"إن تاريخ الحضارة هو تاريخ الاتصال." ألبير كامو
تطل علينا الأكاديميا العربية بكمٍّ من الفوارق والتنازع حول مناطق الاشتغال التخصصي بين كل عصبة علمية وأخرى تجاورها؛ فبينما تتشاركان في الأدبيات النظرية وتتفقان بشأن المنهل الغربي لعلومهما، فإنهما تتناحران بشأن المكانة الاجتماعية للتخصص الذاتوي، وكأن كل منهما تريد أن تمارس سلطتها العلمية على بقية التخصصات المجاورة، وبذلك ترى التناحر بينهما أكثر من التعاون، بل أضحى مُبتدَع التنازع بينهما هو السمت المميز للأستاذ التحرير بالقسم، الذي يجب أن يتولى منصب رئيس القسم ليدافع عنه ضد هجمات الأقسام المتشاكسة الأخرى. وإذا ما أهملنا كل ذلك ودقَّقنا جيدًا في تداخل العلوم يومًا بعد يوم بالجامعات الغربية، لرأينا بوضوح أن العصبية، التي نظَّر لها ابن خلدون من أكثر من سبعمئة عام، هي جرحنا الذي لا يلتئم مهما صرنا أكثر عقلانيةً.
ومن بين العلوم التي كانت تتناحر بقوة تحت سماء العلوم الاجتماعية والإنسانية، علم الأنثروبولوجيا، الذي أدركته الأكاديمية العربية متأخرًا بعدما تربَّع علما السوسيولوجيا والسيكولوجيا على عرش الآداب العربية، فلمَّا أتى الأنثروبولوجيا متأخرًا لم يلحق موضعًا له في مكانات الآداب العربية الكبرى، وكذلك فالأمر مشاع وفقًا للمثل المعروف "من سبق أكل النبق". وإذا أردت -عزيزي القارئ- إمعانًا تاريخيًّا في ذلك فلتتأمل في أن طه حسين -وهو من أدار جامعتين في بدايتهما؛ فؤاد والاسكندرية، ويرجع إليه الفضل في إنشاء كلية الآداب وكان عميدًا لها- كان في الأصل أستاذًا بقسم اللغة العربية، مع أنه جاء من فرنسا وهو حاصل على الدكتوراه على يد أب من آباء علم الاجتماع، إميل دوركايم؛ فقد كان مشرف رسالته التي كانت تتحدث عن "فلسفة ابن خلدون الاجتماعية"، فيا لعجب العلم من المتخصصين به عربيًّا من التأرجح بين التخصصات وفقًا للمكانات الاجتماعية والأهواء الشخصية تارةً، والانغلاق على التخصص والبحث في موضوعات لا طائل منها شريطة أن تنغلق على التخصص تارةً أخرى.
في حين أنه قد يجادل المرء بأن المكانة المتدنية اجتماعيًّا للأنثروبولوجيا وعلومها البينية لا تقع كلها على عبء الأكاديمية العربية وتخبُّطها التخصصي، وإنما على عوامل أخرى أيضًا ترتبط بالسياق العربي؛ مثلًا لأنها علم استعماري أُنشِئ في بداياته لبحث كيفية تغلغل المُحتلِّ في عقول الشعوب المُضطهَدة وثقافاتها؛ فقد يجادل آخر بأن ذلك لارتباط الأنثروبولوجيا بنظرية تشارلز داروين التطوُّرية عن "علاقة الإنسان بالقرَدة العليا"، وبداية نشأة المجتمعات، وذلك السبب الأخير بالتحديد هو ما أخَّر دخول الأنثروبولوجيا كتخصص علمي في كثير من الجامعات العربية عقودًا عديدةً. إلا أن الثقافة بمعناها كنظرة شمولية وكُلٍّ مُركَّب تجعل الأنثروبولوجيا دائمًا تفوز في المعتركات البينية وتتربَّع على عرش القراءة الإنسانية الكبرى؛ فما قادنا قبل ذلك من انفصال وتهميش قد يكون هو ذاته ما يقودنا الآن إلى دراسة وافية وقراءة مُتعمِّقة ونظرة فاحصة منفتحة على شتى العلوم التي تتعامل مع الأنا والآخر، فمع أن الأنثروبولوجيا أُنشِئت كعلم استعماري، انقلب حالها هنا والآن، وأضحت كُلًّا مُركَّبًا لمنهجيات وعلوم أخرى وظواهر إنسانية تتعامل معها جميعًا بما يليق بها من الخصوصية تارةً ومن الكونية تارةً أخرى، وهي بذلك لا تُعولِم الظاهرة بغية النظرية الكبرى، كثالوث علم الاجتماع (دوركايم وفيبر وماركس)؛ ولا تُصغِّرها حد الفردانيات بغية تفسير السلوك الفردي والعقلي كالسيكولوجيا، ولذلك فحينما تتخصص فيه غربيًّا أو تقرأ أدبياتهم الأنثروبولوجية تجده يُدعى بـ"أخطبوط العلوم"؛ وذلك لارتباطه الوثيق بالثقافة التي تطول شتى الإنسانيات.
وحديثنا الذي سنسوقه الآن عبر هذا المقال عن العلاقة البينية بين تخصص الأنثروبولوجيا، خصوصًا فرعَيه الثقافية والرمزية، وبين تخصص علم الاتصال؛ إذ أنتجت تلك العلاقة تخصص أنثروبولوجيا الاتصال، وأيضًا نتج بينهما العديد من النماذج المعرفية العابرة للتخصصات، التي أُنتِجت ونمَت في وضع علمي يسمح لها بالازدهار، ونضرب مثالًا لها في نهاية المقال، وهو نموذج الاتصال الثقافي.
فحينما نعلم أن الاتصال هو عملية البحث عن الآخر، فبادئ ذي بدء يتضح للرائي مدى الترابط بين التخصصين في نظرتهما المنهجية، فيأتي علم الاتصال كأحد العلوم الإنسانية والاجتماعية التي تُبلوِر معنى الاشتراك والتقاسم، وهو المعنى الذي نبع منه ولم يتغير؛ فالاتصال هو البحث عن الآخر، وقد اهتمَّت الأنثروبولوجيا بدراسة الاتصال "من حيث كون الثقافة تحمل سلوكياتٍ وممارساتٍ وأفعالًا اتصاليةً، كما أن وسائل الاتصال تعمل في وسط اجتماعي عادةً". (محمد بابكر العوض، 2019، ص81)، "فلا يمكن لجماعة أن تنشأ وتستمر دون اتصال وتواصل يجرى بين أعضائها ليُحقِّق لهم التكامل الاجتماعي؛ فالاتصال حاجة أساسية للمجتمعات البشرية، ولا بد أن يتوافر لكل مجتمع -مهما كانت درجة بداءته أو رُقيِّه- نظامٌ للاتصال". (محمد علي أبو العلا، 2013، ص26).
إن توجُّه أنثروبولوجيا الاتصال من الناحية النظرية بدأ في منتصف ستينيات القرن الماضي؛ إذ جاء كجزء من حركة علمية مناهضة لاختصار الاتصال في الجانب التقناوي والوسائلي والتلغرافي. (رضوان بوجمعة، د.ت، ص178)، وأدرك الباحثون حينها أهمية الأنساق الثقافية في فهم أنساق الاتصال، مما أدى إلى نشأة توجُّه أنثروبولوجيا الاتصال. (رضوان بوجمعة، مرجع سبق ذكره، ص91).
فيما تعدَّدت المقترحات بشأن تاريخ ظهور هذا الفرع؛ ففي الدراسات الإعلامية اللاتينية، أُرجِع تاريخه إلى أعمال الأنثروبولوجي مالينوفسكي (Malinowski)، عام 1920؛ إذ أطلق على المنهج الإثنوغرافي الذي اعتمد عليه "أنثروبولوجيا الاتصال".
وأرجع آخرون مفهوم "أنثروبولوجيا الاتصال" إلى النصف الثاني من القرن الماضي، وبدﺍﻳﺔ ﺍﺭﺗﺴﺎﻡ طريقه ﻣﻦ ﺍﻟﻨﺎﺣﻴﺔ ﺍﻷﻛاديمية يعود إلى عام 1962 في الوﻻﻳﺎﺕ المتحدة ﺍﻷمريكية؛ إذ تأسَّس مجال بحثي جديد في الأنثروبولوجيا الأمريكية اهتم بدراسة الكلام كظاهرة ثقافية فقط.
وﻛﺎﻥ ﻣﻘﺎﻝ الأنثروبولوجي هايمز (Hymes) في العام ذاته بشأن "ﺇثنوﻏﺮﺍﻓﻴﺎ ﺍﻟﻜﻼﻡ" ﻣﻴﻼﺩًﺍ نظريًّا لما ﺃﺻﺒﺢ ﻳُﻌﺮَﻑ عام 1964 ﺑـ"أﻧﺜﺮﻭبولوجيا ﺍﻻﺗﺼﺎﻝ"؛ فدراسة الاتصال كظاهرة ثقافية أساسية مشروع بدأت بعض معالمه تتحقَّق في نهاية السبعينيات.
وفي السبعينيات، بدأت العلاقة الواضحة بين الأنثروبولوجيا والاتصال الجماهيري؛ إذ ساعد جيمس دبليو كاري عام 1975 في هذه العملية؛ فقد كتب مقاربة ثقافية للتواصل، وكعالِم اتصالات، كان قادرًا على ربط مفهوم كلاسيكي مثل الطقوس ونظرية جديدة مثل الأنثروبولوجيا الرمزية وتطبيقها على تعريف الاتصال، ومن ذلك الوقت فصاعدًا مُيِّز عرض الإرسال ووجهة نظر طقوس الاتصال.
لكن هذه هي الخطوة الأولى؛ لأن جيمس دبليو كاري اقترح نهجًا هو نظرية، ويمكن اعتبار نهج جيمس دبليو كاري دعوةً للأنثروبولوجيا مساهمة في الاتصال الجماهيري؛ فقد أضاف مزية من خلال إنشاء التمييز على أساس المفاهيم الأنثروبولوجية، وبينما يثبت أن هذا ممكن، يجب عليه المُضي قُدمًا في شرح سبب تبرير ذلك. ومرت محاولة كاري بالتأويل، ومع ذلك، بقي هذا التقليد البحثي داخل الأنثروبولوجيا بلا نظرية يقترحها في مجال كتلة الاتصالات.
ربما لم تكن هذه هي الدراسة الأولى للمفاهيم الأنثروبولوجية، لكنها بالتأكيد كانت مؤثرةً.
كما ركَّز عالِم اتصالات آخر، هو مايكل شودسون عام 1989، على المفهوم الرئيسي الأنثروبولوجي، وهو الثقافة، وطبَّقه على دراسة التلفزيون. ويهتم مايكل شودسون بالتأثير المباشر للأشياء الثقافية، أي إذا ما كان التعرض لرموز معينة، تقود الرسائل في وسائل الإعلام المختلفة، يدفع الناس إلى تغيير طريقة تفكيرهم في العالم أو التصرف فيه.
وبعد ذلك، راجع علماء الأنثروبولوجيا عام 1999 بحثًا أجرته "كارولين مارفن" لإظهار استمرار ذلك الاتصال، وكان يعطي أمثلة على استخدام علماء الاتصال للأنثروبولوجيا، مع التركيز على أحداث وسائل الإعلام، ويركز أيضًا على الأساليب الأنثروبولوجية المُطبَّقة في أبحاث الاتصال، وأخيرًا يُسلِّط الضوء على المفاهيم المُستخدَمة والتي يمكن أن تستخدمها دراسات وسائل الإعلام. ووفقًا لكارولين مارفن، كان التركيز على المحتوى الأنثروبولوجي للنص.
وفي العام ذاته، اتخذت عالِمة التواصل كارولين مارفن منظور "الطقوس" كمنظور علمي قادر على دفع أبحاث الاتصال خطوة إلى الأمام، وجادلت بأن أنثروبولوجيا وسائل الإعلام هي آلية خرافة وطقوس للقومية الأمريكية، وكان علماء الأنثروبولوجيا قادرين على التفكير في العواقب المنطقية لربط الأسطورة والطقوس وكتلة الوسائط، لذلك عُد عملها تبريرًا لهم حيث ربطوا بين الأنثروبولوجيا والاتصال الجماهيري باستخدام المفاهيم الكلاسيكية من دراسة السحر والدين.
"إن تاريخ الحضارة هو تاريخ الاتصال." ألبير كامو (خليل صابات، 2001)
الحضارة ما هي إلا مجرد نوع خاص من الثقافة، بمعنى أنها شكل مُعقَّد أو راقٍ من أشكال الثقافة؛ فالحضارة تحمل -بشقَّيها المادي والمعنوي- أوجهًا اتصالية؛ فالمخلفات المادية (التكنولوجية) والمعنوية ما هي إلا اتصال. وعمومًا، يُعرِّف الأنثروبولوجي "الثقافة" على أنها "اتصال"، وإذا كان موضوع علم الاجتماع هو المجتمع في حالة سكونه وحرکته، فإن علم الاتصال يدرس المجتمع أفراده وجماعاته في حالة تفاعلهم معًا أو مع الآخر، كما أن الثقافة تنتقل إلى جماعات إنسانية أخرى من خلال وسائل الاتصال المختلفة؛ فالثقافة لا توُجَد إلا بوجود المجتمع، والمجتمع من جهته لا يقوم ويبقى إلا بالثقافة، وتهتم الأنثروبولوجيا باتصال الإنسان بمحيطه، وما يحمله هذا الاتصال من عناصر ثقافية، الأمر الذي مهَّد الطريق لظهور فرع معرفي يُسمَّى بـ"أنثروبولوجيا الاتصال".
قد تكون عبارة الفيلسوف الفرنسي ماتيلار عن ضرورة تحريك حقوق العلوم الإنسانية وتثويرها من كل الاتجاهات لاستدرار المعارف الجديدة وتقديم الإجابات النسبية عن الأسئلة الراهنة؛ قد تكون هذه العبارة ذات انسجامٍ إبستيميٍّ دقيقٍ مع جوهر حقل "أنثروبولوجيا الاتصال" وكينونته، فلئن كانت المقاربات الكلاسيكية في علم النفس وعلم النفس الاجتماعي تضع ميكانيزمات "الاتصال" كمقدمة لفهم الثقافة، فإنَّ أنثروبولوجيا الاتصال يعكف على تفسير السلوكيات الثقافية والعادات والتقاليد ضمن الأطر الاتصالية الكبرى، وهو بهذا يتجاوز البعد الوضيفي للاتصال ضمن مُخطَّطات الشانون، ليضع الاتصال ضمن مسار علم الإنسان (الأنثروبولوجي) ومداره.
ويكتسب حقل "أنثروبولوجيا الاتصال" أهميته في رهانه المعرفي ورهانيَّته السياقية، أما مستوى رهانه المعرفي فمُتجسِّد في بحثه العميق بأسئلة الأنسنة من عادات وتقاليد وممارسات ثقافية وفلكلورية من زوايا اتصالية، وأما في مستوى رهانيَّته السياقية فإنها كامنة في اعتباره جزءًا من حالة الإجابة الإنسانية الإبستيمية عن "مقولات العولمة الكونية" و"التقوقع الأيديولوجي" و"خطابات الديماغوجيا"؛ إذ يتنزَّل في عمق الدراسات الثقافية باعتبارها التقصي والتحري في القضايا المعرفية المركزية "للجماعات الهامشية" و"لقضايا الهامش" لعقل العولمة.
ولقد استفاد مجال أنثروبولوجيا الاتصال من مفاهيم "جورج هربيرت ميد"، التي تحدث فيها عن الشكل المتكامل للاتصال كنسق، وعن الاتصال في المجتمع الإنساني بقوله: "إن المثل الأعلى للمجتمع الإنساني هو المثل الذي يُقرِّب الأشخاص بشكل حميمي، والذي يُطوِّر النسق الضروري للاتصال بشكل متكامل؛ فمن أجل تطوير الاتصال لا يلزمنا فقط تبادل أفكار مُجرَّدة، لكن يجب أن نضع أنفسنا مكان الآخر؛ من أجل الاتصال برموز لها دلالة".
وتدرس الأنثروبولوجيا الاتصال من حيث كونه سلوكًا، تصبغه الثقافة بما يلائمها ليُعبِّر عنها، وبذلك تنقل الرسالة في إطار ثقافي؛ فالاتصال يُمثِّل جوهر الثقافة، والعكس بالعكس. كما تهتم الأنثروبولوجيا بالكشف عن كيفية نقل تلك الثقافات وتشكيلها من خلال وسائل الاتصال المختلفة (الصحف والتلفزيون والإنترنت، إلخ)، ويُعَدُّ الأنثروبولوجي ديل هايمز (Dell Hymes) من أوائل من أطلقوا مصطلح "أنثروبولوجيا الاتصال" عام 1967 على اﻠﺴﻠوﻛﻴﺎﺕ ﻭالوضعيات ﻭﺍﻷﺷﻴﺎء ﺍلموجودة عند جماعة ﻣُﻌﻴَّﻨﺔ ﻋﻠﻰ ﺃﺳﺎﺱ ﺃن لها ﻗﻴﻤﺔ ﺍﺗﺼﺎﻟﻴﺔ، كما تعرَّض إيف وينكن (Yves Winkin)، أستاذ أنثروبولوجيا الاتصال، لإسهامات موالية لقضية نشوء أنثروبولوجيا الاتصال، من قبل أبحاث غودنوغ (Goodnough)، وغوفمان (Goffman)، وليفي ستروس (Strauss) (عمر قبايلي، 2010، ص30). فيما اهتم عالِما الأنثروبولوجيا راي بيردويستل (Ray birdwistell) وإدوارد تي هول (Edward T. Hall) بدراسة الميدان التقليدي للاتصال (قراد حسينة، 2008، ص24).
يستخدم علماء الأنثروبولوجيا مفاهيم مُطورة، ولكن ليس كنظرية لوسائل الإعلام الجماهيرية في الأنثروبولوجيا، والمفاهيم تظهر مع مزيد من التردُّد هو (التثاقف والانتشار والطقوس)؛ إذ كان علماء الأنثروبولوجيا الأوائل يستخدمون مفهوم التواصل والمصطلحات التأويلية والفكر الأوروبي والمفاهيم الكلاسيكية بوضوح.
وفي الأدبيات الأنثروبولوجية، يرتبط مفهوم الاستيعاب بكلٍّ من التثاقف والانتشار؛ فيقول ريتشارد طومسون إن الاستيعاب هو العملية التي يتم من خلالها دخول الأفراد من ثقافة أجنبية أو أقلية إلى المواقف الاجتماعية للثقافة القياسية أو المهيمنة التي يقيمون فيها. ومع أن الاستيعاب عملية يمر بها الأفراد، فإنها دُرِست في كثير من الأحيان في الجوانب الاجتماعية مع التركيز على معدلات استيعاب المهاجرين والأقليات.
ويقول ريتشارد طومسون إن التثاقف -من وجهة نظر الاستيعاب- يُعرَّف بأنه "العملية التي يتعلم الأفراد من الثقافات الأجنبية أو الأقليات بواسطتها لغة الثقافة القياسية أو المهيمنة التي يقيمون فيها وعاداتها وقيمها، والتثاقف هو عملية ثقافية، في حين أن الاستيعاب هو عملية اجتماعية" (شريهان حوامدة، 2021).
إذا كان علماء الاتصال يستخدمون المفاهيم الأنثروبولوجية، فليس من المُستغرَب أنهم يستخدمون أيضًا الأساليب الأنثروبولوجية؛ فمن قبل كان عالِم الأنثروبولوجيا مالينوفسكي في عشرينيات القرن الماضي -على سبيل المثال- يعتمد على مصادر مثل أوصاف المسافرين أو التقارير الرسمية أو الكتابات التبشيرية، ومنذ ب. مالينوفسكي، فالملاحظة هي نشاط العمل الميداني الرئيسي في مجال الأنثروبولوجيا، وهذا يعني أن المصدر الأساسي للمعلومات هو خبرة الباحث الخاصة؛ لأن عالم الأنثروبولوجيا يذهب إلى الثقافة ويعيش هناك لفترة من الوقت.
ويمكن أن تكون الملاحظة مباشرةً؛ فيحضر عالم الإثنوغرافيا لتسجيل بعض النشاط، أو المشارك؛ فيكون عالم الأنثروبولوجيا مشاركًا بنشاط في النشاط الذي تحت الملاحظة، ويتحدث علماء الأنثروبولوجيا أيضًا مع الناس، ويرسمون مُخطَّطات القرابة، ويُجرون البحوث الكمِّية في المناطق ذات التجمعات السكانية الكبيرة؛ ففي الثمانينيات والتسعينيات، لم تكن أساليب الأنثروبولوجيا مختلفةً عن العلوم الاجتماعية الأخرى، ومع ذلك فإن مراقبة العمل الميداني هي عنصر كلاسيكي في البحث الإثنوغرافي (شريهان حوامدة، 2021).
وعلى الرغم من النظرة التقليدية إلى علم الأنثروبولوجيا، والتي وصمته طويلًا بعلم المجتمعات البدائية والمُحتلِّين، تغيرت هذه النظرة بمرور الوقت وبظهور التطورات التكنولوجية وما صاحبها من قضايا وظواهر جديدة تستحق الدراسة؛ إذ رأى العلماء والباحثون ضرورة إشراك هذا العلم في مجالات مختلفة لتحقيق الاستفادة القصوى منه، فظهرت العديد من الميادين والتفرُّعات المختلفة، وكأن المنهجية الأنثروبولوجية باقترانها بعلوم وتخصصات أخرى تنتج عنها مجالات وفروع تستطيع أن تصطفَّ خلف الفروع والتخصصات الأنثروبولوجية المختلفة، فظهرت فروع وميادين في تخصصات مختلفة، منها: الأنثروبولوجيا الرقمية والاتصالية والإعلامية، وأنثروبولوجيا المرأة، وأنثروبولوجيا الطعام، وأنثروبولوجيا الجسد، وغيرها.
كما أن العلاقة بين الاتصال والأنثروبولوجيا مُوغِلة في القدم؛ إذ توجد علاقة بين الاتصال والثقافة، ومن ثم المجتمع ككُلٍّ. وعبر دراسة الأنثروبولوجيا للسلوكيات والممارسات الثقافية من زوايا اتصالية، استطاعت أن تخلق فرعًا مستقلًّا من فروع علم الأنثروبولوجي، وهو فرع "أنثروبولوجيا الاتصال" الذي يبحث في السلوكيات والأفعال والممارسات الثقافية ووسائل الاتصال المختلفة في علاقتها بالثقافة.
لقد أرسى عالِم الأنثروبولوجيا إدوارد ت. هال (T. Hall) بالتعاون مع العالِم اللغوي جورج ل. تريغر دعائم النموذج الأصلي للاتصال الثقافي الُمستوحاة من:
1- نظرية وورف-سايبر المُتعلِّقة بالنسبية اللغوية. 2- نظرية التحليل النفسي الفرويدي.
وظهرت دراسة الاتصال الثقافي أول مرة كجزء من دراسة الاتصال في أواخر الستينيات، عن طريق كتب ألَّفها مؤلفون من أمثال ألفريد سميث "الاتصال والثقافة" عام 1966، ومن خلال المقررات الدراسية التي كانت تُدرَّس في أقسام الاتصال.
"يجب ألَّا يُعَدَّ الاتصال الثقافي مجرد نقل عناصر من ثقافة إلى أخرى، بل عملية تفاعل متصلة بين جماعات من ثقافات مختلفة، ويُطلَق على هذه العمليات عادةً التثاقف من الخارج." (فورتس fortes)
يُعَدُّ الاتصال الثقافي هو الاتصال الذي يختص في نقل الثقافة، إما على مستوى المجتمع ويکون اتصالات ثقافية داخلية، أو على المستوى الخارجي في العلاقة بين ثقافة مجتمع وغيره من الثقافات التي تختلف عنها في اللغة والعادات والتقاليد والقيم والعقيدة.
ويُعرَّف الاتصال الثقافي بأنه: "الاتصال الذي يتم بتفاعل البيئة الثقافية في شكل عملیات اجتماعية، تتنوع فيها المعلومات والمؤثرات والمنظمات، وتلعب الجماعات أدوارها المعقدة للغاية في مواجهة بعضها بعضًا وأيضًا في مواجهة الكليات والأساطير ووسائل الاتصال الجماهيري، كما تُعبِّر عن المشاعر الجماعية والأفكار التي تُزوِّد الجماعة بوحدتها وصفاتها الفريدة، وبذلك تُعَدُّ عاملًا مهمًّا يُسهم في تضامن المجتمع".
ومن علماء الأنثروبولوجيا، الذين قدَّموا إسهامات في مجال الاتصال بين الثقافات، عالِم الأنثروبولوجيا مالينوفسكي (Malinowski)؛ إذ كان تطوير دراسات "الاتصال الثقافي" مكافئًا لدراسات التثاقف، ولكن على عكس نظيرتها، ركزت الدراسات بوضوح على التطبيق العملي؛ فقد تجنَّب مالينوفسكي استخدام مصطلح التثاقف؛ لأنه مرتبطًا عادةً بالسمات الثقافية والاجتماعية لمجتمع ما ومجمعات السمات، وقد كان المصطلح يُستخدم في بعض الأحيان في "التعددية الثقافية" بعد اقتراح فرناندو أورتيز الذي رأى الوضع على أنه مجرد اتجاهات عملية.
كان التغير الثقافي في الأنثروبولوجيا، بالنسبة إلى مالينوفسكي (Malinowski)، عمليةً تحوَّلت فيها المجتمعات؛ إما بواسطة النمو الداخلي أو بسرعة من خلال الاتصال بين ثقافتين مختلفتين؛ إذ أدَّت العملية الأولى إلى التطور الثقافي والثانية إلى الانتشار، ولم يكن له علاقة بإشارته إلى الانتشار في استخدامات نقل السمات الاجتماعية والثقافية من مجتمع إلى آخر، وأيضًا نقل المؤسسات.
إن أهم ما تتطلَّبه استراتيجية الاتصال الثقافي هو أن تستقيم على أسس ومرتكزات ثقافية اجتماعية فعالة؛ لتُحدِّد من خلالها رسائل الإقناع للفرد المُتضمِّنة لقواعد السلوك الاجتماعي، والمتطلبات الثقافية للعمل الذي يحكم الأنشطة التي يحاول الإعلام أن يُحدثها من خلال التنظيم الرمزي للفضاء العام. وإذا كانت التحديات موجودة فعلًا، تصبح المهمة إعادة تحديد هذه المتطلبات، وتستخدم الدول الأجنبية هذه الاستراتيجية لبثِّ ثقافتها وتقاليدها في البلدان الأخرى، وهذا يعني أن الرسالة الإعلامية تعمل على تعميم ثقافة تلك الدول وقيمها، وتُقيم على إثرها لغة خطاب تُسهِّل للطرف الأقوى فرض سيطرته على الطرف الأضعف.
ويمكن تعريف استراتيجية الاتصال الثقافي بأنها: "مجموعة القواعد الضابطة للرموز والدلالات الثقافية القائمة والمُحدِّدة للكيفية التي تُوظَّف وتُنقَل إلى الجمهور المُستهدَف عبر وسائل الإعلام والاتصال المختلفة؛ من أجل تحقيق أهداف ثقافية محدودة ومتوسطة وطويلة المدى".
ومما سبق نستنتج وجود العديد من الاختلافات والفروق بين علم الأنثروبولوجيا وعلم الاتصال، سواء في النظريات المستخدمة أو الموضوعات المبحوثة. وبالرغم من هذا التباعد فإنه لم يمنع وجود قواسم مشتركة بينهما كشف عنها الاتصال الثقافي كنمط من أنماط الاتصال الإنساني.
المراجع:
أولًا: الكتب
1- أرمان وميشال ماتلار، تاريخ نظريات الاتصال، نصر الدين لعياضي، الصادق رابح، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، الطبعة الثالثة، 2005.
2- إسماعيل عبد الحافظ، استراتيجية الاتصال الثقافي في دراما المسلسلات التلفزيونية العربية: نموذج (اليمن، الجزائر، مصر، سورية)، "دراسة تحليلية مقارنة"، دار غيداء للنشر والتوزيع، عمان، 2014.
3- العربي بوعمامة، أنثروبولوجيا الاتصال - السياقات والمفاهيم، ألفا للوثائق، موقع مكتبة نور، 2020.
4- خليل صابات، وسائل الاتصال - نشأتها وتطورها، مكتبة الأنجلو المصرية، 2001.
5- دعاء هشام جمعة فرحات، الصحافة الاستقصائية التلفزيونية وقضايا الإرهاب، العربي للنشر والتوزيع، 2022.
6- سمير محمد حسين، الإعلام والاتصال بالجماهير، عالم الكتب، الطبعة الخامسة، القاهرة، 2009.
7- عدنان أحمد مسلم، محاضرات في الأنثروبولوجيا (علم الإنسان): "الموقع المعرفي - الموضوع - الميادين والمنهج"، العبيكان للنشر، الرياض، 2001.
8- علي كنعان، الصحافة مفهومها وأنواعها، دار المعتز للنشر والتوزيع، عمان، 2013.
9- عبد الرزاق الدليمي، دراسات وبحوث في الإعلام، دار اليازوري العلمية للنشر والتوزيع، 2018.
10- محمد بابكر العوض، الاتصال الدعوي: أسسه المعرفية وتطبيقاته المنهجية، المعهد العالي للفكر الإسلامي، عمان، 2019.
11- محمد علي أبو العلا، فن الاتصال بالجماهير بين النظرية والتطبيق، دار العلم والإيمان للنشر والتوزيع، 2013.
12- منال طلعت محمود، مدخل إلى علم الاتصال، المكتب الجامعي الحديث، الإسكندرية، 2002.
13- نصر الدين نواري، الصحافة والإرهاب في الجزائر، دار اليازوري العلمية، 2019.
ثانيًا: الرسائل العلمية
1- أقراد حسينة، الفضاء الشخصي للاتصال: دراسة في كيفية تنظيم الفرد للفضاء في الأسرة الجزائرية "دراسة وصفية تحليلية لبعض الأسر من منطقة تيزي وزو"، رسالة ماجستير، قسم علوم الإعلام والاتصال، كلية العلوم السياسية والإعلام، جامعة الجزائر، 2008.
2- آمال عساسي، إثنوغرافيا مستخدمي الفيس بوك في المجتمع الجزائري (دراسة إثنوغرافية لعينة من مشتركي المجموعات الأمازيغية بالفيس بوك)، قسم علوم الإعلام والاتصال وعلم المكتبات، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة الحاج لخضر باتنة، رسالة ماجستير، 2015.
3- بسنت محمود إبراهيم محمود، أنثروبولوجيا الاتصال والصحافة الإلكترونية "دراسة تحليلية مقارنة لبعض القضايا المجتمعية"، رسالة ماجستير، قسم الأنثروبولوجيا، كلية الآداب، جامعة الإسكندرية، 2020.
4- رضوان بوجمعة، ﺃﺷﻜﺎﻝ ﺍﻻتصاﻝ ﺍﻟﺘﻘليدية في منطقة ﺍﻟقبائل، محاولة تحليل ﺃﻧثروبولوجي، رسالة دكتوراه، ﻗسم علوم ﺍﻹﻋﻼﻡ ﻭﺍﻻﺗﺼﺎل، ﻛﻠﻴﺔ العلوم ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ والإعلام، ﺟﺎﻣﻌﺔ الجزائر، 2007.
5- عريبي عبد الحميد، الاستراتيجية الاتصالية لعمر بن الخطاب رضي الله عنه في إدارة الأزمات - نموذج عام الرمادة (17هـ - 18هـ)، رسالة ماجستير، شعبة علوم الإعلام والاتصال، قسم العلوم الإنسانية، كلية العلوم الاجتماعية والإنسانية، جامعة الدكتور طاهر مولاي بسعيدة، 2016.
6- عبد الفتاح تواتي، تأثير تكنولوجيا الاتصال على الروابط والعلاقات الاجتماعية داخل الأسرة الريفية (دراسة ميدانية بريف عين بلبال، بلدية تمقتن - ولاية أدرار)، رسالة ماجستير، قسم العلوم الاجتماعية، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة قاصدي مرباح - ورقلة، 2013.
ثالثًا: الدوريات العلمية:
1- رضوان بوجمعة، أنثروبولوجيا الاتصال: دراسة في بعض الأبعاد النظرية، جامعة الجزائر، د.ت.
2- عمر قبايلي، مكانة وسائل الاتصال الحديثة في الجزائر (مقاربة أنثروبولوجية)، مجلة الأكاديمية للدراسات الاجتماعية والإنسانية، محكمة، عدد 3، 2010.
3- مبروك دريدي، مطبوعة علمية في مقياس الأنثروبولوجيا (مقرر السنة الثالثة ل م د LMD)، قسم اللغة والآداب العربية، كلية الآداب واللغات، جامعة سطيف 2، الجزائر، 2015.
رابعًا: المواقع الإلكترونية
1- شريهان حوامدة، إسهامات الأنثروبولوجيا في بحوث الاتصال، موقع إي عربي، يونيو 19, 2021، تاريخ الدخول 10-10-2022، نقلًا عن:
2- شريهان حوامدة، دراسات الاتصالات المحلية والثقافية المتغيرة في الأنثروبولوجيا، موقع إي عربي، يناير 24, 2021، تاريخ الدخول 10-10-2022، نقلًا عن:
https://e3arabi.com/sociology/%D8%AF%D8%B1%D8%A7%D8%B3%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AA%D8%B5%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AD%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D9%8A%D8%A9-%D8%A7/
3- فريق موقع بوابة علم الاجتماع، الثقافة وبناء المجتمعات، خالد عبد القادر منصور التومي، 01 مايو 2019، تاريخ الدخول 12-10-2022، نقلًا عن:
https://www.b-sociology.com/2019/05/blog-post_11.html
4- مراد الشوابكة، أنواع وسائل الاتصال، موقع موضوع، 22 يناير 2018، تاريخ الدخول 17-10-2022، نقلًا عن: https://mawdoo3.com/
خامسًا: المراجع الأجنبية:
1- Bartholin, Caspar؛ Bartholin, Thomas (1647)، "Preface"، Institutions anatomiques de Gaspar Bartholin, augmentées et enrichies pour la seconde fois tant des opinions et observations nouvelles des modernes، Translated from the Latin by Abr. Du Prat، Paris: M. Hénault et J. Hénault.
2-Baba, Marietta L. (1994). "The Fifth Subdiscipline: Anthropological Practice and the Future of Anthropology". Human Organization. 53 (2): 174–186, . دُوِي:10.2307/44126881.، نسخة محفوظة 2021-04-22 على موقع واي باك مشين.
3-Bureau of Labor Statistics, U.S. Department of Labor. (2015). Anthropologists and Archaeologists. Occupational Outlook Handbook, 2016-17 Edition. Retrieved from https://www.bls.gov/ooh/life-physical-and-social-science/anthropologists-and-archeologists.htm#tab-2 2021-04-22 موقع واي باك مشين.
4-Oxford English Dictionary, 1st ed. "anthropology, n." Oxford University Press (Oxford), 1885.
5-U.S. Department of Labor, Bureau of Labor Statistics. (2016). Anthropologists and Archeologists. Occupational Outlook Handbook, 2016-17 Edition. Retrieved from https://www.bls.gov/ooh/life-physical-and-social-science/anthropologists-and-archeologists.htm. 2021-04-22 موقع واي باك مشين.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط الخاصة بنا وملفات تعريف الارتباط الخاصة بالجهات الخارجية حتى نتمكن من عرض هذا الموقع وفهم كيفية استخدامه بشكل أفضل ، بهدف تحسين الخدمات التي نقدمها. إذا واصلت التصفح ، فإننا نعتبر أنك قبلت ملفات تعريف الارتباط.