هل ما ارتكبته القوات الإسرائيلية بحق فلسطين والفلسطينيين من 1948 إلى الآن "حكاية معقدة" لا يمكن للجانب الآخر فهمها كما تدعي القيادة الإسرائيلية؟ كل ما أرجوه أن يرجئ القارئ إجابة هذا السؤال إلى نهاية المقالة، وآمل أن يجد كل قارئ ما إن ينتهي من قراءة المقالة مسوِّغًا لجرأتي على القول بأن هذا السؤال يزداد تعقيدًا كلما نحيَّنا جانبًا نموذج التطهير العرقي في مقاربتنا لدراسة أو محاولة فهم الوضع الفلسطيني-الإسرائيلي من 1948 إلى الآن.
يقول المؤرخ الإسرائيلي 'إيلان بابه' في بداية كتابه 'التطهير العرقي في فلسطين': "إن مقاربة اعتماد نموذج التطهير العرقي أساساً مسلَّمًا به لرواية أحداث 1948 قد تبدو للبعض، من أول نظرة، بمثابة اتهام. وهي فعلًا كذلك، من نواح عديدة. إنني شخصياً أتهم السياسيين الذين خططوا، والجنرالات الذين نفذوا الخطة، بارتكاب جريمة تطهير عرقي. ومع ذلك، فإنني عندما أذكر أسماءهم لا أفعل ذلك لأنني أريد رؤيتهم يحاكمون بعد وفاتهم، وإنما كي أستحضر مرتكبي الجرائم والضحايا بصفتهم بشرًا، وكي أحول دون إرجاع الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل إلى عوامل زئبقية مثل (الظروف) أو (الجيش)، أو كما يقول موريس "في الحرب تجري الأمور كما في الحرب" وما شابه ذلك من تعابير غامضة تسمح للدول ذات السيادة بالإفلات من تبعات ما ترتكبه من جرائم، وللأفراد بالإفلات من قبضة العدالة. إني أتهم، لكني أيضاً جزء من المجتمع المدان في هذا الكتاب. وأشعر بأنني جزء من الحكاية، وأيضاً أتحمل مسؤولية عما جرى. وأنا، مثل كثيرين في المجتمع الذي أنتمي إليه، مقتنع- كما سيتضح في الصفحات الأخيرة من الكتاب- بأن مثل هذه الرحلة الضرورية إلى الماضي هو الوسيلة للتقدم إلى الأمام إذا أردنا أن نصل إلى مستقبل أفضل لنا جميعًا، فلسطينيين وإسرائيليين على السواء."[1]
أسعى في هذه المقالة إلى وضع لَبِنَةٍ أولى ينبني عليها كل تناول أو تفسير أو محاولة فهم: بيان أنَّ ما دُبِّر لفلسطين وما حدث فيها من أربعينيات القرن الماضي تنطبق عليه التعريفات المشهورة للتطهير العرقي وغيرها مما أمكن لي جمعه."
وغايتي من وراء ذلك أمران (وإن كانت المقالة تدعوني لأرجو ما هو أكثر، إلا أنني أخصُّ بالذكر هذين الأمرين ولا أتطرق لما هو أبعد منهما، ولا أتنازل عنهما إن كان لي أن أبتغي هذا):
أولهما (الهدف الصريح): أن يتضمن أي تناول للقضية الفلسطينية، دينيًّا كان أو سياسيًّا أو تاريخيًّا أو إيدولوجيًّا أو شعبيًّا أو ما إلى ذلك، نموذج التطهير العرقي- صراحة أو ضمنًا- باعتباره نموذجًا موصِّفًا وشارحًا ومفسِّرًا ومبيِّنًا للوضع الفلسطيني-الإسرائيلي. ولا أكون حالمًا إن قلت بضرورة الاستناد إليه؛ إذ لا وجود لمعالجةٍ حقَّةٍ بغيره، ولا سبيل إلى فهم الوضع بدونه، ولا سبيل إلى حل- لمن يدعي وجود حل أو يسعى إليه- دون تصدره الصورة.
ثانيهما (الهدف الضمني): بيان جناية ما يُرتكَب بحق الفلسطينيين بمحاولةِ- أيًّا كان مصدر المحاولة وغايتها- وصمهم بالتخلي عن وطنهم وأرضهم وممتلكاتهم أو بالانتقال الطوعي، والتنازل عن حقوقهم لأي هدف يسعى لإثباته من يدعي ذلك أو يصدقه.
أحجيتنا الآن أحجيتان في أحجية، كانت قديمًا أحجية واحدة، لكنها في اللحظة التي باتت أحجيتين، باتت أبسط مما كانت عليه. أهذه أحجية أخرى؟
كانت الصورة الأولى لأحجيتنا على النحو التالي: بعد كثيرٍ من جرائم التطهير العرقي والإبادات الجماعية، وبعد الهولوكست تحديدًا، صار عسيرًا- إن لم يكن مستحيلًا- أن تُخفيَ جرائم شنيعة وخاصة حين تُمارَس على جماعة بعينها وليست بالصغيرة. إلا أنه تيسَّر مواراة الحدث المصيري والأبرز في تاريخ فلسطين الحديث، وهو جريمة طرد الفلسطينيين من وطنهم سنة 1948، حدَّ إنكار الحدث وعدم الاعتراف به، بل والسعي إلى محوه التام من ذاكرة العامة ووعيهم.
وأتت الصورة الحديثة لأحجيتنا على النحو التالي: رغم ما يشهده العالم من ثورة في مجال المعلومات وغزارة وتنوع سبل التأريخ والنشر والتشارك، إلا أننا ما نزال نشهد تجاهل قضية الأحجية وتجاهل الاعتراف بها كحقيقة تاريخية، حتى وإن لم يقضِ هذا الاعتراف بشيء أو يغير المشهد المعاصر كثيرًا.
شهد التاريخ من قديم الزمان كثيرًا من حالات التطهير العرقي، لكن لم يُتوسَع في استعمال المفهوم إلا بدءًا من تسعينيات القرن الماضي. في مقالته 'تاريخ موجز للتطهير العرقي'[2]، يعود بنا أندرو بل-فيالكوف إلى سياسة إعادة الاستيطان التي انتهجها الملك الآشوري تجلات بلاسر الأول (745-727 ق.م)، ويرى أنها أول حالة تطهير عرقي وجدت في التاريخ. وقد رأى ذلك بناءً على التعريف الذي وضعه للتطهير العرقي:
"يمكن فهم التطهير العرقي، بالمعنى الأوسع، على أنه إجلاء/ طرد مجموعة سكانية من منطقة سكنية معينة على أساس من تمييز ديني أو عرقي أو لاعتبارات سياسية أو استراتيجية أو إيديولوجية أو مزيج من هؤلاء."
بعد ثلاثِ خططٍٍ عكست بشكل مبهم تفكير القيادة الصهيونية في كيفية التعامل مع العدد الكبير من الفلسطينيين القاطنين أرضًا لطالما اشتهتها الحركة القومية اليهودية لنفسها[3] (اخلع على هذا الصفة التي تريد من الصفات التي ذكرت في التعريف)، قضت الخطة الرابعة[4] (أو إن شئت قلت: النسخة الرابعة) المسماة 'الخطة دالِتْ' الأمر على نحو واضح وغير قابل للتأويل: يجب أن يرحل الفلسطينيين. وقد وُضعت اللمسات الأخيرة لهذه الخطة في العاشر من مارس عام 1948 في تل أبيب، وتحديدًا في البيت الأحمر، على يد مجموعة بلغ عددها أحد عشر رجلًا وقوامها قادة صهيونيون قدامى وضابطين عسكريين شابين. وشهدت الأراضي الفلسطينية بعدها تنفيذًا لهذه الخطة التي تفصح عنها الوثائق المتعلقة بهذا الاجتماع[5]، والتي لم يرتضِ واضعوها إلا غاية واحدة: تدمير المناطق الفلسطينية، الريفية منها والحضرية، والسيطرة اليهودية التامة على هذه المناطق[6].
يرى دريزون بيتروفيك في مقالته 'التطهير العرقي: سعي إلى المنهجية' أنَّ:
"التطهير العرقي هو سياسة محددة جيدًا لدى مجموعة معينة من الأشخاص تهدف إلى إزالة منهجية لمجموعة أُخرى عن أرض معينة، على أساس ديني أو عرقي أو قومي. وتتضمن هذه السياسة العنف، وغالبا ً ما تكون مرتبطة بعمليات عسكرية، ويتم تنفيذها بكل الوسائل الممكنة، من التمييز إلى الإبادة، وتنطوي على انتهاك لحقوق الإنسان والقانون الدولي... وتشكل أساليب التطهير العرقي، في معظمها، انتهاكًا صارخاً لاتفاقيات جنيف لسنة 1949 وللبروتوكولات الإضافية لسنة 1977."[7]
هل تذكر الخطة دالت؟ وتذكر أنها سُبقت بثلاث؟ أضف إليها المفاوضات الإسرائيلية مع حكومة الانتداب البريطاني والأمم المتحدة بشأن الاستيطان الإسرائيلي وقرارات تقسيم الأرض والدراسة الصهيونية المفصلة لقرى فلسطين وأهلها. ولم تكن المفاوضات أو الخطط أو الدراسات وتوقيتاتها وترتيبها وتنفيذها على هذا النحو إلا سعيًا إلى تنفيذ الخطة الأكبر: إزالة المجموعة الأخرى (الفلسطينيين) من فلسطين.
يناقش 'نور الدين مصالحه' في كتابه "طرد الفلسطينيين" المراحل التاريخية لتطور فكرة "ترحيل الفلسطينيين" أو ما يسمى بـ"الترانسفير"، وتطور الحلم (الأساس) أيًّا كانت طبيعته إلى خطة عملية وسياسة واقعة.
ربما كان يكفي أن نشير إلى ما جاء في الأوامر الصادرة وفقًا للخطة دالت "سوف تنتقلون إلى الحالة دالت من أجل التنفيذ العملي للخطة دالت. سيتم تحديد القرى التي يجب احتلالها وتطهيرها أو تدميرها، بالتشاور مع مستشاريكم في الشؤون العربية وضباط الاستخبارات."[8] لكننا نجد في دراسة توثيقية متقنة لـ'وليد الخالدي' في كتابه المترجم إلى العربية بعنوان 'كي لا ننسى' توثيقًا مفصَّلًا عمَّا حدث للقرى العربية وأهلها، ونجد أيضًا وقائع ودلائل تشير إلى محوٍ متعمد لهوية القرى ومعالمها البارزة. وحسبنا أن نشير إلى أنه وإن اختلفت تقريرات عدد القرى العربية المدمرة فإننا نستطيع القول- بالنظر إلى أدنى ما سجل من أعداد- أن ما لا يقل عن 369 قرية قد استولى عليها الجيش الإسرائيلي سواء بالقوة أو التهديد أو التفزيع أو خوف سكانها مما جرى للقرى المجاورة. ويفيد أحد التقارير المشهورة أن 531 قرية وإحدى عشر بلدة وضاحية من ضواحي المدن قد دُمِّرَت وطرد سكانها بناء على الأوامر المباشرة الصادرة عن الهيئة الاستشارية في مارس 1948، وأن ثلاثين قرية قد اختفت من الوجود قبل صدور هذه الأوامر.[9]
بل إن المرء أحيانًا ليفكر كثيرًا قبل أن يجد وصمًا واحدًا لما ارتكبه الجيش الإسرائيلي بحق فلسطين والفلسطينيين. ولو أراد المرء أن يطبق ما جرى على كل تعريف أو تنظير لجريمة من جرائم الحرب لوجد كثيرًا من الحالات تدعم تعريفه أو تنظيره. ولولا حرصي على حدودٍ حددتها لنفسي في المقالة لئلا يبتعد عن غايته ويذهب بقارئه بعيدًا عن فكرته الأساسية، وخشيتي أن تبتلعني أطراف القضية المترامية، لذكرتُ كل اتفاقية من اتفاقيات جنيف وكل بروتوكول من بروتوكولاتها الإضافية، وبرهنت على انتهاكها بحالةٍ على الأقل.
وفقًا للتقرير النهائي[10] للجنة الخبراء التي أنشأتها الأمم المتحدة في إطار قرار مجلس الأمن رقم 780، ذكرت اللجنة أن مصطلح "التطهير العرقي" مصطلح جديد نسبيًا وذكرت تعريفها القديم له باعتبار سياق الصراع فيما كان يعرف سابقًا بيوغوسلافيا:
"جعل مساحة من الأرض متجانسة عرقيًا باستعمال القوة أو التهديد والترويع لإجلاء أفراد أو جماعات معينة عن هذه المساحة."
ثم أكدت اللجنة ما رأت قبلًا بعد فحص تقارير ودراسات وتحقيقات معينة وارتأت أن التطهير العرقي هو:
"سياسة ذات أغراض تخطط لها مجموعة عرقية أو دينية لإجلاءٍ بوسائل عنيفة ومثيرة للذعر للسكان المدنيين المنتمين إلى مجموعة عرقية أو دينية أخرى من مناطق جغرافية معينة."
يلخص إيلان بابه في كتابه 'التطهير العرقي في فلسطين' مخططات ووقائع العام 1948 وما يمتد إلى ما قبله وما بعده:
"قبل مارس، كان من الممكن تصوير النشاطات التي قامت بها القيادة الصهيونية لتحقيق رؤيتها على أنها ردات فعل تأديبية على أعمال عدائية فلسطينية أو عربية. لكن بعد مارس، لم يعد الأمر كذلك؛ فقد أعلنت القيادة الصهيونية صراحة- قبل شهرين من نهاية الانتداب- أنها ستسعى للاستيلاء على البلد وطرد السكان الفلسطينيين بالقوة: الخطة دالِتْ."
وحتى قرار التقسيم المجحف الذي لم يراعِ الفلسطينيين ولا قارب حتى تمثيل واقع الأرض حينها لم يكن كافيًا للقيادة الصهيونية، ولا حتى ما اتُفق عليه بليلٍ[11]. ورأى بن-غوريون[12] أن هذه الحدود "ستحدد بالقوة لا بقرار التقسيم" وقد لخص بن-غوريون تفسير وغاية ما انتهى إليه بصورة واضحة تمامًا في خطاب له أمام كبار أعضاء حزب مباي (حزب عمال أرض إسرائيل) "هناك 40% من غير اليهود في المناطق المخصصة للدولة اليهودية. إن هذه التركيبة ليست أساسًا متينًا لدولة يهودية، ويجب أن نواجه هذا الواقع الجديد بكل قسوته ووضوحه. إن ميزانًا ديموغرافيًا كهذا يطرح علامة استفهام بشأن قدرتنا على المحافظة على سيادة يهودية. ولا يمكن لدولة (يهودية) أن تكون قابلة للحياة ومستقرة إلا حين يكون 80% من سكانها على الأقل يهود."[13]
خلال الهجوم على مدينة 'اللد'، دعت القوات الإسرائيلية صحافيين أمريكيين (ما يمكن أن نسميه اليوم المراسلين المدنيين) إلى مرافقتها. كان كيث ويلر من صحيفة 'شيكاغو صن تايمز' واحدًا منهما. وقد كتب "عمليًا، كل شيء في طريقها (القوات الإسرائيلية) أدركه الموت. وعلى جانبي الطريق، تقبع جثث مثقوبة بالرصاص." وكتب الآخر- كينيث بيلي من صحيفة 'نيويورك هيرالد تريبيون' أنه شاهد "جثث رجال ونساء، وحتى جثث أطفال، عرب متناثرة هنا وهناك إثر هجوم لا رحمة فيه."
"إذا امتدت الحرب إلى أمكنتكم، فستؤدي إلى طرد جماعي للقرويين وزوجاتهم وأطفالهم. ومن كان منكم لا يريد ملاقاة هذا المصير، أقول لهم: في هذه الحرب سيكون هناك قتل بلا شفقة، ولن تكون هناك رحمة. إذا لم تشاركوا في هذه الحرب، فلن تضطروا إلى ترك بيوتكم وقراكم." ما قرأته لتوِّك كان ما حوته منشورات تهديد وزعت في قرى سورية ولبنانية على حدود فلسطين لتحذير السكان. جرب أن تتخيل ما وقع على الفلسطينيين أنفسهم من تهديد.
يرى 'مايكل مان'[14] أن "التطهير العرقي هو طرد مجموعة عرقية من منطقة ما من قبل مجموعة عرقية مهيمنة في تلك المنطقة والتي تعتبر ذلك الإقليم خاصًّا بها."
في ديسمبر عام 2003، استحضر بنيامين نتنياهو إحصاءات بن–غوريون المزعجة قائلاً "إذا صار العرب يشكلون 40% من السكان، فإن هذا سيكون نهاية الدولة اليهودية. لكن نسبة 20% أيضاً مشكلة، وإذا صارت العلاقة بهؤلاء الـ 20% إشكالية، فإن للدولة الحق في اللجوء إلى إجراءات متطرفة."[15] لطالما استندت المفاوضات الإسرائيلية والإجحاف الإسرائيلي في طلب ما لا يتناسب مع الوجود الإسرائيلي واستخدام كل وسائل العنف الممكنة لتحقيق ما أرادته إسرائيل لنفسها إلى اعتبار فلسطين إقليمًا خاصًّا بها.
تعرِّف موسوعة 'هاتشينسون' (Hutchinson) التطهير العرقي على أنه:
"طرد بالقوة من أجل إيجاد تجانس عرقي في إقليم أو أرض يقطن فيها سكان من أعراق متعددة. وهدف الطرد هو ترحيل أكبر عدد ممكن من السكان، بكل الوسائل المتاحة لمرتكب الترحيل، بما في ذلك من وسائل غير عنيفة."
يحظى هذا التعريف أيضًا بقبول وزارة الخارجية الأمريكية له ويضيف خبراؤها أن جزءًا من التطهير العرقي هو اقتلاع تاريخ الإقليم المعني بكل الوسائل الممكنة. والطريقة الأكثر استخدامًا هي إخلاء الإقليم من السكان في سياق "أجواء تضفي شرعية على أعمال المعاقبة والانتقام." وتكون النتيجة النهائية لمثل هذا العمل خلق مشكلة لاجئين.[16]
لم تراعِ الأمم المتحدة التركيبة الإثنية في قرار تقسيم أرض فلسطين، بل إن نسبة 50% التي أقرتها أولًا لم تكن كافية للقيادة الإسرائيلية التي يبعد نسبة عدد رعاياها ومساحة الأرض التي يسكنونها عن هذه النسبة. بل إن القيادة الإسرائيلية قد طالبت لجنة الأمم المتحدة الخاصة بفلسطين بنسبة تصل إلى أكثر من 80% من مساحة الأرض. وقد وافقت الأمم المتحدة على منح دولة إيديولوجية لطالما أفصحت عن نوايا تطهير عرقي نسبة 56% من مساحة الأرض التي عبروا قبلًا عن رغبتهم في تطهيرها عرقيًا. لكن حتى هذه الوسيلة (غير العنيفة) لم تكن كافية لإسرائيل حتى لو وافق الفلسطينيون والعرب على هذه القسمة المجحفة. وكما يشير سمحا فلابان[17] "وحتى لو قرر العرب أو الفلسطينيون قبول قرار التقسيم، لكانت القيادة اليهودية بالتأكيد رفضت الخريطة التي قدمتها لها لجنة الأمم المتحدة الخاصة بفلسطين"[18] (قضت الخريطة التي اقترحتها الأمم المتحدة أن تقسم فلسطين إلى ثلاثة أجزاء: سيقيم 818,000 فلسطيني على 42% من الأرض دولة تضم 10,000 يهودي، بينما تمتد الدولة المقترحة لليهود إلى ما يقارب 56% من الأرض، ويتشاركها 499,000 يهودي و438,000 فلسطيني. أما الجزء الثالث فكان كيانًا صغيرًا يحيط بمدينة القدس، خاضعًا لحكم دولي، ونصف سكانه ال 200,000 من الفلسطينيين والنصف الآخر من اليهود. وقد أدخل قرار التقسيم أكثر الأراضي خصوبة ضمن حدود الدولة اليهودية المقترحة.[19])
والحقيقة إن ما أضافه خبراء وزارة الخارجية الأمريكية (اقتلاع تاريخ الإقليم المعني بكل الوسائل الممكنة جزء من التطهير العرقي) أمر على قدر بالغ من الأهمية. لكنها لم تلتفت، ويا للعجب، إلى سعي الإدارة الإسرائيلية بكل ما أوتيت من قوة إلى اقتلاع تاريخ فلسطين وأهلها. يقول أورين يفتحئيل[20]: "إن عملية المحو، على مدار عدة عقود، كانت وما زالت تدار من قبل أجهزة الدولة اليهودية، تلك التي تهدف لمحو ما تبقى من المجتمع العربي الذي عاش في البلاد حتى عام 1948، وإنكار الكارثة التي لحقت الأمة التي كانت تعيش هنا من قبل الصهيونية. المحو الذي جاء بعد أعمال العنف والترحيل والطرد وهدم القرى مرئي ويمكن لمسه في جميع الخطابات وفي الكتب والتاريخ الذي يرويه المجتمع الصهيوني حول ذاته، وكذلك في الخطاب السياسي ووسائل الإعلام والخرائط، والآن أيضا في أسماء المواقع والطرق والتقاطعات. ففلسطين الواقعة تحت اسرائيل التي تقوم على أنقاضها، تختفي من الواقع المادي والخطابي لليهود الإسرائيليين."[21]كانت إسرائيل تُسرِّع من عمليات هدم وتدمير البيوت والمعالم لتفادي عودة اللاجئين (لم تعد بيوتكم موجودة ولا القرى التي عشتم فيها قبلًا) وقد أكدت وزارة الأوقاف الفلسطينية أن القوات الإسرائيلية دمرت ما يزيد عن 1200 مسجد منذ عام 1948، وقد صرح روني كاسريلز[22] في خطاب له في الثلاثين من نوفمبر عام 2002 أن "ما يزيد على 700,000 شجرة زيتون وبرتقال دمرها الإسرائيليون. هذا عمل تخريبي محض من جانب دولة تدعي أنها حريصة على الحفاظ على البيئة. إنه عمل مروع ومشين."
بعد احتلال طويل، تاق الفلسطينيون إلى حياة طبيعية حتى في أسوأ الأزمان وأحلك الأوقات، وهو ما حرموا منه منذ سنة 1948، وهو ما بُلِّغت به الهيئة الاستشارية التي شكلها ورأسها وكثَّر عدد أفرادها فيما بعد بن-غوريون، وأزعجها بالغ الإزعاج؛ فقد كانوا ينتظرون فعلًا لإضفاء "شرعية" على ردات الفعل التأديبية المدمرة. الأمر الذي لم يدم طويلًا؛ فقد انزعج قادة كُثْر وعلى رأسهم بن غوريون ويغئيل يادين[23] من انتظار الهجوم الفلسطيني الضعيف المحدود أو فرصة للانتقام، وصرَّح كثيرون بهذا الانزعاج وطالبوا بالهجوم. ولعل ما يلخص هذا تشديد بن-غوريون على أن الوقت قد حان- حينئذ- لإلحاق أذى مصاحب، وشرح بنفسه هذا حين صرح "كل هجوم يجب أن ينتهي باحتلال ودمار وطرد".[24]
أما نقطة اللاجئين فيكفي في برهانها أن نشير إلى أنه في عام 1948، صار 85% من الفلسطينيين الذين كانوا يعيشون في المناطق التي أصبحت دولة إسرائيل لاجئين، وما أشارت إليه تقديرات أعداد اللاجئين والنازحين الفلسطينيين في بداية عام 2003، وقد تجاوز العدد المقدر 7 ملايين لاجئ ونازح فلسطيني.[25]
أليس منع أهل القرى المدمرة من العودة إلى ديارهم وترصدهم لقتل من يريد العودة فور رصده، ومنع الأغنياء القادرين على السفر خارج البلاد لحين تهدأ الأوضاع من العودة إلى ديارهم دليلًا بيِّنًا على نوايا التطهير العرقي أو صورًا من ممارساته؟
أشارت محكمة العدل الدولية فيما خلُصت إليه، باتباع منطق المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة في قضية ستاكيتش، إلى مفهوم التطهير العرقي الذي عرَّفته بأنه "جعل منطقةٍ ما متجانسةً عرقيًّا باستعمال القوة أو الترهيب لإبعاد أشخاص من طوائف معينة من المنطقة." وذكرت المحكمة أن التطهير العرقي لا يمكن أن يمثل شكل من أشكال الإبادة الجماعية إلا إذا اندرج ضمن واحدة من فئات أفعال الإبادة الجماعية. كما يجب أن تستوفي أفعال التطهير العرقي شرط النية المحددة (القصد الإجرامي) لارتكاب جريمة الإبادة الجماعية لكي تعتبر كذلك. وأشارت المحكمة أيضاً إلى رأيها الذي مؤداه أن "مصطلح 'التطهير العرقي' ليس له مغزى قانوني في حد ذاته" ويوضح هذا الاستنتاج معنى مصطلح التطهير العرقي وتبعيته للإبادة الجماعية والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية وجرائم الحرب.[26]
ورد في تقرير الأمم المتحدة المؤرخ 14 يونيو 1949 بشأن ما جرى من أعمال وحشية يراها البعض أسوأ ما ارتُكب خلال النكبة:
"السبب في ضآلة ما هو معروف عن هذه المجزرة، التي تفوق- من نواح كثيرة- في وحشيتها مجزرة دير ياسين، يرجع إلى أن الفيلق العربي (الجيش الذي كانت المنطقة تحت سيطرته) خشي- فيما لو ُسمح لأخبارها بالانتشار- أن تحدث التأثير نفسه الذي أحدثته مجزرة دير ياسين في معنويات الفلاحين، وأن تتسبب بموجة لجوء أُخرى."
ويمكن لأي أحد ببساطة أن يبحث عن تاريخ المجازر التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين وشهادات من شهدوا الأحداث المروعة فيما دون المجازر المسجلة من الفلسطينيين وغيرهم.
كان تقرير مجلة "لندن إيكونومست" واحدًا من أقل التقارير انحيازًا حينها. وصفت المجلة لقرائها في التقرير المشاهد المروعة عندما أُرغم السكان على الرحيل مشيًا بعد أن نُهبت بيوتهم، وقُتل أفراد من عائلاتهم، ودُمرت مدينتهم:
"اللاجئون العرب ُجردوا بشكل منظم من جميع أملاكهم قبل أن يُدفعوا إلى الرحيل في اتجاه الحدود. واضطروا إلى التخلي عن كل ما في بيوتهم ودكاكينهم وملابسهم."[27]
أنهي مقالي بما ابتدأته: لا فائدة تُرجى من أي محاولة لتناول القضية الفلسطينية، بحثًا أو دراسةً أو معالجةً لأي غرضٍ، لا تنطوي- صراحة أوضمنًا- على نموذج التطهير العرقي أو تسليمٍ به. إن إنكار ما وقع من 1948 إلى الآن وعدم الاعتراف به جريمةً (وعدم الاعتراف بمحوه عمدًا من الذاكرة وتشويه ووصم شعب بأكمله في سبيل ذلك جريمةً أخرى) سيقف حائلًا أمام أي محاولةٍ لإيجاد حل أو مباحثة هادفة.
وقد حاولتُ قدر الإمكان الوقوف على ما أمكن لي من تعريفات للتطهير العرقي والتدليل على كل جزء منها، وقد خلَّفتُ ورائي آكامًا من الشواهد والتقارير والدلائل. وإن ما يحدث الآن- وقت كتابتي هذه المقالة- في غزة لشاهد- من شواهد أعيتك إن حاولت لها حصرًا- على نوايا وممارسات التطهير العرقي، ومحاولات إنكاره بكل سبيل ممكن. وإن الكثيرين ليسوا بحاجة إلى كل هذه الشواهد؛ فقد كان حسبهم قرار الأمم المتحدة 47/80، 16 ديسمبر 1992:
"ترفض الأمم المتحدة بشدة أية سياسات أو أيديولوجيات تهدف إلى التشجيع على التطهير العرقي بأي شكل من الأشكال."
[1] 'التطهير العرقي في فلسطين'، إيلان بابه، ترجمة: أحمد خليفة. وهو الكتاب الذي أستعين به كثيرًا في المقالة، وقد ألهمتني قراءته لكتابة هذه المقالة. وإيلان بابه مؤرخ إسرائيلي بارز وناشط اشتراكي. وهو أستاذ بكلية العلوم الاجتماعية والدراسات الدولية بجامعة إكسيتير بالمملكة المتحدة، ومدير المركز الأوروبي للدراسات الفلسطينية بالجامعة، والمدير المشارك لمركز إكسيتر للدراسات العرقية والسياسية.
[2] Bell-Fialkoff, Andrew. “A Brief History of Ethnic Cleansing.” Foreign Affairs, vol. 72, no. 3, 1993, pp. 110–21.
[3] هكذا عبَّر المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابه في كتابه "التطهير العرقي في فلسطين".
[4] لمزيد من المعلومات والسياق التاريخي عن الخطط الأربع، انظر كتاب "التطهير العرقي في فلسطين" لإيلان بابه.
[5]الوثائق المتعلقة بالاجتماع ملخصة في:
IDF Archives, GHQ/Operations branch, 10 March 1948, File 922/75/595; Hagana Archives, 73/94.
وقدَّم يسرائيل غاليلي تقريراً عن الاجتماع في اجتماع للجنة مباي المركزية في 4 أبريل 1948، وهو موجود في: Hagana Archives, 80/50/18.
وفي شأن تفسيرات مشابهة للخطة دالت، انظر: Uri Ben-Eliezer, The Emergence of Israeli Militarism, 1936-1956, p. 253.
وفيما يتعلق بإرسال الأوامر، انظر: Pail, op. Cit., p.307; Gershon Rivlin and Elhanan Oren, The War of Independence: Ben Gurion's Diary, vol. 1, p. 147.
أما الأوامر التي أرسلت فموجودة في:
Hagana Archives 73/94, for each of the units orders to the brigades to move to Position D- Mazav Dalet - and from the brigade to the Battalions, 16 April 1948.
[6] كتب أوري بن إليازر في الكتاب المذكور أعلاه في الهامش (4): هدفت الخطة دالت إلى تطهير القرى وطرد العرب من المدن المختلطة.
[7] Drazen Petrovic, Ethnic Cleansing–An Attempt at Methodology, European Journal of International Law, 5/3 (1994), pp. 342-360.
[8] مقتبس من الأوامر الصادرة إلى لواء كرملي. انظر:
Zvi Sinai, ed., The Carmeli Brigade in the War of Independence, p. 29.
[9] كتاب 'التطهير العرقي في فلسطين'، إيلان بابه، ترجمة أحمد خليفة.
وقد ورد عدد القرى المدمرة (531 قرية) في تقرير للدكتور 'سلمان أبو ستة'.
[10] Final report of the United Nations commission of experts established pursuant to security council resolution 780, U.N. SCOR, Part III B, at 28, U.N.Doc.
[11] أي: الاتفاقات التي لم يعلن عنها، وبالطبع لم تعلم بها الأطراف الأخرى.
[12] كان رئيس إدارة الوكالة اليهودية، ورائد تحديد سياستها في مواضيع من قبيل: الصراع السياسي حول مستقبل أرض إسرائيل والاستيطان وحركة القدوم إلى البلاد. وكان مسؤول الشؤون الأمنية في التجمعات السكنية اليهودية في أرض إسرائيل.
[13] نُشر الخطاب كاملًا في كتابه:
David Ben-Gurion, In the Battle, pp. 255-72.
[14] Michael Mann, "Darkside of democracy Explaining Ethnic cleansing, Cambridge University press, 2005, P. 15.
[15] مقتبس من: Yediot Aharonot, 17 December 2003
[16] مقتبس من: كتاب التطهير العرقي في فلسطين، إيلان بابه، ترجمة: أحمد خليفة.
[17] مؤرخ وسياسي إسرائيلي، اشتهر بكتابه "ميلاد إسرائيل"، وأحد أوائل الإسرائيلين اليهود الذين تحدوا الرواية الصهيونية التقليدية لأحداث 1948.
[18] Flapan, The Birth of Israel, pp. 13-54.
[19] Plenary Meetings of the General Assembly, 126th Meeting, 28 November 1947, UN Official Record, vol. 2, pp. 1390-1400.
[20] أستاذ إسرائيلي للجغرافيا السياسية والقانونية والدراسات الحضرية والتخطيط العمراني بجامعة بن غوريون في نيجيف في بئر السبع.
[21] مقتبس من ترجمة منار مخول لتقديم أورين يفتحئيل لكتاب:
Erased from Space and Consciousness: Israel and the Depopulated Palestinian Villages of 1948, Noga Kadman.
[22] وزير شؤون المياه والغابات في جنوب أفريقيا من 1999-2004. وشغل منصب وزير في عدة وزارات أخرى.
[23] رئيس هيئة أركان الهاغاناه، ورئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي بعد 15 مايو 1948.
[24] Danin testimony for Bar-Zohar, p. 680, note 60
[25] Badil Resource Centre: Facts and Figures.
[26] القضية المتعلقة بـتطبيق اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها (قضية البوسنة والهرسك ضد صربيا والجبل الأسود)، القرار الصادر في ٢٦ فبراير 2007، الفقرات 187-190.
[27] كتاب 'التهجير العرقي في فلسطين'، إيلان بابه، ترجمة: أحمد خليفة.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط الخاصة بنا وملفات تعريف الارتباط الخاصة بالجهات الخارجية حتى نتمكن من عرض هذا الموقع وفهم كيفية استخدامه بشكل أفضل ، بهدف تحسين الخدمات التي نقدمها. إذا واصلت التصفح ، فإننا نعتبر أنك قبلت ملفات تعريف الارتباط.