هُنا. ستُثَبت نظرتك على شجرة، تتلاعب الريح بأوراقها، وفي ثوانٍ قليلة، يصبح ما يمكن أن يكون تشبيهًا بليغًا في ذهن شاعر، حقيقة بالنسبة إليك. ستضع في الشجرة أهواءك ورغبتك وحزنك، وستصبح تنهداتها وتهادي أوراقها في داخلك، وبعد قليل، ستصبح أنت الشجرة! (بودلير).
بهذه الكلمة يصف "عدلي" بطل رواية (قصة حب من يونيو 67) لعصام دراز، الوضع إجمالًا، وضعه كفرد من القوات المسلحة في طريقها للحشد التعبوي داخل سيناء استعدادًا للحرب، التي وحسب ما قاله الدكتور خالد فهمي (أستاذ التاريخ بالجامعة الأمريكية) بصفحة الموقف المصري[1]، قد أتُخذ بشكل هزلي تمامًا، وفي أحسن الأحوال من دون دراسة وتقييم حقيقيين، بل من دون استشارة عبد الناصر ومعاونيه كما يصف، وكما يؤكد مصطلح هزيمة يونيو المستمرة. هُنا، حيث يبكي البطل، وتغرق الكاميرا في بحر من الرمال والدماء والخيبة!
في كتاب لنصر حامد أبو زيد "دوائر الخوف: قراءة في خطاب المرأة" يُحدثنا فيه عن مصر بعد هزيمة 67 وهذا يفترض مُقدمًا أن الهزيمة أحدثت تغيرات جذرية في تكوينات المجتمع المصري، ولعل معظم هذه التغيرات كان سلبيًا، بل ويرجع أسباب الزيادة السكانية أو بعضها على الأقل، إلى عودة الرجال منكسين رؤوسهم من الهزيمة، وعليه فلم يكن بدٌ من إثبات النفس بأي شكل. ولم يكن سوى الشره في ممارسة الجنس، كنوع من التحقق والسيطرة المدعاة، وهي محاولة بائسة أيضًا للتخلص من العار.
يقول "نصر" أن الرجل الذي عاد مكللًا بالهزيمة يريد أن يدفع عن نفسه هذا العبء الذي لا يحتمل وكمدعاة لهذا الدفع ذاته، عمد بشكل مَرضي إلى فرض رأيه على امرأته بالقوة، وظهرت مثلًا طائفة المنتقبات، واختفت بشكل تدريجي بعض الممارسات التي كانت تعد من قبيل الحرية الشخصية، بل فرضت عوضًا عنها مجموعة من القيم التي تعمد إلى تكبيل الفرد بقيود متكلفة، تتعدى في معظم الوقت المساحة الخاصة بالفرد، ليتم استحقاقها تعسفيًا من قِبل الأسرة ومن ثم المجتمع ذاته. فضلًا عن ظهور الجماعات الدينية التي دفنت رأسها هربًا، في لحيً طويلة وجلابيب لا تمت للواقع بصلة، ربما من تلقاء نفسها، وربما بإيعاذ من السادات كما يروج. الأكيد أن تجاوز السقوط حينها وإلى اليوم، يحتاج خطط حقيقية للتثقيف والبناء والتنمية، وقبل كل شيء، معرفة أسباب الهزيمة أصلا، وهو ما لم يحدث على كل حال مع الأسف!
واليوم، يُقطع سكون الليل دومًا، جراء تأوهات هذا الهوس الجنسي المفرط (المرضي وليس على إطلاق المعنى)، الأمر الذي له تكوينات تاريخية سابقة، مرورًا بالهزائم اليومية عبر التهميش والإقصاء وغياب العدالة وتكميم الأفواه، وبداية بالمرض والتلوث والإفقار المتعمد. ولأسباب أخرى بالتأكيد. وبالإشارة إلى الأفلام الإباحية والتي ساعد الإنترنت في رواجها بشكل مباغت ومع غياب التعليم فقد صار الأمر على نحو أكثر بشاعة، زاد هذا الشره الجنسي ممتزجًا مع خليط الجهل، من تصور خاطئ للعلاقة نفسها، وللوقت اللازم والمناسب لها، وليس انتهاءً برغبة عارمة في الانتشاء والخدر طوال الوقت، عن كل شيء، عن الفشل الشخصي، الاجتماعي والعملي، وفشل البلاد نفسها في تجاوز عثرتها المستمرة والمتحققة على أكثر من صعيد، وإن لم تعي ذلك جيدًا، أو تغافلت عنه عمدًا! فأخذ شكل الطابع الأساسي، الهوسي بامتياز، وعليه فإن عدد العقاقير الطبية التي يتم استهلاكها لأغراض جنسية يفوق الخيال، لتقوية الانتصاب أو بهدف تأخير القذف، وإطالة عمر العلاقة بشكل لا نهائي، وهي في معظمها عدد لا يحصى من مضادات الإكتئاب، يتم استخدامها بشكل عشوائي تمامًا[2]، كثير منها يسبب الغياب الجزئي للإنتباه الذهني. أو قُل أنه يكون إنتباهًا وهميًا!
ومن تلك الفكرة التي تعتمد تحويل الضحايا السابقين إلى جائرين جدد، وغالبًا صناعة أشكال هيكلية جديدة من العنف؛ إذ تستند في هذا المبدأ على بعض الحالات ضمن ظاهرة العنف العالمية والمبنية في بعض حالاتها على الرفض الاجتماعي أو العاطفي، وهو ما يجعل من الضحية/ المرفوض، يعمد إلى بناء قناعة تقوم على مباغتة الانتقام وعنفه الشديد، فضلًا عن قصديته. وبين الإدانة الواضحة يقبع القبول والتبرير في عملية تواطؤ جماعية تقريبًا. من هنا يمكننا فهم بعض تجليات هذا التحول الاجتماعي، وفهم ديناميكيات العنف والسلطة، في إطار هوس جنسي بحت، ومبيعات خرافية للمهدئات الطبية بأسعار زهيدة نوعًا ما، وما يترتب عليهما من تعاظم ظاهرة التحرش والعنف إجمالًا والجنسي على وجه التحديد.
حسب بعض الإحصائيات فقد بلغت مبيعات شركات الأدوية خلال عام 2021 من أدوية علاج ضعف الانتصاب لدى الرجال فى مصر نحو 2.2 مليار جنيه، بإجمالي بلغ 44.353 مليون علبة[3]. ولن نشير إلى إحصائيات الأصناف وقيمة حصتها من البيع في السوق المحلي، وهي ذات دلالة كبيرة، إذ يتصدر قائمة أكثر عشرة أصناف مبيعًا هو الصنف الأقل من حيث الثمن، فيما يشير إلى علاقة ذلك بالفقر في كل صوره، فكلما زاد فقر الفرد المادي والفقر من حيث التعليم والصحة الجيدة، فضلًا عن الحق في الراحة من ساعات عمل غير آدمية بالمرة، زادت معه محاولات بائسة للتلهي. لكننا نشير بالطبع إلى الغلو في الممارسة وفرط استخدام أدوية من شأنها أن تزيد شعور المرء بالوهم. كما كشفت بعض التقارير أنه من بين 139 صنفًا دوائيًا تقدم في السوق المصرية لأصحاب الأمراض النفسية، هناك 49 صنفًا يحمل مادة «جابابنتين»: وهي مادة لعلاج الصرع وآلام الأعصاب الناتجة عن إصابة الحبل الشوكي وغيرها، موضحًا، أن إجمالي مبيعات أدوية الأمراض النفسية منذ أكتوبر 2020 وحتى أكتوبر 2021، بلغت 2.5 مليار جنيه[4]. وهي أرقام -ولو من ضمنها بالطبع حالات لأمراض نفسية حقيقية تستلزم علاجًا عضويًا لا السلوكي والمعرفي منه فحسب- لها دلالتها الخطيرة في تقديم تصور عن المجتمع كاملًا في السنوات الأخيرة.
كما أننا لا نشير إلى العقاقير الجنسية المهربة دون تراخيص طبية، وهي في معظمها مصنعة بشكل غير قانوني (مجهولة المصدر) ويتم تداولها على أنها مستوردة (صيني) وهو المصطلح الأوسع انتشارًا، وبدا متفقًا عليه ضمنيا بين العملاء/ الزبائن والعاملين بالمجال الطبي والصيدلة، ولا تزال هذه العقاقير تجتاح الأسواق من دون أداة ربط أو توثيق لحجم مبيعاتها أو على الأقل ضبط عملية صناعتها وتدوالها لو صدق زعم استيرادها من الخارج فعلًا! أما بحساب فرق نسب المبيعات بين وقت ظهور هذه الإحصائيات واليوم، فأغلب الظن أن الأرقام قد تضاعفت لأكثر من ضعف.
في المقابل أصدرت هيئة الدواء المصرية، منذ عامين تقريبًا، قرارًا بإدراج 14 نوعًا من الأدوية على قائمة "جدول المخدرات" التي لا يمكن الحصول عليها من الصيدلية إلا بوصفة من الطبيب[5]. ومن بين هذه الأدوية ما يتم استخدامه للتخفيف من أعراض البرد وارتفاع درجات الحرارة، وهما من أكثر الأدوية مبيعًا في البلاد. وتم الإعلان عن القرار، بسبب تداول الدواء بشكل كبير دون أي ضبط لعملية البيع، رغم أن عددًا من تلك الأدوية تحتوي على مادة تتسبب الجرعة الزائدة منها في إدمان متعاطيها، وعدم السيطرة الكاملة على سلوكه الشخصي. بما يشمل تدهور الوعي مما يدفع المتعاطي إلى الإقدام على بعض التصرفات دون أن يعي تمامًا ماذا يفعل، تتباين هذه التصرفات بين العنف الموجه ناحية الذات أو للآخرين، وإلى الانتحار في حالات أخرى.
الأكيد أننا لن نطرح أسئلة من نوعية هل تصرف هذه الأدوية طبقًا لآليات القرار الصادر فعلًا؟ أم أنها تخرج بكميات أكبر دون وصفة/ استشارة طبية؟ ستبدو أسئلة هزلية حقيقةً، ألقِ نظرة على الشارع يا عزيزي، ستعرف! ولنستعيض عن ذلك بسؤال من المتسبب في هذه الحالة؟ الهزيمة؟ الفقر؟ غياب الرأي والشعور بانعدام القيمة جملةً؟ وعلى عاتق من تقع مسؤولية تفسير ما يحدث؟ فضلًا عن تفكيكه بغرض هدمه لا تصديره كأحد آليات عمل الواقع التي لا ينبغي أن نحيد عنها بأي شكل، وهي في حقيقة الأمر حلقة واحدة ضمن ماكينة فساد متكاملة، كأحد الآليات التي تضمن بشكل أساسي بقاء الحال على ما هو عليه، بقاء الفساد والتربح والاستبداد، وقبل كل ذلك، ممارسة التجهيل بأسباب الإخفاق العام وتداعياته.
هو ما يستدعي عمدًا قراءة هذه الحالة من السُكر الجزئي، طويل المفعول، نتيجة الأقراص التي تهدف إلى إطالة مدة الجماع أو تحسين المزاج، أو دفع الجراح وشعور الخيبة بعيدًا بعيدا. وهو الأمر الذي يساهم بشكل ما في فهم ظاهرة التحرش من جهة أخرى، ليس من باب الهوس الجنسي فقط، ولكن من حيث غياب الإنتباه تجاه التصرفات الشخصية نظرًا للوقوع المستمر تحت تأثير هذه العقاقير التي لا تسهم في الخدر التام، وبالتالي لا يقع متعاطيها تحت طائلة القانون الجنائي.
بالطبع هذه التحليلات خاضعة للرأي كما أنها عرضة للتغير حسب ما يقدم الواقع من معطيات جديدة قد تسهم بدورها في تعميق عملية الفهم لدى الجميع، وهي كذلك محاولة بائسة لتوقيف/ لإبطاء عجلة العنف على منحدر شديد وعر، التي لا محالة ماضية في طريقها، أو على الأقل محاولة لفهم ما يحدث، لماذا نموت كل يوم في بلد تعيس كهذا؟ ضل فيه طريق الصواب، وأضلنا الساسة الكبار ومسؤولي الدولة جميعًا، ومن يدفع الثمن؟ نحن؟ أبنائنا؟ الكل؟ الأكيد أن هناك ثمن، وهناك حتمًا من يدفع بالنيابة عن البقية، من فتاة جامعة المنصورة، لقس الإسكندرية، لحوادث الانتحار والخطف والاغتصاب والتحرش والابتزاز، وغيرها كل يوم، في مشهد يزدحم بالقسوة والدماء، والكثير الكثير من البلادة. ضع هنا كل الأسباب أو جميعها، وانظر عزيزي القارىء لما يطرحه علينا الشارع يوميًا مرةً أخرى من استعار جنوني وحوادث قد تظن عند سماعها لأول وهلة أنك داخل حُلم كابوسي بامتياز.
وهو ما تقدمه أطروحة (Alejandro Gutierrez) حيث يهدف إلى تقديم فهم أفضل لكيفية بناء المجتمع المصري والطريقة التي ينظر بها إلى السلوك المنحرف وتعاطي المخدرات بالأخص، الأمر هنا لا يتعلق بالمخدرات في حد ذاتها، بل بالطريقة المعقدة التي يبني بها المجتمع –بجانب السلطة- خبراته وينظم سلوكياته؛ إذ بين الوصم والإدانة يظهر بعض التباهي أحيانًا أو الإحتفاظ بالاستقلالية بما يملك بعض الأشخاص من ذوات تبدو فوق القانون، ببساطة يتم التعامل مع هذه المسألة على أساس طبقي بطريقة ما، وبما يمكن أن تُقرأ به هذه السيولة التي تمرر بها السلطة بعض التجاوزات القانونية لصالح قوى بعينها، فإن المجتمع أيضًا يتشكل ويُشكل في الأفراد بناء على تباين ردود الفعل تجاه نفس التصرف باختلاف الظروف والسياق المحيط وباختلاف الأفراد وقدراتهم كذلك، بما يسمح للقول عن المجتمع أنه يخلق "الآخر المنحرف" من الأساس.
في الوقت نفسه ستكون محاولة بائسة لو حاولنا استكشاف الأزمة بالنظر فقط لعلاقة الرجل بالمرأة، وبالمثل التعويل على غياب الدين جملةً أو سطوته في الحضور مخطىء الفهم. الحقيقة أن أي محاولة لتقديم قراءة للمشهد الحالي فضلًا عن طرح حلول ناجزة، دون النظر للغياب التام للمبدأين الأهم على الإطلاق لصلاح أي مجتمع، أي العدالة والقانون، ستكون مجرد قراءة فارغة من القيمة بدايةً، إذ الحديث دونهما ولو كان منمقًا، رائعًا، ظاهريًا، فهو محض هراء كامل، هراء فحسبُ!
لعل هذا السؤال يجتر كل ما شابهه من أسئلة أثيرت على مدار عقود طويلة من التخلف والرجعية، والفقر، أي في تلك اللحظة التي أدرك فيها "المتخلفون" تلك القاع التي يسكنونها وهي ليست واحدة ولا نهائية، الحقيقة أننا نصحو كل مرة على قاع جديدة أكثر خطرًا مما سبقها!
في كتاب Why Nations Fail: The Origins of Power, Prosperity, and Poverty والذي كتبه الاقتصادي التركي-الأمريكي دارون أسيموغلو من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا والعلوم السياسية وجيمس روبنسون من جامعة هارفارد. يتكلم الكتاب عن نظريات الإقتصاديات المؤسسية، إقتصاديات التنمية والتاريخ الإقتصادي وذلك للإجابة عن سؤال لماذا تنمو الدول بشكل مختلف؟ حيث نجح البعض منها في مراكمة القوة والازدهار، في حين فشل بعضها الآخر. ويحدد المؤلِفَان أن المؤسسات التى يقيمها الإنسان، وليس الموقع الجغرافي أو التاريخي هي التي تُحدد ما إذا كانت دولة ما تصبح غنية أو فقيرة، إن التطورات المؤسسية، وانفتاح المجتمع ورغبته فى السماح بوجود الهدم الخلاق - الذي من شأنه أن يخلق مجموعات تتنافس على السلطة ضد النخب الحاكمة، والتي بناءً على ذلك ستفقد ميزة وصولها الحصري للموارد الإقتصادية والمالية- وحكم القانون يؤديان إلى التطور الاقتصادي.
وعليه فالدول تنجو فقط من شبح الفقر عندما تمتلك مؤسسات إقتصادية فاعلة ويكون لديها نظام سياسي تعدُدي. وهم يشيران بذلك إلى نوعين من المؤسسات داخل الدول، الأولى هي الإستخراجية/ الإستحواذية والتي تهدف إلى إستبعاد غالبية المجتمع من عملية صنع القرار السياسي وتوزيع الدخل وحتى الأرباح. والثانية هي الشاملة/ التشاركية والتي تهدف إلى تضمين أوسع لطبقات المجتمع الممكنة في الحياة الإقتصادية والسياسية وصناعة القرار. تلك هي المؤسسات كما حددها المؤلفان والتي على إثرها تصبح كل أمة مرهونة بمصيرها المُحقق، على أساس ما تتبنى من المؤسسات الإستخراجية أو الشاملة، وربما يتضح من مجرد اللفظ ما يمكن أن تفعله كل نوعية من المؤسسات داخل البلد الواحد، بل ربما يتضح التساؤل ليكون لماذا تنجح الأمم؟
صحيح أن المُساعدات التي تُقدم للدول الفقيرة بهدف تخطي عقباتها الإقتصادية، قد يكون حلًا، ربما لبعض الوقت فقط، إذا لم يتبع ذلك سياسات جوهرية من هدفها تعديل المسار إلى التشارك لا الإستحواذ، لكن بالنظر لبعض الأبحاث التي تشير لعلاقة مباشرة بين المساعدات التي تقدم من البنك الدولي وصندوق النقد على سبيل المثال بما يتبعها من سياسات تقشف صارمة يضيع على إثرها الفقراء ومحدودي الدخل متمزقين من التطلع لحياة الطبقات الأغنى إلى قلة الحيلة وضيق ذات اليد، وبين الزيادة اللاحقة في أرصدة الحسابات الآمنة ببنوك سويسرا وغيرها، فإنه يثير الشك لا محالة! حيث ترى تلك الحكومات أن الفقر مثله مثل التخلف، كلمة السر لإضفاء الشرعية على ادعاءاتها الخاصة بأشكال السيطرة المركزية على السكان، وكذلك الحصول على مزيد من الأموال (المساعدات الأجنبية) لتحقيق أهدافها (تقوية جيشها وشرطتها وأمنها وأجهزة استخباراتها). وحيث تعمل تلك الأجهزة على جعل السكان يدفعون ثمن الخدمات المتصلة باستغلالهم وقبول دمجهم الجبري في الاقتصادات القومية والعالمية، وكذلك العبء الثقيل من الديون المتعاقد عليها لهذه الأغراض. للحد الذي يعتبر أن سياسة المساعدات تساهم في تأبيد عملية الإفقار، وهو ما أشار إليه "جورج زيمل" أن الهدف من المساعدة هو الحد من التجلي المفرط للتمييز الاجتماعي، وكي يستمر البناء الاجتماعي قائمًا أصلا على هذا التمييز. ببساطة لأنه لو الهدف من هذه المساعدات هو مصالح الفقراء؛ فلن يكون هناك حد/ مانع لانتقال الأملاك لمصلحة الفقراء مباشرة، وهو الانتقال الذي سوف يؤدي إلى مساواة الجميع.
وعليه فإن البحث عما يمكن أن يكون مشتركًا بين الأمم من شروط للنجاح، أو على الأقل العمل على إيقاف نزيف التخلف والفقر، عليه أن يضعنا بمنطقة بَرِحَة، تقبل الجميع بقاعة البحث، التي لا دين لها إن صح التعبير. بل ويفرض الرغبة الجادة في التغير الحتمي.
في الوقت الذي يربط البنك الدولي بدرجة وثيقة بين الفقر العالمي وإجمالي الناتج القومي في البلدان المختلفة، فإنه بذلك يؤسس معرفيًا لأكثر من مسألة، أولًا: أن الاقتصاد انتزع من سياقه الاجتماعي والثقافي ليصبح عبارة عن مجموعة من القواعد والديناميكيات الاقتصادية الجامدة، والتي تقيس فقر الفرد بما يحصل عليه من إجمالي الناتج القومي وليس بالنظر لما يحتاجه فعلا، وهو ما يدفع لتصديق تلك الخرافة الإقتصادية بأنه يمكن للفرد تجاوز الفقر من خلال زيادة الإنتاجية، بما يتضمن التوظيف وزيادة الدخل وغيره، يظهر عن طريق مراكمة فائض شخصي من الرفاه الاجتماعي ووجاهة التحقق. كما أن الحديث عن فقر عالمي، يلزمه أن تصبح مهمته موكلة بالأساس للمحترفين والمدربين، وبذلك اعتبر القضاء على الفقر سببًا إضافيا لتعزيز بنى الحوكمة الحالية، التي تجاهد الآن لتدفع عن نفسها تهمة الانهيار الذاتي. ببساطة فإن الإنسان تحت مسمى العمل، والطبيعة تحت مسمى الأرض، قد عُرضا للبيع! بما يمكن الاقتصاد من إنتاج الكثير من السلع والخدمات لتلبية مجموعة بعينها من الحاجات محققا بذلك قيمة وحيدة هي الاستهلاك كما بدا واضحًا للجميع. وهو ذات الإطار الذي يسعى إلى اختزال كل شيء كي يصبح أحد عوامل الاقتصاد القومي أو العالمي الخفي، حيث يعمل فقط لإنتاج الأشياء لمن يمكنه دفع ثمنها. أي يجبر الاقتصاد –باسم الحد من الفقر- الفقراء على العمل من أجل الآخرين بدلًا من أن يعملوا من أجل أنفسهم، ليكون إفقار متعمد، أو "إقصاء حتمي" بتعبير باومان. وهو الأمر الذي بدا قبوله طوعيا في إطار سلطوي بداية من اللغة نفسها، إلى الهيكلة الإقتصادية التي تفترض أن وجود فقراء أمر بديهي، وربما ضروري.
وهو ما يشير إلى أهمية ما قاله الحائز على جائزة نوبل في العلوم الإقتصادية عام 1998م وعالم الإقتصاد الهندي آمَرتيا صن في كتابه "Development as Freedom". إذ ربما عند تحليلنا للعدالة الاجتماعية نجد مبررًا قويًا للحكم على الميزة الفردية في ضوء ما لدى الفرد من قدرات، أي الحريات الموضوعية التي يحظى بها لبناء نوع من الحياة التي لديه الأسباب لإضفاء قيمة عليها. وحسب هذا المنظور يمكن إعتبار الفقر حرمانًا من القدرات الأساسية وليس مجرد تدنيًا في الدخل وهو المعيار الأساسي والسائد لتحديد الفقر، ولا يتضمن منظور فقر القدرة أي أفكار للنظرة المعقولة التي ترى الدخل المنخفض أحد الأسباب الرئيسية الواضحة للفقر طالما وأن نقص الدخل يمكن أن يكون سببًا رئيسيًا لحرمان الشخص من القدرة.
وعليه يكون الحرمان النسبي من حيث الدخل يمكن أن يفضي إلى حرمان مطلق من حيث القدرات! ففي الوقت الذي يكون فيه الفرد فقيرًا نسبيًا في بلدٍ غني يمثل عقبة أكثر وهذه الحال، أكثر منها في بلد فقير. حيث يكون ثمة حاجة أكبر إلى الدخل لشراء ما يكفي من سلع لبلوغ المستوى الاجتماعي المتعارف عليه في بلدٍ بعينه. وهذا يفرض بدوره ضغطًا متزايدًا على الفرد الفقير في بلد غني نسبيًا، وهو أيضًا ما يفسر بشكل ما ظاهرة الجوع المثيرة للتناقض في بعض البلدان الغنية. كما يشير إلى عجز معيار قياس فقر الفرد بالنظر لنصيبه من إجمالي الدخل القومي. وهكذا يكون تحليل الفقر تأسيسًا على منظور القدرة من شأنه أن يعزز فهم طبيعة وأسباب الفقر والحرمان، إذ ينأى بالاهتمام الأول بعيدًا عن الوسيلة (الدخل) إلى الغايات التي يتطلع إليها الفرد ويملك لها مبررًا. وهو ما يدين جميع قيم العالم الرأسمالي/ الاستهلاكي بامتياز.
وإذ نربط ذلك بأن إحدى المؤسسات لا تسمح على الأغلب بحرية الفرد، وتهميش ما يمكن أن يكون له من فاعلية نحو التقدم بأي مستوى، إقتصادي أو ثقافي، تحت فضاء السياسي المسيطر دائمًا حسب ما نظن، وذلك عبر مساحات من تأويل الحرية وفق إطار معين، يكبل الفرد بالمطلق، بينما يحافظ في الآن ذاته على الإطار الشكلاني لممارسة الحرية! وحيث لا يوجد ضمانات موثوقة لحقوق الملكية وفرصة لتلقي الدخل -وكذلك العدل في توزيع الفرص على إجمالها- من تلك المؤسسات بين قطاعات واسعة من المجتمع إلى توقف النمو الإقتصادي. أي أنه في ظل غياب مؤسسات سياسية تعددية يكون تحقيق التنمية المستدامة، حسب المؤلفين، أمرًا مستحيلًا.
في حواره مع جريدة "المصري اليوم"[6] يقول المخرج الفائز بجائزة "النيل للفنون" لعام 2022م، حين سُئل عن تطرقه فى فيلم «الكيت كات» إلى أزمة العجز.. هل مازلت ترى أننا مجتمع عاجز فكريًا وروحيًا؟
- "نحن لم نعبر عجز نكسة 1967 حتى الآن من الناحية الثقافية والفكرية؛ فالفكرة ليست في الانتصار الحربي الذي حققناه في 1973، الفكرة في دخول عصر جديد وأنت كمجتمع مسلح بالعلم والثقافة وحرية الرأي والتفكير، وهذا لم يحدث بعد مرور كل هذه السنوات، فأسباب الهزيمة المجتمعية التي حدثت فى عام 1967 لاتزال كما هي". أضف إلى ذلك الخوف المرضي من العجز الجنسي، أو العجز المتحقق بالفعل!
حاول داوود تعرية العجز كقيمة مارست سطوتها على الكل، هل نجح؟ هل تلقت الدولة خطابه فدعمته بجائزة؟ هل فعلًا أدركنا لحظة الهزيمة؟ أم أننا نتجاوزها بالوقوع في شَرك هزائم أخرى أكثر بشاعة؟! الأمر الذي يفتح بدوره الباب لأسئلة أكثر، عن طبيعة سوق العمل في مصر والضاغط بشكل لا يوصف؟ عن انهيار منظومات الصحة والتعليم وغيرها؟ عن غياب تام للمساحات الخضراء والحدائق التي من شأنها الترويح عن نفوس المتعبين من ضغط الزحام وقتله البطىء؟ عن الشواطىء التي تآكلت لصالح مستثمرين وفنادق يستلزم دخولها أموالًا طائلة لا يمكلها الجميع بطبيعة الحال؟ وبالنظر لكون هذه الأسئلة ليس لها محل من مخططات حكوماتنا وبالنظر لكون هذه مساحات للترفيه والمتعة والاهتمام المستحق رغمًا عن كل شىء، فإن الأمر للأسف، سيبقى على ما هو عليه، وعلى المتضرر، أن يجد نوعًا جيدًا من مغيبات الوعي والسؤال!
هنا، هل يمكن اعتبار الفقر من حيث القدرة إحالة جذرية يقدمها بداية الفقر من حيث العجز في المطلق والعجز الجنسي على وجه الخصوص؟ هل يمكن اعتبار العجز الجنسي رمزية فجة لهذا العجز/ الفقر المادي في الأساس؟ والذي ينمو ضمن ديناميكيات الصراع بشكله الحالي وبناء عليه تبقى فرصة التجاوز بالمنشطات من ناحية أو الخدر العام من ناحية أخرى؟ هل يمكن اعتبار أن تداول عدد ضخم من العقاقير الطبية الجنسية والمخدرة والأدوية النفسية بأسعار تبدو زهيدة في معظمها، مكافأة لهذه الأعداد المهولة من الفقراء والتي تساهم بشكل مباشر في مراكمة ثروات رأس المال والذي يشمل بطبيعة الحال شركات الأدوية العملاقة؟ ربما يستدعي هذا ضرورة التأمل، لأنه في الوقت الذي تضغط فيه حكومات الدول الفقيرة بشدة للحد من النسل كونه الطريق الأولي في تخفيف أعبائها وتقليل الضغط على الموازنة العامة، فإن عاصفة من المنشطات الجنسية تجاهد في شكل تناقض حاد للغاية، والنتيجة زيادة أعداد المواليد بشكل لافت عكس المأمول فعلًا، لكنه في النهاية يصب في مصلحة رأس المال إن بطريقة أو بأخرى، لأن المواليد/ العمال الجدد هم وقود تلك الشركات، ليس بما يتبنوه من قيم تقدس العمل فحسب، بل تفيد جذريًا عملية تعزيز الانتاج والاستهلاك بغض النظر عن القيمة الحقيقية للمنتجات، وبغض النظر عن هذا الشرك الذي نصب بإحكام بالغ.
***
كنتُ، قال، مثل حصان جامح، أركض نحو الهاوية، أريد التوقف، ولا أقدر على ذلك. في الحقيقة، لقد كان ركضًا مروعًا، وشرعت أفكاري بخضوعها التام لما أنا فيه، ولما يحيط بي، ولكل ما يمكن أن يرتبط بكلمة صدفة، تأخذ منعطفًا عاطفيًا بحتًا. لقد فات الأوان! (بودلير).
Alexander M. Baldacchino & Bhags Sharma. Substance-Induced Mental Disorders. In: el-Guebaly, N., Carrà, G., Galanter, M., Baldacchino, A.M. (eds) Textbook of Addiction Treatment. Springer, Cham.
https://doi.org/10.1007/978-3-030-36391-8_90
Alejandro Gutierrez, The discourse of drug use in Egypt: an interdisciplinary exploratory, 2015. https://is.gd/eKF5CG
Amartya Sen, Development as Freedom. New York: Oxford University, 1999.
Daron Acemoglu and James A. Robinson, Why Nations Fail: The Origins of Power, Prosperity, and Poverty. 2012.
Georg Simmel, The Poor, Social Problems,1965.
John Ilife, The African Poor: A History, Cambridge 1987.
Josh Segalewitz, “‘If You’re Ugly, the Blackpill Is Born with You’: Sexual Hierarchies, Identity Construction, and Masculinity on an Incel Forum Board,” Joyce Durham Essay Contest in Women’s and Gender Studies, 20, https://ecommons.udayton.edu/wgs_essa...
Kayla Preston et al., “The Black Pill: New Technology and the Male Supremacy of Involuntarily Celibate Men,” Men and Masculinities,
https://www.researchgate.net/publicat...
Elliot Rodger, My Twisted World: The Story of Elliot Rodger, self-published, available at:
https://schoolshooters.info/sites/def...
https://www.documentcloud.org/documen... https://www.lrb.co.uk/the-paper/v40/n...
نصر حامد أبو زيد. "دوائر الخوف: قراءة في خطاب المرأة"، القاهرة، 2004م.
فولفجانج ساكس. "قاموس التنمية: دليل إلى المعرفة باعتبارها قوة"، ترجمة: أحمد محمود، القاهرة، 2009م.
شارل بودلير. "الفراديس المصطنعة: في الحشيش والأفيون". ترجمة: ناظم بن إبراهيم. دار المتوسط، ميلانو، 2018م.
سلسلة مقالات هزيمة يونيو المستمرة: https://is.gd/gGtf94
قرار حظر بعض الأدوية بجريدة المصري اليوم: https://is.gd/G5C37r
تقرير: 2.2 مليار جنيه مبيعات أدوية علاج ضعف الانتصاب في مصر خلال https://is.gd/D0kQYM
تحقيق: "جابابنتين مادة دوائية تفتك بعقول المصريين" 2021م. https://is.gd/G2F2zO
«المصرى اليوم» تحاور المخرج داوود عبدالسيد بعد فوزه بجائزة «النيل للفنون»: المناخ العام سلفى.. والفن الطبيعى يصل للناس مباشرة. https://is.gd/GllKRH
[1] سلسلة مقالات هزيمة يونيو المستمرة: https://is.gd/gGtf94
[2] تفيد الدراسات الطبية أن إدمان المخدرات (وكذلك استخدام بعض المهدئات ومضادات الاكتئاب بشكل غير منتظم ومن دون وصفة طبية ومتابعة مستمرة)، يعرض الأشخاص ذوي الاستعداد الفطري للمرض النفسي، لخطورة الإصابة بالأمراض النفسية. مما يؤدي في حالات كثيرة إلى الانتحار أو العنف غير المبرر تجاه الذات والآخرين. ومنها:
. Alexander M. Baldacchino & Bhags Sharma, Substance-Induced Mental Disorders
https://doi.org/10.1007/978-3-030-36391-8_90
[3] تقرير: 2.2 مليار جنيه مبيعات أدوية علاج ضعف الانتصاب في مصر خلال 2021. https://is.gd/D0kQYM
[4] اللافت للانتباه أنه لا يتوفر إحصائيات رسمية (مصرية) توضح قيمة مبيعات هذه الشركات بناء على ما تقدمه من ملفات ضريبية على سبيل المثال، ويبقى الأمر في إطار المعلومات السرية والتي يتم الحصول عليها خُلسة أو بطرق ملتوية. ويشير أحمد صبحي إلى ذلك في تحقيق منشور بجريدة المال، بعنوان "جابابنتين مادة دوائية تفتك بعقول المصريين". كما يوضح بعض المعلومات المطلوبة ويضع إطارا لفهم حركة مبيعات هذه الشركات من بعض الأدوية. https://is.gd/G2F2zO
[5] قرار حظر بعض الأدوية منشور بجريدة المصري اليوم: https://is.gd/G5C37r
[6] «المصرى اليوم» تحاور المخرج داوود عبدالسيد بعد فوزه بجائزة «النيل للفنون»: المناخ العام سلفى.. والفن الطبيعى يصل للناس مباشرة. https://is.gd/GllKRH
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط الخاصة بنا وملفات تعريف الارتباط الخاصة بالجهات الخارجية حتى نتمكن من عرض هذا الموقع وفهم كيفية استخدامه بشكل أفضل ، بهدف تحسين الخدمات التي نقدمها. إذا واصلت التصفح ، فإننا نعتبر أنك قبلت ملفات تعريف الارتباط.