1.
مسألة الجسد الأخروي―أي طبيعة جسد أهل الجنة وصفته وحياته بعامة―واحدة من أجلِّ فروع علم اللاهوت (العقيدة)، وهي تُدرَس في التصانيف اللاهوتية تحت باب مسائل الآخرة.[1] لكن بعدما أجمعت الحكومة البابوية (الكوريا) الرومانية أمرها على مصالحة الحداثة، قررت، بشيء من العجلة، أن توصد باب الكلام الأخروي المفضي إلى مناقشة "أحوال الآخرة"، أو بالأحرى أن تجمّد هذا النقاش البالي أو المضني على أقل تقدير. ومع ذلك، فما دام الإيمان ببعث الأجساد أحد أصول الدين المسيحي، ستظل هذه المسألة المُشكِلة قائمة. سأسعى في الصفحات التالية إلى بث الحياة كرَّة أخرى في هذا النقاش المتجمد، وبذلك سأدرس مسألة لا مناص من تناولها، وهي: الوضع الأخلاقي (الإتيقي) والسياسي للحياة الجسدية نفسها (ومسوغ ذلك هو أن أجساد المبعوثين في الحياة الآخرة هي من الناحية العددية والمادية نفس أجسادهم في الحياة الدنيا). أي أنني سأتخذ من الجسد الأخروي مِثالًا مُبينا (باراديجم) يمكّننا من التفكر في أحوال الجسد البشري بحد ذاته وفي استعمالاته الممكنة.[2]
2.
أول مسألة تعيَّن على علماء اللاهوت التصدي لها هي كُنه الجسد المبعوث وهويته. إذا كانت الروح سترجع إلى الجسد نفسه مرة أخرى، فكيف يمكن التثبت من تطابقهما؟ ويتعلق السؤال الأولي هنا بعمر المبعوثين: هل سيُبعث كل إنسان لزامًا في العمر نفسه الذي مات فيه، فمَن مات شيخا يُبعث شيخا، ومن مات رضيعا يُبعث رضيعا، ومن مات بالغا يُبعث بالغا؟ يجيب توماسُ الأكويني (ت. 1274م) على ذلك بأن الإنسان لا بدّ أن يُبعث من دون أية عيوب طبيعية (جسدية). ولأن طبيعة الإنسان قد تكون معيوبة لأنه لم يبلغ حال كماله (كما هو شأن الأطفال) أو لأنه قد ترك حال كماله وراء ظهره (كما هو شأن الشيوخ)، سيُبعث جميع الناس في سن الكمال، وهو الشباب، أي في نفس السن الذي بُعث فيه المسيح بن مريم. إن الجنة دار لمَن هم في الثلاثينيات من عمرهم أبدًا، سِن التوازن التام بين نمو الجسد وانحلاله.[3] وفيما خلا ذلك، ستحتفظ الأجساد بالاختلافات التي كانت تميزها بعضها عن بعض في الحياة الدنيا، وأهمها الاختلافات الجنسية (خلافًا لمن قالوا إن الناس جميعًا سيبعثون ذكورًا لأن الأنثوي معيوب).[4]
3.
لكن المسألة الأشد مكرًا هي مسألة التطابق المادي بين جسد المبعوث وجسده الذي عاش به على ظهر الأرض. كيف يمكن للمرء أن يتصور تطابق الجسدين في جميع جزيئاتهما المادية تطابقًا تامًّا؟ هل ستعود كل ذرة ترابٍ تحلل إليها الجسد إلى الموضع نفسه الذي كانت تشغله في الجسد الحي؟ هنا تحديدًا تبدأ الصعوبة. يمكننا أن نجزم أن يد السارق―الذي تاب وعفا الله عنه―ستعود إلى جسده في لحظة البعث.[5] لكن ماذا عن ضلع آدم، الذي نُزع من جسده ليُخلق منه جسد حواء:[6] هل سيُبعث في جسده الأخروي أم في جسدها؟ وماذا عن حالة آكل لحم البشر: هل سيُبعث اللحم البشري الذي أكله وهضمه في جسده الأخروى أم في جسد ضحيته؟
تدور واحدة من المسائل الافتراضية التي وضعت حِذق آباء الكنيسة وفطنتهم على محك الابتلاء حول الاحتمال التالي: آكل لحم بشر لا يأكل إلا اللحم البشري، أو لا يأكل إلا الأجنة البشرية تحديدًا، أنجب ابنًا. وفقًا للطب الوسيط، ينشأ المني عن فائض أو فضل الطعام المهضوم (اللحم البشري هنا).[7] وهو ما يقتضي أن نفس اللحم سيكون منتميًا إلى أكثر من جسد (جسد المأكول وجسد الابن)، وبالتالي ينبغي أن يُبعث، على نحو مستحيل، في أجساد مختلفة. يحل توماسُ الأكويني هذه المعضلة الأخيرة بهذا الفصل الحكيم:
لا تُبعث الأجنة ما لم تُنفخ فيها الروح. وعند الوصول إلى هذه المرحلة يكون أضيف إلى جوهر المني الكثير من العناصر التي يتغذى عليها الجنين في رحم الأم. وعليه، هبْ أن شخصًا يأكل هذه الأجنة البشرية، ثم أنجب ابنًا من فضلة هذا الطعام، فسيُبعث ما كان في جوهر المني في ذلك الذي خُلق منه، إلا إذا احتوى على عناصر تعود إلى المأكول لحمهم، لأن هذه العناصر ستُبعث فيهم وليس فيه. أما بقية اللحم المأكول الذي لم يتحول إلى مني فسيُبعث بالطبع في جسد المأكولين، في حين سيكمّل الله الأجزاء الناقصة من كليهما بقدرته.[8]
4.
طرح أورجِن السكندري (ت. 254 م) حلًّا أكثر إحكامًا وأقل تشوشًا لمسألة هوية المبعوثين. فعنده، ما يظل ثابتًا في كل شخص بعد البعث هو صورته التي نتعرف عليها على الدوام في كل مرة نلقاه فيها، على الرغم من التغيرات الحتمية التي تطرأ عليه. وهذه الصورة نفسها هي ما سيضمن أيضًا هوية الجسد المبعوث، يقول: «تظل صورتنا ثابتة منذ الصغر حتى أرذل العمر، على الرغم من التغيرات المستمرة التي تطرأ على سماتنا الجسدية، وهذه الصورة التي لازمتنا في حياتنا الدنيا هي التي ستُبعث وستظل ثابتة في حياتنا الآخرة، لكنها ستغدو أكمل وأبهى». وكما هو شأن العديد من أفكار أورجِن الأخرى، رُميت فكرة هذا البعث "الصوري" بالبدعة. ومع ذلك، استُبدِل الانشغال اللازب بضرورة التطابق المادي التام بين الجسدين الدنيوي والأخروي، تدريجيًّا، بفكرة أن مظهر كل جزء من أجزاء الجسد سيظل ثابتًا على الرغم من تحلله وتجدده المستمر. يقول توماسُ الأكويني: «وهكذا، ما يحدث للأجزاء التي يتكون منها جسد الإنسان هو عين ما يحدث لسكان واحدة من المدن، حيث يحل مَن يولدون محل مَن يموتون. من الناحية المادية، تخلُف المكونات التي تؤلف سكان هذه المدينة بعضها بعضًا، لكن من الناحية الشكلية، يظل السكان كما هم ... وعلى نحو مماثل، تُستبدل أجزاء الجسد البشري بأجزاء أخرى تتخذ الشكل نفسه والموضع نفسه، وهكذا، من الناحية المادية تتحلل جميع أجزاء الجسد وتتجدد، لكن من الناحية الشكلية يظل الجسد كما هو»[9]. وعلى ذلك، لا يقوم التثبت من هوية الجسد في الآخرة على أساس التطابق المادي―كما هو الحال اليوم في أقسام الشرطة في شتى ربوع الأرض، بمقاييسها الحيوية [البصمات[―وإنما على أساس الصورة، أي شبه الجسد بنفسه.[10]
5.
بعد التثبت من تطابق هوية الجسدين الأخروي والدنيوي، انصرف علماء اللاهوت إلى التحقق مما يميز أحدهما عن الآخر. ولقد أحصوا أربع صفات مميزة للجسد المُنعَم عليه، وهي: الحصانة العاطفية (impassibility)، واللطف (subtlety)، والخِفَّة (agility)، والصفاء (clarity).
لا تعني الحصانة العاطفية لجسد المُنعم عليهم انعدام قدرته على الحس، لأن القدرة على الحس من كمال الجسد، ومن دونها، ستغدو حياتهم أشبه بالنوم، أي ستغدو نصف حياة.[11] وإنما تعني انعدام تأثره بتلك العواطف المفسدة التي تحيد به عن كماله. فكل أجزاء الجسد الأخروي ستكون خاضعة لسلطان الروح العاقلة، التي ستكون بدورها خاضعة للمشيئة الإلهية.
ومع ذلك، ارتاعت أفئدة بعض علماء اللاهوت من فكرة وجود شيء يمكن شمه أو ذوقه أو لمسه في الجنة، فنفوا جميع الحواس من الوجود الفردوسي. لكن توماسُ الأكويني، ومعه جمهور آباء الكنيسة، قد أنكر هذا القول الذي عدّوه جدعًا للجسد. فحاسة الشم لدى أهل الجنة لن تُحرم مما تشمه: «ألا تقول الكنيسة في ترانيمها إن أجساد الصالحين تفوح برائحة عليلة؟»[12]، والحق، أن رائحة الجسد الفردوسي، المتصف بالكمال، ستكون مجردة من أية رطوبة مادية، كالتي توجد عند استنشاق الأبخرة المقطرة. وهكذا سيكون أنف أهل الجنة قادرًا―بفضل التخلص من عائق الرطوبة―على إدراك أدق الفروق بين الروائح.[13] وكذلك سيتذوق أهل الجنة―على الرغم من انتفاء حاجتهم إلى الطعام―ربما لأنه «سيكون على لسان المُخلَصين طعم لذيذ»[14]. وأيضًا سيدركون بحاسة اللمس سمات معينة في الأجساد تستبق، على ما يبدو، تلك السمات غير المادية في اللوحات المرسومة، التي اصطلح عليها مؤرخو الفن الحديث بـ"القيمة اللمسية" أي تلك التي تستثير حاسة اللمس في الناظر .
6.
على أي نحو ينبغي أن نفهم "لطف" الجسد الأخروي؟ وفقًا لقول، بدَّعه توماسُ الأكويني، يجعل هذا اللطف―باعتباره ضربًا أقصى من خفض الكثافة―أجساد المنُعم عليهم شبيهة بالهواء أو الريح، وبالتالي قابلة للاختراق بغيرها. إنها غير ملموسة بحيث لا يمكن التفريق بينها وبين النَفس أو الرَوح. ولذلك يمكن لهذا الجسد أن يشغل موضعًا مشغولًا سلفًا بجسد آخر سواء كان هذا الجسد الآخر مرحومًا أو ملعونًا. وفي مقابل هذا القول المغالي، يدافع القول الغالب عن أن للجسد الأخروي طبيعة محسوسة وملموسة، يقول الأكويني: «بُعث المسيح بجسد أخروي، لكنه كان جسدًا ملموسًا، لأنه مكتوب في الإنجيل: "المَسُوني وتبيَّنوا، فليس للشبح لحم ولا عظام".[15] وهكذا ستكون جميع الأجساد الأخروية ملموسة»[16]. لكن لأن هذه الأجساد خاضعة تمامًا للروح، يمكنها ألا تترك أثرًا في اللامس، وبذلك تظل―بفضل قوة معجزة―غير ملموسة من طرف الأجساد غير المنعم عليها.
7.
الخفيف هو الذي يتحرك على نحو ملائم بلا مشقة أو قيد. وهكذا، سيُنعم على الجسد الأخروي―الخاضع خضوعًا تامًّا للروح المرحومة―بالخِفة، إذ «سيكون على أهبة الاستعداد لطاعتها حثيثًا في جميع حركاته وأفعاله»[17]. ومرة أخرى، في مقابل مَن ذهبوا إلى أن جسد أهل الجنة يمكنه أن يتحرك من مكان إلى آخر من دون أن يمر خلال المسافة بينهما، شدد جمهور علماء اللاهوت على أن ذلك منافٍ للطبيعة الجسدية. وكذلك، في مقابل مَن ذهبوا إلى أن الحركة ضربٌ من الفساد، وتكاد تكون عيبًا في الجسد (من جهة مكانه)، ولذلك قالوا إن جسد أهل الجنة ثابت لا يتحرك، شدد جمهور علماء اللاهوت على أن الخِفة نعمة تُخلع على أهل الجنة تحملهم، في لمح البصر تقريبًا ومن دون أي مشقة، إلى حيثما يطيب لهم أن يذهبوا.[18] فمثل الراقصين الذين يتحركون في الفضاء بلا غاية أو ضرورة، يتحرك الذين أنعم الله عليهم في الجِنان لا لشيء إلا لاستعراض خِفَّتهم.[19]
8.
يمكن فهم سمة الصفاء على وجهين: كلمعان الذهب (بسبب كثافته) أو بريق البلور (بسبب شفافيته). وبحسب جريجوري الكبير (ت. 604 م)، تتمتع أجساد أهل الجنة بوجهي الصفاء هذين: إنها شفافة كالبلور ولا ينفذ منها الضوء كالذهب. لذل يشع منها هالة من نور يدركها سواهم ممن لم ينعم الله عليهم، ويتفاوت سناء هذه الهالة على قدر تفاوت أهل الجنة في الفضل. فشدة الصفاء أو خفوته ليست سوى العلامة الأشد خارجية على الاختلافات الفردية بين الأجساد المنعم عليها.[20]
9.
لا يوجد أي إشكال كبير في هذه السمات الأربع―الحصانة العاطفية، اللطف، الخفة، الصفاء―التي يمكن اعتبارها حلية للجسد الأخروي وزخرفًا. فبيت القصيد من كلٍ منها هو التشديد على أن للمنعَم عليه جسد وأن هذا الجسد هو عين جسده الذي عاش به في الحياة الدنيا لكنه في حال أحسن وأكمل بما لا يضاهى. وإنما الإشكال الأشد صعوبة وحسمًا هو الطريقة التي يؤدي بها هذا الجسد وظائفه الحيوية، أي فسيولوجيا الجسد الفردوسي. فكما رأينا، سيُبعث الجسد كله، بجميع الأعضاء التي احتوى عليها في أثناء وجوده الدنيوي. أي أن جسد أهل الجنة سيحتوى إلى الأبد على معدة وأمعاء، وعلى قضيب لو كان ذكرًا، ومهبلٍ لو كان أنثى. لكن لأي غرض، ما داموا لن يحتاجوا―كما يبدو جليًا―لا إلى التكاثر ولا إلى الأكل؟ يقينًا، سيسري الدم في شرايينهم وأوردتهم، لكن هل من الممكن أن يواصل الشعر النمو على رؤسهم ووجوههم أو أن تواصل الأظافر نموها على نحو مزعج وعديم النفع؟ في مواجهة هذه الأسئلة الشائكة، وجد علماء اللاهوت أنفسهم في طريق مسدود، أمام معضلة يبدو أنها تتجاوز حدود استراتيجيتهم النظرية، لكن يمكننا أيضًا أن نتخذ من هذا الطريق المسدود موضعًا للتفكير في استعمال مختلف ممكن للجسد البشري.[21]
10.
تناول الأكويني مسألة بعث الشعر والأظافر (وهي أعضاء الجسد التي رأي قلة من علماء اللاهوت على ما يبدو أنها مناسبة للوجود الفردوسي) مباشرة قبل تناوله للمسألة التي لا تقل إحراجًا المتعلقة ببعث أخلاط أو سوائل الجسد (الدم، واللبن، والسوداء، والعَرق، والمني، والمخاط، والبول، وما إلى ذلك). يوصف الجسد الحي بأنه "عضوي" لأن الروح تستعمل شتى أعضائه كأنها أدوات لها ]المعنى الحرفي للأصل اليوناني لكلمة organ، عضو، هو أداة أو آلة[. بعض هذه الأعضاء ضروري للقيام بوظيفة معينة (كالقلب والكبد واليدين)، وبعضها غرضه الحفاظ على تلك الأعضاء الضرورية. ومن أمثلة هذا النوع الثاني، الشعر والأظافر، التي ستُبعث في الجسد الأخروي لأنها تساهم بطريقتها في كمال طبيعته البشرية. إن جسد عارضة الأزياء وممثلة البورنو الحليق تمامًا أجنبي على الجنة. لكن بما أنه من العسير تصور وجود صالونات فردوسية لتجميل الشعر والأظافر، يتعين علينا أن نفترض (في ظل سكوت علماء اللاهوت عن هذه المسألة) أن طول شعر أهل الجنة وأظافرهم سيظل ثابتًا إلى الأبد تمامًا كما أن سنهم سيظل ثابتًا إلى الأبد.
وفيما يخص بعث أخلاط الجسد، يبين لنا الحل الذي طرحه الأكويني لهذه المعضلة أن الكنيسة كانت تسعى منذ وقت مبكر كالقرن الثالث عشر إلى التوفيق بين المطالب اللاهوتية والعلمية. بعض الأخلاط―ومنها البول والمخاط والعرق―ليست من كمال الجسد في شيء، وإنما فضلات تخرجها الطبيعة لدرء مفسدتها، ولذلك لن تُبعث.[22] وبعضها نافع فقط في حفظ النوع البشري عن طريق التكاثر (المني)، والتغذية (اللبن)، ولا يتوقع لهذه أن تُبعث أيضًا. [23] أما الأخلاط الأخرى المعروفة في الطب الوسيط―وعلى رأسها الأربعة التي تحدد مزاج الجسد وطبع النفس: الدم، والسوداء أو الميلانخوليا، والصفراء، والبلغم،[24] والرطوبات الثانوية التي لحقت بها―فستُبعث في الجسد الأخروي لأنها تساهم في كمال طبيعته ولا يمكن فصلها عنه.[25]
11.
تبلغ إشكالية فسيولوجيا الجسد الفردوسي نقطة حرجة مع اثنتين من وظائفه الحيوية الأساسية وهما التكاثر الجنسي والتغذية. إذا كانت الأعضاء التي تؤدي هذين الوظيفتين―الخصيتان، القضيب، المهبل، الرحم، المعدة، الأمعاء―ستكون موجودة في الجسد بعد البعث فماذا ستكون وظيفتها؟ يقول الأكويني: «غاية التكاثر هي حفظ الجنس البشري، وغاية التغذية هي حفظ الفرد. لكن بعد البعث، سيبلغ الجنس البشري العدد المثالي الذي قدّره الله له، وكذلك لن يعود الجسد عرضة للنقصان ولا النمو. ولذلك لن يتبقى أي سبب لوجود التكاثر والتغذية»[26].
لكن يستحيل أن تكون تلك الأعضاء فائضة عن الحاجة وعديمة النفع بالكلية، لأن طبيعة الجسد الفردوسي كاملة، وفي حالة الكمال لا يمكن أن يوجد شيء سُدى. هنا تجد مسألة الاستعمال الآخر للجسد أول تعبير متلعثم عنها. واستراتيجية الأكويني في التصدي لها واضحة: فصل أعضاء الجسد عن وظائفها الفسيولوجية المحددة. غرض كل عضو، تمامًا كأي أداة أو آلة، هو الوظيفة التي يؤديها؛ لكن ذلك لا يعني أن الأداة تغدو بلا نفع عندما لا تؤدي هذه الوظيفة. إن الأداة (أو العضو) التي فُصِلت عن وظيفتها المعينة وظلت معلقة في حالة عطالة، إذا جاز القول، لتكتسب عن طريق هذه العطالة تحديدًا وظيفة مبينة، وهي عرض إمكان الوظيفة المعطلة. يقول الأكويني: «إن الأداة لا تؤدي الوظيفة المنوطة بها فحسب وإنما تجلّي إمكانها كذلك»[27]. فكما هو الحال في الإعلانات التجارية أو في البورنوجرافيا، حيث تُعظِّم صور السلع أو الأجساد من غواية السلع أو الأجساد لا عن طريق إتاحتها للاستعمال وإنما عن طريق عرضها فحسب، ستعرض الأعضاء الجنسية العاطلة في الجسد الفردوسي إمكان التكاثر دون أن تحققه. إن الجسد المُنعَم عليه جسد مُبين لا تُؤدَى وظائفه وإنما تُعرَض. ومن هذه الجهة، تمضي النعمة مع العطالة يدًا بيد ]المُنعَم عليه عاطل[.[28]
12.
وعليه، هل يسوغ لنا أن نتحدث عن استعمال مختلف للجسد البشري على أساس أعضاء الجسد الفردوسي غير المستعملة أو غير القابلة للاستعمال هذه؟ في كتاب الكينونة والزمان، يُخرج هايدجر الأدوات غير المستعملة―مطرقة مكسورة على سبيل المثال وبذلك عاطلة―من نطاق الـ Zuhandenheit، أي الإتاحة في متناول اليد، حيث تكون جاهزة على الدوام لأي استعمال ممكن، ويُدخلها في نطاق الـ Vorhandenheit، أي مجرد الإتاحة من دون أي غرض. لكن ذلك لا يقتضي استعمال الأداة استعمالًا آخر؛ وإنما يفيد أنها موجودة بمعزل عن أي استعمال ممكن، وهو الحال الذي يشبهه هايدجر بمفهوم الكينونة الاغترابي المهيمن في زمننا ]الذي يفصل الأشياء ويجردها ويغرّبها عن العالم لتصير موضوعًا للبحث العلمي[. فمثل تلك الأدوات البشرية المبعثرة عند قدم الملاك الكئيب في لوحة ميلانخوليا1 لألبرخت دورَر، وكالدُمى التي يهجرها الأطفال بعد انقضاء وقت اللعب، تغدو الأشياء المفصولة عن استعمالاتها ملغزة بل مزعجة حتى. وعلى ذات النحو، ليس للأعضاء العاطلة أبدًا في جسد الذين أنعم الله عليهم أي استعمال آخر سوى عرض إمكان الوظيفة التكاثرية للطبيعة البشرية. إن جسد المُخلَصين المبين―ومهما كان "عضويًا" وماديًا―موجود خارج نطاق أي استعمال ممكن. لذلك لعله لا يوجد شيء أشد إلغازًا من قضيب فردوسي، ولا يوجد شيء أشد شبحية من مهبل تسبيحي بحت [أي لا غرض له سوى حمد الخالق وبيان عظمته].
ألبرخت دورَر، ميلانخوليا1، 1514م، نقش (24 x 18.5 سم)، المتحف الميتروبلتاني للفنون.[29]
13.
خلال الفترة من سنة 1924 إلى سنة 1926، عاش الفيلسوف الألماني ألفرِد سون-رِتِل (ت. 1990) في نابولي. وبفضل معاينته لمحاولات تشغيل الصيادين لمحركات زوارقهم العنيدة والسائقين لمحركات سياراتهم الراكدة، توصل إلى وضع نظرية للتقنية سماها على سبيل المزاح بـ"فلسفة المتعطل".[30] يرى سون-رِتِل أن الشيء لا يشرع في أداء عمله عند الواحد من أهل نابولي إلا عندما يكون غير قابل للاستعمال. وهو يقصد بذلك أن الواحد من أهل نابولي لا يشرع بحق في استعمال الأشياء التقنية إلا عند اللحظة التي تتعطل فيها. إن الشيء السليم الذي يعمل جيدًا من تلقاء نفسه يستفز أهل نابولي، ولذلك يتجنبونه عادة. لكن عن طريق حشر شدفة من الخشب في الموضع الصائب، أو عن طريق إجراء تعديل بسيط بضربة خاطفة من اليد في اللحظة الصائبة، يتمكن الواحد من أهل نابولي من جعل جهازه المعطل يعمل وفقًا لرغبته. ويعقّب سون-رِتِل على هذا السلوك قائلًا إنه ينطوي على نظرية في التقنية أسمى من نظريتنا الراهنة: تبدأ التقنية الحقة حينما يقدر الإنسان على معارضة أوتوماتيكية (آلية) الماكينات العمياء والعدائية، ويتعلم كيف ينقلها إلى مناطق واستعمالات غير متوقعة، كما هو حال ذلك الشاب الذي تمكّن، في أحد شوارع كابري، من أن يحوّل محرك دراجة نارية معطَّل إلى جهاز يصنع الكريمة (القشطة) المخفوقة.
يواصل المحرك، في هذا المثال، الدوران لكن في أفق رغبات وحاجات جديدة بالكلية. لم يُخلَّى هنا بين العطالة وأجهزتها وإنما أضحت الباب، الـ"افتح يا سمسم"، المفضي إلى استعمالات جديدة
ممكنة.[31]
14.
في الجسد المنُعَم عليه، أضحى بمقدورنا لأول مرة أن نتصور فصل عضو جسدي عن وظيفته الفسيولوجية. لكن ما تزال إمكانية اكتشاف استعمال آخر للجسد البشري―التي سمح لنا هذا الفصل بأن نلحظها بأطرافنا―غير مستجلاة. إذ نجد في موضع هذه الإمكانية الحمد (التسبيح، التعظيم) باعتباره فصلًا للعطالة في نطاق مخصوص [نطاق العبادة[. فليس لعرض العضو المفصول عن استعماله أو التكرار الفارغ لوظيفته أي غرض سوى تعظيم الخالق وحمده، تمامًا كما أن الأسلحة والشارات التي يعرضها القائد العسكري الظافر في احتفال النصر الروماني هي آيات عظمته وما يُنتج هذه العظمة في الوقت عينه. إن أمعاء أهل الجنة وأعضائهم الجنسية ليست سوى الرموز أو الزخارف التي تُزين بها العظمة الإلهية تاجها. إن اللِتُرجيا الدنيوية [الحمد أو الذِكر الجماعي، أو صلاة الجماعة بما هي حمد وتسبيح عمومي] مثل اللِتُرجيا الأخروية [ممثلة في أعضاء الجسد الفردوسي المعطلة] لا تفعل سوى الإمساك الدائم بالعطالة ونقلها إلى نطاق العبادة ad maiorem Dei gloriam، حتى يُحمد الله حمدًا كثيرًا.[32]
15.
في رسالة بعنوان غاية الحياة البشرية، طرح عالم لاهوت فرنسي من القرن العشرين مسألة ما إذا كان يسوغ لنا القول أن أهل الجنة يمارسون وظائفهم الحيوية بالكامل. وهو مشغول―ولأسباب وجيهة―بوظيفة التغذية على وجه التحديد. وحاجج بأن الحياة الجسدية تتألف في الأساس من الوظائف الحيوية، ولذلك يقتضي بعث الحياة الجسدية تامة في الآخرة ممارسة هذه الوظائف. يقول: «بل يبدو من المقبول القول إن ممارسة الوظائف الحيوية لن تبقى في جسد المُخلَصين فحسب وإنما ستزداد―بطريقة إعجازية―علاوة على ذلك»[33]. والمثال المبين على بقاء الوظيفة التغذوية في الجسد الأخروي هو الوجبة التي تشاركها المسيح المبعوث مع حوارييه (لوقا 24: 42-43).[34] وبتحذلقهم الطيب المعهود، سأل علماء اللاهوت أنفسهم هل هُضِمت السمكة المشوية التي أكلها المسيح وامتُصَت، وهل أخرِجت من جسده فضلة هذا الهضم؟ ووفقًا لخبر مأثور عن باسيليوس القيصري (ت. 379 م) وآباء الكنيسة المشرقية، كل الطعام الذي أكله المسيح―سواء في حياته الدنيا أو بعد بعثه―كان يُمتص امتصاصًا تامًا بحيث لا يفضل منه شيء يلزم إخراجه. وشدد قول آخر على أن الطعام يستحيل في الجسد الأخروي―سواء جسد المسيح المبعوث أو جسد المنعم عليهم بالجنة―بمجرد تناوله إلى طبيعة روحية (هوائية) عن طريق ضرب من التبخر المعجز.[35] لكن هذا القول يقتضي (والقديس أوجستِن الهيبوني هو أول من خلص إلى ذلك) أن الأجساد الأخروية―وأولها جسد المسيح المبعوث―ستمارس وظيفتها التغذوية، بطريقة أو بأخرى، لكن من دون أن تكون محتاجة إلى الغذاء. ففي ضرب من التصرف الفائض عن الحاجة أو في ضرب من الاختيال الجليل، سيأكل أهل الجنة طعامهم ويهضمونه من دون أي حاجة إلى فعل ذلك.
وردًّا على الاعتراض القائل إن الإخراج أساسي للهضم كالامتصاص ولذلك ستتحول المادة في الجسد الفردوسي من شكل إلى آخر، وهو ما يُعد ضربًا من الفساد والخبث، شدد عالم اللاهوت سالف الذكر على أنه لا يوجد ما هو خبيث بنفسه في عمل الطبيعة، يقول: «كما أنه لا يوجد عضو في الجسد البشري غير جدير في نفسه بأن يُرقّى إلى حياة النعيم، لا توجد عملية عضوية ينبغي اعتبارها غير جديرة بأن تساهم في هذه الحياة. ... فمن شطحات الخيال أن نظن أن حياتنا الجسدية، ولكي تكون جديرة بجوار الله في الآخرة، ستختلف عما هي عليه في الدنيا. إن الله لا ينقض قوانين الطبيعة عن طريق نعمته الجليلة، وإنما يُحكم هذه القوانين ويتممها عن طريق حكمته التي تجلُّ عن الوصف»[36]. وعلى هذا القول، سيتغوط أهل الجنة تغوطًا تسبيحيًّا، لا غرض له إلا بيان كمال الوظائف الطبيعية. لكن فيما يخص الاستعمال الآخر الممكن لهذا التغوط، لم ينبس علماء اللاهوت ببنت شفة.[37]
16.
ليس الحمد سوى فصل العطالة إلى نطاق مخصوص: نطاق العبادة أو اللُتِرجيا. أي تحويل العطالة من مجرد عتبة أو باب يفضي إلى استعمال جديد إلى حالٍ واصب.[38] وعليه لن يمكن إيجاد استعمال جديد للجسد البشري إلا إذا انتَزَع عطالته من فصلها هذا، إلا إذا نجح في الجمع―في موضع واحد وإيماءة واحدة―بين الاستعمال والتعطيل، بين الجسد الاقتصادي والجسد التسبيحي، بين الوظيفة وتعطيلها. إن الوظيفة الفسيولوجية والتعطيل والاستعمال الجديد كلها مقيمة في الجسد كحقل توتر واحد، حقل لا يمكن فصلها عنه. وذلك لأن العطالة ليست خمودًا؛ على العكس، إنها تسمح بظهور إمكانية الفعل نفسها. إن ما يُعطل في العطالة ليس الإمكانية نفسها وإنما الغايات والأحوال المكرس لها تحقيقها. وهذه الإمكانية هي ما يمكن لها أن تغدو، بعد هذا التعطيل، العضوَ المستعمل في استعمال جديد، العضو المنتمي إلى جسد قد عُلِّقت عضويته (أداتيته، وظيفيته) وعُطِّلت.
استعمال الجسد، والتوسل به كأداة لبلوغ غرض معين ليسا الشيء نفسه. وكذلك لسنا هنا بصدد غياب بسيط وبائخ للغرض، الأمر الذي يفضي غالبًا إلى الخلط بين الإيتيقا والجمال.[39] وإنما ما على المحك هنا هو تعطيل أي فعل موجهة نحو تحقيق غاية معينة، حتى يتسنى توجيهه صوب استعمال جديد، استعمال لا يمحو الاستعمال القديم وإنما يحفظه ويعرضه. وهذا هو عين ما ينجزه كلٌّ من الشهوة الجنسية وما يُسمى بالانحراف الجنسي في كل مرة يستعملان أعضاء التغذية والتكاثر ويصرفانها―بهذا الاستعمال نفسه―عن وظائفها الفسيولوجية المعينة صوب وظيفة جديدة أكثر بشرية.[40] أو تدبَّر في حال الراقص إذ ينقض ويشوش اقتصاد الحركات الجسدية ]يعطلها[، لكي يعيد اكتشافها، دفعة واحدة، سليمة ومتبدلة في رقصته.
لا ينُقل الجسد البشري العاري والبسيط هنا إلى حال أشد سموًا ونبلًا، وإنما يُحرر من العمل السحري الذي فصله ذات مرة عن نفسه ]بتكريسه لأغراض بعينها[، وبذلك يغدو هذا الجسد قادرًا على أن يكون نفسه، أن يكون على حقيقته، لأول مرة. وعلى هذا النحو، يغدو الفم فمًا بحق حينما يكون على حافة التقبيل؛ وتغدو الأعضاء الأشد حميمية وخصوصية موضعًا للاستعمال واللذة المشتركة؛ وتغدو الحركات العادية مكتوبًا مبهمًا يفسِّر الراقص معناه الخفي أمام أعين الناظرين.
ما دام للعضو أو الأداة إمكانية فلا يمكن لاستعماله أن يكون فرديًّا وخصوصيًّا، وإنما مشتركًا وعموميًّا فحسب. وكما أن إشباع الشهوة الجنسية التي تعطل الجسد يقطع―كما يرى ڨالتر بنيامين― الآصرة التي تربط الإنسان بالطبيعة ]بتحرير أعضائه من وظائفها[، يلج الجسد الذي يجلي إمكانيته من خلال حركاته إلى طبيعة ثانية وأخيرة (والتي ليست سوى حقيقة طبيعته الأولى). إن الجسد المنعم عليه ليس جسدًا آخر، أشد خفة وجمالًا، أشد ألقًا وصفاءً، وإنما هو الجسد نفسه، عند اللحظة التي تزيل فيها العطالة عنه السحر ]الذي كرَّسه لغايات بعينها[ وتتيحه لاستعمال جديد عمومي ممكن.
* Giorgio Agamben, “The Glorious Body” in Idem, Nudities, trans. David Kishik and Stefan Pedatella (California: Stanford University Press, 2011), p. 91-103.
جميع الحواشي من المترجم حاشا المصادر التي استشهد بها المؤلف.
[1] الـ glorious body هو الجسد المُنعَم عليه، المرحوم، الأخروي، الفردوسي، أي جسد أهل الجنة (أو النعيم، بالأحرى)، أو الجسد التسبيحي، الحمدي، أي الجسد المبين لعظمة الله وجلاله. الجسد الفردوسي، جسد أهل النعيم، جسد مُسبح وحامد، أي آية على عظمة الخالق وجلاله. وأستعمل كل هذه المقابلات كمترادفات وفقًا للسياق.
[2] يستعمل أجامبِن مفهوم الباراديجم، بمعناه اللغوي اليوناني البسيط: مثال (مبين وموضح). يُكثر أجامبِن من استعمال البارديجمات أو الأمثلة المبينة في أعماله―كالإنسان المستباح، حالة الاستثناء، معسكر الاعتقال―نظرًا لقيمتها التبينية أو التفسيرية. إنها أمثلة مخصوصة تاريخيًّا لكنها قادرة، تحديدًا لكونها أمثلة، على تبيين وتفسير ظواهر وسياقات تاريخية أعم. ولقد طرح أجامبِن ابستمولوجيا مفصلة للباراديجم في:
Giorgio Agamben, The Signature of All Things On Method, Trans. Luca D'lsanto with Kevin Attell (New York: Zone Books, 2009), pp. 9-32.
[3] نجد السن نفسه في الأحاديث الأخروية: «ما من أحدٍ يموتُ سقْطًا ولا هرَمًا―والنّاسُ فيما بين ذلك―إلّا بُعِث ابنَ ثلاثٍ وثلاثين سنةً، فإن كان من أهلِ الجنَّةِ على مسْحَةِ آدمَ، وصورةِ يوسفَ، وقلبِ أيُّوبَ. ومن كان من أهلِ النّارِ عُظِّموا وفُخِّموا كالجبالِ» (المنذري، الترغيب والترهيب)؛ «يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا بَيْنَ السِّقْطِ إِلَى الشَّيْخِ الْفَانِي، وَهُمْ كَأَبْنَاءِ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً» (الطبراني، المعجم الكبير)؛ «يَدْخُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ عَلَى طُولِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ سِتُّونَ ذِرَاعًا بِذِرَاعِ الْمَلَكِ عَلَى حُسْنِ يُوسُفَ وعَلَى مِيلَاد عِيسَى ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً وَعَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُرْدٌ مُرْدٌ مُكَحَّلُونَ» (ابن أبي الدنيا، صفة الجنة)؛ «أَهْلُ الْجَنَّةِ شَبَابٌ، جُرْدٌ ، مُرْدٌ، مُكَحَّلِينَ لَا تَبْلَى ثِيَابُهُمْ، وَلَا يَفْنَى شَبَابُهُمْ، لَفْظُهُمَا سَوَاءٌ» (الدارقطني، أطراف الغرائب والأفراد)؛ «مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ يُرَدُّونَ بَنِي ثَلَاثِينَ سَنَةً لَا يَزِيدُونَ عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ أَهْلُ النَّارِ» (الترمذي، السنن).
[4] في الطب الجالِنيوسي الذي هيمن على العصرين القديم والوسيط، لا يوجد جسدان جنسيان: جسد الأنثى وجسد الذكر؛ وإنما يوجد جسد واحد فحسب، فجسد الأنثى ليس سوى نسخة من جسد الذكر لكنها نسخة أدنى بسبب غلبة الأخلاط الباردة والرطبة علية. فمن الناحية التشريحية لا يوجد فرق بين الجسدين، حتى أعضاء الأنثى التناسلية هي أعضاء الذكر لكنها مقلوبة إلى داخل الجسد (المبيضان مقلوب الخصيتين، والرحم مقلوب الصفن، والمهبل مقلوب القضيب). أي أن الفرق بين جسد الذكر وجسد الأنثى ليس فرقًا في النوع وإنما في الدرجة، فجسد الذكر أشد سخونة وأقل رطوبة من جسد الأنثى وبالتالي أعلى مرتبة منه، أكمل منه. ولأن الجسد المبعوث سيكون خاليًا من جميع العيوب، ومنها عيب الأنوثة، سيُبعث جميع الناس ذكورًا، وفقًا لهذا القول المردود.
[5] في الحديث: «إِنَّ السَّارِقَ إِذَا قُطِعَتْ يَدُهُ وَقَعَتْ فِي النَّارِ، فَإِنْ عَادَ تَبِعَهَا، وَإِنْ تَابَ اسْتَشْلَاهَا―أي استرجعها» (عبد الرزاق، المصنف).
[6] في الحديث: «اسْتَوْصُوا بالنِّساءِ؛ فإنَّ المَرْأَةَ خُلِقَتْ مِن ضِلَعٍ [آدم]، وإنَّ أعْوَجَ شَيءٍ في الضِّلَعِ أعْلاهُ، فإنْ ذَهَبتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وإنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أعْوَجَ، فاسْتَوْصُوا بالنِّساءِ» (البخاري، الصحيح. مسلم، الصحيح).
[7] «المني هُوَ فضلَة الهضم الرَّابِع الَّذِي يكون عِنْد توزع الْغذَاء فِي الْأَعْضَاء» (ابن سينا، القانون في الطب).
[8] Saint Thomas Aquinas, Summa Theologica, 5 vols. (Westminster, MD: Christian Classics, 1981), 5:2887.
[9] المصدر نفسه.
[10] فصّل أجامبِن القول في مسألة الهوية والبصمات في:
Giorgio Agamben, “Identity without the person” in Idem, Nudities, trans. David Kishik and Stefan Pedatella (California: Stanford University Press, 2011), pp. 46-54.
[11] لا ينام أهل الجنة وفقًا لعلماء اللاهوت وعلماء الحديث. يقول الأكويني: «لن تكون الوظائف الطبيعية التي ترمي إلى تحقيق كمال الطبيعة البشرية الأولي (الجسدي في مقابل الروحي) أو إلى حفظ هذا الكمال موجودة في الجسد المبعوث. ... ولأن الأكل والشرب والنوم والإنجاب متعلقة ... بهذا الكمال الأولي، لن تكون موجودة عند البعث» (نقلًا عن أجامبِن). وفي الحديث: «قيلَ يا رسولَ اللهِ أينامُ أهلُ الجنةِ قال: لا النومُ أخو الموتِ، وأهلُ الجنةِ لا يموتونَ ولا ينامونَ» (الطبراني، المعجم الأوسط)؛ «إنَّ أوَّلَ زُمرةٍ منهم على صورةِ القمرِ، ثمَّ الَّذينَ يَلونَهم في البَهاءِ كأَضْواء كوكبٍ دُرِّيٍّ في السَّماءِ، وأنَّهم يُجامِعونَ ولا يتَناسَلونَ، ولا يتَوالَوْنَ إلَّا ما يَشاؤونَ، وأنَّهم لا يَموتونَ ولا ينامونَ لِكمالِ حياتِهم ...» (ابن كثير، البداية والنهاية).
[12] المصدر نفسه، ص 2897.
[13] نجد في الأحاديث الأخروية―التي تزجر عن بعض الخطايا―أن الجنة نفسها لها رائحة، بل رائحة نفّاذة للغاية: «ريحُ الجنَّةِ يُوجَدُ من مسيرةِ ألفِ عامٍ» (الطبرني، المعجم الأوسط)؛ وفي روايات أخرى تقل المسافة إلى مسيرة «خمسِمائةِ عامٍ» (الطبراني، المعجم الصغير).
[14] المصدر نفسه، ص 2899.
[15] هذا ما قاله المسيح المبعوث للحواريين الذين ظنُّوه طيفًا أو شبحًا، انظر، لوقا 24: 39.
[16] المصدر نفسه، ص 2906.
[17] المصدر نفسه، ص 2907.
[18] في الأحاديث الأخروية، ينعم أهل الجنة بهذه الخفة لكن بواسطة: «سأل رجل النبي: يا رسول اللَّه: هل في الجنَّة من خيل؟ قال: إنِ اللَّهُ أدخلك الجنَّة فلا تشاءُ أن تُحمل فيها على فرس من ياقوتة حمراء [له جناحان، في رواية أخرى] يطير بك في الجنَّة حيث شئت إلَّا فعلت» (الترمذي، السنن).
[19] الرقص عند أجامبِن مثال على تعطيل حركة الجسد، أي تحريرها من غايتها (الوصول إلى مكان معين على سبيل المثال)، وعرضها كوسيلة محضة مجردة عن أي غاية. ما يعرضه الراقص في رقصه هو حركية الجسد نفسها، إيماءاته المحضة. وعلى النحو نفسه، لا يتحرك أهل الجنة سعيًا وراء غاية معينة أو انقيادًا لضرورة معينة، وإنما لعرض خفة أجسادهم نفسها.
[20] نجد هذا البريق معبَّرًا عنه في الأحاديث الأخروية باستعارات نجمية: «أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الجَنَّةَ على صُورَةِ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ، والذينَ على آثارِهِمْ كَأَحْسَنِ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ في السَّماءِ إضاءَةً» (البخاري، الصحيح).
[21] أي موضعا لـ "اللعب" بالجسد أو لـ"تدنيسه" بالمعنى الأجامبني للتدنيس واللعب كاستراتيجية تدنيسيه: تعطيل الاستعمال المرصود للشيء وفتح الباب لاستعمالات أخرى ممكنة له. ولقد فصّل أجامبِن القول في ذلك في:
Giorgio Agamben, “In praise of Profanation,” in Idem, Profanations, trans: Jeff Fort (New York: Zone Books, 2007), pp. 73-92.
ولشرح مبسط انظر: طارق عثمان، "استيهامات ماركسية: أجامبين في وادي البورنو،" موقع مركز نماء للبحوث والدراسات، أغسطس 2019، القسم الثالث تحديدًا.
[22] تنفي الأحاديث الأخروية البول والمخاط من الجنة وتبقي على العرق لكن بعد تحويله إلى مِسك: «أهلُ الجنَّةِ يأكُلونَ ويشرَبونَ، ولا يبصُقونَ، ولا يتمخَّطونَ، ولا يتغوَّطونَ، ولا يبولونَ، طعامُهم جُشاءٌ، ورَشْحٌ كرَشْحِ المِسْكِ» (مسلم، الصحيح).
[23] تنفي الأحاديث الأخروية المني من الفردوس لكنها تبقي على الجماع نفسه: «أيجامعُ أهلُ الجنَّة؟ قال: دَحْمًا دَحْمًا ]نكح قوي[، ولكن لا مَنِيَّ ولا مَنِيَّة ]موت[» (الطبراني، المعجم الكبير).
[24] البلغم المقصود في نظرية الأخلاط ليس هو البلغم الذي نعرفه (المصاحب للكحة).
[25] تنقسم هذه الرطوبات الثانوية―الرطوبات الأولية هي الأخلاط الأربعة―إلى ثلاثة أصناف تسمى باللاتينية: ros (طل أو ندى) و cambium (رطوبة قيد التحول إلى جوهر الأعضاء) وgluten (رطوبة تحولت إلى جوهر الأعضاء). ويرى الأكويني وغيره من اللاهوتيين أن الصنف الثالث فحسب أي الذي صار جزءًا من جوهر أعضاء الجسد بالفعل، ولذلك لا يمكن فصله عنه، هو الذي سيبعث دون الصنفين التغذويين الأول والثاني غير المتحولين.
[26] المصدر نفسه، ص 2819 وما بعدها=
[27] المصدر نفسه، ص 2882.
[28] تعطل الأحاديث الأخروية الأعضاء الجنسية عن التكاثر (حتى من ذهبوا إلى أن الرجل من أهل الجنة يولد له إذا ما اشتهى ذلك، يقرون بأن هذه ولادة من غير مني، أي ليس للأعضاء الجنسية أي دور فيها) لكن لا تعطلها عن النكح، وإنما على العكس تمامًا: «قيل يا رسول اللَّه، أنفضي إلى نسائنا في الجنة؟ فقال: إن الرجل ليَصِلُ في اليوم إلى مئة عذراء» (ابن أبي الدنيا، صفة الجنة)؛ «وسئل رسول الله: هل يتناكح أهلُ الجنَّة؟ قال: بِذَكَرٍ لا يَمَلُّ، وشهوةٍ لا تنقطع، دَحْمًا دَحْمًا» (الطبراني، المعجم الكبير)؛ ورويت أخبار في تفسير شغل أهل الجنة المذكور في آية «إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ» (يَس: 55)، بأنه «افتضاض الأبكار أو العذارى» (البيهقي، البعث والنشور)؛ «يُعطى المؤمنُ في الجنَّةِ قوَّةَ كذا وَكَذا منَ الجماعِ، قيلَ: يا رسولَ اللَّهِ أوَ يطيقُ ذلِكَ؟ قالَ: يعطى قوَّةَ مائةٍ» (الترمذي، السنن). لكن من صفة النكح الفردوسي أن أثره على فض البكارة مُبطل ومُلغى على الدوام: «فإذا قام عنها رجعت مطهَّرةً بكرًا» (ابن حبّان، الصحيح)؛ «إنَّ أهل الجنَّة إذا جامعوا نساءهم عُدْنَ أبكارًا» (الطبراني، المعجم الصغير).
[29] المترجم هو من أدرج اللوحة في المتن. هذه لوحة عزيزة على قلب أجامبِن، يُكثر من الإحالة عليها، منذ أول كتبه على الإطلاق، The Man Without Content (الإنسان الذي لا مضمون له)، المنشور في سنة 1970.
[30] Alfred Sohn-Rethel, Das Ideal des Kaputten (Bremen: Wassmann, 1990).
[31] للمزيد عن فكرة الاستعمال المغاير للأشياء، "اللعب بها"، "تدنيسها"، انظر الحاشية 21 أعلاه.
[32] فصّل أجامبِن القول في علاقة الحمد بالعطالة في كتابه The kingdom and the Glory (المُلك والحمد)، خاصة الفصل الثامن "أركيولوجيا الحمد". وشدد على طبيعة اللترجيا الجماعية أو العمومية، والسياسية تبعًا لذلك، في كتابه Opus Dei (عمل الله)، الفصل الأول تحديدًا.
[33] Vitus de Broglie, De fine ultimo humanae vitae (Paris: Beauchesne et ses fils, 1948), 285.
[34] «فأعطوه قطعة سمك مشوية، فأخذها وأكلها أمامهم».
[35] نجد صدى لهذا التبخر المعجز في الأحاديث الأخروية ذات الصلة، كما سبق ونقلنا: «أهلُ الجنَّةِ يأكُلونَ ويشرَبونَ ولا يبصُقونَ ولا يتمخَّطونَ ولا يتغوَّطونَ ولا يبولونَ طعامُهم جُشاءٌ ورَشْحٌ كرَشْحِ المِسْكِ» (مسلم،= الصحيح). لكن هذا الحديث لا ينفي أن لطعام أهل الجنة فضلة، وإنما ينص على أن هذه الفضلة لا تخرج عن طريق التغوط وإنما هي تتبخر من على سطح الجلد كعرق له رائحة المسك.
[36] المرجع نفسه، ص 293 وما بعدها.
[37] في موضع آخر، ضرب أجامبِن مثلًا على استعمال التغوط في استعمال جديد. مذكور في التلمود البابلي أن «ثلاثة أشياء تبشّر بالعالم الآتي (المسيحاني): الشمس، والسبت، والـ tashmish» وهذه الكلمة الأخيرة تعني الوطء لكنها تعني التغوط أيضًا. وبذلك أوجد الربيون للتغوط استعمالًا آخر غير وظيفته الفسيولوجية: أن يكون علامة من علامات الزمن المسيحاني. انظر، چورچيو أجامبِن، "نهم الثور: تبصرات في السبت والعيد والعطالة"، ترجمة: طارق عثمان، موقع مزيج، إبريل، 2023.
[38] للمزيد عن ذلك انظر المراجع المستشهد بها في الحاشية 21.
[39] بسبب نظرية كَنط الجمالية التي تعرّف الجميل بغياب الغرض.
[40] وهذا هو عين ما يقصده فرويد، ولاكان من بعده، بالدافع (drive) في مقابل الغريزة (instinct). الشهوة دافع (بشري) وليس غريزة (حيوانية)، لأن الدافع، وعلى النقيض من الغريزة، ليس له موضوع معين ولا غرض معين. موضوع الغريزة الجنسية هو الأعضاء التناسلية وغرضها هو التناسل، أما الدافع الجنسي فيتخذ من أي عضو موضوعًا له (ويتجلى ذلك بوضوح في الانحراف الجنسي، الفيتشية تحديدًا) ولا يرمي إلى غرض بعينه محدد سلفا. "تلعب" الشهوة بالفم، تصرفه عن وظيفته الفسيولوجية (الغريزية) المعينة (الأكل) وتستعمله في استعمال جديد (التقبيل)، وكذلك تفعل بالأعضاء التناسلية، إذ تصرفها عن وظيفتها الأساسية (التكاثر)= وتستعملها في استعمال جديد (مجرد المتعة مثلا). ومن الطريف أن أجامبِن يتفق مع فرويد هنا في قوله أن الاستعمال الجديد للعضو لا يمحي استعماله القديم وإنما يحفظه ويعرضه، لأن فرويد يشدد على أن الدافع لا ينفي الغريزة ولا يحل في محلها وإنما يتطفل عليها ليستعملها في أغراض غير أغراضها المعينة، فمواضع عمل الدافع في الجسد (المواضع الشهوانية) هي مواضع تؤدي وظائف فسيولوجية في الأساس (كالفم والثديين والقبل والدبر).
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط الخاصة بنا وملفات تعريف الارتباط الخاصة بالجهات الخارجية حتى نتمكن من عرض هذا الموقع وفهم كيفية استخدامه بشكل أفضل ، بهدف تحسين الخدمات التي نقدمها. إذا واصلت التصفح ، فإننا نعتبر أنك قبلت ملفات تعريف الارتباط.