«الجسد» و«سايكو» أو في «المنافع الإضافية التي يقدّمها الميت إلى الحي»

2024-06-02

«الجسد» و«سايكو» أو في «المنافع الإضافية التي يقدّمها الميت إلى الحي»

 

 

مِران بُجوڨِتش**

ترجمة: طارق عثمان

 

 

*لم ينشأ تحنيط الجثث البشرية وبث الحياة فيها كرة أخرى على يد نورمان باتس في فيلم سايكو (المختل) لألفريد هِتشكوك (1960)، وإنما له تاريخ فلسفي محترم جدا، يعود إلى صدر القرن التاسع عشر. إن السيدة نورما باتس، أُمّ نورمان، ليست وحيدة في مصيرها بعد الممات، ليست وحيدة في "حياتها الآخرة"، وإنما لجسدها المبعوث سلف واحد مرموق، على أقل تقدير، وهو جثة چرمي بِنتام المحنطة (ت. 1832).

 

1.

 هذه هي الوصية الأخيرة للفيلسوف النفعي البريطاني چرمي بِنتام: أن تُشرّح جثته علانية ثم تُحفظ بعد ذلك وتُعرَض. ولقد فصّل بِنتام القول في الأفكار الثاوية وراء هذه الرغبة العجيبة إلى حدٍ ما في كتابه الأيقونة الذاتية؛ أو المنافع الإضافية التي يقدّمها الميت إلى الحي.[1] في حين أنّ الفلاسفة الآخرون الذين تدبّروا في شأن الموت مشغولون، على الأغلب، بمصير الروح بعد موت الجسد، بِنتام مشغول حصرًا في كتابه هذا بمصير الجسد الميت، الجسد الذي تتركه الروح ورائها. ولهذا، في حين يتخذ تدبّر غيره من الفلاسفة في شأن الموت شكل تأملات في خلود الروح، ويضربون صفحا عن مصير الجسد بعد مماته، يتخذ تدبّر بِنتام شكل تأملات في الجسد―جسده الميت في المقام الأول―ويضرب صفحا عن مصير الروح. وبصفته دراسة في جثة مؤلِفه، هذا كتاب منقطع النظير، وبذلك يُعدّ صنفا قائما بذاته من صنوف التأليف، قد سكّ له بِنتام اسما جديدا: «سيرة موت ذاتية» (auto-thanatography)،[2] وهي تتمة طبيعية لسيرة الحياة الذاتية (auto-biography).

على خلاف عامة الناس الذين يجدون مجرد التفكير في الموت أو في الجثث أمرا منفّرا، احترم بِنتام الجثث―جثث الحيوانات والبشر المحفوظة بعد الموت «في مناطق إفريقيا الحارة»، و«في جليد القطبين»، و«في أطلال مدينتي هِركولانيم وبومباي الروميتين»، و«في الصخور»، و«في المستنقعات الغنية بمادة العفص (التانّك)»―لأنها تمدنا بـ«مادة دسمة للتفكير» (ص 1). وفي حين لا يتكلم الناس عادة عن الموت بعامة، وعن موتهم أنفسهم بخاصة، إلا لماما، قال بِنتام عن موته، وعن مصير جسده بعد موته، أنه كان «لسنين عددا موضوعا أثيرا على مائدة تفكيري» (ص 2).

يمكن أن نجد مثالا ممتازا على سعي الناس بعامة إلى اجتناب التفكير في موتهم، بأي ثمن، في رواية ليو تولستوي القصيرة، موت إڨـان إلِتش. في الرواية، يتصرف جميع أصحاب المرحوم إڨان إلِتش «كما لو أنّ الموت ليس سوى حادث عارض لم يكن ليصيب إلا إڨان إلِتش»[3] وحده من دونهم، بل إنّ إڨان نفسه قد مات معتقدا أنّ الموت ليس سوى حادث عارض لا يصيب إلا الآخرين وحدهم من دونه:

تبين إڨان إلِتش أنه يحتضر، وحلّ به القنوط.

لقد تيقن في أعماق قلبه أنه يحتضر، لكنه لم يكن يألف هذه الفكرة، بل إنه لم يقدر على أن يستوعبها قط، لم يقدر على أن يستوعبها مطلقا.
لقد بدا له على الدوام أن القياس الذي تعلمه من منطق كايزڨتر―كايوس بشر، وبما أنّ البشر فانون، إذًا كايوس فانٍ―لا ينطبق إلا على كايوس وحده. إن كايوس يمثل الإنسان المجرد، ولذلك القياس صحيح تماما؛ لكنه ليس كايوس، ليس إنسان مجرد، وإنما مخلوق مختلف، مختلف تماما عن الآخرين....

لقد كان كايوس فانٍ حقا، ولذلك كان لزاما أن يموت، لكن الأمر مختلف تماما فيما يخصه هو، إڨان إلِتش، ڨانيا (دلع إڨان)، بكل خواطره ومشاعره. إذ ليس من الممكن أن يكون موته لزاما لا مناص منه. فذلك أمر مروع بالغ الفظاعة.[4]

إڨان على فراش موته، في النزع الأخير، ومع ذلك لا يزال يعتقد أن كايوس، أي «الإنسان المجرد»، مَن سيموت، وليس هو بلحمه ودمه.[5]

كتب بِنتام الأيقونة الذاتية قبيل موته، ونعته بأنه «آخر أعماله»،[6] ومع ذلك لم يُبد فيه أي خشية من الموت. وإنما تدبّر في موته بنفس الموضوعية التي يتدبر بها في أي شيء آخر، أي من جهة منفعته الممكنة. يكتب بِنتام عادة على نحو بارد ورتيب، لكن عندما أخذ يكتب سيرة موته، أضحى شيخ النفعيين مفعما بالمرح لأول مرة، ولم يحاول حتى أن يخفي ولعه بالتفكر في مصير جسده بعد الموت. وكفيلسوف نفعي، انشغل حصرا بكيف يمكن له أن يكون ذا نفع لإخوانه في الإنسانية حتى بعد موته، أي كيف يمكن حتى لجثته أن تساهم في تعزيز سعادة الأحياء. أو كما تمنى سلفا في سنة 1769: عسى أن «يجني البشر ولو منفعة ضئيلة من موتي، بما أنه لم يتح لي حتى الآن إلا نذر يسير من الفرص لكي أنفعهم وأنا حي».[7]   

أبدى فلاسفة آخرون، كنيقولا مالبرانش (ت. 1715) وچورچ باركلي (ت. 1753)، عدم خشية من الموت أيضا، لكن عدم خشية بِنتام من الموت ناتجة عن أسباب مغايرة. فقد لا تكون ملاقاة الموت عسيرة علينا لو أننا نعتقد كباركلي أنّ الروح «خالدة بالطبع»[8] وأنّ «البعث يعقب اللحظة التالية على الموت مباشرة».[9] تُعدّ هذه الفكرة الأخيرة واحدة من «المفارقات العديدة» الناجمة عن نظرية باركلي المتطرفة عن الزمن. بحسب باركلي، أنا موجود ما دمتُ مدرِكا [لأن كنهي هو عقلي وليس جسدي، أو بعبارة ديكارتية: أنا أدرِك إذًا أنا موجود]. لكن يلزم عن ذلك أنه في اللحظة التي أتوقف فيها عن الإدراك―أي التي أغط فيها في نوم بلا أحلام قط أو التي يُغشى علي فيها وأفقد الوعي―لن أعود موجودا. ولكي يتلافى باركلي هذه اللازمة، طرح نظريته عن الزمن. يرى باركلي أنّ زمن كل عقل فردي―ولكل عقل فردي زمنه الذاتي بالكلية، إذ لا يوجد زمن مطلق―يتألف من «تعاقب الأفكار»[10] في العقل. وعليه، في اللحظة التي يتوقف فيها تعاقب الأفكار يتوقف الزمن. لكن إذا كان لا يوجد زمن حينما لا يوجد تعاقب أفكار، فلن يوجد بين الموت (اللحظة التي أفقد فيها الوعي) والبعث (اللحظة التي أسترد فيها الوعي) زمن لكي لا أوجد فيه.[11] أي أنّ باركلي لا يقول أنني نفسي لا أوجد في الفاصل الزمني بين موتي والبعث، وإنما يقول أنّ هذا الفاصل الزمني نفسه غير موجود. وإذا كان باركلي يعتقد أن «فواصل الموت أو الفناء الزمنية» «ليست بشيء»،[12] فلا عجب من أنه قد سأل أحد أصحابه أن يعينه على شنق نفسه لأنه رغب بحرقة في أن «يعرف طبيعة الآلام والأعراض...التي يشعر بها المرء عندما يُشنق».[13]

بل قد تكون ملاقاة الموت أقل عسرا علينا لو أننا نعتقد كمالبرانش «أننا لا نفقد أي شيء عند الموت».[14] فبحسب مالبرانش، نحن نمتلك بالإضافة إلى الجسد المادي، غير المدرَك بالعقل وغير المؤثر، جسدا "فكريا" (مثاليا) أو "مدرَك بالعقل"، ووحده الجسد الثاني قادر على التأثير علينا. ولا يعني ذلك أنّ الجسد الفكري لا يشرع في التأثير علينا إلا بعد الممات، بعدما نفقد الجسد المادي، وإنما أنّه يؤثر علينا طيلة حياتنا. ولذلك، نحن نعتقد أن جسدنا المادي هو ما يؤلمنا عندما نُجرَح، على سبيل المثال، إلا أن جسدنا الفكري هو مصدر الألم في حقيقة الأمر. وبحسب مالبرانش، لا يمكن للروح أن ترتبط إلا بما يمكنه أن يؤثر عليها، كأن يؤلمها على سبيل المثال. ويلزم عن ذلك أن الروح ليست متحدة (ولا يمكنها أن تتحد) بالجسد المادي وإنما بالجسد الفكري وحده. إنّ الجسد الفكري «أشد واقعية» من الجسد المادي؛ علاوة على ذلك، على خلاف جسدنا المادي الذي يفنى بعد الموت، جسدنا الفكري «لا يفسد أو يتحلل»،[15] ولذلك نظل نمتلكه حتى بعدما نفقد جسدنا المادي. لأن الموت لا يفصلنا عن الجسد الفكري، الذي يؤثر على أرواحنا حقا، وإنما عن الجسد المادي، الذي لا يمكنه أن يؤثر على أرواحنا حتى ونحن أحياء ولذلك كان ميتا حتى قبل موتنا، يتبين «أننا لا نفقد أي شيء عند الموت»: «ولهذا لا ينبغي أن نخاف قط من موت يفصل الروح...عن هذا الجسد المادي».[16] علاوة على ذلك، لأن الجسد الذي يؤثر علينا في حياة الجسد المادي هو عين الجسد الذي يؤثر علينا بعد موت الجسد المادي، يسوغ لنا القول أن البعث يسبق الموت عند مالبرانش.[17]  

على الناحية الأخرى، يرى بِنتام أنّ «الروح الموجودة على نحو منفصل عن الجسد» لا يسوغ أن توصف حتى بأنها «موجود حقيقي». بل قد يتبين أنها مجرد «موجود وهمي»،[18] وأنه لا يتبقى منّا بعد الممات إلا «هيكل عظمي بلا إحساس» (ص 7). وعليه، لو أننا نشك كبِنتام في مقام الروح الأنطولوجي بعد موت الجسد، لن نرجو شيئا من حياتنا الآخرة. في حين يرى مالبرانش، في كتابه أحاديث عن الموت،[19] أنّ مصيره بعد الموت معتمد على الروح الخالدة، التي تظل حتى بعد فناء الجسد المادي مرتبطة بالجسد الفكري، يرى بِنتام، في الأيقونة الذاتية، أنّ مصيره بعد الموت معتمد على جسده الميت. ذاك الجسد الذي سيظل بلا روح حتى بعد البعث، ومع ذلك، سيظل بِنتام يدعوه «نفسه».

 

2.

يرى بِنتام أنّ عُرف التخلص من الجسد بعد الموت منافي للحكمة النفعية إن لم يكن لمجرد الحكمة حتى: فهو يؤذي الأحياء―«الحانوتي والمحام والقس، وكل الذين يشهدون تدمير الجثث» (ص 1)―بل ويحرمهم، أيضا، من الخير الذي كان لهم أن يحصّلونه من الأموات لولا ذلك. لكن أي خير يمكن تحصيله من الأموات؟ كيف يمكن للأموات أن يساهموا، بجثثهم، «في تعزيز سعادة البشر» (ص 2)؟

يمكن لجثث البشر أن تُستعمل في غرضين: أحدهما «مؤقت» والآخر «دائم». الأول «تشريحي أو تحليلي»، والثاني «حِفظي أو تمثالي» (ص 2). إنّ «كتلة المادة التي يوجدها الموت» ينبغي ألا تُنبذ ببساطة وإنما ينبغي أن تُستعمل «في سبيل سعادة البشر». ومستحضرا لـ"مبدأ السعادة القصوى" الذي وضعه [ينبغي أن نسعى إلى تحقيق أقصى قدر ممكن من السعادة لأكبر عدد ممكن من الناس]، حاجج بِنتام عن أنه يمكن الانتفاع بالجثة على أحسن نحو إذا ما استُعملت «أجزائها الرخوة التي تفسد في تعليم التشريح»، وإذا ما حُوّل «الجزء الذي لا يفسد نسبيا إلى أيقونة ذاتية» (ص 2).

دعونا ننظر أولا في الغرض «المؤقت» أي «التشريحي أو التحليلي» للجثث البشرية. قد يبدو لنا أنّ أتباع المذهب النفعي ليسوا بحاجة إلى أن يقنعوا أي أحد في زمننا بمنفعة الأموات في تعليم التشريح؛ إذ يقر معظمنا الآن بأن تشريح ودراسة جثث «الموتى عديمي الإحساس» من شأنه أن يساهم في وقاية «الأحياء شديدي الإحساس» من الألم والمرض والموت قبل الأوان. لكن ذلك لم يكن حال معظم الناس في زمن بِنتام. فكما ذكرت روث رِتشاردسون، في بريطانيا العظمى أثناء تلك الفترة، كان المصدر الشرعي الوحيد للجثث التي تستعمل في التشريح الطبي هو جثث القتلة المعدومين شنقا. إذ عُدّ تشريح الجثة على يد مُشرّح جرّاح جزءً من العقوبة المُنزَلة عليهم، استكمالا لمهمة الجلاد الذي شنقهم.[20] ولذلك، ساءت سمعة المُشرّحين جدا عند عامة الناس ونُظر إلى فعل التشريح نفسه بعين الريبة. لقد فُرض تشريح جثث القتلة بموجب مرسوم القتل الصادر سنة 1752، الذي نجد التشريح موصوفا فيه بأنه «ترهيب بالغ وعلامة فريدة على العار والشنار».[21] لكن لأن الجثث الواردة من هذا المصدر كانت بالطبع أشح من أن تلبي طلب مدارس التشريح الذي لا ينفك يتزايد، ظهر المُسَمّون بـ«سارقي الجثث» (أو «البعّاثين») الذين شرعوا في نبش القبور وإخراج الجثث منها لبيعها إلى مدارس التشريح. لم تُعتبر سرقة الجثث حينئذ جريمة من الناحية القانونية―لأن الجثث لا تعود إلى أي أحد بحكم القانون ولذلك «لا يمكن أن تُمتلك أو تُسرق»―وإنما اعتُبرت مجرد انتهاك للأخلاق العامة.[22] لكن سارقا الجثث الأكثر شهرة وخزيا، وليام بورك ووليام هير الإدنبراويان [نسبة إلى مدينة إدنبره]، اللذان أتى بِنتام على ذكرهما في كتاب الأيقونة الذاتية، لم ينبشا القبور فحسب وإنما قتلا الأحياء بنية بيع جثثهم إلى المُشرّحين.[23]

 

Wel

وليام هير على اليمين، ووليام بورك على اليسار.

 

وفي هذا السياق التاريخي تحديدا، ينبغي علينا أن نفهم وصية بِنتام الأخيرة العجيبة. أورث بِنتام جثته لصديقه وتلميذه الدكتور توماس ساوثوود سميث؛ وبذلك أضحت مملوكة له ولهذا لا يمكن سرقتها دون عقاب. وأوصاه بأن يشرّحها ويستعملها

كأداة شرح في سلسلة من الدروس، يُدعى إليها رجال العلم والأدب...لتبيين مواضع شتى أعضاء الجسد وتكوينها ووظائفها...ولترمي هذه الدروس إلى هدفين، أولا: تبليغ معارف غريبة وشيقة ومهمة للغاية، وثانيا: بيان أن الرعب من التشريح نابع من الجهل....[24]                   

لقد أوصى بِنتام بجثته إلى جرّاح لكي يشرّحها في حقبة زمنية تكالبت فيها مدارس الطب على الجثث لكنها لم تجد إلا القليل منها نظرا لأنّه لم تكن تُشرّح آنذاك إلا جثث المجرمين المشنوقين. بل إن الطلب على الجثث كان هائلا والمعروض منها كان شحيحا لدرجة أنّ قتل الناس بنية بيع جثثهم أضحى مربحا. فبحسب بِنتام، «القيمة المالية المرتبطة» بالجثث هي ما «خلق قتلة على شاكلة بورك وهير» (ص 7). وهكذا لم يكن تبرع بِنتام بجثته مجرد حركة فارغة من فيلسوف متهور فقد عقله بعدما بلغ من الكبر عتيا، وإنما كان «وصية هادية»[25] قُصد منها هداية الآخرين إلى التوصية بتشريح جثثهم، وبذلك يغدو القتل غير مربح في نهاية المطاف. ولقد نفّذ سميث وصية بِنتام بأمانة، وشرّح جثة صديقه أمام تلامذته من طلاب الطب. وقبل الشروع في التشريح، ألقى خطبة طويلة فوق الجثة بعنوان محاضرة ملقاة على رفات چِرمي بِنتام.

وبعد أن تُشرّح الجثث وبذلك تؤدي غرضها «المؤقت»، ينبغي أن تُحفظ، وبذلك تؤدي غرضها «الدائم» أي «الحفظي أو التمثالي». جادل بِنتام عن هذه الفكرة كالتالي:
لا توجد صورة ولا رسمة ولا تمثال أشبه بالمرء من أيقونته الذاتية، ففيها يكون المرء نفسه. أو ليست المطابقة مفضلة على المحاكاة؟ (ص 3).

بما أنّ لا شيء يشبه شخصا كما يشبه هذا الشخص نفسه، ينبغي حفظ جثث الموتى باعتبارها أصدق ممثلات لأصحابها. بينما يُمثّل المرء بعد موته، في العادة، بواسطة أيقونات شتى كـ«الصور» و«الرسومات» و«التماثيل»، يتيح حفظ الجثة لأي أحد أن يصير أيقونته، أي أن يصير «أيقونة ذاتية». وهكذا سك بِنتام مصطلح «أيقونة ذاتية»، ومعناه «جلي، غني عن الشرح»، كما يقول، وهو «أن يكون المرء صورته» (ص 2). وبعد أن يتحول إلى أيقونة ذاتية، يمكن لكل إنسان أن يواصل تمثيل نفسه، حتى بعد موته، أن يكون «صورته». وعندما يصير كل إنسان «تمثاله» (ص 2)، «ستحل» صناعة الأيقونات الذاتية، بالطبع، «في محل نحت التماثيل» (ص 4)، أي عندما يصير كل إنسان «نُصبه» (ص 4)، «لن تعود بنا حاجة إلى النُصب المصنوعة من الحجارة والرخام» (ص 3). وباختصار، سيمدنا فن صناعة الأيقونات الذاتية بـ«شَبه أتم من الذي يمكن للوحات المرسومة والتماثيل المنحوتة أن تمدنا به» (ص 5). وهكذا نجد أنّ بِنتام مولع بإحياء الجسد الميت على نحو ولع توماس دِكوينسي بقتل الجسد الحي: باعتباره "أحد الفنون الجميلة" [راجع الحاشية رقم 17].

وكما جعل بِنتام من نفسه قدوة فيما يخص الغرض «المؤقت» أي «التشريحي» للجثث البشرية، جعل من نفسه قدوة كذلك فيما يخص غرضها «الدائم» أي «التمثالي». ففي وصيته، طلب من سميث أن يعيد―بعد فروغه من التشريح والشرح―تجميع العظام في هيكل وأن يضع عليه الرأس بعد تجهيزه منفصلا، ثم يُلبِس الهيكل «إحدى البزات السوداء التي كنت أرتديها عادة» ويجلِسه على «أحد الكراسي التي كنت أجلس عليها عادة في حياتي». وبعد كسوته، يُرفق الهيكل العظمي بـ«العصا التي كنت أحملها في سني عمري الأخيرة»، ثم يوضع في «صندوق أو خزانة مناسبة....»[26] ونتيجة لذلك، لا يزال من الممكن رؤية بِنتام اليوم مُجسّدا لغرض الجثث البشرية «الدائم»: إذ يجلس كـ«تمثاله» حتى اليوم في خزانة من الزجاج وخشب الماهوجني في أحد أروقة كلية لندن الجامعية―يمثّل نفسه بعد مضي أكثر من قرن ونصف على موته.

 

                                   1111

أيقونة بِنتام الذاتية، كلية لندن الجامعية.

 

بينما لم يتطلب تجهيز الجذع والأطراف للحفظ سوى إجراءات التحنيط العادية―تربيط الهيكل العظمي عند المفاصل بأسلاك نحاسية ولفه في القش، التبن، القطن، نشارة الخشب، ونحو ذلك[27]―تطلب تجهيز الرأس معاملة خاصة. ولم تكن حاجة الرأس إلى عناية خاصة خافية على بِنتام، إذ قال: «رأس كل شخص يميزه عن غيره، وعندما يُحفظ على نحو سديد يكون أحسن من تمثال» (ص 2). ولذلك نصح بأن يُعامل الرأس كرؤوس أهل نيوزيلَندا الأصليين، أي عن طريق التجفيف (يمكننا رؤية رأس مجفف في فيلم Under Capricorn لألفريد هِتشكوك). وهكذا ينبغي للرجل المتحضر، في سعيه إلى تعزيز السعادة البشرية، ألا يزدري «العبقرية الهمجية» التي تمتع بها «النيوزيلنديون البرابرة» الذين «سبقوا أكثر الأمم تحضرا في فن الأيقونة الذاتية» (ص 2). أما العينان وهما من «أجزاء الجسد الرخوة التي تفسد»، فليسا بمشكلة، إذ يمكن استبدالهما بعينين مصنوعتين من الزجاج «لن يمكن تمييزهما عن العينين الطبيعيتين» (ص 2).

ومن سخرية الأقدار، أن تحويل جثة بِنتام إلى أيقونة ذاتية قد فشل عند الرأس تحديدا. لقد اتّبع سميث تعليمات بِنتام بحذافيرها، ومع ذلك لم يكن الرأس المُشرّح يشبه رأس بِتنام الحي في شيء، ولذلك اضطر سميث إلى أن يستبدله برأس مصنوع من الشمع. لقد كان الرأس الشمعي «مطابق» لرأس بِنتام الحي، بينما لم يكن رأس الأيقونة الذاتية الأصلي «يشبه» رأس بِنتام الحي، وبذلك لم يعد بِنتام، المتحول إلى أيقونة ذاتية، يشبه نفسه. وهكذا تبين أن النسخة الشمعية «تشبه» بِنتام أكثر مما «يشبه» بِنتام، في صورة أيقونة ذاتية، «نفسه». ولأن الرأس هو ما «يميز»، بحسب بِنتام، كل شخص عن غيره، تبين أنّ أيقونة بِنتام الذاتية، برأسها الشمعي، ليست «أحسن من تمثال». وتكمن سخرية القدر هنا في أن مثال بِنتام دون غيره هو الذي أثبت (وعلى خلاف رأيه) أن المرء ليس بالضرورة أكمل ممثل لنفسه بعد الموت (مقارنة بتمثال أو رسمة)، وكذلك في أنّ بِنتام قد غازل، أثناء تدبره في طريقة لحفظ رأسه بعد الموت، فكرة تجريب «فن الأيقونة الذاتية» عند النيوزيلنديين: إذ خطط للحصول على رأس بشري من مُشرّح لكي يجففها في فرن في بيته.[28] لا نعلم على وجه اليقين ما إذا كان بِنتام قد نفذ مخططه وأجرى تجربته هذه أم لا. لكنه أشار في كتاب الأيقونة الذاتية، على نحو فيه شيء من الغموض، إلى تجارب في «امتصاص الرطوبة ببطء من الرأس البشري»، كانت تُجرى «في بلده» و«تعِد بنجاح تام» (ص 2).

 

3.

كيف يُفترض للأموات المحوّلين إلى أيقونات ذاتية أن يساهموا، على وجه التحديد، في «تعزيز سعادة الأحياء»؟ بالإضافة إلى منافعهم الأخرى العديدة―الأخلاقية والسياسية والاقتصادية والنَسَبية والمعمارية والفِراسية[29] ونحو ذلك―يُفترض للأيقونات الذاتية أن تفيد الأحياء أيضا من خلال «منفعتهم المسرحية أو الدرامية» (ص 12). فمن شأن فن الأيقونات الذاتية أن يوجِد ضرب جديد تماما من المسرح، تؤدي فيه الأيقونات الذاتية أدوار الممثلين. فعلى خشبة المسرح ستتكلم الأيقونات الذاتية وتومئ؛ إذ يمكن تحريكها من الداخل (بأن يحركها «صبي موضوع فيها ومُغطى برداء») أو من الخارج (عن طريق «خيوط أو أسلاك» يحركها «أشخاص تحت خشبة المسرح»). وبواسطة أدوات مخصوصة، يمكن للأيقونات الذاتية أن تبدو كما لو كانت تتنفس وكما لو كانت أصواتها (المستعارة من الممثلين الأحياء) تخرج من أفواهها. ولأن جلد وجوهها «سيكون بني اللون بدرجة أو بأخرى» نتيجة لـ«عملية التجفيف» (ص 13)، ينبغي تزيين هذه الوجوه بمجملات (مكياچ). وهكذا، لكي يُنتفع بالأموات على أتم وجه، يتعين ردّهم، إذا جاز القول، إلى الحياة كرة أخرى.

لن يؤدي الأموات على المسرح إلا دورا واحدا: أنفسهم. وهكذا، مَن سيؤدي دور القيصر يوليوس في مسرحية شكسبير، وفقا لمبادئ بِنتام، هو القيصر يوليوس نفسه، أي أيقونته الذاتية. فلو قيض لبِنتام أن يكتب بيانا (مانِفِستو) لمسرح الأيقونات الذاتية، فستكون هذه هي جملته الافتتاحية بلا شك: "أي ممثل يمكنه أن يؤدي دور القيصر يوليوس أحسن من القيصر يوليوس نفسه في صورة أيقونة ذاتية؟" ولهذا تُعدّ كل الأدوار في هذا المسرح نظيرا تاليا على الموت لظهور ألفريد هِتشكوك بشخصه في أفلامه (حيث يؤدي المخرج دور نفسه). علاوة على ذلك، في مسرح الأيقونات الذاتية، سيكون من الممكن لشخصيات عاشت في قرون شتى وفي قارات شتى أن تلتقي على خشبته وجها لوجه.

وفي هذا المقام، خط بِتنام بإيجاز بعض المحاورات التي يمكن عرضها على خشبة مسرح الأيقونات الذاتية. وهي مصنفة تحت فروع علمية شتى، كالأخلاق والرياضيات والسياسة ونحو ذلك.[30] وفيها تستعرض كل شخصية مؤلفاتها ومنجزاتها. وتتضمن هذه الشخصيات مفكرين ضاربي في القدم ككونفوشيوس وأرسطو وإقليدس ومفكرين متأخرين كچون لوك وإسحاق نيوتن ودَلمبير. وفي هذه المحاورات جميعها، يوجد اسم لا ينفك يظهر مرارا وتكرارا، وهو بِنتام نفسه. إنّ بِنتام يظهر في كل واحدة من  محاوراته، مؤديا لدور نفسه، تماما كما يظهر هِتشكوك في كل واحدٍ من أفلامه مؤديا لدور نفسه. لكن على خلاف هِتشكوك الذي يسند إلى نفسه أدوارا هامشية خاطفة في أفلامه، يسند بِنتام إلى نفسه أدوارا مركزية للغاية في محاوراته، ينافح فيها عن منجزاته بين يدي أساطين كل فرع من فروع العلم. ولقد صمم بِنتام أيضا حركات الجثث على خشبة المسرح على نحو بالغ التفصل: عندما يجتمع كل ممثلي فرع علمي بعينه على خشبة المسرح، يدخل بِنتام عليهم، فيرحب به أحدهم نيابة عن الجميع، ثم يقدّمه إليهم، واحد تلو الآخر، وبإيجاز يعرض أهم منجزات كلٍ منهم في تخصصه.[31] ويبين لنا النقاش التالي حول الأخلاق المسار الذي تمضي فيه هذه المحاورات عادة: قال «الشيخ الذي عاش بعد 1830 سنة من ميلاد المسيح»، أي بِنتام نفسه، لـ«الشيخ الذي عاش قبل ثلاثة قرون ونصف من ميلاد المسيح»، أي أرسطو:

في صدر كتابك عن الأخلاق، ذكرت أن الخير هو، بطريقة أو بأخرى، غاية جميع الناس. ولقد انقضت ألفي سنة على ذلك، وطوال هذه الفترة لم يأت أي أحد آخر بأي جديد في هذا الموضوع. لم يقدم أي أحد تعريف دقيق وواضح لكلمة خير، عن طريق ترجمة لغة الخير والشر إلى لغة اللذة والألم... (ص 14).

 أي أحد سوى بِنتام نفسه بالطبع، الذي يعدّ تنويع العبارة―أي استبدال الكلمات التي تحيل على أشياء مجردة ومبهمة، غير موجودة إلا «لفظيا»، بكلمات تحيل على أشياء محسوسة وموجودة بحق، كاللذة والألم―أحد أهم منجزاته! وتتكرر نفس القصة تقريبا في محاورات بِنتام عن الرياضيات مع إقليدس ونيوتن وعن السياسة مع چون لوك، وهلم جرا.[32]   

لم يكن بالطبع لحوارات هؤلاء الموتى أن تُعرض على مسرح الأيقونات الذاتية، لأنه لم يعد بمقدور أي أحد منهم، حاشا بِنتام، أن يؤدي دور نفسه. فلعل بِنتام قد تردد في شأن المقام الأنطولوجي لأرواحهم الموجودة على نحو منفصل عن أجسادهم―هل هي «موجودات حقيقية مستنبطة» أم «موجودات وهمية مستنبطة»؟―لكن لم يساوره أي شك في شأن المقام الأنطولوجي لأجسادهم: ليس في العالم الخارجي أي «موجودات حقيقية محسوسة» تقابل أسماء محاوريه هؤلاء بعد موتهم.[33] أما في أيامنا هذه، أي بعد انقضاء أكثر من قرن ونصف على موت بِنتام، يُفترض لعرض مسرحي كهذا أن يكون ممكنا، من حيث المبدأ، لكن ستكون قائمة محاوري بِنتام الذين سيمثلون معه محدودة إلى حدٍ ما. فبالإضافة إلى بِنتام، أبرز الشيوخ الذين يمكنهم أن يمثلوا أدوار أنفسهم بعد موتهم هم، على سبيل لمثال، ڨلادمير لِنِن (من اليسير على المرء أن يتخيل حوارا بين بِنتام ولِنِن عن الأنطولوجيا، مثلا، يسخران فيه من باركلي واعتقاده في عدم وجود المادة، حيث ينقل بِنتام، على الأرجح، من كتابه جزء في الأنطولوجيا[34] وينقل لِنِن من كتابه المادية والنقد التجريبي[35])، و[الشيوعي الڨِتنامي] هُو تشي منْه، وماو تسي تونج، وكِم إل سونج، وقلة غيرهم. فمثل بِنتام، حولت جثث هؤلاء الرجال جميعهم إلى أيقونات ذاتية، وبذلك ظلوا يمثلون أنفسهم حتى بعد مماتهم. بل يجوز القول أنهم، من وجه بعينه، يمثلون أنفسهم على نحو أتم من تمثيل بِنتام لنفسه: فعلى خلاف أيقونة بِنتام الذاتية، جثثهم المحنطة هي بلا شك «أحسن من تمثال». لكن بالرغم من أنهم جميعا عبارة عن «تماثيلهم» أو «أنصابهم»، إلا أنهم ليسوا أكثر من مجرد ذلك، ليسوا أكثر من أنصاب لأنفسهم. إنّ مأخذ بِنتام على هؤلاء المفكرين المحولين إلى أيقونات ذاتية هو أنهم جميعهم يمثلون أنفسهم، في العموم، كـأموات، أي كجثث: إنهم يبدون تماما كما كانوا يبدون وهم أحياء، لكنهم يرقدون كالأموات، بأعين مغلقة، بينما يجلس بِنتام معتدلا على كرسيه، بأعين (زجاجية) مفتوحة، وقبعة فوق رأسه، وعصا بين يديه، كما لو أنه قد جلس توا، أو كما لو أنه يهم بالقيام من على كرسيه ليشرع في الـ “antejentacular circumgyration”، أي في تمشيته الصباحية اليومية، أو باختصار، كما لو أنه حيّ يرزق. وبينما أيقونة بِنتام الذاتية مرنة من عند المفاصل (بل يمكن تفكيكها لو لزم الأمر)،[36] يستحيل تحريك جثث هؤلاء المفكرين المحنطة المتيبسة أو ردّها إلى الحياة ولو حتى على خشبة المسرح. ولذلك، في مسرح الأيقونات الذاتية، الذي يُردّ فيه الأموات إلى الحياة بعرض محاورات فيما بينهم، لا يمكن لكل من لِنِن أو هُو تشي منْه، أو ماو تسي تونج، أو كِم إل سونج أن يمثلوا أدوار أنفسهم إلا في ساعة موتهم. ولأنهم لا يمثلون أنفسهم إلا كموتى، لم تلغ جثثهم المحنطة «ضرورة التماثيل» ولم تحل في محلها، وإنما ألهمت ما لا يُحصى من التصاوير التي تمثلهم كأحياء، على الرغم من أنّ جثثهم، بحسب بِنتام، «أحسن من تمثال» بلا شك. لعل هؤلاء الآخرون قد «ساهموا [بجثثهم المحنطة] في تعزيز سعادة الأحياء» لكن بالرغم من ذلك لم «يُنتفع» بهم على أتم نحو. وذلك لأنهم يقدمون «إرشادا أخلاقيا-تشريحيا» (ص 7) لكنهم لا يؤدون أي غرض «مسرحي أو درامي». ولهذا، قد لا يكون الخير «المُحصّل» من حفظ جثثهم أرجح حقا من «الشر الواقع» (ص 1) بسببه، أي تكلفته. على سبيل المثال، حتى عهد قريب، وظّف مختبر ضريح لِنِن في موسكو ما يقرب من مئة عالم―علماء أنسجة وتشريح وكمياء حيوية وكمياء فزيائية وبصريات―يقومون على حفظ الجثة المحنطة ليل نهار، بواسطة مواد كميائية ومعدات تقدّر بملايين الدولارات.[37] في المقابل، لم تُرمم أيقونة بِنتام الذاتية إلا مرتين منذ سنة 1832: ولم يُفعل في المرتين سوى تنظيف وترقيع الثياب التي أبلتها العثة، واستبدال الحشو، وإضافة كيس من النفتالين مع حزمة من زهور اللاڨاندر كزيادة.[38]

والآن دعونا نستحضر، بإيجاز، معضلة نموذجية متعلقة بالجسد البشري الميت في فلسفة العصر الوسيط. بما أنّ الروح العاقلة هي[بحسب الأكويني تبعا لأرسطو] الصورة الجوهرية (substantial form) الوحيدة للجسد البشري [أي ما يجعل الجسد جسدا]، إذًا، بعد الموت، أي بعد انفصال الروح عن الجسد، لم يعد من الجائز وصف جسد المسيح بأنه جسده. وبما أنه لا يجوز وصف الجسد الميت على الصليب بأنه مطابق لجسد المسيح، إذًا هذا الجسد ليس أهلا للتعظيم.[39] لكن هذه المعضلة ليست بمعضلة عند شيخ النفعيين؛ فكما يقول باقتضاب: «أيقونة المرء هي نفسه» (ص 10). فبعد تحويله إلى أيقونة ذاتية، يكون «الجزء الذي لا يفسد نسبيا» من كتلة المادة التي يوجدها الموت مطابقا للجسد الحي ولذلك يكون أهلا للتعظيم (أو الاحتقار)، بحيث أن الواحد من الناس سيأخذ، أثناء حياته، الأحكام التي سيتلقاها بعد موته من غيره، بعين الاعتبار قبل العزم على فعل أي شيء: «ماذا سيُقال عن أيقونتي الذاتية في الآخرة؟» (ص 7). وهكذا سيضع الرأي العام الأيقونات الذاتية في الموضع اللائق بها، سواء في «معبد الشرف» أو في «معبد العار» (ص 6)، لكن لأنه لن يكون من الممكن دائما تعيين هذا الموضع اللائق على نحو قاطع لا لبس فيه، شفع بِنتام نسخته الدنيوية (العلمانية) هذه من الجنة والنار بـ«مطهر الأيقونات الذاتية» (ص 7)، أي المعبد الذي ستنتظر فيه الأيقونات الذاتية حتى يقضي الرأي العام عليها بحكم قاطع. لا تتضمن الأخروية النفعية التبشير باللذة أو النذير بالألم―فالأيقونات الذاتية ليست سوى هياكل عظمية «عديمة الحس»―ومع ذلك يرى بِنتام أنه من الممكن عن طريق تعريض الأيقونات الذاتية لعين الرأي العام الناقدة، تعزيز «الدوافع الأخلاقية والسياسية...في نطاقي النظر والعمل» (ص 7).

علاوة على ذلك، تنبأ بِنتام بأن أيقونته الذاتية ستصير مقدسة. والحق أن بِنتام لم يقل مقدسة وإنما قال «شبه-مقدسة» (ص 15). لكنه لم يُعرِض عن لفظ «مقدس» هنا إلا لأنه يرى أنه قد أضحى «عُرضة بشدة لإساءة الاستعمال بل ومُساء استعماله جدا بالفعل» (ص 15)، وليس لأنه يرى أن استعماله في هذا الصدد ضرب من المبالغة بأي حال من الأحوال. لكن كيف يُفترض لهذا التطويب المتوقع أن يقع؟ بمجرد ما أن تلقى مبادئ الأيقنة الذاتية قبولا عاما، ويشرع الناس، مقتفين لأثر بِنتام، في أيقنة موتاهم، ستثير الأيقونات الذاتية «فضولا شديدا» (ص 7) في نفوس الناس. مما سيحفزهم على القيام برحلات حج إلى «أيقونات الصالحين الذاتية»، أيقونات «المحسنين من الجنس البشري»، أي أيقونات أولئك الذين عاشوا حياتهم وفقا لمبدأ بِنتام الداعي إلى تحقيق أقصى قدر ممكن من السعادة لأكبر عدد ممكن من الناس. «وفي صمتها ستكون هذه الأيقونات الذاتية أبلغ من أفصح الوعاظ»؛ وستكون الموعظة التي تعظ به الحجاج هي: «اذهبوا واعملوا على شاكلتنا» (ص 7). وبذلك ستشيع الأعمال الصالحة، أي العمل وفقا لمبدأ السعادة القصوى البِنتامي.

وفي حين سيحج عوام الناس إلى أيقونات المحسنين، لن يحج إلى «الفيلسوف العجوز المحفوظ في مستودع آمن» إلا «أنصار مبدأ السعادة القصوى» (ص 15). أي أنّ أيقونة بِنتام لن تُعظّم إلا من قِبل أولئك الذين فهموا أنّ ما جعل أيقونات المحسنين أهلا للتعظيم في أعين عوام الناس هو اتباعهم في حياتهم لمبدأ بِنتام؛ أي من قِبل أولئك الذين تبينوا أنّ أول من وضع هذا المبدأ هو، ولهذا السبب تحديدا، خير المحسنين. وباختصار، مَن سيُعظّم أيقونة بِنتام هم أتباع المذهب النفعي.

في عين أتباع المذهب النفعي، أيقونة بِنتام الذاتية هي ما يجعل جميع الأيقونات الذاتية الأخرى أهلا للتعظيم. إنّ أيقونة بِنتام الذاتية لن تختلف عن أيقونات غيره من مشاهير الموتى، إذ لن تكون سوى «هيكل عظمي بلا إحساس لمخلوق بقدمين» (ص 7)، ومع ذلك، ستكون في عين أتباع المذهب النفعي الأيقونة الوحيدة الجديرة بمقام «أيقونة ذاتية شبه-مقدسة»، وذلك لأنها الأيقونة الذاتية الوحيدة التي ستكون أهلا للتعظيم بسبب الشخص الذي تمثله، أي الأيقونة الذاتية الوحيدة الخليقة بالتعظيم في حد ذاتها [لأن صاحبها هو أحسن المحسنين، هو الذي وضع مبدأ السعادة القصوى].

في وصيته الأخيره، أوصى بِنتام تلامذته بأن يحضروا، كُلّما اجتمعوا لإحياء ذكرى «مؤسس مذهب السعادة القصوى في الأخلاق والتشريع» معهم إلى غرفة الاجتماع الصندوق الذي يحوي أيقونته الذاتية.[40] في المذاهب الأخرى، جرت العادة على أن يخلف أي من الأتباع الكبار المؤسس بعد موته، لكن في المذهب النفعي، سيواصل بِنتام، في صورة أيقونة ذاتية، «ترأس» أتباعه «جسديا» (ص 5) حتى بعد موته:

لكن حينما يموت بِنتام (وإن كانت ذكراه لن تموت أبدا!)، مَن سيترأس ناديه؟ مَن سوى بِنتام نفسه؟ فعليه ستحط كل الأنظار، وإليه ستتوجه كل الألسنه (ص 5).

وبعد، إنّ ما نجده في كتاب الأيقونة الذاتية لبِنتام هو نقيض مانجده في النصف الثاني من الباب الخامس من كتاب الإتيقا لسبِنوزا. ففي ذلك الموضع تدبر سبِنوزا في «بقاء العقل بمعزل عن الجسد»،[41] وليس في بقاء الجسد بمعزل عن العقل، كما فعل بِنتام. بينما ينصب انتباه سبِنوزا على الجزء الأبدي من العقل البشري، ينصب انتباه بِنتام على الجزء الأبدي من الجسد البشري: يعتقد سبِنوزا «أنّ العقل البشري لا يمكن أن يفنى بالكلية مع الجسد، وإنما سيبقى شيء منه، شيء أبدي»،[42] بينما يعتقد بِنتام، بلا شك، أنّ شيئا يبقى من الجسد البشري بعد الموت، شيء «لا يفنى» (ص 12)، وهو «الجزء الذي لا يفسد نسبيا»، المحوّل إلى أيقونة ذاتية. ولهذا، لو جاز لنا أن نصف مشروع سبِنوزا في كتاب الإتيقا بأنه «خلاص دنيوي، بديل»،[43] للعقل، لجاز لنا أن نصف مشروع بِنتام بأنه بعث دنيوي، بديل، للجسد.

 

4.

يسوغ لنا القول أنّ نورمان باتس بطل فيلم سايكو لهتشِكوك هو أحد أصدق أنصار مبادئ الأيقنة الذاتية التي أرساها بِنتام. إنّ موقف نورمان من الأجساد الميتة لا يقل نفعية عن موقف بِنتام منها، فمثل الفيلسوف، يعتقد نورمان في «القدرات الحفظية للتحنيط»،[44] كما نقرأ في الرواية [التي بُني عليها الفيلم]. لم يترك نورمان جثة أمه للتحلل والفساد وإنما نبش قبرها وأخرج جثتها وحنّطها وحفظها لتكون أكمل ممثل لها. وكطيوره المحنطة―غربان وبوم―أصبحت أمّ نورمان بعد موتها «صورتها» أو «تمثالها». والحق يُقال، تبدو أيقونة السيدة باتس الذاتية التي جمّعها ابنها نورمان أقل حياة من أيقونة بِنتام الذاتية، لكن علينا ألا ننسى أنّ مظهر أيقونة بِنتام النابض بالحياة يرجع إلى أنّ رأس بِنتام المُشرّحة قد استُبدلت لاحقا، كما أسلفنا، بنسخة شمعية رُكبتّ فيها عينان زجاجيتان. لقد كانت العيون الصناعية التنازل الوحيد الذي قبِل به بِنتام ضمن مبادئه الصارمة للأيقنة الذاتية؛ أي أنّ العضو الوحيد من جسده الذي لم يُصرّ على أن يُحفظ بعد الموت في أيقونته هو عينيه. وعوضا عن ذلك، كان بحوزة بِنتام زوج من العيون الزجاجية على نفس لون عينيه، صُنع من أجله قبل موته بعشرين سنة، لكي يزين به لاحقا رأسه المُشرَّح، اعتاد على أن يحمله معه في جيبه ليريه لأصحابه.[45] (وبالمثل، أورد زبارسكي أنّ عينين صناعيتين قد ركبتا في رأس لِنِن المحنطة).[46] في المقابل، أبقى نورمان باتس رأس أمه المجففة متصلة بجسدها وترك محجري عينيها خاويين، عوضا عن أنّ يخون مبادئ الأيقنة الذاتية [بوضع عينين زجاجيتين فيهما]. وهكذا، لم تعد السيدة باتس، في صورة أيقونة ذاتية، تشبه نفسها، إلا أنها وعلى الرغم من ذلك تمثل نفسها، في نظر ابنها نورمان، على نحو أكمل من تمثيل بِنتام ولِنِن لنفسيهما.  

Photo 5972196491340661260 Y

نورما باتس، فيلم سايكو.

 

وكذلك لم يترك نورمان جثتي ضحيتيه الآخرتين، ماريون والمحقق أربوجاست، ليتحللا ويفسدا، وإنما ألقاهما في المستنقع، حيث تظل الجثث محفوظة بقدر أو بآخر لفترات طويلة من الزمن (كما سلف ونقلنا، ذكر بِنتام أنّ المستنقعات من الأماكن التي يُعرف أنّ الجثث تحفظ فيها).[47] ولذلك، حتى إذا أخرجا إلى العلن بعد موتهما بسنين عددا، سيظل أربوجاست وماريون يمثلان أنفسهما على نحو لا يقل عن تمثيل السيدة باتس لنفسها. بل لأنهما قد تحولا إلى أيقونتين ذاتيتين بطريقة طبيعية، من المحتمل أن يكون مظهر جسديهما أشد نبضا بالحياة من جسد السيدة باتس المحنط. وهكذا نجد أن نورمان باتس لا يزال يجري تجارب في فن الأيقنة الذاتية.

يُظهر نورمان موقفا نفعيا حيال الأجساد الميتة، بل إنه يظهره أيضا حيال التحنيط نفسه، أي حيال العملية التي يُجعل الأموات بواسطتها نافعين للأحياء. فكما قال [مخاطبا ماريون]: «تحنيط الأشياء» هواية رخيصة الكلفة: «إنه ليس مكلفا كما قد تظنين. إنه رخيص حقا. إذ لا يتطلب، كما تعلمين، سوى إبر وخيوط ونشارة خشب. وحدها الكيماويات ما يكلّف...».[48] بتحنيط جثثهم، ينتفع نورمان بالأموات بتكلفة زهيدة، وفوق ذلك، التحنيط عنده «أكثر من مجرد هواية»: فالناس ينشغلون بالهوايات لـ«تزجية الوقت»، بينما ينشغل نورمان باتس بتحنيط الأشياء لـ«ملئ الوقت».[49] وهكذا، نجد أنّ نورمان ينتفع بالأموات حتى قبل أن يصير تحصيل «منفعتهم الإضافية» أمرا ممكنا: فـ«تحنيط الأشياء» هو بحد ذاته ما يهبه إحساسا بالتحقق الشخصي، ما يشبعه ويرضيه. وباختصار، إنه يعيش من أجل تحنيط الأموات.

لا ينبني موقف نورمان العملي (البرجماتي) حيال الأجساد الميتة على المذهب النفعي فحسب [بِتنام] وإنما على سلفه المباشر [قتلة إدنبره] كذلك. إذ أنه لم يترك موت الأجساد، التي سيحصّل منها لاحقا «منفعة إضافية» لمحض الصدفة، وإنما أخذه على عاتقه، فالأجساد التي يحنطها ويحولها إلى أيقونات ذاتية هي أجساد ضحاياه. فالغربان والبوم المحنطة لم تمت من جراء أسباب طبيعية على الأرجح وإنما قُتلت ولابد، مثل السيدة باتس. وبذلك، يشبه نورمان في نفعيته منفلتة العقال القاتلين الشهيرين وليام بورك ووليام هير، اللذان قتلا الناس حتى تُستخدم جثثهم لأغراض نفعية، أي لتعليم التشريح الطبي. لكن بينما استُعمِلت جثث ضحايا بورك وهير في غرض بِنتام «المؤقت» أي الغرض «التشريحي أو التحليلي»، استُعمِلت جثث ضحايا نورمان―أمه والغربان والبوم―في غرض بنتام «الدائم» أي الغرض «الحفظي أو التمثالي». بعدما ألقي القبض أخيرا على وليام بورك، حكم عليه بأن يُشنق وتُشرّح جثته على رؤوس الأشهاد؛ أي أنّ الذي راح يقتل الناس لغايات نفعية، قد قُتِل هو نفسه واستُعملت جثته لتقديم «منفعة إضافية إلى الأحياء». بل إنّ جثة بورك لم تُستعمل في أغراض «مؤقتة» فحسب وإنما في أغراض «دائمة» أيضا: إذ قضى قاضي القضاة بأن يُعاد تجميع هيكل بورك بعد شنقه وتشريح جثته وأن يُحفظ للتذكير بجرائمه الفظيعة.[50] وهكذا لا يزال من الممكن رؤية وليام بورك اليوم معروضا في متحف جامعة إدنبره. فحتى اليوم لا يزال بورك يمثّل نفسه، حتى اليوم لا يزال «صورته»، أيقونته. أليس هذا العقاب التمثيلي هو عين العقاب الذي قضى بها هتشِكوك، في فيلم سايكو، على نورمان باتس بأن أظهره في خاتمة الفيلم جالسا ساكنا على كرسي يحدق في الفراغ، على نحو مشابه، إلى حد غريب، لأيقونتي أمه وبِنتام؟ ألا يبدو إذًا كما لو أنّ نورمان قد حُنِّط وهو حي، بما أنه منذ هذه اللحظة لم يعد قادرا على فعل أي شيء سوى تمثيل نفسه؟ والحال أنّ نورمان نفسه قد تبين ذلك في نهاية المطاف، إذ قرر، في الرواية، ناطقا بصوت أمه، أنّ أحسن ما يمكنه فعله هو أن يتظاهر بأنه «شخص مُحنّط»―«شخص مُحنّط وديع ومسالم لا يمكن أن يؤذِي أو أن يؤذَى وإنما أن يوجد فحسب إلى الأبد».[51] ألا يُعدّ نورمان إذًا، بجسده المقضي عليه بأن يكون عبرة للمعتبرين، «منفعة إضافية يقدمها الميت إلى الحي»، حتى قبل موته؟  

 

     33

 نورمان باتس (أنطوني بِركنز)، خاتمة فيلم سايكو.    

 

وأخيرا، استعمل نورمان جسد أمه المحنظ، أيقونتها الذاتية، في «غرضه المسرحي أو الدرامي» أيضا. فكما رأينا، تمنى بِنتام لو أن تُعرض أحاديثه الفردية (مونولوجاته) الفلسفية بعد مماته في شكل محاورات بينه وبين العديد من المفكرين المرموقين الذين سبقوه إلى الموت. وتحديدا لكي يتمكن من أن يمثل دور نفسه في «محاورات الموتى» هذه، طلب بِنتام تحويل جسده إلى أيقونة ذاتية. لم تُجرى هذه المحاورات بالطبع، ويرجع ذلك في المقام الأول إلى أنه باستثناء جسد بِنتام لم تُحفظ أجساد أولئك الذين تمنى أن يحاورهم بعد موته. في المقابل، حقق نورمان باتس أخيولة (fantasy) مسرح الأيقونات الذاتية التي تخيلها بِنتام: فحواراته المتخيلة لا تجري في رأسه فحسب، أي في شكل محاداثات متخيلة أو مناجاة. وإنما تُمثَّل في شكل حوارات بينه وبين أمه الميتة، التي تمثل دور نفسها في مسرحه الصغير، بينما يحرك نورمان جسدها (أو أيقونتها الذاتية) ويعيره صوته. لو قيض لنورمان باتس أن يكتب بيانا (مانِفِستو) لمسرح الأيقونات الذاتية البِنتامي فستكون هذه هي جملته الافتتاحية بلا شك: "أي ممثل يمكنه أن يؤدي دور أمي أحسن من أمي نفسها في صورة أيقونة ذاتية؟"

 

5.

 المبدأ الأساسي للأيقنة الذاتية عند بِنتام―وهو: لا شيء يشبه شيئا أكثر مما يشبه هذا الشيء نفسه، لذا ينبغي لكل شيء أن يمثل نفسه―مستمد، في نهاية المطاف، من مبدأ تساوي أو تطابق المتشابهين تشابها تاما (the identity of indiscernibles) عند لايبنتز (ت. 1716). فبحسب لايبنتز، لا يوجد في الطبيعة شيئان متشابهان تشابه تاما. ولو تشابه شيئان تشابها تاما، لكانا متساويان عدديا أيضا، أي نفس الشيء، شيئا واحدا؛ فشيئين متشابهين لدرجة أنه لا يمكن التمييز بينهما ليسا، في واقع الأمر، سوى «شيئ واحد له اسمين».[52]

 

لكن لو نظرنا إلى المسألة من منظور لاكاني لوجدنا أن عكس ذلك هو الصحيح. تحكي نكتة عنصرية قديمة أنّ غجريا عُرض على طبيب نفسي. فشرح الطبيب له معنى التداعي الحر هكذا: سأقول لك كلمة فترد عليّ بما يخطر على بالك فور سماعها. ثم بدأ الطبيب قائلا: «طاولة»، فردّ الغجري قائلا: «نكح فاطمة»؛ ثم قال الطبيب «سماء»، فردّ الغجري قائلا: «نكح فاطمة» مرة أخرى، وهكذا راح يرد بنفس الرد على كل كلمة يقولها الطبيب الذي انفجر غضبا في نهاية المطاف وقال له: «لكنك لم تفهمني! عليك أن ترد علي بما يتبادر إلى عقلك، بما تفكر فيه، عندما أقول كلمتي!» فأجابه الغجري بهدوء قائلا: «أجل، لقد فهمتك بالطبع، فأنا لست غبيا إلى هذا الحد، لكنني أفكر طوال الوقت في نكح فاطمة!». وعلينا أن نشفع هذه النكتة العنصرية بنكتة أخرى شهيرة تحكي عن طالب كلما سأله مدرس الأحياء عن شتى الحيوانات ردّ عليه بجواب يدور حول تعريف الحصان. فعندما سأله، على سبيل المثال، «ما الفيل؟»، أجابه قائلا: «حيوان يعيش في الغابة حيث لا توجد أحصنة. فالحصان من الثديات المستأنسة، له أربعة أرجل، يُستعمل في الركوب أو العمل في الحقول أو جر العربات.» وعندما سأله: «ما السمكة؟» أجابه قائلا: «حيوان ليس له أرجل كالحصان. فالحصان من الثديات المستأنسه...» وعلى سؤال: «ما الكلب؟» أجاب: «حيوان ينبح على خلاف الحصان. فالحصان من الثديات المستأنسة...». وهكذا، إلى أن بلغ اليأس بالمدرس مبلغه وسأله: «حسنا، ما الحصان؟» فأسقِط الطالب في يديه، وبهت، وراح يغمغم ويبكي عاجزا عن الجواب. وعلى نفس المنوال، لو أنّ الطبيب النفسي قال للغجري الشبِق: «نكح فاطمة»، لسقط الغجري المسكين في يديه، بلا شك، ولبهت مزعورا، عاجزا عن الردّ.

لماذا سيكون هذا هو الحال؟ لأن―وعلى النقيض من مبدأ الأيقنة الذاتية عند بِنتام الذي ينص على أنّ الشيء هو أيقونته، أي يشبه نفسه―الحصان هو حصان، إنه لا يبدو كحصان ولا يشبهه، كما أنّ «نكح فاطمة» هو «نكح فاطمة» وليس مجرد تداعي فكري ناتج عن سماع عبارة «نكح فاطمة». (نجد مثيل بنيوي لهذا عند القبيلة التي أتى كلود ليڨي شتراوس على ذكرها، التي يعتقد جميع أفرادها أنّ جميع الأحلام ذات دلالة جنسية خفية إلا الأحلام ذات المضمون الجنسي الصريح).[53] أو بعبارة فلسفية، ما نجده هنا هو نقيض مبدأ تساوي أو تطابق المتشابهين تشابها تاما عند لايبنتز. إنّ المنطق اللاكاني لعمل الدوال اللغوية يعلمنا هذا الدرس المناقض للابينتز: لأن الشيء لا «يبدو كنفسه» ولا يشبهها، تشابه شيئين لا يفيد تطابقهما وإنما اختلافهما.[54] وهذه المفارقة هي ما يفسر الأثر المقلق لملاقاة المرء لقرينه: كلما بدا شبهي كلما تجلت آخريته عني، كلما اتسعت في عيني الهوة بيني وبينه. ووفقا لهذا المنطق عينه، قال الشخص الذي أدى هنري فوندا دوره في فيلم The Lady Eve (1941) لمّا رأي نفس المرأة مرة ثانية (تتظاهر بأنها امرأة أخرى لكنها تبدو تماما كما رأها أول مرة): «إنهما متشابهتان للغاية بحيث لا يمكن أن تكونا نفس المرأة!» أي أنّ ما يميز بين المرأتين في عينه هو أنهما غير متمايزتين: إنهما تشبهان بعضهما بعضا لدرجة تمنع من أن تكونا نفس المرأة. ووفقا لهذا المنطق عينه أيضا تدبر جروتشو ماركس في هوية إيمانويل راڨلّي في فيلم Animal crackers (1930(: عندما علم أنّ الشخص الذي يبدو «تماما مثل» إيمانويل راڨلّي هو إيمانويل راڨلّي بلحمه ودمه في واقع الأمر، احتج، على الرغم من ذلك، قائلا: «لكنني لا زلت مصرّا على أنه يشبهه». لأن إيمانويل راڨلّي يشبه نفسه تماما يرفض جروتشو أن يصدق أنه إيمانويل راڨلّي حقا: كيف يمكن لهذا الشخص أن يكون إيمانويل راڨلّي على الرغم من أنه يبدو «مثله تماما»؟ وفقا لهذا المنطق، يبدو أنّ الشخص لا يمكنه أن يذكرنا بنفسه أو لا يمكننا أن نتعرف عليه بشكل قاطع إلا إذا كان هو نفسه لا يذكرنا بنفسه على الرغم من أنّ كل شيء فيه يذكرنا به. وعلى ذات النحو، تذكر جروتشو ماركس، في المشهد الافتتاحي من فيلم A Night at the Opera (1935)، مارجرت ديمو: «عينيكِ، رقبتك، شفتيكِ، كل شيء فيكِ يذكرني بكِ إلا أنتِ». أو بلغة هيجيلية: لا تنبني "وَحدة" شيء ما على خصائصة، وإنما على استبعادها، أي على علاقته السالبة (negative) بها. فما يضمن هوية الشيء لا يكمن في خصائصه لأنها ليست سوى علامة عليه في نهاية المطاف.[55]    

        

 

* Miran Božovič, “The Body And Psycho or of ‘Farther Uses of The Dead To The Living’”, Umber (a): a journal of the unconscious (2000), 81-98.

** فيلسوف سلوڨيني معاصر، من أعلام مدرسة ليوبليانا للتحليل النفسي.

[1] Jeremy Bentham, Auto-Icon; or, Farther Uses of the Dead to the Living. A Fragment. From the MSS. of Jeremy Bentham. (مخطوط غير منشور)

[2] Bentham, Auto-Icon, 2.  (سأعزو النقول التالية من هذا المصدر إلى رقم الصفحة في المتن)

[3] Leo Tolstoy, The Death of Ivan Ilyich, trans. Lynn Solotaroff (New York: Bantam, 1981), 44. وانظر صفحة 37 أيضا

[4]  المصدر نفسه، ص 93-94.

[5]  لفت فرويد النظر إلى هذا الموقف البشري من الموت: جحده، في رسالته عن الحرب والموت. [المترجم]

[6] Bentham, Auto-Icon, 1 تعليق المحقق

[7]  مستشهد به في:

Thomas Southwood Smith, A Lecture delivered over the remains of Jeremy Bentham (London: Effingham Wilson, 1832), 4.

[8] George Berkeley, A Treatise Concerning the Principles of Human Knowledge, ed. Jonathan Dancy (Oxford: Oxford University Press, 1998), 156.

[9] Berkeley to Samuel Johnson, 24 March, 1730, in Philosophical Works, ed. M. R. Ayers (London: Dent, 1992), 354.

[10] المصدر السابق، وانظر أيضا:

Berkeley, A Treatise Concerning the Principles of Human Knowledge, 138.

[11] لشرح مفصّل لنظرية باركلي عن الزمن انظر:

Ian C. Tipton, Berkeley: The Philosophy of Immaterialism (London: Methuen, 1974), 271-96; George Pitcher, Berkeley (London: Routledge and Kegan Paul, 1977), 206-11; A. C. Grayling, Berkeley: The Central Arguments (London: Duckworth, 1986), 174-83; David Berman, George Berkeley: Idealism and the Man (Oxford: Clarendon Press, 1994), 61-70; and E. J. Furlong, “On Being ‘Embrangled’ by Time,” in Berkeley: Critical and Interpretative Essays, ed. Colin M. Turbayne (Minneapolis: University of Minnesota Press, 1982), 148-55.

[12] Berkeley, Philosophical Commentaries, in Philosophical Works, 308.

[13] انظر:

“Some Original Memoirs of the late famous Bishop of Cloyne,” in Works of Oliver Goldsmith, ed. A Friedman (Oxford: Clarendon Press, 1966), vol. III, 35.

مستشهد به في: 
David Berman, Berkeley: Experimental Philosophy (London: Phoenix, 1997), 38.

 

[14] Nicolas Malebranche, Entretiens sur la mort, in Oeuvres completes de Malebranche, ed. Andre Robinet (Paris: J. Vrin, 1972-84), vol. XII-XIII, 410.

[15] المصدر نفسه، ص 405.

[16]  المصدر نفسه، ص 409 وما بعدها.

[17]  بالمناسبة، طبقا لقصة مشكوك في صحتها―استشهد بها توماس دِكوينسي (ت. 1859) في مقالته الألمعية القتل باعتباره أحد الفنون الجميلة―يُفترض أنّ باركلي هو من تسبب في موت مالبرانش. عندما زار باركلي الفيلسوف الشهير في باريس وجده يطبخ في صومعته، فنشب بينهما نزاع حول فلسفة الأخير. وحث باركلي الفيلسوف الفرنسي على أن يرتد عن مذهبه المناسبي في السببية لكنه استمسك به بعناد: وبذلك «اجتمعت المهيجات المطبخية والميتافيزيقية على كبد مالبرانش فأفسدته: فآوى إلى فراشه ومات». وهكذا يمكن اعتبار باركلي «سبب عارض، مناسبة، لموت مالبرانش»، انظر:

Thomas DeQuincy, On Murder Considered as One of the Fine Arts & On War [London: The Doppler Press, 1980], 19.

وللمزيد عن ذلك انظر:

A. Luce, Berkeley and Malebranche: A Study in the Origins of Berkeley’s Thought (Oxford: Oxford University Press, 1967), 208-10.

[يمكن اختزال مذهب المناسبة في هذه العبارة التوحيدية: لا سبب إلا الله؛ وحده الله السبب المؤثر بحق أما بقية الأسباب فليست سوى "مناسبات" لإنفاذ تأثير الله. وللمزيد انظر: مِران بُجوڨِتش، "عصيان الجسد أو الفلسفة في جنة عدن"، ترجمة طارق عثمان، موقع مزيج، ديسمبر، 2023.]

[18] Bentham, “A Fragment on Ontology,” in The Works of Jeremy Bentham, ed. John Bowring (Edinburgh, 1838-43), vol. VIII, note 196.

[19] Entretiens sur la mort

[20] Ruth Richardson, Death, Dissection and the Destitute (London: Routledge & Kegan Paul, 1987), 34.

[21]  مستشهد به في المرجع السابق، ص 37.

[22]  انظر المرجع نفسه، ص 58-59.

[23]  صنع عدد من الأفلام السينمائية عن بورك وهير: Burke & Hare  (1972)، و The Doctor and the Devils (1985)، وBurke & Hare  (2010). [المترجم]

[24] Bentham MSS. Box 155, UC Library, in C. F. A. Marmoy, “The ‘Auto-Icon’ of Jeremy Bentham at University College London,” Medical History 2 (1958): 80.

[25] Ruth Richardson and Brian Hurwitz, “Jeremy Bentham’s self-image: an exemplary bequest for dissection,” British Medical Journal 295 (July 1987): 195.

[26] Bentham MSS. Box 155, UC Library; in Marmoy, “The ‘Auto-Icon’ of Jeremy Bentham,” 80.

[27] Marmoy, “The ‘Auto-Icon’ of Jeremy Bentham,” 85.

[28] John Bowring, Autobiographical Recollections (London: H. S. King, 1877), 343; in Marmoy, “The ‘Auto- Icon’ of Jeremy Bentham,” 78.

[29] Bentham, Auto-Icon, 3.

[30] المصدر نفسه، ص 14-15.

[31]  نفسه، ص 13.

[32] نفسه، ص 14-15.

[33]  في أنطولوجيا بِنتام تنقسم الموجودات إلى حقيقية (real) ووهمية (fictitious)، وينقسم كل صنف منهما إلى صنفين، محسوس (perceptible) ومستنبَط (inferential). وبذلك تنقسم الموجودات إلى أربعة أصناف: حقيقي مستنبط، حقيقي محسوس، وهمي مستنبط، وهمي محسوس. والموجود المستنبط هو الذي لا تشهد الحواس على وجوده، وإنما "يُستنبط" وجوده عن طريق الاستدلال العقلي. ويقابله الموجود المحسوس، الذي تشهد الحواس على وجوده. [المترجم]

[34] Fragment on Ontology

[35] Materialism and Empirio-Criticism

[36] Ruth Richardson and Brian Hurwitz, “Jeremy Bentham’s self image,” 197.

[37] Ilya Zbarsky and Samuel Hutchinson, Lenin’s Embalmers, trans. Barbara Bray (London: The Harvill Press, 1998), 181.

[38] Ruth Richardson and Brian Hurwitz, “Jeremy Bentham’s self image,” 197.

[39]  لعرض للنقاش حول هذه المسألة انظر:

Anthony Kenny, Aquinas (Oxford: Oxford University Press, 1980), 47.

ولحل ألمعي لها انظر:

Meister Eckhart, Did the Forms of the Elements Remain in the Body of Christ while Dying on the Cross? in Parisian Questions and Prologues, trans. Armand A. Maurer (Toronto: Pontifical Institute of Mediaeval Studies, 1974), 71-75.

[40]  لنص وصية بِنتام الأخيرة انظر:

Marmoy, “The ‘Auto-Icon’ of Jeremy Bentham,” 80.

[41] Spinoza, Ethics, in The Collected Works of Spinoza, trans. Edwin Curley (Princeton: Princeton University Press, 1988), 606.

[42]  المصدر نفسه، ص 607.

[43] Yirmiyahu Yovel, Spinoza and Other Heretics (Princeton: Princeton University Press, 1989), 154.

[44] Robert Bloch, Psycho  (London: Bloomsbury, 1997), 149.

[45] Marmoy, “The ‘Auto-Icon’ of Jeremy Bentham,” note 84.

[46] Zbarsky and Hutchinson, Lenin’s Embalmers, 85.

[47] Bentham, Auto-Icon, 1.

[48] Richard J. Anobile, ed., Alfred Hitchcock’s Psycho (London: Pan Books, 1974), 78.

[49]  المرجع نفسه.

[50] Richardson, Death, Dissection and the Destitute, 143. See also 340, note 52.

[51] Bloch, Psycho, 152.

[52] Leibniz, Philosophical Writings, trans. Mary Morris and G. H. R. Parkinson (London: Dent, 1973), 216.

[53]  أي أن الأحلام الجنسية لا تكون أحلام جنسية إلا حينما لا تشبه نفسها، أي حينما يكون مضمونها غير جنسي. [المترجم]

[54]  الذات اللاكانية منشطرة على نفسها، ليست متطابقة مع نفسها، لا تشبه نفسها، وذلك لأنها ذات متكلمة؛ بدخول الإنسان في اللغة يغدو منشطرا، على غرار الدال المنشطر عن المدلول. [المترجم]

[55]  لا يكون الشيء نفسه، عند هيجل، إلا إذا تعلق بنقيضه، إلا إذا تخلى عن كل ما يجعله نفسه. لا تكون الذات نفسها إلا إذا تعلقت بآخرها، إلا إذا صارت آخرها. [المترجم]

التعليقات

أضف تعليقك

الكتاب

مران بيجوفيتش

مران بيجوفيتش

من مواليد 12 أغسطس 1957 هو فيلسوف ومحلل نفسي سلوفيني، مرتبط بمدرسة ليوبليانا للت…

المترجم

طارق عثمان

طارق عثمان

باحث ومترجم، ينصب اهتمامه بالفلسفة المعاصرة والتحليل النفسي، صدر له العديد من ال…

أوراق ودراسات ذات صلة

مشاهدة المزيد
دين الرأسمالية (لاهوت النقود)
  • بينيات

دين الرأسمالية (لاهوت النقود)

جسد الَّذين أنعم الله عليهم
  • بينيات

جسد الَّذين أنعم الله عليهم

يا علبة الصبر:  كيف تورث الأغنية حكمة الأيام؟!
  • لا هذا ولا ذاك

يا علبة الصبر: كيف تورث الأغنية حكمة الأيام؟!

فرانسوا توسكييز وثورة الطب النفسي
  • تخصصات

فرانسوا توسكييز وثورة الطب النفسي

ملفات تعريف الارتباط

نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط الخاصة بنا وملفات تعريف الارتباط الخاصة بالجهات الخارجية حتى نتمكن من عرض هذا الموقع وفهم كيفية استخدامه بشكل أفضل ، بهدف تحسين الخدمات التي نقدمها. إذا واصلت التصفح ، فإننا نعتبر أنك قبلت ملفات تعريف الارتباط.