يقابل همبل، في مقالته عام 1942، أطروحته المنهجية بـ"ما يُتعارف عليه من رؤية أن التفسير الأصيل في التاريخ مُتحصَّل من خلال طريقة تميِّز ما تختص به العلوم الاجتماعية مما يكون للعلوم الطبيعية تُسمَّى بطريقة الفهم التعاطفي". وفقًا لهذه الرؤية، يجب على المؤرخ أن يذهب إلى ما هو أبعد من الدليل الإمبريقي المحدد الذي يكشفه فحص الوثائق والإحصائيات؛ لا بد عليه أن يدرس الثقافة العامة للزمان والمكان، وآدابها وفنِّها ولغتها وما إلى ذلك، كي يصل إلى فهمٍ لما كانت عليه الحياة، وكيف كان الناس يفكرون، وآمالهم ومخاوفهم وتصوراتهم عن أنفسهم ومجتمعهم والعالم. بهذا، وبه فقط، يمكن للمؤرخ الذي ينتمي إلى ثقافةٍ ما أن يقدم معالجةً دقيقةً ثاقبةً للأحداث التي وقعت في ثقافة أخرى. قد يرفض قلةٌ من المؤرخين أن يكون هذا جزءًا ضروريًا من صنعة المؤرخ، لكن البعض يقدم الزعم الأكبر بأنه الطبيعة الجوهرية للتاريخ، جاعلًا إياه، مثلما يشير همبل، مشروعًا مغايرًا إلى حد عميق للفيزياء والبيولوجيا، وأكثر شبهًا بواحدٍ من الفنون منه بأي علم من العلوم الطبيعية. يتكرر التعرض لهذه الرؤية في السجال حول الطريقة التاريخية، وغالبًا ما يكون تحت عنوان المصطلح الألماني "يفهم verstehen"، الذي يعني "to understand" في مقابل wissen الذي يعني "يعرف to know". وأبرز الأسماء في القرن العشرين تعبيرًا عن هذه الرؤية هم ماكس فيبر (1864-1920) وبينيدتو كروتشه (1866-1952) وروبن جورج كولينجوود (1889-1943)، غير أن فهمنا لها يتعضد إن رجعنا لنشأتها في القرن الثامن عشر في كتابات جيامباتيستا فيكو (1668-1744) و ي. ج. فون هردر (1744-1803). (كتب أشعيا برلين، الذي هو نفسه مؤيد قوي وممارس يُحتذى به فيما يتعلق بمقاربة التاريخ التي نتناولها هنا، مقالات بديعة بشأن هذين العلمين البارزين: Vico and Herder: Two Studies in the History of Ideas, 1976.)
ثمة جوانب من رؤية فيكو للتاريخ تعيِّنُه مؤرخًا ميتافيزيقيًا، فقد اعتقد أن الأحداث التاريخية تعكس عمل تخطيط كوني للعمران، والذي كان مقصد الله حين خلق العالم. وقد أُشير إلى هذا في المقال الثاني، أما هنا، فإننا معنيون بإبستمولوجيا فيكو؛ رؤيته لكيفية إجراء الإنسان- وما هو بإلهٍ- تحقيقًا إمبريقيًا للتاريخ. ولمَّا كان الله خالق العالم، فإنه لا يعلم التاريخ برمَّتِه إلا الله. غير أن فيكو يشير إلى أنه يمكن للعقل البشري أن يفهم أحداث التاريخ المحددة، لأنها من صنع الأفعال البشرية. وللمؤرخ ما للبشر الذين تخلق أفعالهم ظواهر التاريخ- عظيمهم وصغيرهم- من صفة الإنسانية. وهذا يُمكِّنه من الولوج في السيرورة التاريخية، محققًا بدوره فهمًا ذاتيًا لها، وهو فهمٌ أبعد غورًا من المعرفة الموضوعية المتأتية لعالم الطبيعة الملزم بأن يظل خارج الظواهر التي يدرسها. يمكن للمؤرخ أن يعِيَ ما يعنيه أن يكون المرءُ هنري ملك نافارا، وأن يغير ولاءه الديني من البروتستانتية إلى الكاثوليكية. ولا يكونُ لأحدٍ أن يعرف ما تكون عليه جزيئات الماء وقت تحولها من الحالة السائلة إلى الصلبة. وكما يصيغ برلين رؤية فيكو "في التاريخ، نحن الفاعلون. وما نحن في العلوم الطبيعية سوى متفرجين". بهذا المنطق قدَّم فيكو الادعاء العريض أنه يمكن للمرء أن يكتشف قوانين العمران الاجتماعي التي هي أكثر يقينيةً من قوانين الفيزياء. وقد قصد حين سمَّى كتابه "العلم الجديد" (1725)، أنْ يؤكد أنَّ علم التاريخ يقدم الشكل الأدق والأدمغ للمعرفة الإنسانية. ولا حاجة للمؤرخين وغيرهم من علماء الاجتماع إلى اعتبار أنفسهم أدنى درجةً من علماء الطبيعة، أو محاولة تقليد منهجيتهم؛ إذ في متناولهم منهجيةٌ مغايرةٌ من ناحية الخصائص وأعلى درجةً. لم تحظ رؤى فيكو باهتمامٍ كبيرٍ أثناء حياته، لكنها لاقت تأييدًا في القرن التاسع عشر من الحركة الرومانتيكية، التي تمردت على مكانة العلوم الطبيعية ورفضت ادعاءها تمثيل المنهجية العمومية للمعرفة.
ولو حاجَّ فيكو، كما فعل هوبز والأخلاقيون الاسكتلنديون، أن عملية الاستبطان الشخصي تُمكِّن المرء من الوصول إلى قضايا صحيحة في العموم فيما يتعلق بـ"الطبيعة البشرية" والتي يمكن أن توظف كمقدمات في النماذج التحليلية للظواهر الاجتماعية، لَمَا كان لعالم الاجتماع أن يجد شيئًا مما قاله فيكو غير متوافق مع منهجية العلم الموضوعي. لكن فيكو قال بأن البشر يعيشون في مجتمعات تختلف اختلافًا كبيرًا في سماتها الثقافية. ويمكن للمؤرخ أن يمارس التحقيق على مجتمع غائب الآن عن المشهد، لا بتطبيق مبادئ الطبيعة البشرية العمومية، ولكن بتحقيق فهمٍ عميقٍ وثيق الصلة بما يعنيه أن تكون فردًا من مثل هذا المجتمع أو أحد قادته.
لم تكن ادعاءات هردر الإبستمولوجية بقدر عظمة ادعاءات فيكو، لكنها لعبت دورًا هامًا في الترويج لفكرة اعتبار التاريخ فن الفهم الثقافي من خلال التوسع في تصور التنوع الثقافي والتأكيد على أهميته للبحث التاريخي. ونجد عند هردر مركب التعددية الثقافية والشمولية الاجتماعية والفردانية التعبيرية، الذي صار سمة مميِّزة للرومانتيكية. ويشير هردر إلى أن رغبة تعبير الفرد عن ذاته أمر أساسي للطبيعة البشرية، غير أنه لا يمكن للفرد أن ينمي قدراته ويبلغ أقصى ما يمكن له إلا بالانتماء إلى مجتمع، متحدًا مع أفرادٍ آخرين منه من خلال تقاسم ثقافة مشتركة. وإن المجتمعات المتجانسة ثقافيًا، عند هردر، هي الوحدات الطبيعية للوجود البشري. غير أن هذا لا يعني أن جميع المجتمعات متماثلة ثقافيًا، ولا أنه يجدر بها أن تكون كذلك. بل إن التنوع الثقافي، على النقيض، سمة طبيعية للوجود الاجتماعي البشري، مثل ما أنه من الطبيعي أن يتماهى كل فرد مع ثقافته الخاصة. ومن الضروري للمرء لدراسة ثقافة مغايرة لثقافته أن يعمل بنصيحة فيكو: انفذ إلى حياة شعبها الجماعية، وادرس فنَّهم ولغتهم وطرقهم في التفكير، ولتقُمْ بما هو أكثر من أن تعرف ما يفعلون، افهمهم باعتبارهم كائنات اجتماعية. وإنه على المؤرخ، وإن كان يدرس ماضي مجتمعه، أن يبذل مثل هذه الجهود، لِمَا يجري على الثقافة من تغيُّرٍ بمضيّ الزمن.
نجد في كتابات بينديتو كروتشه وروبن جورج كولينجوود تأكيدًا قويًا مجددًا لهذه الرؤى. إن أهمية العوامل الاقتصادية والجغرافية وغيرها من العوامل المادية في التاريخ لا تُنفَى، لكن أهمية هذه العوامل توضع دونَ أهمية العوامل العقلية التي استحثت البشر على إتيان الفعل على نحو ما أتوا. على المؤرخ أن يعرف الحقائق، لكن الأهم أن يفهم عقلياتِ مَنْ خَلَقَتْ أفعالهم أحداث التاريخ، ويمكنه تحقيق ذلك حين يحمل نفسه، إن جاز التعبير، إلى داخل عقولهم. فالمؤرخ، في نظر هذه الرؤية، أشبه ما يكون بممثلٍ تدرب في مدرسة "طريقة" قسطنطين ستانسلافسكي، ويؤدي الدور بأن "يصير" الشخصية. فلكي تقدم لجمهورٍ لير شكسبير[1]، يجب على الممثل أن ينفذ إلى "داخل" الشخصية إلى درجة أنه ما إن يظهر على خشبة المسرح، فإنه يكون، لبضع ساعات، ملكًا ساذجًا أحمقًا لا يقْدُرُ سجايا بناته الحقيقية قدرها. حين يجلس المؤرخ ليكتب عن التحول الديني لهنري الرابع، فإنه يقتحم بفكره عقل ملك فرنسا حديث العهد بتاج الملك أواخر القرن السادس عشر، ومن يواجه مشكلة توطيد سلطته. وعلى المؤرخ السردي، كي يقدم ما يبتغي للقارئ، أن يوظف تقنيات الفن الأدبي، مدونًا القصة الحقيقية لما وقع من أحداث على نحو ما يقصُّ الروائي أحداثًا خيالية. ابتغى كروتشه وكولينجوود حفظ صنعة التاريخ والترويج لها باعتبارها تخصصًا فنيًا. وقد رفضوا ما زُعم من أن إبستمولوجيا العلم مناسبة لدراسة ماضي الإنسان، وتصدوا، بخاصة، للمحاولات المتنامية لتطبيق نظريات وطرائق العلوم الاجتماعية على ظواهر التاريخ. وإن قليلًا من المؤرخين المعاصرين مستعدون لقبول الادعاءات المتطرفة لفيكو وهردر وكروشته وكولينجوود، لكن المرء لَيَجِدُ في قسم التاريخ النموذجي في جامعة معاصرة مؤرخين يرون أنفسهم أصحاب صنعة أدبية، يختلفون عن زملائهم الذين يبنون مقاييسهم الإحصائية ويطبقون النظريات الاقتصادية والسوسيولوجية على استقصاء الماضي. (ولدفاعٍ جيدٍ عن الرؤية المتمثلة في أن التاريخ لا يمكن له ولا يجدر به أن يكون علمًا، من صاحبِ صنعةٍ معاصرٍ حَذِقٍ في التاريخ الأدبي، انظر أشعيا برلين، ‘History and Theory: The Concept of Scientific History’, History and Theory, 1960.)
إنني أرى أن لهذا التصور للتاريخ مزيّة، وأنه- علاوة على ذلك قد سوّغ نفسه بالأداء لا بمجرد الوعظ المنهجي. لا يمكن للمرء أن يقرأ أفضل أعمال التاريخ الأدبي دون الإقرار بأنهم يخبروننا بشيءٍ ما عن الماضي يكون من الجيد أن نعرفه. ولا حاجة إلى قولِ أنهم يخبروننا كلَّ شيء نريد أن نعرف من أجل الدفاع عن مطالبات أحقيتهم في الأرض. وقد يثير توظيف مثل هؤلاء المؤرخين لتقنيات الفن الأدبي شكوك العالِمِ صريحِ الحديث خَالِيه من أي مواربةٍ أو تضليل، غير أن مثل هذه التقنيات قد تكون وسائل تواصل فعَّالة، وما من سببٍ لئلا يُستعان بها. والمأخذ الرئيس الذي يوجِّه أصابع الاتهام إلى صنعة التاريخ الأدبي هو أنها تصلح للدعاية السياسية، ولشكلٍ قوي منها في المجتمعات التي يرى أناسها في ماضيهم تعريفًا لثقافتهم. وإذا ما أقنع المؤرخ نفسه أنه المفوض الرسمي فيما يتعلق بثقافة الشعب، وأن مهمته هي التغني بأمجاد عرقه أو أمته (على نحو ما يتصورها)، فمن المرجح ألا يكون فهمه للماضي بأحسن من فهم العالِمِ العازم على جعل البيانات موافِقةً لنظريته. وليست كتابة بعض المؤرخين الأدبيين للدعاية بمبررٍ للإدانة العامة. وإن لبعض المؤرخين العلميين مآرب شخصية وتحيزات على نطاق واسع للغاية.
[1] شخصية الملك لير من مسرحية الملك لير لشكسبير.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط الخاصة بنا وملفات تعريف الارتباط الخاصة بالجهات الخارجية حتى نتمكن من عرض هذا الموقع وفهم كيفية استخدامه بشكل أفضل ، بهدف تحسين الخدمات التي نقدمها. إذا واصلت التصفح ، فإننا نعتبر أنك قبلت ملفات تعريف الارتباط.