سورته على طول الأبد. فتركت الساعات تمر دون حساب ولا عد، ثقةً بأن ما أمامي منها لا حصر له ولا حد. وكان في استطاعتي أن أفارق هذه الفتاة قرنًا من الدهر دون أن يعبث هذا الزمن البعيد بحبي، فلا يقلل يومًا من خلوده ودوامه، ولا ينقص شيئًا من كماله وتمامه.
أنا لم أعد قط إنسانًا، وإنما كنت تسبيحة هائمة، وتحية دائمة، أصيح وأغني، وأبتهل وأصلي، وأذكر وأشكر، بالفيض والإلهام، لا بالنطق والكلام، فمشاعري ثملة فرحة، ونفسي هائجة مرحة، وجسمي ينتقل من هاوية إلى لُجة غير ذاكرٍ هيولاه، ولا معتقد بالزمان ولا بالمكان ولا بالموت. وهكذا فجَّر الحب في قلبي ينابيع الغبطة، وأيقظ في نفسي راقد العواطف، وجلا لعيني مسارح الخلود.
لا أدرى كم لبثنا على هذه الحال إلى أن قالت بصوت متهدج ولهجة بطيئة رزينة: «أبَعد أن ذرفت عليَّ عبرتك، ومنحتني أخوَّتك، تهاب الكلام ولا تجرؤ على الحديث؟ إن دمعة تسكبها عين نزيهة من قلب مجهول لهي أثمن من حياتي وأجلُّ نعم الله عليَّ ». ثم أشربت صوتها نغمة العتاب الرقيق وقالت: «لعلني عدت غريبة في عينك، منذ أصبحت غنية من عونك! أما أنا فما كنت أعرف منك إلا اسمك ووجهك، والآن عرفت نفسك معرفة ما كانت تتهيأ لي في قرن ». فقلت لها: «أما أنا يا سيدتي فلا أريد أن أعرف منك ذلك الجثمان الحي الذي يشبه ما للناس، وتصله بهذه الحياة علائق كعلائق الناس، وإنما أريد أن أعرف ذلك السر الذي نقلك إلى طور الخلود، وسما بك إلى أفق الوجود، ودعاني إلى أن أراعيك بنظري على بعد، وأستحضرك في قلبي كل لحظة ». فقالت: «لا تخدع نفسك هذا الخداع، ولا تُضفِ عليَّ من قلبك هذا الثوب السماوي والنور الإلهي، فإنك لا تدري مقدار ألمي إذا انكشفت الأيام عن ضلال هذا الوهم، وفساد هذا الزعم، وتبدُّد هذا الحلم. لا ترَ فيَّ أكثر من امرأة بائسة تقضي نحبها في ظلمة اليأس ووحشة العزلة، وكل ما تزوَّدته من الناس وادخرته من الحياة شيء من الرحمة قليل. ستعلم ذلك حق العلم يوم أكشف لك عن حقيقة حالي وباطن أمري. ولكن أخبرني قبل ذلك عن شيء فيك طالما ساورني منه إشفاق وقلق منذ رأيتك في الحديقة. ما بالك وأنت في ميعة الشباب ومرح الصِّبا وجمال الخلقة تسير مع الهم وتستأنس بالوحشة؟ لماذا تتحامى الناس وتعتزل أهل المنزل وتؤثر الانفراد بنفسك في مجاهل الجبل أو البحيرة؟ هل ينطوي ضميرك على سر لا يستريح بمكنونه إلا إلى الخلوة؟» قالت ذلك ثم انتظرت على قلق بادٍ وإشفاق ظاهر وهي ناكسة الطرف مخافة أن ينم وجهها على ما يحدث جوابي في قلبها. فأجبتها: «إن هذا السر هو أن ليس لي سر. هو الشعور بعبء ذلك القلب الذي لم تُهِجه إلى الآن في صدري حماسة، ولم ترفعه بين جوانجي حمية. هو الألم مما أصاب هذا القلب الكسير الذي جدت به على الحب الناقص والعواطف المكذوبة، ثم اضطررت إلى استرجاعه دامي الشغاف، مضطرب الوجيب، عزوفًا عن اللهو، يؤوسًا من الحب، وهو في غرب شبابه وحدة شعوره».
ثم قصصت عليها ما يعنيها من تاريخ حياتي وجملة أمري بلسان صادق ولهجة صريحة. ثم أخذت جوليا تسوق إليَّ تاريخ حياتها من ولادتها على مقربة من بلد فرجيني وهروبها وأمها حين كانت رضيعة من مذبحة البيض في سان دومينيك، لكن تغرق السفينة وتموت أمها وتربيها امرأة زنجية حتى تردها إلى أبيها بعد بضع سنين. لكنه يموت فتأويها الحكومة في أحد الملاجئ تكريمًا لأبيها. وكان رجل نبيه الصوت مرتفع السن يزور المعهد الحين بعد الحين من قِبل الإمبراطور ليقف على تقدم التلميذات في العلوم والفنون التي يتلقينها عن كبار المعلمين في العاصمة. ذات يوم عرض ذلك الرجل النبيل عليها الزواج وهي قبلت وأصبحت زوجته. أكملت قائلة: "في اليوم الذي خرجت فيه من ملجأ اليتامى دخلت منزل الشيخ. ومضى الناس يدعونه زوجًا ويأبى هو إلا أن أدعوه أبًا. وبذل لي من ذات نفسه واحترامه واهتمامه كل ما يستطيع بذله، وجعلني شمسًا وضَّاءة لهالة من الشيوخ الأجلاء المصطفين الذين ذهب سمعهم في الناس بالنبوغ في الآداب"، تلك هي حياتي: شباب مطمور في ثلوج المشيب، أنقذ روحي من يد الموت، ولكنه أنحَل جسمي بالسقم، ومكَّ في طبعي بالسأم. آه! لشد ما تفصل السنون الطويلة بين قلوبهم وقلبي! وما كان أطيب للنفس وأثلج للصدر لو كان لي بجانب هؤلاء صديق أو صديقة يدفئ خلاطها برودة خواطري وهي تتجلد في نفسي كما تتجلد أنداء الصباح على الزهور القريبة من ثلاجات هذه الجبال!
وكان زوجي ينظر إليَّ نظر المحزون، والأسى يكاد يرهقه كلما رأى صوتي يناله الخفوت ووجهي يمسه الشحوب، ويتمنى أن يبعث في نفسي روحًا وقوة، وفي قلبي حياةً وحركةً؛ وكان لا يفتر عن دعوتي إلى كل ما يزيح علَّتي، ويذهب وحشتي، ويبسط انقباضي، من متع الحياة وملاهي العيش؛ أو يعهد بي إلى من يعرف من صديقات وصواحب. ويضطرني في حنان ورأفة إلى الظهور في الحفلات والمراقص والمسارح. وكانت نضارة شبابي ووضاءة وجهي تبعثان في قلبي السرور والزهو بما تفيضان على من حولي من النشوة والبهجة.
وفى صباح كل ليلة من هذه الليالي الساهرة الزاهرة كان زوجي يدخل عليَّ الغرفة ويستنبئني عما أحدثتُ من آثار واسترعيت من أبصار وهززت من قلوب. ثم يقول لي بلسان رقيق عذب: أنت إذن لم تشعري بأثر جمالك في الأعين، ولا بسحر جلالك في القلوب! إن قلبك الشاب وهو في العشرين من سنه خُلِق شيخًا فانيًا كقلبي. فأجبته: إن صداقتك حسبي، وإني لسعيدة لا يكدر صفو حياتي ألم، ولا يشغل بالي هم. فقال: ولكنك تهرمين وأنت صبية. وأنا أريد أن تعيشي لتغمضي عينيَّ، وتذرفني دمعة غالية عليَّ. فجددي شبابك وأحيي قلبك ودومي مهما كلفك الدوام حتى لا أكابد برجاء فقدك، ولا أتجرع غصص الحياة من بعدك. ثم دعا الأطباء طبيبًا بعد طبيب، فأعنتوني بتكرار الفحص وكثرة الأسئلة، ثم اجتمعت كلمتهم على أني معرضة لتشنج القلب، وقد بدت أعراض الداء الأولى، فلا بد لي من هزة عنيفة في حياتي الهامدة، وغيبة طويلة من هذه المعيشة الراكدة، وتغيير تام للهواء والسماء حتى يعود إلى طبيعتي الحارة ما فقدته من النشاط والقوة في ضباب باريس. فما تردد زوجي في إيثاره سلامتي وبقائي مع البعد عنه، على سروره برؤيتي كل يوم بالقرب منه. فاتفقنا على الرحلة، وكان يود لو يرافقني فيها، ولكن حال بينه وبين ودادته عوائق السن وتكاليف الوظيفة. فعهد بي إلى أسرة أجنبية كانت راحلة بفتاتين من سني إلى إيطاليا وسويسرا، فسحت معها عامين، ورأيت هذه الجبال وتلك البحار التي ذكرتني بمناظر بلادي وأيام صباي، واستنشيت نسائم هذه الأمواج الفاترة، وهواء هذه الثلاجات المنعش، فلم يستطع شيء من ذلك أن يرد عليَّ شبابي الذاهب ولا عمري المفقود. فأرسلني أطباء جنيف إلى هذا المكان ليجربوا آخر حيلهم، ويأتوا على كل ما بقي من أملهم. وأمروني أن أقيم به ما دام لشمس الخريف شعاع. فإذا دنا الشتاء انصرفت عنه إلى زوجي، وقد كنت أرجو أن يرى ابنته بعد عودتها صحيحة الجسم رفافة الإهاب ريانة الشباب قوية الأمل في المستقبل، ولكني وا أسفاه لا أعود إلا لأُسوِّد يومه، وأطير نومه، وأسمم بالحسرات ما بقي من حياته. وربما حم القضاء فينطفئ سراجي أمام عينيه، وألفظ نفسي بين ذراعيه.
6
فهوى رأسي على قدميها من فرط السعادة، والتصق بهما فمي لا يحير جوابًا، ولا يستطيع خطابًا. وأقبل الملاحون يعلموننا أن البحيرة قد هدأت، وأن ما بقي من النهار لا يكاد يبلغ معنا شاطئ سفوا. فنهضنا من مكاننا واتبعناهم بخطى متثاقلة مختلجة. كان وجه البحيرة الليلة في هدوئه ودفئه، على قدر ما كان البارحة في اضطرابه وبرده؛ وكانت الجبال غرقى في صبغ خفيف من البنفسج تعظم فيه وتبعد كلما طغى عليها فمحاها، فما كنت تدري أهي جبال أم ظلال ضخمة متنقلة لطيفة تتراءى من خلالها سماء إيطاليا الحارة! وكان يُخيَّل إلينا أننا ننتقل من زرقة الماء إلى زرقة السماء دون أن نرى الساحل الذي تركناه، ولا الساحل الذي قصدناه. ثم تنفست الصعداء كمن ناء به حمل فادح فرفَّه عن نفسه بإلقائه، فأدركني شيء من القلق عليها وسألتها: أتتألمين؟ فقالت: كلا ليس ما بي من ألم. وإنما كنت أفكر. فقلت لها: وفيم تفكرين؟ قالت كنت أرجو أن الله يصيب الطبيعة كلها بالوقوف فلا تسير، ويظل قرص الشمس غريقًا إلى نصفه وراء الصنوبر الذاهب في الفضاء، كأنه الأهداب لأجفان السماء، ويستمر هذا المزيج من النور والظلام ضاربًا في عرض الأفق، ويدوم ماء البحيرة على صفائه وزرقته، وهذا الهواء على دفئه ورقته، ويقف هذا الزورق بين الشاطئين، وقوف إنسان العين بين الجفنين، ويبقى هذا الشعاع الأثيري مشرقًا فوق جبهتك، وذلك النظر الحنون المشفق منبعثًا من مقلتك، وهذا السرور الذي يعمر قلبي بعطفك ورحمتك. ثم أرسلت نفسها على سجيتها واطمأنت إليَّ، وأقبلت بأسرها عليَّ وقالت: وما لي وللألفاظ ودلالتها؟ إني أحبك. وإذا كتمت ذلك نمَّ عليه الوجود وفضحته الطبيعة. وإذا شئت فدعني أجهر بالقول وأبوح بالسر عن لساني ولسانك إن كلينا يحب الآخر. فقمت مستطار اللب كمن مسَّه الجنون، وأخذت أذهب وأجيء على الزورق الهادئ، ثم صحت قائلا: قولي ذلك وأعيديه، ثم قوليه لي وأعيديه ألف مرة، ولنقل ذلك معًا، لنقله لله وللناس! فوضعتْ أصبعها على فمي وقالت: خفض عليك جأشك ودعني أتم كلامي دون مقاطعة. فعدت إلى مكاني ولزمت الصمت، وعادت هي تقول: نعم لقد قلته لك وما قلت وإنما صرحت من أعماق نفسي حين عرفتك أني أحبك. وأحبك بمقدار ما عانيت من انتظار ورجاء مدة ثمان وعشرين سنة من السنين العقم قضيتها في الفراغ أنظر ولا أرى، وأبحث ولا أجد، وأجري ولا أصل إلى من أدركه الوجدان ونمَّ عليه الحلم. لقد عرفتك وأحببتك بعد فوات الوقت وذهاب الفرصة إذا كان مذهبك في الحب كمذهب سائر الناس، وفهمك للعشق كفهمهم له، وأظنه كذلك، فإن جملتك الدنسة الرعناء التي ألقيتها عليَّ منذ قليل دلَّت على دخيلة نفسك. فألقِ بالك إليَّ وتفهَّم ما أقول لك – إني لك بجسمي وحسي، وقلبي ونفسي، لا أذودك عن أمر، ولا أدافعك عن سر، ولا أقصيك عن منال. أقول ذلك دون أن أسيء إلى ذلك الشيخ الكريم الذي تبناني وأغناني، فإنه لم يرد قط إلا أن يكون لي أبًا، وأن أكون له ابنة. فليس إذن ما يمنعني أن أعطيك من نفسي ما تحب، وأمنحك من صلتي ما ترغب، وألا أمنع منك إلا ما تأمرني بمنعه. ولكن هل تريد أن تكون الصلة بين سعادتي وسعادتك هي هذه الشهوة العاجلة، والنشوة الزائلة، وهي مُتُِع الوجدان وتسر النفس لو تركناها، أكثر مما تلذ الجثمان وترضي الحس لو قضيناها؟ ألا تعتقد أن حبنا يكون أمتع وأرفع وأبقى وأنقى ما دام مصونًا في خدر العفاف نازلاً في مناحي الخلود حيث لا يتقلب الحدثان ولا يعدو الموت؟ فإذا تدلى إلى اللذة الحسية الوضيعة، وتدنى إلى الشهوة الدنسة الحقيرة، فقد كبرياءه ونماءه وبقاءه؟ ثم زفرت زفرة كاد صدري ينشق لها وقلت: لقد فهمتك، وإن يمين التقديس لك والتنزيه لحبك والإخلاص والوفاء لشرفك قد أقسمه قلبي قبل أن تتمي حديثك وتكشفي عن غرضك.
7
كان من أثر إذعاني لإشارتها واستسلامي لإرادتها، أن فاض في قلبها السرور وازداد في نفسها جمال الحنان. وكان الليل قد نشر ذوائبه على البحيرة، ونجوم السماء قد تراءت في صفحة الماء، وسكون الطبيعة الخاشع قد ألقى على الأرض فتور الكرى.
بلغنا ميناء بِرْتُويس، وهو مرفأ صغير داخل في البحيرة ترسو به السفن القادمة إلى مدينة إكس على مسيرة ميلين منها. وكنا في الليل، فلم نجد هناك مركبة ولا مطية تبلغ الفتاة عليها المدينة، والشقة بعيدة لا تقوى المريضة على قطعها راجلة. فلما استيأسنا من وجود ما نركب، اقترح الملاحون أن يحملوا السيدة إلى إكس، وعمدوا إلى مجاديفهم فسلوها من حلقاتها وشدوا بعضها إلى بعض بالحبال. ثم وضعوا عليها وسادة من وسائد الزورق، فتم لها بذلك محفة وثيرة لينة ضجعوا فيها الفتاة. وتقدم منهم أربعة فحملوا المجاديف كل واحد من طرف، وساروا بها في رفق لا يميلونها ولا يهزونها قدر المستطاع.
ولما بلغنا منزل الطبيب الشيخ وأنزلنا المريضة أمام غرفتها، أحسست كأن عالمًا بأسره انقض بيننا، وشعرت أن يدي قد ابتلت من دموعها، فمسحتها بثغري، وجففتها في شعري، وذهبت فارتميت على سريري دون أن أخلع ثيابي، أو أغلق عليَّ بابي.
صحوت من نومي وقد ارتفع الضحى وتلألأت الغزالة في صدر الأفق، وانتشرها ضوؤها الوهاج في أرض الغرفة. فبدلت ثيابي وقد اتسخت من الغبار والزبد، وغسلت عيني وقد مَرِهتا من السهاد والأرق، وسرحت شعري الأسود. ثم تقلدت بندقيتي ونزلت إلى المائدة العامة أفطر مع أسرة الطبيب وضيوفه. وكان حديث المائدة يجري عن العاصفة التي هبت بالأمس على البحيرة، وعن الخطر الذي حاق بالفتاة المريضة، وعن غشيتها في الدير وغيبتها مدة يومين، وعن السعادة التي كتبها الله لي في إسعافها والعودة بها. فرجوت من الطبيب أن يذهب إليها يستفهمها عن صحتها، ويسألها لي الإذن في صحبتها. فصعد إليها ثم نزل بها وهي من غبطتها وجزلها أبهى جمالاً وأقوى حياة وأشد روعة.
زرت أنا وهي على التعاقب جميع الخلجان والوديان والكروم وأسياف البحيرة والشلالات الهادرة في صدوع الصخور من سفوا، تركنا في كل بقعة من هذه البقاع نفَسًا من أنفاسنا، وزفرة من حماسنا، وصلاة من صلواتنا، ورجونا منها في السر والعلن أن تحتفظ بذكرى هذه الساعة التي قضيناها معًا. ما أسعد قلبي وأثلج صدري! إن الشهوة الحيوانية الدنيئة انطفأت جذوتها -كما شاءت هي- في حسي، باستيلائي على نفسها واستيلائها على نفسي، فعدت أتقى وأنقى مما كنت.
كنت كلما أويت إلى غرفتي أثناء اللحظات القصيرة التي أُضطَر فيها إلى تركها أشعر وأنا في رائعة النهار كأني في نفق تحت الأرض لا يمر به الهواء ولا ينفذ إليه الضياء! وكانت الشمس نفسها على شدة تألقها وقوة توهجها لا تضيء لي الأشياء ما لم تنعكس في عيني منها، وكنت كلما زدتها نظرًا زادتني إعجابًا وارتيابًا في أنها خُلِقت من النوع الذي خُلِقتُ منه. ولقد أصبحت ألوهية حبها في ذهني حقيقة ثابتة، وعقيدة راسخة، فنفسي لا تفتر عن الخضوع والركوع أمام هذه المخلوقة التي جلت بجنانها على أن تكون إلهًا، وسمت بقداستها على أن تكون امرأة.
ولما جاء موعد السمر، دخلت عليها الغرفة فإذا بها أمام منضدتها تغالب الدمع وتبكي أحر بكاء. وكان بين يديها رسائل كثيرة مفضوضة مبعثرة بين أقداح الشاي. فلم تكَد تراني حتى أومأت بأصبعها إلى هذه الكتب الواردة من جنيف وباريس وهي تقول: ليتنا متنا تلك الموتة الوحِيَّة حتى لا نكابد موت النوى الطويل!
لقد كان فيما أُلقي إليها من الكتب كتاب من زوجها وآخر من طبيبها. فأما زوجها فيقول إن القلق أخذ يساوره عليها من جراء هذه الغيبة الطويلة في هذا الفصل الذي يصعب ويشتد من يوم إلى يوم، وإنه يحس قواه تضمحل من شهر إلى شهر، ويود قبل أن يفارق الحياة أن يعانقها ويباركها. وكان إلحاحه المؤثر ممزوجًا بالحنان الأبوي والتلميح الظريف إلى ذلك الأخ الجميل الذي صرفها عن كل شيء وشغلها عن كل صديق. وأما الطبيب فيقول إنه كان مقدرًا من قبلُ أن يأتي إليها فيصحبها إلى باريس، ولكنه اضطُرَّ أن يسافر فجأة إلى ألمانيا ليطبب أميرًا هناك دعاه إلى علاجه. فهو مرسل إليها مكانه رجلاً وقورًا ثقةً يكون في صحبتها وخدمتها حتى تبلغ باريس. وفعلاً قدم هذا الرجل وتحدد الرحيل ثالث هذا اليوم.
وقعت هذه الأخبار علينا وقوع الصاعقة كأنها لم تكن من قبل معلومة ولا متوقعة! وقضيناها ليلة طويلة ثقيلة متكئين على المنضدة متقابلين صامتين لا نجرؤ على النظر ولا نقوى على الكلام مخافة أن ننفجر بالبكاء. ثم قطعت عزمي أنا أيضًا منذ الساعة على السفر.
8
رجعنا المنزل وقضيناها عشية كئيبة عابسة، وتم الأمر بيننا على أن أصحب جوليا حتى تبلغ ليون. فلما آذنتنا الساعة بوهن الليل قمت أنصرف لأترك لها ما بقي منه لتستريح فيه حتى الصباح. فشيعتني إلى الباب وتقدمت ففتحته ثم قبلت يدها وقلت لها: «إلى الغد! » فلم ترد عليَّ. ولكني سمعتها تغمغم قائلة وهي تنتحب خلف الباب: «هيهات! لم يبقَ لنا من غد! »
رحلنا قبل أن يخلع الصباح ثوب الغلس إلى شمبيري حتى لا يظهر الناس منا على خدود أذواها الأرق، وعيون قرحها البكاء. وقضينا سحابة ذلك اليوم في فندق من فنادق هذا البلد.
كانت جوليا قد اعتزمت الرحيل بكرة الغد إلى ليون، وكان لويس قد جاء ليلة السفر يزورنا في الفندق. فحملته على أن يسافر معي بضعة أسابيع في بيت أبي. وكان موقع هذا البيت على الطريق بين ليون وباريس. وخرجنا معًا نبحث عند السرَّاجين في شمبيري عن مركبة صغيرة مكشوفة تقلَّنا، ثم نستطيع ونحن على مقعدها أن نتتبع بالنظر مركبة صاحبتي حتى البلد الذي يدهمنا التفرق فيه.
حُم الفراق ودنت روعة البين، فزودنا سائقها بنصائح ضرورية ووصايا لازمة. واختصرنا التوديع مخافة أن يهيج أشجانها ويزيد آلامها كما يسرع الجراح في شق الجرح اتقاء لصيحة المجروح.
نزلت للمرة الأولى في فندق أوتين الكبير، ونزلتُ أنا في خان الضاحية على مقربة منه. فبتنا، وقبل أن يتنفس الصبح كانت المركبتان تكران على الطريق خلال السهوب المغبرة، أو بين غياض السنديان العتيقة من عُليا بورجونيا. ثم وقفنا بدسكرة أفالون، هي في قلبها وأنا في طرفها. وفي غد ذلك اليوم أخذنا الطريق إلى سنس. ينشعب طريق سنس إلى باريس شعبتين، إحداهما تمر بفنُنتبلو والأخرى بميلن، وهذه الشعبة أقصر من تلك ببضعة فراسخ، فأخذتها حتى أسبق جوليا إلى باريس فأستطيع أن أراها وهي تنزل من المركبة أمام بيتها. وضاعفت الأجر لساقة البريد فأدخلوني باريس قبل دخول الليل بوقت طويل. فنزلت بالفندق الذي اعتدت النزول به. ولما غشي الليل ذهبت فوقفت إزاء بيتها، وقد كنت عرفته من طول ما وصفته لي فكأنما قضيت به ذاهب عمري. اطَّلعتُ في داخل البيت فرأيت من خلال زجاجه ظلالاً تذهب وتجيء استعدادا لقدوم الضيف العزيز، ولمحت في غرفتها سطوع نار الموقد في سمائها، وفي أحد الشبابيك وجه شيخ يقترب فيرى الناس ويتسمَّع إلى حركة الشارع، ذلك كان زوجها وأباها.
9
وفي الصباح تركت باريس دون أن أعوج على أحد من أصحابي فيها. غير أني وضعت في صندوق البريد قبل أن أغادر المدينة برسالة قصيرة إلى جوليا تصلها عند هبوبها من النوم وما فيها غير هذه الكلمات: «لقد تبعتك من بعيد، وكلأتك بعيني خِفية؛ ولم أستطِع أن أفارقك قبل أن أراك في حمى الحانين عليك، ورعاية الكلفين بك؛ ولقد كنت هناك ساعة فتحت الشبَّاك عند منتصف الليل وتنهدت وأنت تنظرين إلى الكوكب. ولو كنتُ تكلمت لسمعت كلامي؛ غير أنك تقرأين هذه السطور حينما أكون بعيدًا عن باريس محمولاً على جناح النوى إلى البلد القصي ».
10
ما كان أطول الشهرين اللذين قضيتهما بعيدًا عنها على الرغم مني ومنها في الضيعة أو في المدينة انتظارًا لموعد اللقاء بها في باريس! لقد استنفدت أثناء ثلاثة الأشهر المنصرمة كل ما رصد لي أبي من مال، وأمدتني به أمي من معونة، واستعنت بمال أصحابي على أداء القروض التي ألجأني إلى عقدها السرف والميسر والأسفار، فلم يعُد في وسعي احتيال شيء من المال أتبلغ به إلى باريس، وأعيش عليه هناك ردحًا من الزمن ولو في ضيق وعزلة.
وقبل أن يقرع الساعي باب منزلنا كان يراني واقفًا على العتبة خافق القلب فارغ الصبر، فيأخذ في تصفح العناوين وعيناي تسبقانه إلى اكتشاف الرسالة الأنيقة ذات الورق الهولندي والخط الإنجليزي حتى أجدها فأتناولها واليد مضطربة والمفاصل مرتهكة، والعين عاشية، والقلب واجف. ثم أخفيها تحت ثيابي مخافة أن تراها أمي فترتاب في هذه المكاتبة المستمرة، وأهرب بها في غرفتي فأوصد بابها عليَّ، ثم آخذ في تلاوتها وأنا آمن. ولا تسَل عماَّ ذرفته فوق هذه الأوراق من عبرات، وما طبعته عليها من قُبَل!
وبعد الغداء، كنت أصعد إلى غرفتي العليا فأعيد قراءة رسالتها ثم آخذ في الرد عليها. على أن رسائلي لم تكُن مقصورة على صرخات القلب وأنَّات الحب، وإنما كانت في الغالب من الأمر صلوات وأدعية، وتأملات وتعزية، وأملاً في المستقبل ورجاءً في الله. ولا تسَلني عن رسائلها كيف كانت، فماذا عسى أن أقول لك عن الضرم المتقد، والضوء الشاحب، والألوان المتغيرة، والحمية والطهر على جبين الفتاة المحبة؟ وكيف أحدثك عن السذاجة القوية، واليقظة الفاجئة، والأغاني الشادية؟ وبماذا أصف لك الحب الحزين الذي تشعر به شعورك بالرجع الخافت في آخر اللحن الرخيم، والجمل المغمغمة التي تغمرك بالنور والسرور والعطر والدعة، وتنقلك بالمقاطع المنومة على مهل حتى تصل بك إلى راحة الحب وغفوة النفس، وتقف عن قبلة الوداع التي طبعتها شفتها على الصحيفة فتقطفها في سكون وصمت؟
11
دنا اليوم المنتظر، وأصبحت أستطيع عدد الساعات التي تفصلني عن جوليا. وكان المال الذي تجمع لي من كل الموارد لا يقوم بنفقتي ثلاثة أشهر أو أربعة في باريس، فهزَّت الشفقة أمي، وهي تنظر إلى شجني وهمي، دون أن تعرف السبب، فانتزعت من علبة جواهرها خاتمًا ركبت فيه ماسة كبيرة. فتناولت الخاتم واضعًا على يد أمي قبلة، وساكبًا على الماسة دمعة، ثم أنفقتها لا في طلب الحظوة عند الرؤساء والأمراء الذين عموا عني لفقري وخمولي، وإنما أنفقتها في ثلاثة أشهر من حياة الوجدان والقلب، وكل يوم منها يساوي قرونًا من المجد والعظمة.
إن أُعمَّر ألف سنة فلن أنسى هذه اللحظة ولا هذا المنظر! لقد كانت واقفة في النور، مرفقها على رخام المدفأة، وقدها الممشوق وكتفاها وجانب وجهها ينعكس عليها الضوء فتتراءى في المرآة، ووجهها متجه إلى الباب، وعيناها محدقتان في الدهليز المظلم الذي يتقدم البهو، ورأسها قد امتد قليلاً وانحنى إلى جانب: هيئة من يحاول أن يميز بالسمع وقع خطوات تقترب.
كانت هذه الأيام أملأ أيام حياتي، لأنها لم تعُد غير فكرة طويت عليها أحناء الصدر كما تُطوى على المسك نافجته مخافة أن يتعرض للريح فتتبخر منه قطرة.
كانت جوليا قد عرَّفت بي شيخها ثاني يوم قدومي إلى باريس، فلقيني لقاء الوالد لولده الغائب؛ لأنه عرف من قبل ما كان من تلاقينا في سفوا، وما تبع ذلك من عهد الأخوة وتوثيق عرى المحبة بائتلاف الهوى والسن والعاطفة، ووقف على ما تبادلناه كل يوم من الرسائل، وتناقلناه كل ليلة من الأحاديث، وعلم نقاء حبنا الخارق للطبيعة على رغم الصلة الوثيقة والشباب اللجوج. ولقد كان شغله الشاغل وقلقه الشديد على سعادة ربيبته وسمعتها وسلامتها. وكان يخشى أن تخدعها النظرة الأولى فتهب قلبها لمن لا يحسن فهمه ولا يستحق عطفه. فلما قرأت عليه نبذًا من رسائلي إليها قرَّ باله قليلاً وسكن. ولكنه عندما رآني قرأ ولا بد سطور الإخلاص على مُحيَّاي، وتوسم مخايل العفة في أسرار وجهي؛ لأن اللسان ربما وصف الكذب، وأما الوجه فلا يقدح في صدقه. لم تمضِ بضعة أيام حتى أشربت محبة هذا الشيخ الظريف الكيس. ولو تنفس بي العمر إلى عهد الشيخوخة لما تمنيت إلا أن أكونه.
وكذلك الشيخ لم يلبث أن صفا إليَّ بوده، وأقبل عليَّ بوجهه، وتطوع أن يعطيني من صبح إلى صبح دروسًا في العلوم العالية التي طيرت في الناس شهرته، وأوجبت الآن راحته. فكنت آتيه الحين بعد الحين في مكتبته صباحًا فأجد جوليا قد سبقتني إليها، فيكون لثلاثتنا منظر نادر مؤثر: شيخ جالس بين أكداس من الكتب العلمية والفلسفية التي استوعبت نتاج العقول وثمار القرائح، واستنزفت أيامه في حل رموزها وفتح كنوزها، وشاب واقف وراءه يقبس منه أنوارها، ويأخذ عنه أسرارها، وفتاة نضرة الشباب رائعة الجمال تمثل الفلسفة المثلية والحكمة العاشقة، وتؤدي واجب التلمذة للشيخ وواجب الزمالة للفتى.
12
على هذه الحال قضيت أشهر الشتاء السعيدة لا يكاد يختلف يوم عن يوم إلا بمطالعاتي المتنوعة، وانفعالاتي المتجددة، حتى التمعت تباشير الربيع على أعالي البيوت، وانصاح بياض السماء في أرض باريس المظلمة الرطبة.
كان من أثر الربيع الذي رد إلى السماء رونقها وصفاءها، وللزروع حياتها ونماءها، أن أعاد كذلك إلى جوليا بهجة القلب ومرح الصبا وجمال الشباب، فترقرق ماء الحياة في وجنتيها، وقوي بريق الفتنة والجمال في عينيها، وازداد كلامها خلابة ونحولها رقة ومشيها خفة. ثم شجعنا الشيخ على التجوال في الغابات الخضرة، والخمائل النضرة من ضاحية باريس، رجاة أن يكون لنفحات الحقول، وملابسة الشمس، ورياضة الجسم، في نقاء الهواء وسكون الخلاء، أثر حسن في تهدئة أعصاب جوليا وانشراح قلبها وانبلاج صدرها.
لا أدري كم ساعة لبثنا صامتين ساكتين تحت هذه السنديانة قد اعتمد كل منا رأسه بيده وقد مد رجليه فوق العشب الضاحي، ومدت الأفنان على جبينينا ظلها السجسج. إلا أنني حين رفعت رأسي كان الظل قد انسحب عن ثوب جوليا وانبسط أمامنا فوق الخضرة. فنظرت إليها ورفعت هي أيضًا رأسها تنظر إليَّ كأنما دفعها إلى ذلك ما دفعني، وكأنما حاولت الكلام فعيَّ به لسانها فانفجرت باكية. فقلت لها بصوت خافت متهافت مخافة أن أزيد في تأثرها، أو أخرجها من تفكرها: «ممَّ تبكين؟ » فقالت: «من الغبطة! »
13
حاولنا أن نقضي ساعة الوداع الأخيرة تحت ظلال الأشجار العطرة، أو فوق قطع الأعمدة الخضرة، أو على حافة الجداول العشيبة النضرة، فما استقر لنا حال ولا سكن لنا بال ولا اطمأن بنا خاطر. فما نكاد نختار مكانًا حتى يساورنا القلق والضجر فنتركه إلى غيره. هنا الظل، وهناك النور، وهنالك هدير الشلال أو هديل العندليب، ولكن هذه الأشياء كانت تُحوِّل في نفوسنا هذه اللذة ألمًا، وتقلب في عيوننا ذلك المنظر قبحًا! متى التاع القلب بجمرة الهم لا تزِده الطبيعة كلها إلا همًّا وسأمًا، وجنة الفردوس إذا أصبحت مكانًا لوداع عاشقين كانت أشد من الجحيم عذابًا وألمًا. انتهى بنا الكلال من طول المطاف إلى أن جلسنا قريبًا من قنطرة على جدول. جلسنا متباعدين مسافة غير قصيرة كأن صوت أنفاسنا كان يضايقنا، أو كأننا أردنا بدافع الغريزة أن يخفي كلٌّ عن أخيه هنين نحيبه المكتوم وقد أوشك أن ينفجر.
وفي صباح اليوم التالي كانت العجلة تدرج بي على هضاب (ميدي) الجديبة والعقل شارد، والجسم هامد، واللسان صامت، والرأس مدثر في معطفي، وحوالي خمسة أو ستة من دهماء الناس يتحدثون فرحين عن نوع النبيذ وثمن الغداء في الخان. فقطعت هذه المرحلة الطويلة الثقيلة دون أن تأبه أذناي لحديث، أو تنفرج شفتاي عن كلمة.
على أن شيئًا واحدًا كان يوقظني من هذه الغفوة، ويزعجني أثناء هذا الحلم، ذلك ما كانت تكابده الأسرة من الفقر المدقع، والضيق الموجع، مما أعقبته نفقاتي الضائعة، ونقص الثمرات أعوامًا متتابعة. فكنت كلما ذهبت يوم الأحد أزور أمي كشفت لي بدمعها الهاطل وألمها القاتل عن اشتداد الأزمة واستحكام اليأس مما تسر نبأه عن أبي وأخواتي. وكنت أنا في تلك الآونة قد بلغت الغاية القصوى من العوز والفاقة؛ فأنا أعيش في المزرعة على الخبز الأسود مأدومًا باللبن والبيض، ولم أجد أجرة البريد عن رسائل جوليا إلا ببيع ما أملك من متاع وكتب.
سافرت على قدمي ثم أخذت من الكيس مئة فرنك وخلفت الباقي سرًّا في المزرعة حتى أرده إلى أمي متي عدت، فعزيز عليَّ أن أكلفها هذا العنَت وأحرمها هذا المال، وهو ثمن قطعة من كبدها. ومضيت أطعم وأنام في الفنادق الحقيرة من كل قرية، وسبق إلى ظن الناس أني طالب سويسري فقير يعود من جامعة إسترسبورج فلم يكلفوني غير الضروري من ثمن الخبز والنور والفراش، ثم تحققوا صحة ما زعموا حين رأوني أقرأ في كل مساء أمام الدار (آلام فرتر) بالألمانية، وما كنت أحمل من الكتب غيره.
فوطنت نفسي وعقدت عزمي على أن أتسلل بالليل إلى قرية صغيرة من أرباض المدينة أعرف بها خادمة فقيرة تُدعى (فنشيت) قد أعتدت في كوخها الحقير سريرًا أو سريرين لتعول فيهما مريضًا أو مريضين من ذوي المتربة بأجر زهيد.
15
على أن الليل كان قد نشر ذوائبه على البحيرة فلم تعُد العيون تبصر الماء إلا من خلال ضباب أدكن قد رصص وجهه. ففي ذلك الصمت العميق الشامل الذي يسبق الظلمة قرع سمعي صوت مجدافين يدنوان من الشاطئ، ثم ما لبثت أن رأيت في عرض البحيرة نكتة تتحرك على وجه الماء، فتبينتها فإذا هي زورق ينساب نحو الخليج المجاور لمنزل الصياد، فظننته إياه عائدًا من شاطئ سفوا إلى بيته المهجور، فهبطت من الطلل إلى الساحل مسرعًا إلى لقائه. فلم أكَد أبلغه حتى رأيت الزورق يرسو، والنوتي ينزل، وهو يصيح بي قائلاً: «لعلك يا سيدي الفتى الفرنسي النازل في بيت (فنشيت) إن كنت إياه فدونك هذه الرسالة فقد كُلِّفت بحملها إليك .»
عدت إلى الغرفة العليا وأنا أطفر من الفرح وأنزو من النشوة، وفي اعتقادي أنني سأمتع نظري بخط الحبيبة، وأسر نفسي برقيق كلامها وخبر قيامها. فجلست على ضغث العشب الذي فرشته، وأشعلت القنديل وتناولت الرسالة الأولى فإذا هي مختومة الغلاف بالسواد، مكتوبة العنوان بخط الدكتور (ألن) وإذا بدلائل النعي في مواضع البشرى! على أنني قرأت مع فرط ما بي، من شدة اضطرابي، واختلاج أعصابي هذه الكلمات:
كُن رجلاً!ً وفوِّض أمرك إلى الله الذي لا مرد لقضائه ولا معقب لحكمه! لا تنتظر أحدًا! ولا تطلبها على الأرض، فقد صعدت إلى السماء لاهجة باسمك. في مشرق يوم الخميس أفلت شمسها المنيرة، وفاضت نفسها الكبيرة. لقد أفضت إليَّ بمكنون سرها وجملة أمرها قبل أن تموت، وكلَّفتني أن أبعث إليك بآخر آثارها ونهاية أفكارها، فقد ظلت تكتب إليك حتى جمدت أناملها على القرطاس فوق اسمك. أحِبَّها في المسيح الذي أحبنا حتى الموت، وتعزَّ عنها عزاءً جميلاً، وعِش لأمك طويلاً!
تخاذلت أناملي من هول ما قرأت، فتناثرت من بينها الرسائل على الأرض. ثم أخذت أنتحب من غير صوت، وأبكي من غير دموع.
كابدت حزازة هذا الألم طول تلك الليلة على أشد ما تكون لوعة وحرقة! ولم يشأ الله أن أشتف كأس الألم في جرعة واحدة مخافة أن تهلك نفسي غرقًا فيه، وإنما ابتلاني ثم آساني بأن جعلني أتمثل فيَّ ومن حواليَّ وبين يديَّ حضور تلك المخلوقة التي لم يُرِني الله إياها تلك الفترة القصيرة إلا ليوجه أنظاري وأفكاري إلى المكان الذي نقلها إليه وأنزلها به.
ولما احترقت ذبالة الشمعة ضممت رسائلي إلى صدري، وقبلت ما استطعت أرض هذه الغرفة التي كانت لغرامنا مهدًا، فأصبحت له اليوم لحدًا. ثم تنكبت بندقيتي وخرجت أقتحم أفواه الجبال ومخارم الشعاب موله العقل، شارد اللب، لا أهتدي لطريق، ولا أسير إلى غاية. وكان الظلام شديد الحلك، والريح عاصفة الهبوب، والبحيرة تقذف الصخور بأمواجها الهوج، فتحدث أصداء كأصداء الغيران، وأصواتًا كأصوات الإنسان، حتى وقفت مرارًا وأنا مكروب النَّفْس، مقطوع النَّفَس إذ وقع في حسي أن أحدًا يدعوني باسمي.
أواه! أجل! لم يخدعني حسي، ولم تكذبني نفسي، فقد هتف باسمي هاتف، ولكنه كان في السماء!
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط الخاصة بنا وملفات تعريف الارتباط الخاصة بالجهات الخارجية حتى نتمكن من عرض هذا الموقع وفهم كيفية استخدامه بشكل أفضل ، بهدف تحسين الخدمات التي نقدمها. إذا واصلت التصفح ، فإننا نعتبر أنك قبلت ملفات تعريف الارتباط.