يبلغ "جاي" 19 عاما ويعيش مع والديه، وهو لا يعمل ولا يدرس. يعترف بنفسه بسرعة انفعاله وقسوته مع والديه أغلب الوقت. أصبحت فكرته عن نفسه أنه شخص "مؤذِ" وخطير. يفقد أعصابه سريعًا، كما أنه ضرب والده عدة مرات خلال الأسابيع الماضية. والآن، أصبحت أمه تخافه جدا. عندما يصبح الغضب محورًا للحياة اليومية بأكملها لشخص ما بهذه الطريقة، فربما يكون لزامًا علينا أن نفكر فيما إذا كان هذا نوعٌ من الغضب الوجودي. الغضب الوجودي هو الغضب الموجه للحياة ذاتها، وهو شعور متغلغل بالاستياء من الوجود البشري، والذي قد يتجلى في صورة شعور غير واضح بشكل كامل بالظلم أو في صورة تمرد هائل على العالم، ذلك التمرد الذي يمكن أن يتحول إلى نوبات غضب شديدة لأتفه الأسباب. لكن ليس هناك جدوى تُذكر من اقتراح مهارات إدارة الغضب على من يعانون من ذلك الغضب الوجودي، لأن هذا سيؤكد لديهم بمنتهى السهولة أن العالم المحيط بهم لديه توقعات غير واقعية فيما يتعلق بالالتزام بالمعايير الاجتماعية وكبح جماح المشاعر. بل على الأرجح أن هؤلاء كثيرًا ما تعرضوا لمعايير وتوقعات غير منطقية قبل ذلك وأصبحوا يتطلعون لشخص ما يساعد في انتشالهم من هذا الفخ الذي سقطوا فيه. جاي ينطبق عليه هذا الكلام، إذ أن لديه أمل عكس كل التصورات المحيطة به في أن ينقذه شخص ما من نفسه حتى يتوقف عن شعوره البائس بالخزي من سلوكه.
من يعاني من الغضب الوجودي يتطلع بشدة كي يشعر بكرامته الذبيحة ويتطلع للتقدير لقدرته التي لا بأس بها على التفاعل بشكل مثمر وبنَّاء في العالم حتى وإن كانت قدرة مُحبَطة. يعاني هؤلاء من اعتقاد خاطئ بعدم إمكانية تلبية احتياجاتهم وبأنه لا يمكن السماح بتقبل قدراتهم وآرائهم دون انتقادات. لذلك فإن أي محاولة للعلاج في مثل هذا الوضع لابد أن تركز على استعادة القدرة على تمالك أنفسهم والتخلص من أي شيء يسبب الشعور بالخزي. يبدأ العلاج على الأرجح من خلال استكشاف المعاني والقيم التي أدت إلى شعورهم بهذا القدر من الظلم، كما يتطرق العلاج إلى التوقعات غير الواقعية التي تجعلهم يدورون في حلقات مفرغة من الاضطهاد والإحباط والعنف. لن تحدث هذه التجليات إلا عندما يشعر الشخص الذي يعاني بأن المعالج يحترمه وعندما يعلم أنه لن تكون هناك عودة للطرق المُعَدة سلفًا والحيل التي يسهل توقعها والتي تجعله يمر بتجارب غير مرغوب فيها. إن التحدي الحقيقي هو إقامة حلقة وصل عميقة وحقيقية يُتاح من خلالها انحسار الغضب الوجودي، ثم يتم إفساح المجال لعلاقة حقيقية يمكن في إطارها أن يبدأ الشخص في أن يفتح قلبه وأن يعيد ملء خزانة ثقته في قدرته على إحداث أثر إيجابي في العالم. يشعر جاي براحة كبيرة عندما يدرك أن ثمة من يصغي بقدر كبير جدًا من الانتباه لوجهة نظره عن المشكلة الموجودة في حياته. سُمح له بالتعامل في الفترة الماضية مع عدد من الأخصائيين وكان يرفض التعاون معهم في كل مرة بعد أن وجد أنهم ليسوا مهتمين حقا بالإصغاء لوجهة نظره وإنما يرغبون في إشعاره بالعجز وجعله يظهر في صورة الشخص الدنيء الذي يسيء معاملة والديه.
في عالم تسوده الضغوط والعجلة أصبح هناك عدد متزايد من البالغين بل والأطفال والمراهقين الذين يعانون من الغضب الخفي. يضمرون مشاعر الاستياء من الطريقة التي تعاملهم بها الحياة، وللأسف عندما يحاولون التعبير عن إحباطهم عادة ما يقابلهم الآخرون بالانتقاد ومحاولة التصحيح. وفي حالة جاي هناك تاريخ حافل من الإخفاقات في المدرسة، كما تم تشخيصه بفرط الحركة وتشتت الانتباه، فضلا عن محاولات عديدة فاشلة للعلاج. استسلم جاي لأنه غير راضٍ عن العلاج. سقط جاي شأنه شأن من هم في مثل حالته في حالة من الانسحاب الدائم واليأس الوجودي. الكثير من البالغين الذين عادة ما نصفهم بأن لديهم مشكلة في التحكم في أعصابهم لديهم تاريخ طويل من الغضب خلال مرحلتي الطفولة والمراهقة والتي لم تُقابَل بالتفهم، وكثيرًا أيضَا ما يكون هناك تاريخ من محاولات فاشلة للحل. وعلى النقيض من ذلك فهناك آخرون تمكنوا من كبح قدرتهم على التمرد تماما لدرجة أن الغضب أصبح مخفيا تحت مجموعة من الطرق الأخرى غير المثمرة في التعامل مع العالم. ربما يتجلى ذلك من خلال الرعونة والقسوة أو اللامبالاة والانسحاب. أما بالنسبة لجاي فقد بلغت الرعونة منه مبلغًا لدرجة جعلت الناس المحيطين به يخشونه. ولكن سرعان ما اتضح خلال العلاج أنه شخصيا يخاف من اندفاعه. أما فاي فهي على النقيض تماما، هي في الثلاثينات من العمر وغضبها غير مرئي، وهي غير مهتمة بالتواصل مع الناس كي تتجنب الغضب وأي مشاعر أخرى ولا تعتقد أن العالم مهتم بها، لذلك لا تكترث بالعالم هي أيضا.
وفي حين أن طرق العلاج القديمة المنتمية للمدرسة الإنسانية القائمة على استفزاز مثل هذا الشخص للتعبير عن غضبه ربما تكون ملائمة مع تلك الحالات، فإن الهدف الوجودي هو دائما التواصل مع الشخص وتمكينه من فهم معنى مشاعره فيما يتعلق بالقيم التي يشير إليها. الانفعالات هي الطريقة التي نتواصل بها مع العالم والتواصل الغاضب دائما ما يكون تواصلا مع شيء نقدره لكننا نشعر أننا تم تجريدنا منه، وبمجرد أن نبدأ اعتياد شعورنا بالحرمان من أشياء كثيرة نقدرها، يمكن أن يصبح الاستياء شديدًا لدرجة تحول دون التفاعل مع أي شيء. تغلف هالة من العداء أو الانسحاب كل شيء نفعله أو نقوله ونصبح تهديدًا للآخرين أو حتى لأنفسنا. فاي تمثل تهديدًا لنفسها قبل أن تكون تهديدًا للآخرين، فقد يئست من القيم، بل نسيت أنها تريد أن يقدرها ويحبها الآخرون، لذلك فهي تتجنب أي مشاعر كلما أمكن ذلك. لكن مشاعرها تتضح من خلال طرق استجابتها (للأسئلة) سواء كان ذلك إيماءة بالرأس أو رعشة في اليد. تشعر بالاستياء الشديد بسبب تجاهل الآخرين لها أكثر مما تذكر، تريد أن يدرك الآخرون أنها موجودة، وعندما يشعر الناس بضعفها وخوفها تشعر أن الحياة عادت لها. في مقابل ذلك يمثل جاي تهديدًا لأي أحد يحاول أن يقف في طريقه، فينفجر بسبب أقل إهانة، رغم أنه ليست لديه فكرة عن سبب حدوث هذا. القيمة التي تتعرض للتهديد بالنسبة له هي الكرامة والشرف، وهو غاضب من العالم لأنه جرده منهما وسيؤذي أي أحد يسبب له المزيد من الإهانة، حتى وإن حدث هذا في مخيلته فقط.
عندما لا يتم علاج غضبنا تجاه الحياة يمكن أن تصبح له جذورٌ ضاربةٌ في حياتنا اليومية، ومن تلك الجذور يتحول الاستياء والإحباط إلى رفض بغيض أو رغبة متعمدة في مخالفة الآخرين بصورة تهيمن على وجود الفرد كله. سرعان ما تصبح أغلب علاقات هذا الشخص مسمومة ويصبح الشخص نفسه متوجسا من كل من هم قادرون على انتقاد قيمه والتحكم فيها. هذا ينطبق على جاي، لكن هذا لا يعني أنه لديه مشكلة فيمن هو صاحب السلطة، لكن المشكلة هي أنه يخشى من أن تلك السلطة ستهاجمه دائما وتحاول تدميره. يشتاق هو لذلك النوع من السلطة الذي يعيده إلى سابق عهده ولكرامته، حيث إنه يُبدي على الفور استعدادًا واحترامًا عندما يُظهر له الآخرون هذا الأسلوب في التعامل. لذلك يمكننا أن نستنتج على الفور أنه قادر على أن يكون إنسانًا صالحًا. هو شخص طيب جدًا وصبور جدًا مع ابن أخيه الصغير الذي يقضي معه وقتًا من حين لآخر في تركيب نماذج مصغرة للطائرات. لا يقلق أبدًا من أن تصيبه حالة من انفلات الأعصاب معه، فهو لا يشعر أنه مصدر تهديدٍ له ويستمتع بصحبته. هو يشعر بحب ابن أخيه واحترامه له.
يمكن أن نفهم الغضب بصفته ظاهرة وجودية كرد فعل انفعالي يوفر الطاقة اللازمة من أجل الصراع الذي يخوضه الشخص للحيلولة دون فقد القيم المهمة (دويرتسن، 2012). هو رد فعل يظهر في حالة الطوارئ، يُمِد الشخص بالسطوة عندما يخشى من نفادها. إذا كان هذا الشيء أو تلك القيمة التي يخشى الشخص فقدها لها أهمية بالغة عنده، فربما يكون الغضب تجربة حيوية وضرورية للبقاء. دائما ما يكون الغضب لصيق الصلة بقيمة مقربة لقلب الشخص ويشعر أنه يملك تلك القيمة، ويتصاعد هذا الغضب فقط عندما تتعرض مثل تلك القيم فجأة للتشكيك أو للهجوم. إذا شعر الشخص بالغضب فإن هذا يُظهر أيضا أنه يشعر بقدر ما من الاستحقاق تجاه تلك القيمة، أما من ليس لديهم هذا الشعور بالاستحقاق أو الذين أصبحوا مقتنعين بفقدهم لهذا الاستحقاق تجاه ما كانوا يقدرونه، فإنهم سيشعرون بدلا من ذلك بتراجع في الانفعالات مقابل سيطرة الخوف والفقد أو الأسى أو حتى الحزن. إذا كنا بصدد فقدان ما نقدره لكننا نشعر أنه ليس أمامنا فرصة للمطالبة بملكيتنا لهذا الشيء، نستسلم ونتخلى عنه بدلا من المحاربة من أجله. حالة فاي مشابهة جدا لهذا التحول إلى الخوف والفقد والحزن، فهي تنسحب من أي تهديد وأصبح غضبها تجاه ما تخسره شبه منعدم. هي لا تعتقد أن من حقها أن يكون لها مكانة في الحياة أفضل من مجرد كونها مريضة نفسية كما هو الوضع حاليا، أما جاي فهو على النقيض منها، حيث إن أي كلمة تصدر من والد جاي عن وضعه الحالي كونه بلا وظيفة ولانعدام روح المبادرة لديه يعتبرها جاي تهديدا لوجوده هو شخصيا، فيكون رد فعله بناء على هذا الشعور ويبدأ في صد الهجوم. كلما وجه له والده الكلام كلما شعر بأنه يهاجمه وكلما ازدادت قسوة الرد.
نوبة الغضب تسبب دفقة من الناقلين العصبيين الايبنفرين والنورايبنفرين اللذين يساعدان الجسم على الاقتتال. نشعر فجأة بقوتنا الكاملة بعد شعورنا لأسباب وجيهة بأن كرامتنا أصبحت جريحة أو بعزيمة وإصرار للانتقام ممن أهاننا. نأخذ وضع الاستعداد للدفاع عن حقوقنا ومواجهة من يحاول سرقة قيمنا. ما من عجب أن البعض يستمتع بتحفيز أنفسهم للغضب ويتعلمون استفزاز الآخرين لبدء معركة معهم، حيث إن التعبير عن الغضب يجعلهم يشعرون أنهم موجودون على قيد الحياة وبالقوة الشخصية التي ربما يفقدونها إذا لم يستغلوا هذه اللحظة. يشعرون بشعلة الغضب وكأنها طاقة مقدسة يقتاتون عليها والتي يمكن من خلالها أن تكون مصدر إلهام لهم وللآخرين من أجل اتخاذ إجراء ما. هذا النوع من الغضب يمكن التهاون معه إذا كان نظيفا وإن كان موجها بوضوح صوب الصالح العام، لكنه يصبح غير محتمل إذا كان يشوبه الغيظ أو الحقد وإذا تحول لعدوان، في هذه الحالة سيعتبره الآخرون مؤذيا وكثيرا ما سيقابلونه بعقاب أليم. ما من أحد أبدا يرحب بالعدوان السافر وإذا لجأنا إليه فإن العالم أجمع سينقلب ضدنا. اكتشف جاي أن غضبه خطيرٌ وغير مقبول لكنه يشعر بعجزه عن منعه. في تلك اللحظات التي يفقد فيها أعصابه يشعر بأن هناك لهيبا بداخله لا يشعر به إلا في هذه الحالة فحسب. حالته محيرة جدا، فهو من ناحية يريد أن يشعر بالطاقة ويريد أن ينتقم لنفسه، ومن ناحية أخرى هو يدرك أن ما يفعله سيكون له رد فعل عكسي. يعتبر جاي ثورات غضبه مؤشرًا على أنه ما زال على قيد الحياة ودليلًا على أنه لم يستسلم بعد، هو راضٍ عن فكرة التفكير في كيفية استفادته من هذه الطاقة بطريقة مختلفة نوعا ما وشرع في هذا العلاج الجديد على أمل فهم كيف يمكن أن يشعر بالقوة مع تجريدها من العنصر التدميري. هو حقا يريد أن يتعلم كيف يمكن أن يصلح علاقته بوالده وبالآخرين كذلك ويتحسن ببطء في تحديد موقفه والبحث عن سبل جديدة للتأكيد على حقوقه وقدراته دون اللجوء للعنف. شعوره بالراحة عندما اكتشف أنه قادر جدا على تحقيق الأهداف أمر ملموس، وهو يتحسس يوما بعد يوم.
عندما يأتي العملاء للعلاج من "مشكلة الغضب" فإنهم يشيرون إلى هذه النقطة، فقد بدأوا يشعرون بالخوف من غضبهم غير القابل للسيطرة مع أنهم يدركون أنهم يخشون من السلبية أكثر وأكثر لأنهم يعتقدون أن الآخرين سينقضون عليهم إذا لم يدافعوا عن أنفسهم. إحساسهم بأنهم يفقدون السيطرة على ردود فعلهم يجعلهم يشعرون بالحماقة والخزي، خاصة إذا كانوا قادرين بالفعل على إحداث خسائر فعلية. هناك أمثلة على حالات غضب وثورة شديدة ومتكررة مرتبطة بخوف الشخص من تعرضه للهجوم أو تكبده خسائر. هذه الثورة لابد من تهدئتها قبل القضاء عليها أو إعادة توجيهها. ونحن بصدد ذلك، علينا أن نتذكر أن الغضب دائما يأتي من تهديد وشيك وتجربة الشعور باحتمال التعرض للهجوم. وفي حالة الغضب المتكرر، يشعر هؤلاء دائما دون استثناء بأن الآخرين يمثلون مصدرًا للتهديد والتقليل من شأنهم وأنهم لا يُعتمد عليهم ويعرضونهم للانتقاد، كما يشعرون أن حتى وجودهم أصبح عُرضة للخطر. دائما تقريبا ما تكون لثورات الغضب أثر عكسي وتسبب مشاكل للشخص الغاضب ولضحايا هذه الثورات على حد سواء. هذه المبالغة المهلكة في الغضب مع الشعور بالاستحقاق لن تتوقف إلا عندما يشعر الشخص بأنه في مأمن بحيث يمكنه تحويل العدوان إلى تفاعل ناجح قائم على التعاون ويهدف إلى التأكيد على مطالب هذا الشخص. كل هذا الكلام يمثل كلاما معقولا جدًا بالنسبة لجاي، يساعده جدا مجرد تمكنه من التعبير عن شعوره بالظلم وإدراكه أنه يفقد أعصابه في كل مرة يرى فيها كيف أن ملامح وجه أبيه تدل على التقليل من شأنه وإصدار أحكام مسبقة عليه. تعلم جاي أن يتحدث مع والده عن هذه النقطة، كما تعلم أن يحذر والده عندما يصل إلى تلك المرحلة، ثم يعملان معا من أجل تفكيك ثورة الغضب والبحث عن سبل للتفاعل معا دون جعل جاي يشعر بأن هناك من يقلل من شأنه أو يلفظه. الآن يمكنه أن يبدأ في التفكير في السيطرة على أشكال التفاعل الأخرى أيضا ولم يعد مضطرا للاستسلام لدورة أخرى من الرفض المتبادل. يساعده التقدم الحثيث في نهاية الأمر على جعله في موقف يمكنه من الخضوع لبرنامج تدريبي يشعر معه بالتفاعل. إقامة علاقات جديدة وجعله يشعر شعورًا طيبًا تجاه ذاته يُنهي المشكلة ويساعده على التعافي من غضبه. وبالنسبة لفاي فإن العلاقات الإنسانية ما زالت صعبة، حيث إن غضبها ساكنا وطاقتها شبه منعدمة، ولدينا الكثير لنقوم به قبل أن تملك زمام أمرها مرة أخرى. أولا تحتاج هي للمساعدة في تذكر كيف يمكنها حتى أن تتعرف أكثر على ذاتها، إذ إنها لم تفقد أي مقدرة على الغضب فحسب، بل أيضا أي قيمة أو رغبة.
ما زالت الثورة العارمة لدى أغلبنا مسألة نادرة الحدوث وكثيرًا ما نكبت الغضب، لكن ليس للدرجة التي تقوم بها فاي. نكون على علم بأن هناك ما يثير ضيقنا لكن نتذكر أن نتصرف بحنكة. كما أن إظهار الغضب العارم أمام الناس بالنسبة لأغلبنا مسألة محظورة تماما، فبمجرد أن ينتابنا الغضب نستشعر الخطر، فالغضب هو مقدمة للمعارك وربما نتكبد خسائر خلال هذه المعارك. لا نحبه إذا صدر منا وينطبق هذا أكثر وأكثر بالنسبة للآخرين. إذا افترضنا الضعف في أنفسنا وصدقنا أننا غير قادرين على السيطرة على غضبنا، نشعر بالقلق والارتياب تجاه الغضب برمته. إذا كانت علاقاتنا الاجتماعية متشعبة مع تعلُمنا أنه لابد من كبح جماح الغضب لدرجة عدم إظهاره، فإن هذا الشعور المحموم بالغضب المتنامي ربما يمثل خطرا مرعبا في حد ذاته، بل إن التعبير عن الغضب ربما نعتبره دليلا على إخفاقنا في التحكم في أنفسنا. حتى إننا قد نشعر بالذنب لأننا ضبطنا أنفسنا ونحن في وضع تتعرض فيه قيمنا أو سلامتنا للخطر. يا ترى ما الذي فعلناه لدرجة تدفع شخصا آخر لتهديدنا أو مهاجمتنا؟ في هذه الحالة يبدو سلوك التحاشي أكثر أمنا. ينطبق هذا بالضبط على فاي، حتى وإن كان هذا لدرجة مبالغ فيها جدا. لم تتذكر كيف حدث لها كل هذا إلا بعد عدة شهور من العلاج، فقد بدأت تدرك تدريجيا كيف كانت تشعر بالذنب عندما كان يهاجمها زوجها. تعلمت أن تجعل نفسها منزوية وغائبة ولا ترد الصاع صاعين أبدا أو حتى تشعر بالغضب. كانت متأكدة من أن أي تدخل من جانبها سيحدث خسائر هائلة، لذلك توقفت عن رد الفعل وشعرت باليأس من العلاقات تماما في النهاية، ثم انسحبت.
بعض الناس عندما يواجههم شخص عدواني يحاول المساس بسلامتهم أو ممتلكاتهم أو حتى حياتهم، يلجأون للانزواء والانهيار بدلا من السماح للغضب بأن يتملكهم. رد فعلهم المعتاد هو العجز المكتسب شأنهم شأن الفريسة التي تستسلم لمفترسها فتجعل من نفسها طيعة، فيصيبهم الشلل وعدم الحركة وبهذه الطريقة يحمون أنفسهم من الألم أو الخوف، ويفقدون فعليا قدرتهم على صد الهجوم، بل كبت حتى إدراك ما يحدث لهم. من المرجح أن يحدث هذا إذا تعلم الشخص أنه يجب ألا ينخرط في أي صراع وأن يتصرف بأخلاق دمثة لطيفة وطيبة طول الوقت. غير أن هذا العجز المكتسب يؤدي إلى وهن العزيمة ويمكن أن يؤدي إلى فقدان الرغبة حتى في التعامل مع العالم. عادة ما تكون أفضل طريقة لمواجهة هذا الوضع هو تعلم إتاحة الفرصة لقدر من التمرد على الظلم الذي يواجهه الشخص حتى يمكن أن يشعر بقدر ما من العدوان الحميد وتوجيهه للبدء في مسار جديد من رد الفعل. عندما يتعرض الأشخاص الذين عانوا من التنمر أو الظلم في مرحلة مبكرة من حياتهم وأصبحوا أبطالًا في الانفصال عن العالم للهجوم ربما لا يدركون حتى وجود هذا التمرد. تعلمهم حقوقهم وقدراتهم وأي ردود فعل مختلفة هم قادرون عليها شرط أساسي لاستعادة قدرة هؤلاء على التعامل مع الآخرين مرة أخرى. عادة ما يكون أداؤهم على أفضل ما يرام عندما يقومون بدور حامي حمى الآخرين أولا، فيتعلمون الدفاع عن الآخرين أو الأفكار أو القيم المجردة، مما يساعد على عدم اعتبار الدفاع عن النفس من الممنوعات. هذه الاستراتيجية كانت ناجحة مع فاي، حيث إنها عندما تذكرت أن من هاجمها في حياتها لم يكن زوجها السابق فحسب، بل أيضا شقيقها وزملاءها في الفصل ساعدها ذلك على اكتشاف نوع من تصاعد الغضب المتراكم والتمرد بسبب المعاملة التي عانت منها. كانت قد ملت حقًا من كونها ضحية وأصبحت مهتمة بمجموعات دعم الضحايا حيث تعلمت التواصل مجددا مع الآخرين. كان هذا إيذانٌ بمرحلة جديدة أصبح فيها الغضب واضحا بينما توقف انسحابها التام.
عندما ينفصل الناس تماما عن مشاعر الغضب ولا يتخذون أي رد فعل بناء على هذا الغضب سواء بالتعبير عنه أو بتحويل الغضب إلى حوار أو تصرف بناء، تزيد مشاعر الاستياء. كتب نيتشه باستفاضة عن الاستياء وكان يؤمن بأن الحضارات المسيحية التي تدعو للتفاعل المجتمعي المهذب تؤدي لتراكم مشاعر الاستياء وأن الكثير من العدوان الذي نراه يوما بعد يوم هو من هذا النوع. تقابلنا نحن شكاوى ومشاكل الآخرين، ونحن أيضا لسنا بمأمن من هذا الأمر، حيث إن مشاعر الاستياء تتصاعد وتصبح كالسم الذي يصيبنا بالتدريج حتى نصل إلى مرحلة الأعراض التي تصيبنا بالعجز التام في النهاية. لدى فيلهلم رايش آراء شيقة عن هذا الموضوع كذلك، فقد تحدث عن الطريقة التي تستقر بها مشاعر الاستياء في النفس والجسد. أصبحت فاي مفعمة بالحيوية بمجرد أن بدأت تتذكر كل مشاعر الإحباط التي حاولت منذ زمن نسيانها.
استند العلاج مع كل من جاي وفاي إلى طريقة "وصف الظاهرة"، فبدلا من التفسير والتأويل أو تقديم اقتراحات أو وصف سلوك جديد أو شرح كيف نحدث تغييرا معرفيا، كان التفاعل أثناء جلسات العلاج دائما يركز على تشجيع وصف ما يمر به الشخص. هذه الطريقة "وصف الظاهرة" تضع في اعتبارها كل المشاعر والانفعالات الكامنة وتحاول التعامل مع فكرة أن كينونتنا دائما تعتمد على العلاقات والتواصل، فمع ميلنا دائما للتواصل، نستشعر العالم من حولنا مما يعني أننا دائما في حالة مزاجية معينة، وهناك دائما توجه ما خاص في هذا التواصل مع العالم. تحدث هايدجر (1927) عن مبدأ Befindlichkeit بالألمانية والذي يعني حرفيا "الطريقة التي نجد بها أنفسنا"، إذ يحدث هذا بشكل له صلة بالآخرين وبالوضع الذي نحن عليه. إن تعلُم أن ندرك الوضع والموقف الذي نحن بصدده، بالإضافة إلى مدى حساسيتنا تجاه الانفعالات والتي من خلالها نتواصل مع العالم عادة ما يكون كاشفا بدرجة كافية لفهم البدائل المحتملة التي لم تكن واضحة قبلا.
استند هايدجر في كتاباته إلى طريقة "وصف الظاهرة" التي ابتكرها الفيلسوف وعالم الرياضيات ادموند هوسرل (1985-1938). كان هوسرل يحضر ندوات لفرانتس فرنتانو، شأنه شأن فرويد في نهاية القرن التاسع عشر، حيث كان يتحدث فيها برنتانو عن مبدأ "القصدية" كطريقة جديدة لفهم الوعي البشري. فسر كل من هوسرل وفرويد هذا العلم البشري الجديد كلٌ بطريقته، إذ ركزت مدرسة التحليل النفسي التي كان فرويد رائدًا لها على العالم الداخلي لنفسية الإنسان في حين أن "علم الظواهر" الذي عُني به هوسرل استحدث طريقة تتيح لنا مراقبة كيف يتعامل الناس مع الأشياء في العالم ووصف هذا التعامل. كان هذا علمًا جديدًا معنيا بالوعي، وأثرت طريقته على العديد من التطورات في علم النفس، فقد كانت على سبيل المثال مصدر إلهام لمدرسة الجشطالت في علم النفس، كما سهلت عمل هايدجر وسارتر والعديد من الأشكال المختلفة للعلاج الوجودي الذي يستند إلى تلك الفلسفات (أنظر كوبر 2003).
- أننا دائما نحاول أن نفهم العالم ولا يمكننا أن نتحرر من افتراضاتنا تجاه هذا العالم، لكن يمكننا أن نصبح واعين لتلك الافتراضات ونفكر فيها ونغيرها.
- حتى نحصل على صورة أكثر دقة للعالم، علينا أن نفهم أولا كيف نستشعر هذا العالم، وعملية الاستشعار هذه عملية شعورية تقوم على التجربة أكثر منها عملية ذهنية خالصة، فهي عملية معرفية وانفعالية (عاطفية) في الوقت ذاته.
- من خلال عملية الانتباه أي مجرد الملاحظة والوصف وليس التفسير أو إصدار أحكام مسبقة يمكن أن نحصل على فكرة أفضل عن افتراضاتنا الشخصية وعن افتراضات الآخرين وكذلك القيم وكينونتنا في هذا العالم.
- يتطلب فهم العالم بناء على علم الظواهر تدقيقا منضبطا للواقع كما يراه شخص ما فعليا.
- عادة يمكننا افتراض أن كل فرد يواجه الواقع بطريقة مختلفة وأن حياتنا الدنيا تخصنا نحن وليس أحد سوانا.
- الحياة الدنيا تتعلق بالسياق وانفعالاتنا هي طريقتنا في التواصل مع السياق الاجتماعي والسياسي الذي نعيش فيه.
- من أعظم آراء هوسرل الفلسفية هو أننا لا يمكن أبدا أن نستشعر العالم وحده، لأن العالم دائما هو العالم من منظوري أنا وتجربتي أنا، فهو دائما نسبي.
- كذلك عملية التفكير أو الشعور لا معنى لها دون وجود سبب هذا التفكير أو الشعور أو بعيدا عن الشيء الذي نفكر فيه أو نشعر تجاهه أو نبصره.
- الموضوع لا يمثل شيئا إذا لم نفهم عالمه الفعلي والطريقة التي يترابط بها معه.
استفاض هايدجر (1927) وسارتر (1939و 1943) في الكتابة عن الانفعالات البشرية مع تطبيق طريقة "وصف الظواهر" لفهمها. تحدث هايدجر عن الانفعالات مشبها إياها بالأرصاد الجوية في حين أن سارتر اعتبرها طريقة سحرية لإقامة علاقة مختلفة مع العالم. واستنادا إلى عمل الاثنين وضعت نموذج بوصلة الانفعالات (دويرتسن، 2010، 2012).
يمكن أن يساعدنا هذا في فهم صلة كل انفعال بالقطب الشمالي من قيم الشخص. في هذه البوصلة يقع الغضب في النصف الأيسر حيث يبتعد المرء عن قيمه وربما يجد الطاقة اللازمة للقتال لاستعادة تلك القيم وربما لا يجدها. إذا انتصر الشخص في هذه المعركة فربما تنتقل الانفعالات لأعلى صوب حب الملكية أو الحرص أو الغيرة، وإذا خسر المعركة، فربما تنتقل للأسفل صوب الخوف والحزن.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط الخاصة بنا وملفات تعريف الارتباط الخاصة بالجهات الخارجية حتى نتمكن من عرض هذا الموقع وفهم كيفية استخدامه بشكل أفضل ، بهدف تحسين الخدمات التي نقدمها. إذا واصلت التصفح ، فإننا نعتبر أنك قبلت ملفات تعريف الارتباط.