كلمة أ. د. أبو همّام، عبداللطيف عبدالحليم

في حفل استقباله عضوًا مستجَدًا

بمجمع اللغة العربية بالقاهرة

 

 

جنابَ الرئيس الأستاذ الدكتور حسن الشافعي

جنابَ النائب الأستاذ الدكتور كمال بشر

جنابَ الأمين العام الأستاذ الشاعر فاروق شوشة

حضرات السادة والسيدات، أسعد الله الصباح

قَدْ نخلـــت جارتنـــا وُدّهــا         يوم تراءت بكثيـــبِ النُّخيْل

ومعذرة لصاحب اللزوميات، إذ أحلنا كلامه من النفي إلى الإثبات، وبعد..

فقد كان من سوالف الأقضية أن تأبى أريحية بعضكم إلا أن تستفتح بي عليكم، فلا يرون إلا الإيصاد، سبع سنين دأبًا.

تَصُدُّ الكأسَ عنَّا أمُّ عمروٍ          وكانَ الكأسُ مجراها اليمينا

ومن ديدن الطارقين أن يعتريهم شيءٌ من السآمة والملالة وأن الذين يستفتحون له لا يجوز ذلك الباب الموصود، ومن المظنون أيضًا أن يهاجس هذا الصاحب وَشَلٌ أو فيض من سوء الرأي في نفسه قبل أن يهاجس المستفتحين، وقد وطنت نفسي أن أجنب أصحاب الأريحية والفضل ما يحول بينهم وبين ندامة اليقين الذي يغمرهم، فرجوتهم حولين كاملين أن يحجموا عن الاستفتاح. وأن يقنعوا من الغنيمة بالإياب، لكنهم لم يقتنعوا، ورأيهم أعلى ولكن رأيي أحب إلي، وكانت الغلبة لهم في النهاية.

أيها السادة والسيدات: لقد رشحني أولو الفضل منكم والسعة سبع سنين دأبًا، كانت السابعة لها الفلج – مع أن السيرة  الذاتية تكاد تكون هي هي أو هي إياها وكانت السنوات الست رسوبًا بِذَرْوٍ من الفوز خمسة عشر صوتًا:

كان الرسوبُ حَليفي         وكنتُ خَيرَ حليــفِ

مـــــا بالــــــه يَتهــــدَّى         لدارِ عَبْدِ اللَّطيــفِ

أو كأنه طيلسان ابن وهب المقول فيه:

طال تــرداده إلى الرفوِ حتى          لو بعثناه وحــدَهُ لتَهدَّى

لكني لغاشية الإخفاق كنت في يهماء مؤربة ضلت فهمها الأرباء، أو كنت في:

مهامه لم تصحب بها الذئب نفسه          ولا حملت فيها الغراب قوادمه

لقد اخترتم رجلاً ليسي، أو رجلاً كنته منذ سبع حجج، وهو الآن غير ما كــان، إذ خنقت السابعة والستين، بعد أن اصطلحت الــلأواء والأوصاب في السنوات السالفة، فتمشى الخريف في أوصال الربيع، وسرى الهرم في مفاصل اليفاعة، هاتفًا مع ابن الرومي في داليته التي التزم فيها ما لا يلزم، وبلغت اثنين وثمانين ومئتي بنت:

أبينَ ضُــــلوعي جُمرةٌ تتوقدُ          على مــا مــضى أم حسرة تتجددُ

خليلي مــا بعد الشباب رزيةٌ          يجـــم لهـــا مـــاء الـــشؤون فيعتدُ

أو مع صديقنا المازني في موقف مشابه  لموقفي هذا:

ما تصنعون بفانٍ مــــات أكثرُهُ          وجفَّ من عودِهِ الُمنآدِ أنضره

وإني لأنظر إلى نفسي فلا أجد ذلك الرجل الذي كنته:

إِنّي نظرتُ إلى المرآة إذ رفعت          فــأنكَرت مُقلتايــا كـــلَّ مــــا رأتَــــا

رأيتُ فيها شُيَيْخًا لستُ أعرفُهُ          وكنتُ أعهــدُ فيهـــا قبـــلَ ذاكَ فتَــــى

وليس بمستغرب بكاء الشباب ولو في طراءة السن، كما فعل الجارم بك:

يا خَليليَّ خلّيــــاني ومــــا بي          أو أعيـــدا إلـــيَّ عهـــدَ الـــشباب

حُلُمٌ قَدْ مَضَى، وأيــامُ أنسٍ          ذَهَبَــتْ غَيْــرَ مزمعــاتِ الإيــــابِ

وأزاهـــيرُ كُـــنَّ تــــاجَ عـــــروسٍ          عُفّرَتْ بَعْـدَ ليلــةٍ في التُّــرابِ

أو بكاء المازني في سخريته المعهودة: ثراء فاحش في الأماني، وفقر مدقع في الإمكان:

إني أراني قد حلت وانتسخت           مـع الـصـبـا صـورة مـن الـصـور

وصرت غيري فلـــيس يعـرفني           إذا رآنــي صــــباي ذو الطـــرر

وإن مـــددت اليـدين خانهمـا           عزم الشباب الجريء ذي الأشـر

كأننـا اثـنــــان لـيس يجمعنــــا              في العـــــيش إلا تــــشبث الــــــذكر

مــــات الفتــــى الــــمازنِيُّ ثُـــمَّ أَتَـــى         مـــن مــــازن آخــــرٌ علــــى الأثــــر

ولا يخدعنكم سواد اللمة إذ هو سواد مزور، وشيكًا تفضحه اليرناء، ويغدو ليلها كنهارها، وإن كان يتمسك بصبابة يحسبها من شباب القلب، جرى وراءه صالح جودت فلم يلحق به:

يا حُلــوة العشرينَ لا تفزعــي         من هَمْسة الخَمْسينَ فِي مَسْمَعِي

قَلْــبي عَلَـــى العِـــشرينَ قَيَّدتُــهُ          فعُمْرُ قَلْبي لــيْسَ يَجْرِي مَعِي

لأن صاحبه شاب قلبه شيبًا نعاه المتنبي قديمًا:

إلا يَشِبْ فَلَقدْ شَابَت له كَبدٌ          شيبًا إذا خَضَّبَتْه سَلوةٌ نــصلا

حضرات السادة والسيدات:

لا أريد أن أدخل على نفوسكم كل هذا الحزن على الشباب، وإن كان كما قال العتاهي:

إنَّ الـــشَّبَابَ حُجَّةُ التَّــصابي          رَوائـــحُ الجَنَّــةِ في الـــشَّبابِ

لقد اخترتم رجلًا يفنًا زمنًا، مستقبله وراءه، ليست فيه تلك المنة وذلك الأيد اللذان خلوا، وكان بهما يسطيع الإفادة، ولأمر يعلمه الخالق عز وجل جعل النبوة إبان الفتاءة:  ((وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡحُكۡمَ صَبِيّٗا)) [مريم:١٢]، واختار خير خلقه في الأربعين، ((وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَىٰهُ)) واتخذ خليله إبراهيم فتى (( قَالُواْ سَمِعۡنَا فَتٗى يَذۡكُرُهُمۡ يُقَالُ لَهُۥٓ إِبۡرَٰهِيمُ )) وقال عن أهل الكهف المؤمنين. (( إِنَّهُمۡ فِتۡيَةٌ ءَامَنُواْ بِرَبِّهِمۡ وَزِدۡنَٰهُمۡ هُدٗى )) وأمر ﷺ أسامة بن زيد على قيادة الجيش. وفيه شيخة الصحابة رضوان الله عليهم.

جئت بأخرة من العمر، فهلا وأملود الشباب نضير، وقد تحيفني الموت عضوًا فعضوًا، وتذكرت شيوخنا الأجلاء الذين جاؤوا في الساقة مصلين، علي الجندي وعلي السباعي رضوان الله عليهما وانطبق عليهم قول أستاذنا مهدي علام، ما سلَّم حتى ودع. وهو محلول من قول المتنبي وهو في المكتب: "كان تسليمه علي  وداعًا" وأدعو الله أن يفسح لي في العمر قليلًا، لأسعد بهذه الصحبة الكريمة ولأقدم شيئًا مما يرجوه المجمع مني:

مُنًى إن تكن حقًا تكُنْ أعذبَ المنى          وإلا فَقَدْ عِــشنا بهــا زمنــًا رغــدًا

لقد اختار المجمع قديمًا شبابًا، اختار علي بك الجارم وهو في الرابعة والأربعين، واختار العقاد وهو يخنق الخمسين، وغيرهما كثير ممن هم في سن العطاء، واختار الدكتور محمد الجوادي وهو في مثل هذه السن، فهل يستن المجمع في قابل الأيام هذه السنة الحسنة، وأن يجدد خلاياه، بدم جديد، فيه شرة الشباب وعرامته.

وإني لأود أن أقدر الذين آمنوا بي فقدموني، والذين عزروني فرشحوني، والذين نصروني فصوتوا لي، وأشكر أيضًا أولئك الذين لم يصنعوا معي شيئًا من هذا، لأنهم دلوني على قدري عندهم ورأوني غير أهل، ورأوا غيري أحق بهذه الأهلية. فهم وما يرون، وهم مشكورون في كل حال، أما الفريق الأول فإني أدعو الله وأضرع إليه أن أكون عند حسن ظنهم، وأن يعينني المولى عز وجل لقضاء ما يأملون، وأما الفريق الثاني فأرجو أن يرى في غير ما كان يرى وأن يهدينا الله جميعنا  إلى سواء السبيل.