الأحداث التاريخية والقوانين الاجتماعية

2024-03-25

 الأحداث التاريخية والقوانين الاجتماعية

في المقالات الأولى، تناولْتُ 'الظواهر التاريخية' و'الأحداث التاريخية' بالحديث، دون تقديم أي تعريف لأي منهما. وهو أمر لا تنتفي عنه الإشكالية كما يبدو من الوهلة الأولى. يمكن إطلاق وصف "تاريخية" بالمعنى الواسع على الأحداث التي وقعت في بيرل هاربر صباح السابع من ديسمبر عام 1941، في حين أنه قد تختلف توصيفات أهميتها التاريخية المحددة. على سبيل المثال، يمكن توصيفها على أنها "قصف الطائرات اليابانية لبيرل هاربر" و"محاولة اليابانيين الهيمنة البحرية على إقليم غرب المحيط الهادئ" و"دخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية" و"بداية مرحلة جديدة في الصراع بين الديمقراطية والديكتاتورية" وما إلى ذلك. والأحداث، باعتبارها ظواهر تاريخية، لا تحمل أوصافًا طبيعية، وسيختلف الوصف باختلاف المؤرخين؛ إذ يختلف ما يختار كل واحد منهم التركيز عليه في سرديته، اعتمادًا على ما إذا كان يعتزم كتابة تاريخ عسكري أو تاريخ سياسي أو تاريخ اقتصادي أو تاريخ ديني أو ما إلى ذلك. ولمَّا كان لكل حدث محلٌ زمني، كان كلُّ بيانٍ يمكن للمرء كتابته عن الأحداث بيانًا 'تاريخيًا'، غير أنه- رغم ما قد يبدو من مفارقة- لا وجود لبيانات تاريخية على نحو صارم؛ فكل جملة يكتبها المرء عن الأحداث تشير إلى ظاهرة إمبريقية تنضوي جوهريًا تحت عنوانٍ آخر: سياسة أو اقتصاد أو جغرافيا أو ما إلى ذلك. وحتى المؤرخ الميتافيزيقي لا يسعه أن يكتب عن التاريخ في ذاته، وإن استعمل في أغلب أمره لغةً تقتضي ضمنًا أنه يفعل ذلك.

Photo 6039360567145250613 Y

   تعرِضُ مزيد من الصعوبات حين يحاول المؤرخ مناقشة الأحداث تحت عنوان نوعي عام من قبيل 'الحرب' أو 'الثورة' أو 'دورات الأعمال business cycles'. ولا تختلف النسخ المتباينة فحسب، وإنما قد يكون وجود الفئة النوعية العامة، في بعض الحالات، عرضة للشك. فمصطلح 'دورة الأعمال'، على سبيل المثال، يقتضي ضمنًا أن لأحداث اقتصاديةٍ معينةٍ دوريةً منتظمةً، لكن الوقائع تخفق في إثبات مثل هذا، وقد يستنفذ المؤرخ، الذي يركز بجمود بالغٍ على مثل هذه الفئة النوعية العامة، وقتًا هائلًا في تفسير ظاهرة غير قائمة. يعد انهيار سوق الأسهم عام 1929 حدثًا تاريخيًا محددًا إلى حدٍ ما، والكساد التاريخي عام 1930 أقل تحديدًا، و'دورة الأعمال' أقل بكثير حدَّ أنه قد يكون مثل وحيد القرن؛ يوجد في الفكرِ لا العالَم الفعلي.

   تحتشد الصعوبات بغزارة حين يشرع المؤرخ في صقل حيّزٍ معرَّف في ضوء مصطلحات معيارية. تتطلب معالجةٌ لـ"الاستغلال الرأسمالي"، على سبيل المثال، نظريةً ما عن "الاستغلال" إلى جانب وصفٍ نوعي عام كافٍ لـ"الرأسمالية". يعتبر بعض المؤرخين مثلَ هذه التحقيقات مهمةَ التاريخ الرئيسية، غير أنه غالبًا ما يُترَك للقارئ إمداد نفسه بهذه العناصر، إذ يعتبرها الكاتب أوضح من أن تقتضي تفسيرًا، أو أنه، بالأحرى، يستنكف عن تقديم أي تفسير.

   يتجنب التاريخ السردي في ثوبه التقليدي هذه المشكلات إلى حد كبير. لن تقتحم مشكلةُ الفئاتِ النوعيةِ العامةِ، إذا تقيَّد المؤرخ بتقديم معالجة للأحداث التي وقعت في زمان ومكان معينين. يمكن كتابة تاريخ حرب 1812 دون أية إحالة ضرورية على 'الحرب' كظاهرة اجتماعية نوعية عامة. وإذا ما تبنى المؤرخ رؤية أن أحد جوانب الحدث هو اهتمامه الأساسي، تخف حدة مشكلة الحدث إلى حد بعيد. يتمثل التقليد الطويل للتاريخ السردي، الذي يتراجع الآن، في أن السياسة، أفعال الحكومات وقادتها، هي مادة الموضوع الملائم للتاريخ. سيكون لدى التأريخ السردي التقليدي لحرب 1812 بالضرورة الكثير ليقال فيما يتعلق بالاقتصاد والجغرافيا وما إلى ذلك، لكن تأكيده الأساسي سيكون على الأحداث السياسية في الولايات المتحدة وبريطانيا والمستعمرات الكندية. ولطالما حادت دراسة التأريخ المعاصرة عن هذا التقليد بطريقتين: ببالغ التشديد على الجوانب الاقتصادية والسوسيولوجية لأحداث الماضي، وباستعمال نظريات الاقتصاد والسوسيولوجيا وتقنياتهما الإمبريقية في دراستها. لا يعترض مناصرو التاريخ السردي التقليدي كثيرًا على الطريقة الأولى، لكنهم يبدون تحفظات قوية فيما يتعلق بالثانية، كما قد رأينا في تفحصنا السجال حول أطروحة همبل بشأن المنهجية التاريخية.

   لكي نوضح هذه المسألة، من الضروري أن نميز الزعم بوجود قوانين للتاريخ بحد ذاته من الادعاء الأشد تواضعًا المتمثل في أن ثمة قوانين للظواهر الاجتماعية يمكن تطبيقها على دراسة الأحداث التاريخية[1]. يرى الأول المؤرخ عاكفًا على اكتشاف القوانين، بينما يحاجُّ الثاني أنه يجدر به استعمال القوانين التي انتهى من وضعها علماء الاجتماع. وربما يمكن توضيح هذه النقطة بصورة إيضاحية تناظرية. دعنا ننظر في 'آلة استيقاظ' من النوع الذي اعتاد رسَّاما الرسوم المتحركة روب جولدبرج وهيث روبنسون رسمه: يزيح الثقل النازل في ساعة الجَدِّ الدقاقة المزلاج الموضوع على الحاوية، متسببًا في سقوط كرة حديدية ثقيلة على انتفاخ على شكل بصيلة لبوقِ سيارة ذات طراز قديم. يفزع الصوت الناتج قطةً، ذيلها معقود بحبلٍ يتعلق طرفه الآخر بدلوٍ من الماء فينقلب، منسكبًا ما يحتويه على النائم. يتسبب إفراغ الماء في أن يرتفع الإناء، الذي كان متزنًا بحبل فوق بكرة مربوطة إلى ثقل، ويسقط الثقل. يضرب الدلو بينما يرتفع مفتاحًا يشغِّل براد القهوة، في حين يحرِّك الثقل النازل إعدادات ثرموستات يتحكم في الفرن. يمكن تفسير هذه الأحداث، لكنها لا تفسَّر في ضوء "قانون آلات روب جولدبرج" الشامل. وإنما يفي بالغرض عدد من قوانين أكثر تحديدًا تتعلق بتساقط الأجسام، وتأثير العبور السريع للهواء خلال شق صغير، وسلوك القطط المذعورة، وما إلى ذلك. والمؤرخون على صواب حين ينكرون فكرة أننا يجدر بنا البحث عن قوانين للحرب أو الثورة أو ازدهار وسقوط الحضارات، لكنهم مخطئون إن أصروا على أنه ما من قوانين على الإطلاق تسري على مثل هذه الأحداث.

   لطالما كان المشتغلون بالتاريخ السردي التقليدي نقادًا للتاريخ الميتافيزيقي، مثلهم في ذلك مثل أي عالمٍ آخر، وقليلٌ مَن يروم تبرير نسخ أكثر اعتدالًا من فكرة وجود قوانين عامة في التاريخ معروفة بالفعل أو ترتقب اكتشافًا. غير أن الأقل تبريرًا هو معارضتهم ادعاء أنه يمكن تحسين عمل المؤرخ بتطبيق العلم الاجتماعي المعاصر. يعلن ويليام دراي، واحد من أكثر نقاد أطروحة همبل عنادًا، أنه "توجد قليل من الأحداث التاريخية التي نأمل أن نفسرها في ضوء نظريات مستعارة من العلوم [الاجتماعية] الخاصة"[2]. يبدو لي هذا مجانبًا الصواب.

   ربما يرجع رفض تطبيق نظريات وتقنيات العلم الاجتماعي على دراسة الظواهر التاريخية، في جزء منه، إلى التشديد التقليدي على السياسة من جانب التاريخ السردي. وكان دراي ليقف على أرض أكثر صلابة لو أنه قال بأن تخصص علم السياسة يتضمن قليلًا من نظريات السياسة العامة. والواقع أن علماء السياسة يستعيرون أغلب نظرياتهم من الاقتصاد والسوسيولوجيا. ولا يعني هذا أنه ليس بإمكان المؤرخين أيضًا أن يستعيروا، إلا أنه يشير إلى أنه سيكون من الأفضل للمؤرخين السياسيين أن يستعيروا ما ابتغوا من اقتصاد وسوسيولوجيا مباشرة بدلًا من الاستعارة غير المباشرة بإقحام طرف ثالث. والأمر الأكثر أهمية هو الرؤية المتمثلة في أنه لا يمكن للمؤرخين، سواء ركزوا على السياسة أو أي جوانب أخرى لأحداث الماضي، أن يستعيروا من أي علم؛ لأن العلم ينظر في أوجه الشبه بين الظواهر، بينما ينظر المؤرخون في أحداث فريدة. يرجع هذا في جزئه الأكبر إلى زعم أن المفاهيم الاحتمالية والطرائق الإمبريقية الإحصائية، والتي يوظفها علماء الاجتماع وغيرهم من العلماء في النظر في الظواهر الغير متجانسة، غير قابلة للتطبيق على كثير من الأشياء التي يدرسها المؤرخ، وبخاصة تلك التي تشكل مادة الموضوع الرئيسي للتاريخ السردي. حَدَّ صياغة إرنست ناجل، يُميَّز بين نوعين مختلفين تمامًا من التخصصات، "التقنيني/ الناموسي nomothetic، الذي يسعى إلى وضع [وكان يمكن إضافة 'أو تطبيق'] قوانين عامة مجردة لعمليات قابلة للتكرار بلا حد، والإيديوغرافي/ الذاتي التفردي ideographic [كذا كُتبت في الأصل][3]، الذي يتغيا فهم الفريد غير المتكرر، والتاريخ واحد من النوع الأخير[4]. كان أول من صاغ المصطلحين "nomothetic" و "idiographic" في هذا الصدد هو فيلسوف التاريخ الكانطي[5] فيلهلم فندلباند.

   يبدو من الوهلة الأولى أن هناك الكثير من المزايا في ادعاء أن الاقتصاديين والسوسيولوجيين قد يستطيعون تحويل الظواهر الإيدوغرافية إلى ظواهر تقنينية باستعمال الاستدلال الإحصائي، ولا يمكن ذلك للمؤرخين. يمكن للاقتصادي أن يقبل حقيقة أن أفراد المستهلكين يستجيبون بطرق مختلفة حين يتغير سعر سلعةٍ ما، دون إغفال قانون الطلب، لأنها تحيلنا على محصلة سلوك كثير من المستهلكين. وقعت الكثير من الحروب، لكنها لا تتشارك ما يكفي لأن نجمِّعها تحت عنوان نوعي، وعلى هذا يُزعَم أنه لا يمكن تفسير الحرب بوجه عام ولا أي نسخة واحدة من الحرب باستعمال قوانين تنطبق احتماليًا على عدد كبير من الأحداث المتشابهة. يرتكز هذا الزعم على فهمين خاطئين. أولهما: لا يحتاج المرء إلى ادعاء أن بإمكان العلم الاجتماعي تفسير أحداث من قبيل الحرب؛ والواقع أنه يجب تقديم قانون للحرب لفعل هذا[6]، وقليل من لهم الجرأة الكافية لفعل هذا[7] من علماء الاجتماع. بدلًا من ذلك، عُدَّت قوانين العلم الاجتماعي منطبقة على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وتنطبق نفس القوانين على أوضاع ليست وقفًا على الحرب على الإطلاق. يُحَثُّ المؤرخ على تطبيق النظرية الاقتصادية، لا في تفسير حرب 1812 مباشرة، وإنما في تحليل عوامل من قبيل تجارة الولايات المتحدة الخارجية، التي يناقشها في واقع الأمر في معالجته لتلك الحرب. وربما ليست الحروب متجانسة كفايةً لتكون موضوع تخصص تقنيني، لكن التجارة الدولية ليست كذلك.

   وثانيهما أن مؤيد التاريخ الإيديوغرافي، في رفضه الاستدلال الاحتمالي، لا يحيل إلا على نوع معين من نظرية الاحتمال، تلك التي تؤول الاحتمال كبيان للتكرار النسبي لنوع واحد من حدثٍ ضمن فئة أكبر من أحداث متشابهة، كما يكون في تكرار ظهور العدد سبعة، مثلًا، في عدد كبير من رميات زوج من أحجار النرد. تبرز رؤية الاحتمال هذه في الممارسة الإحصائية، غير أنها مؤخرًا قد أفسحت مجالًا لتصورات ليست وقفًا على أحداث بمثل هذا التجانس. وإذا كان على المرء أن يتبنى فكرة الاحتمال التي تؤوله في ضوء العلاقة بين الحدث الذي يتنبأ به المرء أو يفسره، وبين الدليل الذي يملكه ليقدم تقريرًا تنبؤيًا أو تفسيريًا، فلن يُحكم على الاستدلال الاحتمالي أنه غير قابل للتطبيق حتى على نوع الأحداث التي يتعهد بفحصها أكثر المؤرخين إيديوغرافية.

   أخيرًا، ربما نلاحظ أن المؤرخ المتعنت في رفض الاستعانة بالاقتصاد والسوسيولوجيا سيجد نفسه مضطرًا إلى بعض المزاعم بشأن منهجية هذه التخصصات ومنهجية تخصصه أيضًا. وإذا كانت النظرية الاقتصادية وتقنياتها الإمبريقية قابلة للتطبيق على دراسة الأحداث الراهنة، فلماذا تصير غير قابلة للتطبيق حين ترتد هذه الأحداث إلى الماضي وتصير "تاريخًا"؟ يحاجُّ بعض من يكتبون في إبستمولوجيا العلم الاجتماعي أن منهجية العلم الطبيعي غير مناسبة لدراسة الظواهر الاجتماعية البشرية، سواء كانت راهنة أو ماضية. إن رفض المشتغلين بالتاريخ السردي التقليدي العلم الاجتماعي يقوم- ربما في جزء كبير منه- على رؤية أن علماء الاجتماع، منتهجين العلم الطبيعي، قد تبنوا منهجية التحقيق الاجتماعي المعيبة على نحو مهلك. وهذه قضية أكبر مما نحن معنيون به هنا.

 

 

[1] (see Maurice Mandelbaum, ‘A Critique of Philosophies of History’, Journal of Philosophy, 1948).

 

[2] (Laws and Explanations in History, 1957, p. 66).

 

[3] يشير الكاتب إلى خطأ في كتابة ideographic في الأصل الذي نقل عنه، والصحيح أنها idiographic.

[4] (‘Some Issues in the Logic of Historical Analysis’, Scientific Monthly, 1952).

 

[5] صفة عائدة على الفيلسوف.

[6] أي لتفسير الأحداث.

[7] أي لتقديم قانون.

التعليقات

أضف تعليقك

الكتاب

سكوت جوردون

سكوت جوردون

أستاذ مميز بقسم الاقتصاد وأستاذ بقسم التاريخ وفلسفة العلم في جامعة إنديانا، وهو …

المترجم

يوسف عيسى

يوسف عيسى

باحث ومترجم مهتم بالرياضيات البحتة وبفلسفة العلم والأدب …

أوراق ودراسات ذات صلة

مشاهدة المزيد
هوبز والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للإعلان العالمي لحقوق الإنسان
  • تخصصات

هوبز والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للإعلان العالمي لحقوق الإنسان

وردة الهاني
  • لا هذا ولا ذاك

وردة الهاني

التفسير التاريخي فنًّا
  • التحرر المعرفي

التفسير التاريخي فنًّا

الإنسان والزمان
  • بينيات

الإنسان والزمان

ملفات تعريف الارتباط

نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط الخاصة بنا وملفات تعريف الارتباط الخاصة بالجهات الخارجية حتى نتمكن من عرض هذا الموقع وفهم كيفية استخدامه بشكل أفضل ، بهدف تحسين الخدمات التي نقدمها. إذا واصلت التصفح ، فإننا نعتبر أنك قبلت ملفات تعريف الارتباط.