"هل تدين حماس؟" هذا السؤال الذي تحول من أداة تحقيق يستخدمها الإعلام الغربي مع كل من يستضيفه من عرب أو مسلمين، إلى مادة تهكمية من الخطاب الغربي العنصري تجاه الفلسطينيين وتجاه حقهم في المقاومة، هذا التحول في التلقي والتعاطي مع الخطاب الغربي قد يشير إلى تحولٍ في مسار العولمة وتوحيد المعايير والأخلاقيات بداعي المشتركات الإنسانية الذي حاول الغرب الترويج له سنين طوال؛ نتيجة تغير عوامل نجاحه الواقعية.
فمنذ وقت طويل كان صوت العرب والمسلمين خافتاً، لا يسمعون إلا صوت إنتاج الغرب الثقافي ومعاييره الأخلاقية ودعواته إلى الحرية. لكن وسائل التواصل والانفتاح العالمي الذي وصل ذروته وأزال الحواجز واحدا تلو الآخر، جعل العرب وفي اللحظة المفصلية التي نحياها يرون أن هذه المعايير الأخلاقية التي روج لها الغرب لا تنطبق إلا على قضاياه هو، وأن الانفتاح الاقتصادي لم يستفد منه إلا هم، والقوة العسكرية ليست إلا وسيلة لفرض من يملكها رؤيته للأمور.
لكنهم مع ذلك اكتشفوا أن سعيهم سنوات طوال للتعلم والممارسة لم تضع هباء، ووجودهم في الغرب بعد التجريف المتعمد لبلدانهم الأصلية مجال مهم يمكن استغلاله، فقد أصبحوا يمتلكون مفاتيح القدرة على تحريك المشهد لأول مرة في صالحهم، وفي تحدٍ مباشر لأكبر ملاكه، بعددهم وعدتهم وإيمانهم ومظلومية فلسطين الحقيقية، هذه العوامل أدارت الدفة هذه المرة في صالحنا ولو قليلاً، فكيف تشكل مشهد الاشتباك هذا؟!
في العام 1945 كتب آرثر سي كلارك -صاحب الرواية التي صنع منها فيلم 2001: A Space Odyssey- على صفحات مجلة تسمى Wireless World محاولاً شرح فكرة القمر الصناعي الذي اخترع واستخدم لاحقا في البث التليفزيوني الفضائي: "إن خدمة البث الحقيقية... في جميع الأوقات وفي جميع أنحاء العالم ستكون مهمة لدرجة لا تقدر بثمن، إن لم نقل لا يمكن الاستغناء عنها في المجتمع العالمي الذي ستساهم في خلقه". صحيح أن الأقمار الصناعية إلى جانب التطورات التكنولوجية الأخرى أحدثت ثورة كبيرة في الإعلام والتواصل، لكن إلى أي مدى تحقق الجزء الأخير من كلام كلارك، أي الجزء المتعلق بـ "المجتمع العالمي"؟. 1
حمل النصف الثاني من القرن الخامس عشر الميلادي المفتاح الذي فتحت به أبواب التجارة والنقل بين أوروبا وغيرها من بلدان الشرق على مصراعيها بعد أن كان الأمر يتم بصعوبة وبكلفة باهظة، وهذا المفتاح كان اعتماد رأس الرجاء الصالح كطريق بحري للنقل والتجارة، بالإضافة إلى اكتشاف العالم الجديد وما كان يمثله من أمل في الغنى باستغلال موارده البكر، ويمكن اعتبار تلك الحقبة التاريخية أول مراحل العولمة حيث زادت منذ ذلك الحين قوة العلاقات الاقتصادية والثقافية بين الأمم،2 فالعولمة كما يقول الدكتور جلال أمين هي: "ازدياد العلاقات المتبادلة بين الأمم، سواء المتمثلة في تبادل السلع والخدمات، أو انتقال رؤوس الأموال، أو انتشار المعلومات والأفكار، أو في تأثر أمة بقيم وعادات غيرها من الأمم."3
وهي كذلك بحسب عالم الاجتماع أنتوني جيدنز: "العمليات التي تضفي الزخم والكثافة على العلاقات الاجتماعية المتبادلة المتداخلة. والتي لا تقتصر على تطور وتنامي الشبكات والنظم الاجتماعية والاقتصادية بمنأى عن اهتمامتنا المباشرة، بل إنها في الوقت نفسه ظاهرة محلية تؤثر فينا جميعا وفي حياتنا اليومية"4 وقد تغيرت صور وتجليات ظواهر العولمة بتتابع الأحداث التاريخية التي مرت بها البشرية منذ سنوات الاكتشافات الجغرافية وإن لم يكن مصطلح العولمة قد صك بعد، مرورا بسنوات الاستعمار التي أعادت تشكيل ثقافة المجتمعات، غير أن التدشين الفعلي للمصطلح كان بانهيار جدار برلين عام 1989 وهزيمة الشيوعية وتفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991.
وهزيمة الشيوعية أمام الرأسمالية يمكن أن تعتبر سببا لانتشار العولمة ونتيجة لها في نفس الوقت، حيث كانت تحمي الدول الشيوعية نفسها بجدران عالية تعزلها بدرجة أو أخرى وتحميها من التأثر بالنظم والثقافات المغايرة، هذه العزلة التي حاولت بها الدول أن تمنع شعوبها من الانجراف في تيار الثقافة الأمريكية والتي تزامنت مع تدهور الحال داخلها، كانت بالإضافة لأسباب أخرى متعلقة بالصراعات الدولية خلال الفترة المعروفة بالحرب الباردة ،كانت كلها في المحصلة أسبابا للانهيار والتسليم لقوة العولمة كما كانت أيضا بداية لسيادتها وتغييرها لطبيعة العالم فقد سقطت الاشتراكية كما يقول الدكتور جلال أمين بفعل مدافع التسويق لا مدافع الصواريخ. وتغيرت صورة العولمة منذ ذلك الحين من عولمة تقوم على انخفاض تكاليف النقل والسفر وسهولة التجارة، إلى عولمة تقوم على الكومبيوتر والأقمار الصناعية والإنترنت هذه التكنولوجيا التي استطاعت أن تنسج العالم معا بصورة أكثر إحكاماً.5
هذا العالم الذي أصبح مفتوحا على مصراعيه بفعل العولمة، أصبحت تُصَدَّر فيه ليس المنتجات المادية فقط لكن الثقافة أيضا بكل تجلياتها فنرى الأفلام السينمائية والمسلسلات الهوليودية تعرض في آلاف دور السينما حول العالم فبحسب تقرير لوزارة الخارجية الأميركية فإن أكثر من 50% من إيرادات "هوليوود" تأتي من مبيعات التذاكر خارج أميركا في دول العالم المختلفة6، ويتم مشاهداتها آلاف أخرى من المرات في البيوت على شبكة الإنترنت، وتُصَدَّر أيضا النظم الاجتماعية بمحاسنها ومثالبها، والتجارب السياسية، ومباديء الحريات المخترعة غربياً، وحتى المشكلات البيئية التي اجتاحت كوكبنا كله بسبب ممارسات الإنسان الجائرة وما الاحتباس الحراري عنا ببعيد.
تقوم الفكرة المركزية للعولمة على تقارب المجتمعات المختلفة وإزالة الحدود على التبادل بينها، أي أن تأخذ كل حضارة من الأخرى بهدف الارتقاء بالإنسانية أو هذا ما يفترض حدوثه -وفقاً للرواية الغربية-، ولكن الذي يحدث في الواقع هو نوع من القهر الثقافي حيث يُصدِّر الجانب الأقوى والأكثر تقدما وامتلاكا لأدوات العولمة حضارته ونموذجه الثقافي إلى المجتمعات الأخرى كنموذج وحيد للتقدم، فيصبح الغرب نموذجا للعالم أجمع يوضع دائما في المرتبة الأولى 7، ويمسي نمط الحياة الغربي هو النمط الواجب تعميمه، وروايته للأحداث هي الرواية الصادقة الوحيدة؛ وهذه العملية هي ما يسمى بالإمبريالية الثقافية.
ولعل أبرز معالم هذه الإمبريالية محاولة احتكار التعريفات، فالمقاومة في قاموسهم الإلزامي إرهاب، والقتل العمد لآلاف الأبرياء دفاع عن النفس، ودولة الاحتلال هي دولة لشعب مظلوم يجب الدفاع عنه، وبربريتهم واستعمارهم واستباحتهم لغيرهم هي محاولة لنشر الحضارة وتخليص الشعوب الأخرى من التخلف وإلحاقهم بركب التطور، ومحاولتهم فرض كل أنواع الشذوذ بالقوة والمساومة والعقاب هو دعم للحريات. لذا فمعركة التسمية الصحيحة للأشياء التي يخوضها الشباب العربي على منصات التواصل وعلى أرض الواقع حاليا هي واحدة من أهم المعارك كما تقول د. هبة رؤوف عزت "إن سياسات التسمية هي من أهم جبهات التحرر الفكري والاجتماعي والسياسي، لأن المفاهيم المغلوطة والتسميات الزور هي السجن الحقيقي الذي يعوق العقل ويحرمه من فهم العالم، ولذلك فإن كشف زيف المفاهيم… يغدو مهمة واجبة"8
ومع استمرار المعركة التي يحاول الاحتلال كسبها باستماتة على ساحة التسمية كما على ساحة الحرب، يوظف كل إمكانياته لترويج روايته للتاريخ والحاضر باستخدام الإعلام الغربي المنحاز له بالضرورة، ووسائل التواصل الاجتماعي التي يجند لها قوات موازية لقواته في جيشه الفعلي، يحاول بها اختلاق الأخبار وافتعال الصراعات وفرض رؤيته بالإغراء والمال مرة أو بالحجب والإخفاء من خلال القائمين على وسائل التواصل مرات. ومع تنبه الشباب العربي لأهمية هذه المعركة يحدث تحول تدريجي في تقديرنا لأنفسنا مع إعادة تقييمنا للقيم والمعايير الغربية، ونخرج من كوننا مغلوبين مولعين بالغالب أو خاضعين للنموذج المعرفي الغربي المهيمن إلى أنداد نعيد تعريف أنفسنا مع إعادة تعريف الآخر.
في خضم الحرب المستعرة ظهر موقفان على طرفي النقيض، كل منهما يتعامل مع الحقائق بشكل مختلف والتباين بينهما ينبؤك أن امتلاك القدرة على صياغة الخطاب تساعد على تشكيل الأفكار. أول النموذجين هو برنامج إعلامي بريطاني شهير يدعى بيرس مورجان والذي ساهم في ترويج روايات الاحتلال عن الحرب التي يخوضها حاليا على غزة، لكنه بدأ بعد الانتقادات الواسعة التي تعرض لها باستضافة ضيوف من العرب أو المسلمين أو المدافعين عن القضية الفلسطينية، وفي كل مرة كان يحاول انتزاع إدانة للمقاومة الفلسطينية من ضيفه، ثم حصر الحوار فيما بعد في المساحة الإنسانية. وانتزاع الاعتراف بإدانة حماس هنا ليس تحصيل حاصل، وإنما هو باستضافتهم يضمن اتساع رقعة المشاهدة لتشمل العرب والمسلمين، ويخلق سردية جديدة عن ضرورة التعايش الإنساني بعيداً عن الحق ومحاولة انتزاعه ومقابلة قوة الاحتلال بقوة المقاوم، ومع اتساع الإدانة للمقاومة من أهلها تُخلق سردية جديدة ولغة خطاب جديدة تصادر على الواقع وتعيد تشكيله.
أما النموذج الآخر المقابل فهو انتشار الخطاب القرآني بين عدد كبير من الشباب الغربي، فمع تصاعد الأحداث وانتشار الكلام عنها على برنامج التيك توك الذي يفضل استخدامه الجيل Z، أبدت فتاة أمريكية إعجابها بقوة إيمان وثبات أهل غزة، فأجابها أحد التعليقات أن مصدر إيمانهم هذا هو الإسلام وأن عليها قراءة القرآن، ومن هنا شرعت الفتاة في القراءة والحديث عن انبهارها مما أصبحت تعرفه، واتسعت دائرة الدعوة لهذه القراءة حتى شملت مئات إن لم يكن أكثر من الشباب غير المسلمين. وخرجت فيديوهات تتحدث عن اكتشافاتهم المعرفية من هذه القراءة وسخطهم على التضليل الذي كانوا يتعرضون له، بل إن المثير للأمر أنك قد تجد بعض التعليقات لشباب مسلمين يقولون أنهم يعيدون اكتشاف القرآن مع قراءة هؤلاء الغربيين له. فالخطاب القرآني يفتح أبوابا كانت مغلقة في عقول ونفوس هؤلاء الشباب ويعيد تعريف الحقائق، ولعلنا سنعيد استكشاف نتائج كل هذا مع نتائج الحرب الحقيقية التي يعيشها أهل غزة.
وقد أثبتت لنا هذه الحرب كسابقاتها أن العولمة الاقتصادية وتكنولوجيا الاتصالات الفاخرة لا تؤدي إلى توحيد القيم وخلق رؤية مشتركة للعالم، بل على العكس من ذلك تؤدي إلى تغييب الاختلافات لصالح اختيار واحد يفرضه الطرف الأقوى خدمة لمصالحه وإثباتاً لتفوقه. أو كما يقول توماس فريدمان الذي ينصح إسرائيل خوفا عليها من الضياع في أنفاق حماس 11 يقول: إنك لن تستطيع حل مشكلة في مجال معين بدون الإشارة إلى المجالات الأخرى فقد اختفت الحدود التقليدية بين السياسة والثقافة والتكنولوجيا والمال والأمن القومي وعلوم البيئة، وأصبح توضيح أي تفاعل في إحدى هذه المجالات يستوجب الإشارة إليها جميعا، وهذه التكاملية وهذا التداخل هو ما أنتجته العولمة 12، لذا فالإجابة عن سؤال "هل تدين حماس؟" ليست إجالة بريئة محايدة، بل قد تعكس رؤية مختلفة للواقع والحقيقة يسعى طرف لإجبار الجميع على الرضا بها تحت اسم العولمة أو الإنسانية المشتركة أو قيم الحضارة (إسرائيل) التي تقف في مواجهة البربية (فلسطين).
المصادر:
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط الخاصة بنا وملفات تعريف الارتباط الخاصة بالجهات الخارجية حتى نتمكن من عرض هذا الموقع وفهم كيفية استخدامه بشكل أفضل ، بهدف تحسين الخدمات التي نقدمها. إذا واصلت التصفح ، فإننا نعتبر أنك قبلت ملفات تعريف الارتباط.