ليس من المبالغ فيه أن نقول بأن سلسلة "blade runner" المبنية على رواية بنفس الاسم للكاتب "فيليب ك ديك"، هي من أعظم الأفلام في قطاع الخيال العلمي من أوجه الصورة، والمشاهد المركبة، والأفكار الفلسفية المطروحة. وإن لم يكن هذا هو الغرض من الخيال العلمي، فلا غرض آخر له غير التسلية، فبمجرد أن تُطرح أمام عقولنا سردية الأفكار المستقبلية، والخيالية، وعلاقتها بواقعنا، توضع أفكارنا ومعارفنا محل الاختبار. ووجود مثل هذا الفيلم بجزأيه الأول والثاني، هو طرحٌ فلسفي ممتاز لنقاطٍ مثل الهوية، ووظيفة الذاكرة، والروح والوعي والإرادة الحرة، وعلاقتنا مع كائن الذكاء الاصطناعي.
يمكن في البداية أن نرى شخصية (والاس): إله أعمى يصنع المُستَنسَخين من البشر، في عالم لم يعد بالإمكان فيه أن تتعرف على المُستَنسَخ من الحقيقي. وقد وصلت فيه الأرض لآخر أيامها، طقس جوي عاثر دائمًا، مطر غزير، وشوارع ممتلئة بخلايا الإعلان الضوئية تزاحمك في الطريق أرضًا وجوًّا، مزارع البروتين التي تبدو مثل أطباق الأقمار الصناعية الضخمة الممتدة إلى الأفق، وجدار بحري بارتفاع مئات الأقدام يحجز المحيط الهادئ، ومكب نفايات يتصاعد من لوس أنجلوس على طول الطريق.. إلى سان دييغو، حيث ينثر الأطفال المحكوم عليهم الخردة المعدنية من الإلكترونيات المهملة. ورغم التطور المتتابع إلا أن العالم لم يصبح مكانًا أفضل؛ عالم يعيش على حافة الهاوية على أنقاض الماضي، في لحظة ما سينهار النظام القائم على يد أحد الطرفين إما البشر وإما المُستَنسَخين.
والاس هنا هو إله أعمى، لكنه يستطيع أن يرى كل ما يريد أن يراه، هو الخالق المسيطر في عالم المُستَنسَخين، وهو من أقام الموقف مرة أخرى، بعد انهياره قبل ثلاثين عامًا على يد (تايريل). إن هدف والاس الأمثل هو إنتاج أجيال من المُستَنسَخين، قادرة على التكاثر، وبالتالي إمدادات لا تنتهي من العمالة العبوديَّة المطيعة. وهو لا يظهر أي شكل من أشكال الرحمة أو الشفقة، في سبيل الوصول لهدفه. تعكس هذه الرغبة في السيطرة الكاملة، والسيطرة على المُستَنسَخين، الطبيعة الاستغلالية لقوة الشركات، واستعدادها للتضحية بالأخلاق سعيًا وراء الربح. وبعينين آليتين تحمل رمز الشر دائمًا في السينما، وانعدام وجود أي بُوصلة أخلاقية، امتلأ بالغطرسة، فيرى أن المُستَنسَخين كائنات دونية لا حقَّ لهم، وهو خالقهم فألَّه نفسه عليهم، ولا رحمة في نظره في الطريق إلى مسعاه.
على الطرف الآخر، يبزغ وجه بطل الفيلم "K" أو "كاي".
هو أحد المُستَنسَخين المسؤولين عن تتبع وإنهاء حياة آخر المُستَنسَخين المتمردين قبلًا، وهو يعمل تحت إمرة الشرطة، يطارد آخر المُستَنسَخين المتمردين، ويظهر لنا وهو يمشي في الرِّواق، ويظهر لنا أنه جِدُّ مكروه من كل من حوله، فهو أجير في نظر المُستَنسَخين، وخسيس يُعامَل بدونية من البشر. كاي يعلم جيدًا موقفه من محيطه، وإن كان في حالة تفكر دائمة، يمر فيها على مدار الفيلم بأسئلة حول هويته ووعيه. كانت أول لحظات تمرده، حينما قابل أحد آخر المتمردين من جيله، الذي لم يترك له قبل قتله سوى جملة واحدة: "لأنك لم ترَ معجزة حقيقية".
أكمل كاي بعدها عمله بشكل روتيني، وقيَّم خسائره بشكل ميكانيكي أيضًا، فهذا ما يفعله دائمًا، لكنَّ شيئًا قد وَخَز نفسه، لحظة أن رأى هذه الزهرة التي وجدها نابتة، بجانب شجرة ميتة تمامًا. كانت هذه الزهرة بمثابة الأمل بالنسبة له، فهي تمثل المستقبل والرغبة في الوصول لمعنى الحياة. يعود بعدها لعالمه مرة أخرى، بعد أن يأخذ الزهرة، ولم يكن قد فقد بعد رِباطة جَأْشِه، وكان الاختبار دليلًا على ذلك، اختبار يُجرى عليه دائمًا، لتتأكد المنظومة إن كان المُستَنسَخ ما زال تحت السيطرة، ويؤدي وظيفته بدون تعدٍّ لشكل هُوِيَّته كمُستَنسَخ. الاختبار عبارة عن جمل تُلقى عليه، ويُقاس رد فعله وإجاباته، ويُطلب منه تكرار بعض الجمل، والرد بكلمات محددة سلفًا، كلمات توحي بمكانه في المجتمع، ودوره في البيئة المحيطة به.
ليكتشف بعد ذلك أن هناك مولودًا قد جاء للعالم من أحد المُستَنسَخين حقًّا، حقيقة قد اكتشفها بمحض الصدفة، حينما بحث بجوار البيت، واكتشف صندوقًا مخفيًّا أسفل المكان الذي كانت الزهرة نابتة فيه. أُخفِيَت هذه الحقيقة بعناية تامة، لكنه اكتشفها الآن، وبمقدورها أن تقلب كل الموازين إن علم المُستَنسَخون أنه بإمكانهم التكاثر، وأن لهم وجودًا يتخطى العبودية المفروضة عليهم، وقد انتبهت السلطة لذلك.
"العالم شُيِّد على جدار يفصل الأنواع عن بعضها، إذا أخبرت كلا الجانبين أن ليس هناك جدار؛ فسوف تتسبب بالحرب" ولذا أصبح كاي مَنُوطًا بأن ينهي ويخفي هذا الأمر من الوجود، كأنَّ شيئًا لم يكن حتى الطفل، وأن ما رآه حتى الآن كان وكأنَّ شيئًا لم يحدث. وهنا ظهر التردد لأول مرة على كاي، فهو لم ينهِ حياة شيء قد وُلد قبلًا، كل ما سبق كان على حد معرفته بلا روح، والأمر يختلف له هذه المرة، فأن يكون الشيء مولودًا فهذا يعني أن له روح.
وهنا تسأله آمرة الشرطة: هل ترفض الأمر؟! ولكن كان رده بكل بساطة، أنه لم يكن يعرف أن هذا اختيار مطروح أمامه وأن لديه الاختيار، هو يسلم بأن هذا هو دوره الحقيقي، ولا لَبْسَ في ذلك، ففي طريق الحفاظ على النظام، لا أهمية لوجود الروح في رأي موظفين حفظ النظام. ولكن حقًّا ما حقيقة الروح؟ أهي موجودة حقًّا لتفرق ما بين الإنسان وما صنعه الإنسان؟ أم هي أجزاء مركبة مختلفة تنزوي بين ضلوعنا، نكتشفها بمرور الوقت تارة، والتجارب تارةً أخرى، حتى نرى حقًّا من نحن، من بعد أدائنا لوظائفنا، واكتشاف ذواتنا وغايتنا؟ أم هي شيء ما صنعه الإنسان ليعتلي سُلَّم المخلوقات بعُلْوِيّة؟ فما نراه في الفيلم هو أن البشر استعبدوا المُستَنسَخين، واستعملوهم بناء على فرضية أنك إن وُلدت إنسانًا، فهذا يعني بالضرورة أن لديك روحًا، خاصية ما وُلدت أنت بها، تزكيك لتكون أفضل، بدون أي تدخل أو مجهود منك كإنسان.
كل ذكرياتنا ومشاعرنا وتجاربنا التي قد نمر بها، هي ملك لنا حصريًّا، لأنه لدينا الروح كبشر، ولكن ليس لمُستَنسَخ الحق في هذا، غير أن الأمر حقًّا يستحق التساؤل، خاصةً إن كان رأي الكثير من البشر، أنه بدون الروح كان الأمر سيبدو جيدًا أيضًا وربما أفضل.
بالطبع قد يبدو الأمر روحيًّا أو دينيًّا جدًّا أن أصف هذا بمصطلح "الروح"، فالروح مفهومٌ بعيد المنال، ولا يعتمد على الملاحظة العلمية. ومع ذلك، فإن استبدال كلمة "روح" بكلمة "وعي" يفتح عالمًا جديدًا، مع المزيد من القواعد العلمية لكشف السؤال عمّا يجعلنا بشرًا.
شخصية أخرى تستحق الانتباه حقًّا في الفيلم هي شخصية (جوي). جوي هي أحد منتجات شركة والاس، هي رفيقة كاي المثالية، ولكن لا وجود مادي لها، هي تعلم جيدًا كل ما يدور في ذهنه وعقله، وما يريده وما يريحه ويفرحه، وتسعى دائمًا لإرضائه وكفاية رغباته بأي شكل ممكن. كاي يعلم جيدًا أنها أحد المنتجات، وهو راضٍ جدًّا عن تجربته معها. في الواقع، ما يُقال على لسان جوي هو ما يدور في خلد كاي، ورغباته الدفينة على مدار الفيلم، وهي شريكته في البحث عن نفسه والحقيقة طوال الفيلم؛ فهي مسؤولة بواقع طبيعتها عن تقديم الدعم النفسي دائمًا لكاي. يمكنك أن ترى بعينيك، وتلمس إحساسها برغبتها الكامنة في أن تكون جزءًا متأصلًا من الواقع، أن تلمس بيدها المطر، وأن تحس بالحياة، وتكون له رفيقة حقيقية، ربما لم يكن كاي يريد أكثر من ذلك ليكمل حياته بهدوء.
ولكن ما زالت كلمات المُستَنسَخ (سابر) الأخيرة تطارده، كيف له أن يرضى بهذا الواقع؟ وكيف له أن يرى معجزة حقًّا؟ يبحث كاي بعدها عن آخر آثار المُستَنسَخ، الموجودة في الصندوق في شركة والاس، فهذا آخر مكان قد يجد فيه ضالته، حتى إن كان كل ما يبحث عنه كالإبرة في كوم القش، فلديهم كل البيانات الخاصة بالشركة، وبشركة تايريل من قبلها، ليتصادف لأول مرة مع (لوف) مساعدة والاس الأولى، ويلتفت انتباهه لها، لأنه ليس من الطبيعي أن يكون لأحد المُستَنسَخين اسم.
ففي النهاية، أحد الأكواد كافٍ جدًّا لهم من بدايتهم حتى نهايتهم، ولذلك فلا بد أن تكون حقًّا مميزة. تسأله أيضًا إن كان راضٍ عن منتج شركتهم "جوي"؟ ويرد عليها أنه راضٍ جدًّا بما لديه.
تبحث معه عن ما تبقى من أثرٍ لضالته، ولم يجدوا لها أثرًا غير اختبار مثل الذي يمر به يوميًّا. ويتبادلان أطراف الحديث، ويلفت نظرها أنه لاحظ انجذابًا بين المُستَنسَخة والضابط (ديكارد)، ثم تسأله: هل تستمتع بعملك أيها الضابط؟! ويتجنب هو الرد عن السؤال بمهنية تامة، وينهي الحديث معها.
يكمل بحثه مع طرف خيط جديد: "الضابط ديكارد" لا أثر له أيضًا.
يعود الفيلم بنا بمشهد ممتلئ بالرموز، لوالاس ولوف مساعدته، يحكي معها وعينه لا تزال لا ترى شيئًا في حجرة مظلمة يتخللها النور، يتردد الصوت بداخلها ليعطي كل كلمة أثرًا مهيبًا، ويظهر كيف أنه مهتم بقضية الطفل الذي يولد، وتعرض هي عليه أن يرى النموذج الجديد للمُستَنسَخة التي صُنعت لأجل الإنجاب خاصة. مشهد ليس بالهين أن ترى إنسانًا يولد أمامك بكامل حجمه، وهو في ريعان شبابه، إلا أنه ينتفض كالطفل حديث الولادة، لا يعلم شيئًا ولا يدرك شيئًا، يتحسسها والاس بيديه قبل أن يراها بعينه الاصطناعية، "يتحدث عن كيف أن الخوف هو أول رد فعل شعوري، ناتج عن الحاجة للأمان" وكيف أنه يريد أن يستعمر المزيد من المجرات، وأنه بحاجة إلى المزيد من العبيد، ولا سبيل لذلك إلا بالمزيد من المُستَنسَخين. يطلب منها أن تضيء له عينيه، ليرى ما يريد، ومن بعدها يبقر بطن المُستَنسَخة التي تتألم بوضوح، إلا إنها ليس بيدها الاعتراض على شيء.
"فارغ ومالح" هذا ما وصف به رحم المُستَنسَخة، ومن ثم يقول لـ (لوف) كيف أن آخر أعمال (تايريل) كانت الإنجاب، عمل مثالي ولكنه ضاع، ولكن ما زال هنالك الطفل الذي وُلد وأنه يريده. تسقط المُستَنسَخة على الأرض، أمام لوف التي تتماسك بكل قوتها تحت عيون والاس، المنتشرة في كل مكان في الغرفة، بينما يأمرها أن تجد الطفل.
حديث والاس ليس مجرد محادثة أو طريقة نفعية للوصول لأسرار (ديكارد) فقط، ولكنه تعبير كامل عن شخصية والاس الحقيقية، ووجهة نظره عن العالم، بل وُصِفَ بأنه مونولوج فلسفي، فالحضارة من وجهة نظر والاس غرضها الأساسي هو التوسع والغزو، بل إن كل حضارة قامت، كانت على ظهور القوى العاملة، التي يجري التضحية بها والتخلص منها في النهاية. وأن هدفه الأساسي هو توفير هذه العمالة بشكل لا محدود، وبالنهاية ضمان استمرار البشرية وبقائها.
وأنه أيضًا بضمانه لقدرة التكاثر بين المُستَنسَخين، يكون قد حقق الفارق الرئيسي بين البشر وغيرهم من الكائنات، وبالتالي خطوة نوعية في طريق المستقبل، وأن هذه هي الخطوة القادمة للبشرية بأي حال من الأحوال.
إن والاس بقدر ما يرى أن المُستَنسَخين قوى عاملة في حضارة البشر لا غنى عنها، إلا أن لديه ولعًا لا ينفك بالإرادة الحرة والفردية، ويظهر ذلك في منتجاته مثل (كاي) و(جوي)، وبقدر اتجاهه النفعي في مذهبه في الحياة، وأنه يرى شركته القوة الدافعة الحقيقية لتقدم الحضارة، إلا أنه مصاب بعقدة ألوهية تنعكس في جنونه بالتحكم والسلطة.
شخصية (لوف) كما يذكرها والاس بكلماته: "أفضل ملاك من بين جميع الملائكة".
هي حقًّا تريد، من أول ظهور لها لآخر ظهور لها، أن تثبت بكل الطرق أنها الأفضل، إلا أنه يظهر لنا دائمًا وليس لمرة مُستَقطَعة، كيف أنها تبغض البشر على عكس كاي، الذي قد لا يبدو أنه يشغله هذا الأمر حقًّا (أن يثبت للجميع أن جنسه هو الأفضل). ولكن لوف هي ذراع والاس وتريد ما يريده، ولكن ليس لأجل أحلام والاس الاستعمارية، ولكن لأنها ترى نفسها المسيح المخلص لبني جنسها، ولأجل هذا فهي تسعى كل السعي لأن تكون هي الأفضل، وأن تضمن لبني جنسها الاستمرارية اللازمة، وهذا هو الدافع الحقيقي لكل ما تفعل.
في الحقيقة، إن وجود لوف في الفيلم، يدفعنا لأن نفكر في أهمية المعايير الأخلاقية في حكمنا وتصرفاتنا، خاصة في الأمور التكنولوجية، وهي جدلية أزلية، ولكن هي المعنى الحقيقي لأن تُجنب داخلك كل معيار أو مقياس أخلاقي من أجل الوصول لهدفك.
ولكن جانب آخر في شخصية لوف يستدعي الانتباه، هو حين تقارن بينها وبين كاي في جانب التعاطف والشعور الحقيقي بما يمر به الآخرون empathy، بل إنه بمجرد أن تمر بذهنك هذه المقارنة، ستجد أنه بشكل ما، هذا ما يميزك كإنسان عن أن تكون مُستَنسَخًا، ولكن هل حقًّا ما نمارسه في هذا الجانب خاصة هو ما يميزنا كبشر؟ بلسان آخر: هل نفعل هذا بمحض إنسانيتنا، أم قد يتبدل هذا داخلنا لأسباب أخرى، قد تكون نفعية لنا، فنفعله بكامل إرادتنا لا بمحض العفوية، أو العكس، أم أن هذا أمر ميكانيكي بواقع ما قد تعارف عليه المجتمع؟
يذهب كاي مرة أخرى للبيت الذي وجد فيه آثار الطفل، ليبحث عن أثر آخر أو أي علامة قد تفيده، ليجد علبة صغيرة مخبأة أيضًا بعناية داخل البيانو، وبها صورة لامرأة تحمل بيدها طفلًا بجانب الشجرة، الموجودة في فناء المنزل، التي وجد بجانبها الزهرة. ويجد أيضًا تاريخًا محفورًا على الشجرة من الأسفل، يذكره بحُلم يحلم به دائمًا يؤرقه. يحرق الشجرة ويمضي في طريقه، وفي نفس الوقت تمضي لوف في طريقها، لتسرق الأدلة التي مع الشرطة، وتقتل أحد الموظفين وراءها بلا أي اكتراث.
تمتعض آمرة الشرطة بشدة لتعقد الأمور، وتحكي لكاي كيف أنه لم يكن هناك مثله في صغرها، وتسأله إن كان يتذكر أي شيء قبل عمله معهم؟ يرد عليها بأن لديه ذكريات، ولكنها ليست ملكه، بل هي ذكريات مزروعة بداخل عقله، وأنه من الغرابة أن يحكي عن شيء لم يعِشه من قبل، وهو يعلم ذلك، لتباغته الآمرة بأنه يمكن أن يعتبر هذا أمرًا، إن كان هذا سيساعده.
ليبدأ هو في الحكي: "لديّ ذكرى عن لعبة كانت لدي، حصان خشبي مع نقش تحته، كل ما أتذكر هو أن هناك مجموعة من الأولاد، يحاولون أخذه مني لذا ركضت، كنت أبحث عن مكان لأخبئه، والمكان الوحيد كان فرنًا مظلمًا، إنه مظلم جدًّا وأنا خائف جدًّا، لكن هذا الحصان كان كل ما أملكه، لذا دخلت للفرن على أي حال، بعد ذلك هؤلاء الأطفال وجدوني وضربوني، لأخبرهم بمكانه، لكنني لم أخبرهم"
انتهى الحلم وانتهت معه لحظات الإحساس به بالنسبة لكاي.
حقيقة فإن الأحلام عالم آخر بالنسبة للإنسان، في أحلامنا ينشأ الصراع الحقيقي، كلٌّ منا لديه نصيبه من الأحلام التي يتذكرها، إن تذكرنا حقيقة كل ما نحلم به، سنعلم جديًّا ما الذي نتمسك به وما لا نريده. إن الحُلم في الفيلم هو بمثابة كل رغباتنا وآمالنا، ومخاوفنا، بل هو بمثابة نافذة لأعمق الأفكار والمشاعر بداخلنا. في الواقع، هذا التفسير غير خاص بالفيلم، ولكنه محاكاة حقيقة لحياتنا، ولسنا في سياق فيلم خيال علمي، ولكن وضع إمكانية الحلم بالنسبة لمُستَنسَخ آلي، هو بمثابة إعطاء المُستَنسَخ هوية الإنسان. فإن كان المُستَنسَخ قادرًا على إدراك أنه معتز بشيء يملكه، وأنه خائف، وأنه متألم، فبإمكانه بعد الشعور بهذا، أن يشعر باحتياجاته الأساسية، المختلفة باختلاف طبقاتها، فبإمكانه أن يحس باحتياجه للأمان، وإحساسه باحتياجه لتعزيز هويته، وأن يرفع عن نفسه سبب الألم والأذى.
لذلك كان من المناسب جدًّا، أن يكون الرد الإنساني لكاي، بعد أن ذكر هذا الحلم للآمرة، بخلاف شخصيتها الحازمة والمحافظة، أن تقول له: "جميعنا نبحث عن شيء حقيقي".
ربما كان الفارق بينهما هو درجة الوعي، التي هي بالضرورة مكتسبة، ولكن الفارق هنا هو اختلاف نوعي بينهما، فأحدهما ذو سلطة وأمر وفكر عليوي، والآخر هو مُستَنسَخ يرى نفسه في طبقة دونية رغمًا عنه، وله وظيفة واضحة وثابتة لا تتغير، رغم أن لكليهما الوعي الكافي للتمييز والتقدير.
فيما بعد، يتضح أن كاي قد أخفى حقيقة عن الآمرة، أن الحصان الذي كان بالحلم محفورٌ عليه نفس التاريخ الذي كان محفورًا على الشجرة. كان هذا ما تذكره له (جوي) حتى تبرر له أنه مميز، وأنه الطفل المنشود: "مولود ومطلوب ومحبوب"، ولكنه يرفض أن يقبل بمثل هذه الحقيقة، حتى لو كانت حلمًا.
وهذا يعود بنا إلى كلمات والاس: "أول ما يدور في بال الفرد، هو الميل إلى الخوف ليحافظ على وضعه، قبل أن نعرف حتى ما نحن نخشى أن نفقده".
يذهب كاي لما وراء المدنية المزيفة، ليبحث عن شيء ما يدله على وجود الطفل، في الملجأ الذي قد يكون تُرك فيه الطفل، ليُقابَل بسهامٍ تنال منه، لكن تنقذه لوف التي تراقبه، لتجعله يصل إلى مبتغاه ومن ثم تنال هي ما تريد.
ليجد كاي نفسه في ملجأ للأيتام حليقي الرؤوس، ينثرون قطع المعدن في كل مكان، ويصنفونها لفئات تحت إمرة (أحد تجار النِّخاسة)، لا يمكن تسميته أفضل من ذلك بأية حال، والذي يبرر بكل الأشكال خسته، وأن "عمل الأطفال هو ما يجعلهم يستحقون الحياة" على حد قوله. ويحاول التملص من كاي بأي شكل ممكن، ولكن في النهاية يصل كاي لما يريد، ولكن للأسف لم يبقَ أي أثر في السجلات، ولكن يجد نفس المكان الذي يطارده في الحلم، ويبحث فيه فيجد الحصان مُخبَّأً كما تركه في الحلم!
لك أن تقول أي شيء، لكن لا شيء يضاهي إحساسًا بأنك موجود حقيقة، وأنك لست منبوذًا أو دونًا كما عرفت طول حياتك، وأنك لست الشخص الذي عشت طول حياتك حتى الآن، بل أنت المعجزة التي انتظرها الجميع، بل يمكنك الآن أن يكون لك اسم أيضًا ولستَ فقط كودًا ورقمًا، والإثبات على كل هذا بين يديه الآن، كما تركه في الحلم، كما هو بين يديه.
هوية أخرى الآن، وتأتي معها تحديات أخرى، ولكن كاي لا يترك نفسه للأحلام، ويذهب لآخر احتمال، سيذهب لمن يصنع الذكريات والأحلام، ويتأكد إن كان هذا مزروعًا حقيقة أم لا؟
الدكتورة (أنا ستيلين)، أفضل صانعة ذكريات في الوجود، تعمل داخل قبة زجاجية، لا يأتيها من الزوار أحد في العادة، حرة ولكن داخل الزجاج، "صانع الأحلام" هي شخصية تخلق ذكريات اصطناعية لمُستَنسَخين، لمنحهم إحساسًا بالهُوية والماضي.
يتم تصميم هذه الذكريات الاصطناعية، لمساعدة المُستَنسَخين على الاندماج بشكل كامل في المجتمع البشري، ولمنعهم من التمرد أو التسبب في ضرر، بإعطائهم هُوية مناسبة لأدوارهم في المجتمع.
يُصَوَّر صانع الأحلام على أنه شخصية غامضة، تعمل على هامش المجتمع، ونادرًا ما تُرى شخصيًّا. بدلاً من ذلك، تتواصل مع عملائها من خلال جهاز بعيد، مما يسمح لها بزرع الذكريات مباشرة في أدمغتهم. ولإنشاء ذكريات اصطناعية، وزرعها في عقول المُستَنسَخين، الذين يتلقون هذه الذكريات ولكن لا يدركون أنها مصطنعة، وغالبًا ما يعانون من فكرة أن ذكرياتهم قد لا تكون حقيقية؛ مما يعمل على إبراز التعقيدات الأخلاقية والمعنوية للشخصية ودورها، ويطرح أسئلة مهمة حول طبيعة الذاكرة والهوية، وحقيقة براعة الشخصية في قدرتها على تخيل العالم، أكثر من قدرتها على وصفه، فعلى حد وصفها فهي المسؤولة عن جعل حياة المُستَنسَخين سائغة لهم.
فالمبدأ هنا على حد قولها: "إن كان لديك ذكريات حقيقية، فسيكون لديك استجابات بشرية حقيقية ". وهو المقصد الأساسي من إنتاج مُستَنسَخين، قادرين حقًّا على مجاراة البشر في حياتهم، بكل وظائفها ومعانيها المختلفة.
بشكل عام، تمثل صانعة الأحلام رمزًا قويًّا للتقاطع بين التكنولوجيا والإنسانية، والعلاقة المعقدة والملتبسة في كثير من الأحيان بين الاثنين. إن قدرة صانعة الأحلام على إنشاء ذكريات اصطناعية، تسلط الضوء على قوة التكنولوجيا في تشكيل فهمنا لأنفسنا وماضينا، وأهمية الذاكرة والهُوية في تحديد معنى أن تكون إنسانًا.
"جميعهم يعتقدون أن الأمر متعلق بالتفاصيل، لكن الذاكرة لا تعمل بهذا الأسلوب، نحن نتذكر بمشاعرنا، أي شيء حقيقي يجب أن يكون فوضويًّا"
تنتهي الزيارة بتأكيد أنها ذكرى حقيقية، وغضب عارم لكاي، ولأول مرة يمد يده تحت الثلج، ويسمح لنفسه أن يحس بهذا الشعور، ولكن يتم القبض عليه لحظيًّا، ويُساق للاختبار كما العادة، ولكن هذه المرة تختلف النتيجة، فهو لم يعد نفس الشخص.
في مواجهة مباشرة مع آمرة الشرطة، ينجو بنفسه بأن يقول لها أنه وجد الطفل، وتم ما أرادته، وأن الطفل لم يكن حتى يعلم بحقيقته، فتهنئه على ذلك، وتعرض عليه مهلة يومين، ليسوِّي أموره مرة أخرى ويعود لطبيعته، وأنها لن تستطيع مساعدته فيما عدا ذلك.
ليعود بعدها إلى البيت، ليخبر جوي أنها كانت محقة في كل شيء، ولكن كان في انتظاره مفاجأة من نوع آخر! فلشدة ما تريد جوي أن يشعر بها حقًّا، دعت إلى البيت إحدى فتيات الليل، لتكون ملموسة وحقيقية كفاية له، في إشارة واضحة لأن كل ما يحتاجه كاي الآن أن يكون محبوبًا ومقبولًا ومترابطًا بالأساس، فهذه المرة لم يجتَز الاختبار حقًّا، لأنه أصبح لا يعرف حقيقة موقعه، ولا كيفية ترابطه مع محيطه، هُوية جديدة ووعي مختلف وتحديات مختلفة.
لينتهي المشهد بلوحة إعلانية بطول المبنى الشاهق، لجوي مضيئة بألوان فسفورية، ومكتوب عليها: "جوي يمكن أن تكون أي شيء تريده، تذهب إلى أي مكان تريد الذهاب إليه، وتسمع كل ما تريد أنت".
تدس فتاة الليل شيئًا في جيبه، وتتفحص الحصان الخشبي، وتطردها جوي بعدها، ومن ثم تتجاذب أطراف الحديث مع كاي، وتطلب منه بعدها أن تمسح كل ذاكرتها المسجلة، حتى لا يستطيعوا الوصول إليه إن أرادوا تتبعه، اختيار صعب ولكن لا بديل له، لتنتفض لوف من مكانها، فور أن أصبحت غير قادرة على مراقبته عن طريق جوي، بعد أن مسح كاي كل ما يخصها.
يتتبع كاي مصدر الحصان الخشبي، في رغبة ملحة لديه لمعرفة المزيد، وطريق للهروب من مصيره المحتوم، ومن ثم يذهب لأنقاض مدينة باحثًا عن أثر للحياة، في نفس الوقت الذي تبحث فيه لوف عنه في جهاز الشرطة، وتدخل في مواجهة صريحة مع آمرة الشرطة، التي تخبرها أن كل ما يخص الطفل قد انتهى وتم القضاء عليه، لتصرح لها لوف أنها ترى كاي كالولد المطيع، ومن ثم تكسر الكأس بين يديها، لتتساقط الدماء من بين قبضتها، وتخبرها بمدى سذاجتها أنها صدقته في أمر الطفل، لأنها تتعامل على أساس فرضية أن المُستَنسَخين لا يكذبون، ومدى ضآلتها لمجرد أنها أنهت على حياة الطفل، لمجرد خوفها من التغيير، وأنها ستقول أنها من بدأت بإطلاق النار، ولذلك اضطرت لقتلها.
وحينما تأكدت أنه لا جدوى منها، قتلتها بعنف ولا اكتراث إطلاقًا بحياتها، بل ورفعت وجهها بكل عنف لتفتح به الجهاز، لترى مكان كاي، في حين كان كاي قد وجد أثرًا للحياة: "قفير نحل"، حيث نراه يضع يديه بداخل القفير لحاجة أن يحس بالشعور ذاته، ليدخل بعدها فندقًا مهجورًا تُرك كأنه بحاله، لم يطُله إلا الوقت، ويتجول فيه حتى يقابل وجهًا لوجه (ديكارد) الذي يقابله بعِدائية خالصة، الآن كلاهما وجهًا لوجه، كل ما يريده كاي هو بعض الإجابات.
يسأله ما كان اسم أم طفلك؟ كيف كانت تبدو؟ هل عشتما هنا سويًّا؟! (يطرح عليه الأسئلة برغبة ملحة، لأن يعرف أي شيء عن ماضيه وكيف حدث)، ويرد عليه ديكارد بضيق وقلة صبر واضحة: "كنت أعمل نفس وظيفتك وكنت جيدًا بها".
يرد عليه كاي، بصبر يكاد أن ينفد، أن لا يتهرب من الأسئلة: ما كان اسمها؟!
يرد عليه ديكارد أنه لم يرَ حتى الطفل، كل دوره أن يعلمهم كيف يخفون آثارهم، وأن كل واحد منهم كان له دور محدد، وأنه قام بدوره فقط، ومن ثم انقطعت الكهرباء عن العالم بعدها، وتم مسح كل شيء.
يرد عليه كاي بكل استنكار، كيف أنه لم يرَ طفله حتى، وكيف لم يبحث عنه بعدها؟! ليقول له ديكارد أنهم كانوا جميعًا مطاردين، ولم يُرِد أن يتم الوصول لابنه ليتم تشريحه: "أحيانا عندما تحب أحدهم حقًّا، عليك أن تكون غريبًا عنه!"
تتصاعد علامات الإنذار بقدوم أحدهم، ويحاول ديكارد الهرب، ولكن ينقذه كاي في آخر لحظة من إصابة مميتة، ليظهر بعدها أفراد يظهر أنهم يختطفون ديكارد، الذي يقاومهم ولكن بدون فائدة. يحاول كاي أن يساعده ويفلح في البداية، ولكن تباغته لوف بعدها وتطرحه أرضًا، وتصفه بالكلب السيئ (هذا ما تراه حقيقة في كاي، هي تراه كلبًا مطيعًا للبشر، وكلبًا سيئ الطباع بالنسبة لها يحتاج للتأديب. كيف لا؟ وهي ترى أنها أفضل الملائكة، وأنه بشكل ما تحت إمرتها منذ البداية، وأنها بيدها الخيوط كلها "رؤية دائمة للسيطرة الكاملة")؛ تأكيدًا للمعاملة الدونية له، وأنه مجرد أداة قد يتم الاستغناء عنها في أي وقت، فهذه هي موازين القوى الحقيقية بالنسبة لها. تظهر جوي وهي تستعطف لوف أن تتوقف عن إيذاء كاي، لتقتلها لوف بكل تشفٍّ أمام عيني كاي قائلة: "أتمنى أن تكوني راضية عن منتجاتنا".
يظهر بعدها مجموعة من المتمردين، الذين يأخذون كاي بعد أن وجدوه عن طريق جهاز التتبع، الذي وضعته بائعة الهوى في جيبه.
ولكن للمرة الأولى، يُظهر كاي حقًّا ألمًا إنسانيًّا وهو ينظر حوله.
تقول له بائعة الهوى كيف أنه بإمكانه أن يثق بهم، وأن أحدهم يريد أن يقابله.
يقابل كاي (فريزا) أحد المُستَنسَخين المطلوبين، وهي زميلة للمُستَنسَخ الأول (سابر) الذي قتله في أول الفيلم، ويتعرف عليها في الحال، يسألها في الحال هل كانت معه وهو يخفي الطفل؟ لترد عليه أنها كانت هناك: "وجه صغير مثالي يبكي أمامي!"، وتعطي له صورة مماثلة للتي وجدها في البيانو، يسألها "أكنتِ معها؟" وترد عليه أنها احتضنتها عند موتها، وأخفوا الطفل وأقسموا بالحفاظ على السر، ولهذا تركه سابر يقتله في النهاية.
تقول له: "عرفت أن هذا الطفل كان يعني أننا أكثر من مجرد عبيد، إن كان بالإمكان أن يأتي طفل من داخلنا، فنحن أسياد نفسنا".
من المهم حقًّا الآن أن نلاحظ تغير سياق الحوار في نقطة محددة: لم تعد البشرية مرتبطة بجنس البشر، ولكن مرتبطة بالمعنى القيمي لها، وقد تحولت على مدار الفيلم من شيء ما خاص بالبشر، يصعب إدراكه ووصفه، إلى مجموعة من القيم الحقيقية التي أدركها من لا يملكها، أو بشكل آخر من تم زرع بعض منها فيه، وتُرك الباقي لوعيه وإدراكه لأن يفهمها ويستوعبها، فكانت النتيجة أن أدرك أن حريته هو قرار حر بين يديه، وكما تطور وعيه بشكل اكتسابي، فحقه في الحرية لن يكون إلا بيديه وفعله، وأن إرادته الحرة هي مسألة عمل وفعل في الأساس، وليست مسألة خلق. بإمكاننا أن نرى هذا في تطور شخصية كاي، وفي تطور عقلية جوي، ومن ثم ما اختارته أن يلمسها كاي حقًّا، ومن ثم أن يمحوها حقًّا لهدف وبعد أسمى، وفي كلمات المتمردين الذين دارت عليهم السنين، يعملون في الظل لأجل دعوتهم.
تطلب منه (فريزا) أنه كما قاد والاس إلى ديكارد، فمن المستحق لها أن لا يصل والاس لها، لأن ديكارد كل ما يريده أن تبقى طفلته في أمان، وهو ما لا يمكن حدوثه إن استطاع والاس الوصول إليها، وأن أمان الطفلة متحقق حاليًّا، وفي اللحظة المناسبة ستقود هي جيش المتمردين.
يندهش كاي حقًّا الآن: "هي؟!"
تؤكد له فريزا أن (رايتشل) أنجبت طفلة، وأن تسجيلها بصفتها ولدًا في مرحلة ما، كان فقط جزءًا من اللغز المُحاك لضمان سلامة الطفلة.
تتغير الأمور كلها مرة أخرى وتظلم بالنسبة لكاي حقًّا؛ ليس هو الطفل المنشود، ولم يجده، والذكرى في حلمه مزروعة وليست ملكه حقًّا، حقيقية كما قالت صانعة الأحلام، ولكن ليست ملكه. تواسيه فريزا بأنهم جميعًا تمنوا أن يكونوا هذا الطفل، ولهذا يؤمنون بقضيتهم.
يستيقظ ديكارد متألمًا في حجرة مصممة بإعجاز، تمر عين من عيون والاس بجانب رأسه ومن ثم يبدأ حديثه. يرى والاس مُستَنسَخيه كلهم كالملائكة، وبرغبته أن يكونوا قادرين على الإنجاب، سيكونون قادرين حينها على الطيران حقًّا، وهو يملك المفتاح على حد قوله، ولكن القفل يمثله الطفل الذي يبحث عنه.
في المقابل يتمسك ديكارد بأنه يعرف الفرق بين الحقيقي والمزيف، ويذكره والاس بزوجية المشاعر، فلن تعرف البهجة إلا عندما تعرف الحزن.
يسير كاي وينظر في مشهد سينمائي حقًّا لمجسم هولوجرامي لإعلان جوي، تحاكيه كأنها تسبر أغوار نفسه.
كلمات حقًّا تناسب ما تفعله من إغراء، إلا أنها في نفس الوقت تذكره بكل لحظة قد أدركها وأضافت لوعيه، تجارب وخبرات كثيرة مر بها، وعليه الآن أن يقرر ما يريد أن يفعل.
تنتهي الصورة مُعلّقَة لتذكرنا بحقيقة جوي، أنها منتج صُمم ليكون رفيقًا مثاليًّا، وكاي يحاول ألا ينظر إليه مرة أخرى، ويمسك بمسدسه عاقدًا العزم على أن يتبنى هُويته الجديدة التي يصدق بأصالتها، الآن لم يَعُد مُستَنسَخًا.
يطارد كاي الآن لوف وهي تحتجز ديكارد، وتقوم بينهما مواجهة، يُصاب فيها حتى من البداية، ولوف أيضًا، ولكن لا يستسلم كلاهما. مواجهة سينمائية مبدعة حقًّا، شخصية فرضها الفيلم، الأفضل من نوعها منذ بداية ظهورها، وآخر كل عمله أن يطارد هذا النوع وأن يقضي عليه.
ينتهي القتال بينهما بمكسب لوف، وبينما ديكارد يصارع الغرق، تأتيه لوف ولكن يظهر كاي مرة أخرى عاقدًا العزم على أمر واحد: أن ينهي حياة لوف هذه المرة، وينجح هذه المرة حقًّا.
ينقذ كاي ديكارد الذي يناديه باسمه: "جو".
يقول ديكارد لجو إنه كان يجب عليه أن يتركه يموت غرقًا، يرد عليه جو بأن هذا ما حدث فعلًا وأنه قد غرق، وأنه لديه الآن الحرية ليقابل ابنته.
ليتضح أن كاي أو (جو) الآن قد تمكن حقًّا من فك أسرار اللغز كله، وتوصل إلى مَن تكون الطفلة المعجزة: إنها صانعة الأحلام.
الدكتورة (أنا ستيلين).
يقف ديكارد وجو أمام المبنى، ويعطيه جو الحصان الخشبي، ويقول له إن كل الذكريات الجميلة خاصة بها. يتعجب ديكارد حقًّا لماذا فعل هذا معه؟! ويرفض جو أن يجيب سؤاله، لينتهي بنا الأمر إلى مشهد النهاية.
يتمدد جو على السلم الغارق في الثلوج، ويضع يده أمامه تاركًا الثلج ينهمر عليها، ناظرًا للسماء، مستكينًا لجراحه بهدوء، كأنه لأول مرة يجرب الإحساس باللحظة الآنية، وبوجوده وكيانه وذاتيته الحقيقية.
ومن المهم أن نذكر مشهد النهاية في الجزء الأول أيضًا لنجيب عن سؤال مهم:
في الجزء الأول، ينتهي الأمر بالمُستَنسَخ الذي أنقذ ديكارد، وهو يعلم أنه سيموت الآن ربما فقط ليقول له هذه الكلمات:
"رأيتُ أشياء لن يصدّقها الناس. سفن هجومٍ تشتعلُ بالنيرانِ بجوارِ أوريون. شاهدتُ أشعةً تتلألأُ في الظلامِ قرب بوابةِ تانهاوزر. ستُفقَدُ كل تلك اللحظاتِ في الزمنِ، مثلَ الدموعِ في المطر. حانَ الوقتُ للموت".
ولكن في الجزء الثاني، لم تكن المشكلة أن يذهب عمله أدراج الرياح، ولكن أن يتقبل العالم ما قد أصبح عليه.
والسؤال المفتوح ضمنيًّا: هل تحلم المُستَنسَخات الشبيهة بالإنسان؟ نعتقد بأنه تم الرد عليه حقًّا في الجزء الثاني.
إنهم يحلمون بصورة ثلاثية الأبعاد للحب. وأصبح الانتماء عبارة عن خوارزمية لا أكثر من ذلك، أو لم يكن أكثر من ذلك. في الواقع، لقد طرح الفيلم الحقيقة لما بعد الحقيقة من واقع العالم، ولكن بثمنٍ باهظٍ حقًّا.
الحقيقة تفرض نفسها دائمًا، فالفيلم بجزأيه يتناول بشكل كبير واقعنا الذي نعيش فيه، وواقع طبيعة الإنسان وتطوراته. فإن لم نكن نتكلم عن مُستَنسَخين، فالإنسان يتكون وعيه وإدراكه بذاته وهويته، بنفس التطور الذي ذكره الفيلم، فنحن لدينا دائمًا تلك الصورة عن ذواتنا، ونمر بالتجارب المختلفة في حياتنا، ويتشكل وعينا، ومن رحم الصراعات التي بذواتنا، تتولد لدينا الإرادة الحرة بداية بطفولتنا إلى مماتنا. كيف لا، وأول ما يعبر الطفل عن نفسه يكون بقول لا؟ وعلى طول سنين عمرنا، نعيد تقييم مواقفنا واتجاهاتنا ومبادئنا بالشك، حتى نصل إلى حقيقة تناسب واقعنا، ونبحث دائمًا عن تعريف يريحنا ويستقر بداخلنا، لمزيد من الإحساس بالرضا ويسر الحال. أما واقع أن يمَكِّن الإنسان لنفسه أمورًا وأشياء أخرى بعلوية لراحته، فهو واقع يمكننا أن نراه على مدار العصور، منذ بدء الخليقة، وهذا هو واقعنا الذي نعيشه.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط الخاصة بنا وملفات تعريف الارتباط الخاصة بالجهات الخارجية حتى نتمكن من عرض هذا الموقع وفهم كيفية استخدامه بشكل أفضل ، بهدف تحسين الخدمات التي نقدمها. إذا واصلت التصفح ، فإننا نعتبر أنك قبلت ملفات تعريف الارتباط.