ليس الإنسان حيوانًا اجتماعيًا فحسب، وإنما حيوانًا طويلَ فترةِ الحضانة أيضًا. ولا يكون الفرد البشري حين يولد كائنًا قادرًا على الحياة على نحو مستقل؛ فلا بد أن ينمو جسمه، ولا بد لمخه أن "يُبرمج" قبل أن يتمكن من أداء وظيفته. ولا يتكون البرنامج من تلك التعليمات الضرورية لأداء فعّال للوظائف الجوهرية بيولوجيًا فحسب، وإنما أيضًا من تلك التي تشكل سلوكه تماشيًا مع العادات والقيم والمفاهيم الأنطولوجية للمجتمع الذي ينتمي إليه. تلعب عملية التثقيف هذه دورًا جوهريًا في خلق التضامن الاجتماعي والاستقرار اللذين يمكنان الفرد البشري من الانخراط في نشاط تعاوني مع الآخرين من أفراد نوعه. وغني عن القول أنها أيضًا تلعب دورًا في خلق شعورٍ من تمايز الجماعات الاجتماعية، والذي غالبًا ما يؤدي إلى صراعٍ مدمر بينها.
قلّما نجد مجتمعًا بشريًا لا يلعب تاريخ الجماعة فيه دورًا هامًا في تثقيف الشبيبة. تُحكى القصص، وتؤدى الأغنيات والرقصات والطقوس، تخبِر عن أمجاد وآلام الجماعة الغابرة ومآثر رجالها العظماء وأفعال آلهتها. وفي جنبات هذا التاريخ، يتعمق تعيين الفرد لهويته داخل الجماعة ويفضي به تقديره لطرقها إلى أن يسمو فوق وظائفه النفعية. تصير عملية التثقيف في المجتمعات المتعلمة أكثر تفصيلًا وتصطبغ بالفكر على نحو أكبر. لعب الدين، في المجتمع الغربي فيما قبل القرن السابع عشر، الدور الرائد في عملية التثقيف، وكان اللاهوت ساعده الفكري. ومع علمنة الفكر التي أحدثها بزوغ العلم، صار التاريخ الأداة الرئيسية للتثقيف، وحل المؤرخ محل اللاهوتي كمصدر أصيل للمعرفة المتمرسة التي تُعرِّف وتُعيِّن جماعة اجتماعية ما وتميزها عن الأخريات.
وليس كل المؤرخين سعداء بلعب مثل هذا الدور؛ يعتبر البعض أنفسهم إمبريقيين بسطاء، لا يدرسون الماضي إلا لينقبوا عما "حدث بالفعل"، لكنهم مع ذلك يجدون كتاباتهم مقْحَمة في خدمة التثقيف الاجتماعي. ويرجع التطور الحاصل للتاريخ كحقل معرفي فكري في القرن الثامن عشر، ونموه المستمر من حينها، جزئيًا إلى دوره المتعلق بالتنشئة الاجتماعية. واليوم، يكاد هذا الدور يجد القبول تلقائيًا، وهذا السبب الرئيس لكون التاريخ، وحده من بين العلوم الاجتماعية، مادة إجبارية في المدرسة والجامعة. وأن نقول أن مجموعة ما "ليس لها تاريخ" لا يعني أنها أتت أمس إلى الوجود، وإنما أنها ليست على وعي بماضيها، وفي هذا التعقيب تعيير عميق، يقتضي تدني مستوى تحضر، وحتى إنسانية، مثل هذا المجتمع.
ستركز المقالة بشكل رئيسي على المشكلات الإبستمولوجية التي نتعرض لها في محاولتنا التحقيق في الماضي البشري. هل من الممكن تتبع مبادرة كهذه على نحو موضوعي، بحثًا عن الحقيقة بروح "علمية"؟ هل يمكن للمؤرخ أن يتبنى أنماط التحقيق في العلوم الطبيعية؟ وهل الهدف الموضوعي الرئيس للمؤرخ هو اكتشاف "القوانين" العامة التي تحكم الظواهر المعينة؟ وإذا لم يتَبَن المؤرخ أنماط العلم وأهدافه الموضوعية، كيف يفسر أحداث الماضي أو يصيّرها متماسكة ومفهومة؟ وما العلاقة بين التاريخ والعلوم الاجتماعية الأخرى؟ وهل تُمكِّن معرفةُ الماضي المرءَ من التنبؤ بالمستقبل؟ ما العلاقة بين أفعال أفراد الناس وتجاربهم المتشارَكة باعتبارهم أفراد الجماعات (دول، طبقات، وما إلى ذلك) التي يتحدث عنها المؤرخ؟ هذه هي الأسئلة التي سنركز عليها. خلال العقد الأخير من القرن التاسع عشر والعقدين الأولين من القرن العشرين، انخرط المؤرخون الأوربيون في سجال طاحن بشأن حالة صنعتهم الإبستمولوجية، ولم يولِ المؤرخون الإنجليز والأمريكيون هذه المشكلة اهتمامًا يذكر. غير أنه كان هناك مؤخرًا سجال مستمر في أدبيات اللغة-الإنجليزية، استهلته مقالة الفيلسوف كارل ج.همبل 'وظيفة القوانين العامة في التاريخ'[1]. سنبدأ بتفحيص الأطروحة التي قدمها همبل وأهم الانتقادات التي أثيرت بشأنها.
لفلسفة العلم هدفان موضوعيان رئيسيان: أن تَسْتَنَّ الإجراءاتِ الواجب اتباعها إذا أراد المرء إصدار بيانات صحيحة بشأن الظواهر الإمبريقية التي تنفذ دون مظاهرها السطحية، وأن تصف الإجراءات التي يتبعها العلماء الممارسون والباحثون بالفعل. يتشكل النقد الإبستمولوجي من مقارنة المعلومات التي تزودها الممارسة الأخيرة بالمبادئ المشتقة من الأولى. وعند تفحص إبستمولوجيا مختلف مجالات المعرفة، يتباين مزيج الاستنان والوصف تباينًا كبيرًا. بالنظر إلى الفيزياء، يميل الفلاسفة إلى أن يكونوا نحوًا ما وصفيين تمامًا. بينما عند تفحص تخصصات أخرى، يتزايد الاستنان (والنقد)، في تناسب عكسي، تقريبًا، مع استعمالها الطرائق التجريبية والرياضيات. وكان من أهم التأثيرات الواقعة على الفكر الغربي المتعلق بتطور العلوم الطبيعية، من بين عديدها، النزعة إلى اعتبار ممارسات الفيزيائيين مِداد المبادئ الإبستمولوجية التي ينبغي على كل التخصصات الأخرى اعتناقها.
تعد مقالة همبل عام 1942 عن التاريخ مثالًا جديرًا بالملاحظة على هذا؛ إذ يحاجّ، زاعمًا أنه ثمة طريقة تحليل عمومية تنطبق على جميع الظواهر الإمبريقية، أنه لا يمكن للمؤرخين أن يقدموا تفسيرات صالحة لأحداث الماضي إلا بقولبة معالجاتهم السردية في صورة شبيهة الأساس بتلك التي تتبعها العلوم الطبيعية. ويؤكد همبل أنه إذا لم يتم فعل هذا، سيُدفع المؤرخ إلى زعم أن ما يتفحصه من أحداث هي من قبيل "الصدفة"، وإلى تفسيرها بواسطة "الكهانة". تَمَثَّل أحد أهداف همبل الموضوعية في التشكيك في الاعتمادات الإبستمولوجية لنمطين معينين من التفسير التاريخي المُناقَشين في المقالين الثاني والثالث، لكن الوجهة الرئيسية لهذه الحجة أوسع، أن ترقى إلى نقد المنهجية السائدة للدراسة التاريخية بوجه عام.
لا يمكن استعراض السجال الذي ابتدأته أطروحة همبل هنا بالتفصيل، وسنركز على النقاط الأساسية التي أثارها المناوئون والنقاد. ينبغي على الفور تمييز جانبين منه: يركز بعض المعلقين على ما إذا كان همبل، وهو يستن للمؤرخين، قد قدَّم توصيفًا صحيحًا لإبمستولوجيا العلوم الطبيعية نفسها، وعُنِي آخرون بزعمه أنه لا بد للتاريخ، إذ يبحث في الظواهر الإمبريقية، من اتباع نفس منهجية التخصصات الإمبريقية الأخرى. ويزعم بعض نقاد همبل أنه قد أساء تأويل منهجية العلم الطبيعي، وبالتالي أيَّد مبادئ إبستيمية مغلوطة، بينما يحاجّ آخرون أن لا صلة لهذا بالموضوع، لأن عقيدة الأحادية الإبستمولوجية نفسها غير مقبولة، وأنه أيًا ما يكون ملائمًا للعلوم الطبيعية، فإن التخصصات التي تبحث في الظواهر الاجتماعية البشرية تتطلب تطبيق طرائق تحقيق مختلفة– عقيدة التعددية الإبستمولوجية. وإن حجة همبل، كما يمكن للمرء أن يرى، تذهب أبعد من تقييم ممارسة المؤرخين، مثيرةً قضايا مركزية لمنهجية العلم الطبيعي، وفي واقع الأمر، للإبستمولوجيا بوجه عام.
إن المراد من معالجة همبل لإبستمولوجيا العلم التأكيد على أهمية "القوانين العامة". إنه يركز أحيانًا على اكتشاف مثل هذه القوانين، وأخرى على استعمال القوانين المرسَّخة بالفعل لتقديم تفسيرات لأحداث معينة. غير أن همبل يصب اهتمامه على الأخير بشكل رئيسي، كما يشير عنوان مقالته. ويتمثل زعمه في أن أي تفسير لحدث تاريخي يشتمل على استعمال قوانين عامة تكفل المسوغ لاستدلال وجود صلات بين الظواهر الإمبريقية. وقد طرح همبل ابتداءًا "نموذج قانون التغطية" هذا، كما سيطلق عليه، مركَّبًا من ثلاثة مكونات: (1) حدثٌ يأمل المرء تفسيره، (2)وحدثٌ آخر (أو مجموعة من الأحداث) يكفي لإحداث الحدث (1)، (3)و قانون عام صالح (أو مجموعة من القوانين) يصف الصلة الضرورية بين أحداث من نوع (2) وأحداث من نوع (1). وفي هذا التركيب، يفسَّر وقوع الحدث المعين (1) على نحو استنباطي؛ أي أنها تُستلزم منطقيًا ببيانات على صورة (2) و (3). عدّل همبل موقفه فيما بعد إلى حد ما، مقرًا أن بعض "الفرضيات العمومية" أو "القوانين" بيانات احتمالية ولا يمكن توقع تحققها في كل حالة مخصوصة[2]، لكنه لم يتزحزح عن زعمه المركزي أن تقديم تفسير لأية ظاهرة إمبريقية ينطوي على استعمال القوانين العامة في الربط بين الحدث المراد تفسيره والأحداث المركبة لتكون محدِّداته. ونتيجة لذلك، يبين كل تفسير تاريخي، وفق همبل، سبب وقوع الحدث ببيان أنه نسخة مخصوصة من قانون عام ينطبق على كل الأحداث من نوعٍ مشابه.
يمكن للمرء بسهولة أن يتبين سبب عدائية المؤرخين السرديين لنموذج قانون التغطية. يركز المؤرخ في تفسيره غزو ألمانيا روسيا في يونيو عام 1941، مثلًا، على وصف الأحداث التي أدت إليه، وعادة لا يوخذه ضميره إلا قليلًا حين يقول أنها تسببت فيه، ولكن يشق عليه أن يعين القوانين العامة الصالحة إمبريقيًا التي تسوِّغ الرابطة. لا يعتبر معظم المؤرخين الممارسين إبستمولوجيا همبل استنانًا لتحسين البحث التاريخي، وإنما مطلبًا واقعًا يقتضيهم هجر صنعتهم، لأنهم لا يلبون- والأرجح أنهم لن يتمكنوا من تلبية- ضوابط الجدارة العلمية. ويدعي البعض- دفاعًا- أن المؤرخ يسمو فوق قواعد الإبستمولوجيا الإمبريقية الضيقة، بالغًا درجةً أعلى من الفهم لا يكون لعالم أن يبلغها. ويرى آخرون أن المؤرخ فنان أدبي، يكتب عن الماضي كروائي أو كاتب مسرحي، ولا يتقصد في المقام الأول تفسير الأحداث، وإنما الاستعانة بها لحكاية قصة.
يدرك همبل الصعوبات التي يتعرض لها مَنْ يحاول تلبية متطلبات نموذجه. ويشير إلى أن المؤرخ، في الممارسة، لا يقدم إلا 'مخططَ تفسيرٍ'، والذي هو 'إشارة مبهمة إلى القوانين والشروط التي تعتبر ذات صلة، لا أكثر ولا أقل' للحدث المراد تفسيره. لكنه يزعم، بإصرارٍ على نحو استناني، أنه ينبغي للمؤرخ أن يقدم تفسيرًا كاملًا، وذلك بتحديد صريح للقوانين العامة التي "تملأ" مخطط التفسير. وقد يُنظر إلى نموذج قانون التغطية، حين يُطرح على هذا النحو، على أنه نموذج إبستمولوجي مثالي ideal. وأنَّ لا إمكانية تحققه كليَّةً في الممارسة ليس اعترافًا بانعدام صلته. ولا تثريب على المؤرخ إن أخفق في إدراكه. وهو- مثله مثل كل النماذج المثالية- بمثابة دليل للممارسة.
ربما يجد المؤرخون في هذا قليلًا من الارتياح؛ إذ يرون أنَّ استعمال نموذج قانون التغطية كدليل ليس بأيسر كثيرًا من ملء متطلباته بدقة بالغة. وقد أشار النقاد، برفضهم النموذج كدليل، إلى أنه لا يمكن إدراج الظواهر تحت قانون تغطية إلا إذا كانت متشابهة. يبحث علماء الطبيعة ظواهر يمكن تقسيمها إلى فئات متجانسة، بينما لا يكون ذلك، كما يُزعَم، للمؤرخين. يمكن تطبيق قانون الجذب التثاقلي أو قوانين مندل للوراثة على العديد من الظواهر المحددة، لأن لجميع الأجسام كتلة، وتتكاثر العديد من الكائنات الحية بواسطة الاتحاد الجنسي. لكن أي شيء مشترك بين 'الثورات' و 'الحروب' يمكن تغطيته، ولو على نحو مثالي، بقانون عام؟ وهل يمكن تفسير الثورات الأمريكية والفرنسية والروسية جميعها في ضوء 'قانون ثورات' عام؟ يهتم علماء الطبيعة بأوجه الاختلاف بين الظواهر إلى جانب أوجه الشبه بينها، لكن ثمة أوجه شبه عديدة ليعملوا عليها، وهذا تحديدًا، في واقع الأمر، ما يجعل أوجه الاختلاف أهدافَ تحقيق جديرة بالملاحظة. وليس بين الظواهر التي يبحث فيها المؤرخ إلا قلة قليلة من أوجه الشبه، لدرجةٍ تبدو عندها مصطلحات من قبيل "الثورة" أو "الحرب" ذات معانٍ مختلفة في حالات مختلفة، ولا تمثل الكثير مما يمكن اعتباره سمة متأصلة أو مشتركة للأحداث التي تدل عليها. وبسبب هذا النقص في التجانس في المادة التي يدرسها المؤرخ، يبدو جليًا أنه إنْ قَبِل المؤرخون نموذج قانون التغطية، ولو كنموذج مثالي، فلن يكون الأمر سوى تقليد أعمى للعلم الطبيعي.
ربما تكون الظواهر التاريخية أكثر لا-تجانسًا من الظواهر الطبيعة (ربما يشكك عالم البيولوجيا في هذا)، لكن الحجة في الفقرة أعلاه لا تقضي على أطروحة همبل. لا يُلزِم نموذج قانون التغطية المؤرخ بالتنقيب عن- وتطبيق- القوانين العامة التي تحتضن الحروب والثورات. ستفي القوانين التي تحيل على السلوك البشري بالغرض بدرجة مقبولة أو، كما يدعي البعض، على نحو أفضل. وللإفادة من مثل مبيِّن يرِد كثيرًا بشأن هذا السؤال في الأدبيات الحديثة، لا يجب على المرء أن يفسر سبب تشقق مبرد سيارة ممتليء بالماء في ليلة باردة بالاحتكام إلى "قانون تشقق المبردات". بدلًا من ذلك، يلتجئ المرء إلى القوانين التي تبحث في تمدد أشكال معينة من المادة في تحولها من الحالة السائلة إلى الحالة الصلبة، وقوانين مقاومة الإجهاد في المعادن. وعلى نحوٍ مشابه، قد يرجع المؤرخ إلى قوانين السلوك البشري في تفسير ثورة معينة. ومثلما يرتكز المهندس أو الميكانيكي إلى الفيزياء والكيمياء في تفسير سبب تشقق المبرد، يرتكز المؤرخ إلى الاقتصاد والسوسيولوجيا.
لا يعني هذا أن التاريخ بالضرورة تخصصًا طفيليًا أو ثانويًا، رغم أن بعض المؤرخين يتحدثون كما لو أن هذا يعكس- وهو ما ليس بمحبذ- التصاق شرف صنعتهم بشيء من "العلم الاجتماعي". وإنما تقصد الحجة المتعلقة بتشقق المبردات أعلاه أن تفسير الظواهر الإمبريقية يتطلب الاختزال؛ لا بد من تفكيك الأحداث الكبرى كالحروب والثورات إلى مستوى يمكن فيه تطبيق بعض تعميمات مكفولة ذات طبيعة اقتصادية أو سوسيولوجية أو سيكولوجية. ويجادل بعض نقاد همبل أن التفكيك الذي يتطلبه تبني نموذج قانون التغطية يتضمن آخرًا في ارتداد لا نهائي؛ لا بد من تفسير كل عامل تفسيري بعوامل أخرى، وهذه بدورها تفسَّر بأخرى، بلا نهاية. لكن التاريخ لا يتفرد بهذه الإشكالية، فبإمكان المرء أن يصر على أن الميكانيكي حين يفسر سبب تشقق المبرد، فهو يفسر سبب تحول الماء إلى ثلج، وسبب بطء الحركة الجزيئية بانخفاض درجة الحرارة، وما إلى ذلك، متعقبًا المنحوس بلا هوادة حتى يقر أنه لا يعرف. وليس بالضروري، لحسن الحظ، أن تعرف كل شيء لتعرف شيئًا. ولا بد للمؤرخ، مثله مثل العالِم، أن يختزل ظواهره، وأن يعرف أيضًا متى يوقف اختزاله.
لقد أقنعت حجة الارتداد اللا نهائي وحجة عدم التجانس بعض المؤرخين البارزين (مثل تشارلز بيرد ومايكل أوكيشوت) أن تخصصهم غير معنيٍّ بالتفسير مطلقًا، على الأقل بالمعنى الذي تستلزم به كلمة "تفسير" إجابةً لأسئلة 'لماذا؟'. وتجادل هذه الرؤية أن المؤرخ معنيٌّ بأسئلة 'ماذا؟' لا غير (رغم أن أوكيشوت يحاجُّ أن المرء متى ما وصف ما حدث كما ينبغي، فإن هذا يقدم في ذاته تفسيرًا لسؤال لماذا حدث). وإنه لمن المفارقة، مع ذلك، أن يكون المؤرخ السردي في موقف أضعف من العالم الطبيعي فيما يتعلق بانتقاد نموذج قانون التغطية على هذا الأساس. حين عكف فيزاليوس على التسليخ التشريحي، واستعان ملبيغي بالمجهر المخترع حديثًا لفحص التراكيب الدقيقة، فإنهم لم يكونوا يفسرون وإنما يصفون. وبالمثل، يعد قدر كبير من أعمال العلماء المعاصرين في صورته وصفيًا. ولن يربك العديدَ من البيولوجيين والجيولوجيين المعاصرين مطلب همبل المتمثل في أن يكتبوا أبحاثهم وفق نمط نموذج قانون التغطية. وقد يدعي المؤرخ أنه ببساطة يصف الأحداث، لكن الصورة السردية لا محالة تدعو القارئ إلى الاستدلال أنه يفسر لم وقعت الأحداث. ولن ينتج المؤرخ الذي تعهد بأن يكون وصفيًا على نحو متقشف إلا الجداول والقوائم. وسيفتقر هذا إلى الفائدة والبريق أيضًا. لا يمكن للمؤرخ أن يتملص من مطلب التفسير، لكن يمكن له أن يرفض دعوى أن التفسير يتطلب الامتثال لنموذج قانون التغطية.
تفتح حجة الارتداد اللا نهائي قضية أخرى يجدر أن نشير إليها بإيجاز. إذا وجب أن يكون كل عامل يقدمه المرء في تفسير حدثٍ ما مفسَّرًا هو نفسه، أفلا يعني هذا أن تصور المرء عن العالم حتمي؟ يرفض بعض الباحثين (من أمثال أشعيا برلين) نموذج قانون التغطية ابتداءًا على أساس كونه متعارضًا مع الحرية والمسؤولية البشرية. ومع ذلك، ليس بالضرورة- كما رأينا- أن يشتمل النموذج على ارتداد لا نهائي، ورغم أن مؤيده قد يتبنى فلسفة حتمية، إلا أنه ليس ملزمًا بذلك. (انظر ورقة إرنست ناغل البحثية البديعة 'الحتمية والتاريخ')[3]. وليغفر القارئ إعراضي عن مزيد من التعقب لسجال استمر لقرون بلا أمل في الوصول لحل.
يرى مفهومُ الغائية الأرسطي الحدثَ محكومًا ب "علته النهائية"، التي- كونها نهاية الحدث أو الغرض منه- تتبعه زمنيًا. ولا تزال الغائية تلفظ أنفاسها في الفكر المعاصر، والمؤرخون الذين يعرضون الأحداث في ضوء قانونِ تاريخٍ هائلٍ شاملٍ من بين أبرز أبطالها. لكن مفهوم العلية، منذ هيوم، قد أُوِّل بشكل عام على نحو يعكس هذا الترتيب الزمني، معتبرًا علة الحدث متقدمة بالضرورة عليه. ولما كان المؤرخ السردي يكتب تتابعًا للأحداث، بدا أنه يمارس التفسير العلي، وليس بالضرورة أن يكون الأمر كذلك. تتطلب التفسيرات العلية جميعها بيانات تتابع زمني، لكن كل التفسيرات لا تتطلب ذلك، وليست كل بيانات التتابع الزمني تفسيرات، فضلًا عن أن تكون تفسيرات علية. يؤول نموذج قانون التغطية لهمبل المعالجة السردية للمؤرخ على أنها تقدم تفسيرًا علِّيًّا هيوميًّا للأحداث. ويجادل بعض نقاد النموذج أن المؤرخين لا يقدمون تفسيرات على الإطلاق، ويزعم آخرون أنهم يقدمون تفسيرات لكنها ليست علية، بينما يرى آخرون أنهم وإن كانوا يستعملون نموذجًا عليًا، فإنما يستعملون واحدًا يركز على عناصر لا يقدر همبل أهميتها. سنفحص في هذا البند وجهة النظر الثانية، لكن من المفيد أن نبدأ بالثالثة، إذ يمكن توضيح مفهوم التفسير اللا-علي، إن اعتبرناه تمييزًا لما يُشدَّد عليه، وليس مغايرًا بشكل قاطع لنموذج همبل، كما يصر بعض الباحثين (من أمثال ويليام دراي).
أشار عدد هائل من المعلقين، في أدبيات السجال حول نموذج قانون التغطية، أن التفسير العلي لحدث إمبريقي معين يتكون من عنصرين: بيان "علة" الحدث، وتعيين "الشروط" التي تعمل في وجودها العلة. يشير ويليام هربرت دراي، في اختياره البديع لأوراق بحثية من هذا السجال، إلى التمايز بين العلل والشروط كواحد من السمات البارزة في المناقشة[5]. وفي حين يقر همبل وآخرون من فلاسفة العلم هذا التمايز، يرى النقاد أنهم يخفقون في تقدير أهميته الكبيرة في بحث الظواهر التاريخية.
ولتوضيح هذه المسألة، دعنا نستحضر نموذج [6]INUS للسببية، وهو في الأصل منشأ كنظرية للتفسير التاريخي[7]. ووفقًا لنموذج INUS،
في معالجة كهذه، نصِف العامل الذي يستكمل مجموعة كافية على أنه "علة" الحدث، والعناصر الأخرى في المجموعة على أنها "الشروط". ولا يختلف نموذج همبل عن نموذج INUS على أي نحو أساسي، إذ يمكن تأويل حجة همبل ببساطة على أنها إصرار على أن ينطوي أي بيان لمجموعة كافية على قوانين التغطية ذات الصلة، إلى جانب وقائع الحالة، ضمن الشروط. وبالتالي، يُختزل السجال بين همبل و(بعض) نقاده إلى أن: همبل يشدد على دور قوانين التغطية، بينما يشدد نقاده على التباين بين العلل والشروط.
ولا يعني هذا أنه يمكن الفصل في السجال الدائر حول نموذج قانون التغطية بسهولة أو إعادة التأكيد على الأحادية الإبستمولوجية. في التاريخ السردي، نجد أن معظم النصوص تُخصَّص لوصف الشروط المخصوصة بالزمان والمكان لتفسير لِمَ كان لعللٍ محددة بعينها (عادة ما تكون أفعال أشخاص مخصوصين) عواقب محددة بعينها. بينما تخصَّص مساحة أقل بكثير لهذا في نصوص وثائق العلم الطبيعي، وأحيانًا ما تكون في حكم الغائب. على سبيل المثال، ستنظر معالجة للفصل في السجال بين جمهورية البندقية والبابا فيما بين 1606-1607 في قرار مجلس شيوخ البندقية بإيجاز شديد، لكنها ستعطي معالجة مطولة للظروف الاقتصادية المعاصرة وظروف أخرى، مشيرة إلى أن كثيرًا من نبلاء البندقية صاروا أكثر اهتمامًا بمشاريع البر الرئيسي من المشاريع البحرية، وآتية على ذكر الموارد المتغيرة لإيرادات دولة البندقية، وتوزيع السلطة السياسية، وما إلى ذلك. على النقيض، ستركز ورقة علمية تفسر مسبب فقر الدم المنجلي على شذوذ حمض أميني واحد على كروموسوم واحد، مسلِّمةً أن القارئ سيزود نفسه بالحقائق ذات الصلة المتعلقة بعلم الوراثة البشرية والكيمياء العضوية وما إلى ذلك.
وسبب هذا الاختلاف في الأسلوب التفسيري جلي. يفسر العالِم الطبيعي في ضوء "الشروط" إلى جانب "العلل"، لكنه لا يحتاج إلى تحديد الشروط، إذ أنها تتشابه إلى حد بعيد في كثير من الحالات. ينظر المؤرخ في ظواهر تحدث في ظروف غير متشابهة، والتي، على النقيض، يجب عليه أن يخصص لها الجزء الأكبر من انتباهه. وفي ضوء نموذج INUS، يبحث العالم الطبيعي ظواهر يمكن تفسيرها بعدد محدود من مجموعات العوامل، بينما يحوي عالَم المؤرخ الكثير من المجموعات، ربما مجموعة مختلفة لكل حدث. يمكن تفسير حريق الغابة المعلَّل بالبرق بمجموعة من العوامل التي تتشارك عددًا كبيرًا من العناصر مع مجموعة لآخر معلل بحريق مخيم (الجفاف، وجود بقايا خشب من أغصان مقطوعة وشجيرات، وما إلى ذلك.) لكن ثورتين قد تختلفان في ظروفهما حدَّ أن بعض المؤرخين يفضلون تجنب اللغة التي تتضمن العلية. في مواجهة عدم تجانس الأحداث التاريخية، يوظَّف نمطُ تفسيرٍ يركز على ترابط العوامل التي اتفق حضورها في زمن ومكان مخصوصين، بدلًا من التركيز على تتابع زمني للعلة والأثر، وإذا ما عوينت أفعال معينة للأشخاص، فلا يُنظر إليها كعوامل مستقلة (كالبرق، مثلًا)، وإنما كأفعال يَتوقع المرء أن يأتيها أشخاص عقلانيون، في ضوء أهدافهم، في ظروف معينة. وبإمكاننا الآن أن نرى أن حجة عدم تجانس الأحداث التاريخية، وحتى الزعم بأن كل حدث فريد من نوعه، لا تعني أنه لا يمكن تقديم أي تفسير لها. وإنما يتطلب أن يكون التفسير لا-عليًا شكلًا/ صورةً، وأن يركز في المقام الأول على الظروف التي كانت حاضرة حين اتخذ الأفراد قرارات إتيان الفعل (أو، بالطبع، الإحجام عنه). إن الشكل السردي الذي يوظفه المؤرخ ليس تحليلًا عليًّا، وإنما معالجة بيِّنة لاقتران مثل هذه الظروف في زمن ومكان معينين. والمفاهيم الرئيسية التي تنطوي عليها رؤية التفسير التاريخي هذه هي 'البيان' و 'الترابط' و 'العقلانية الموقفية situational rationality". وعند استدعاء مثل هذه المفاهيم، لا يهتم نقاد نموذج قانون التغطية بأوجه قصورها كإبستمولوجيا إلزامية/ توجيهية، أو كإبستمولوجيا وصفية للعلم الطبيعي. بل يحاولون بيان أنها لا تصف منهجية التاريخ على وجهها الصحيح. ولمَّا كان مؤيدو نموذج قانون التغطية مستعدين للإقرار بأن منهجية التاريخ السردي التقليدية تنجح في واقع الأمر في تقديم معرفة إمبريقية، كانت المشكلة الحقيقية هي بيان كيفية تحقيق ذلك.
يلفت التشديد على وظيفة القوانين العامة في نموذج همبل النظر إلى حقيقة أن الظاهرة الإمبريقية تُستبان حين نستوعبها كنسخة معينة من فئة عامة. إن نسخة تساقط حجر معينة تُفهم حين يعلم المرء أن كل الأجسام تخضع لقانون الجذب التثاقلي. لكنها ليست الطريقة الوحيدة التي تستبان بها الظواهر الإمبريقية، بل هي في الواقع ليست مناسبة على الإطلاق لبعضٍ منها. إذا لاحظ راصدٌ أن لمقدمات جنادل البندقية ستة نتوءات عديمة الوظيفة والتمس تفسيرًا، فيخبره مرشده أن النتوءات تمثل مناطق المدينة الست، ويمضي ليرسم تاريخ التقليد. فالراصد لم يُزوَّد بأي قوانين تغطية تفسِّر، بمصطلحات علمية، لِمَ why يتصرف بنَّاءو الجنادل على هذا النحو. وإنما يقدَّم له وصف لما what تمثله النتوءات وكيف how يُنشَأ التقليد. ولا شك أن معتنق الأحادية الإبستمولوجية البارع قد يعيد صياغة مثل هذا التفسير في النمط الاستنباطي لنموذج همبل، لكن هذه الممارسة السكولاستية ستنتقص من استيعاب المرء للظاهرة أكثر مما تضيف إليه. ولتحقيق البيان، يروي المؤرخ السردي قصة، مستخدمًا نمطًا من البيان عُهدت ممارسته وآتى ثماره منذ كتابة العهد القديم على الأقل. إن للقصة الجيدة بداية ووسط ونهاية. وإن المؤرخ يشوِّه التجربة البشرية بتبنيه النمط السردي، الذي كله وسط، لكن لا ينبغي للمرء أن يرفض هذا كإجراء إرشادي تقريبي ما لم يتبين، بممارسة فعلية، أن نمطًا آخر يفوقه.
في النموذج النيوتوني للنظام الشمسي، قُدِّمت معالجة لحركات الكواكب تبين كيف "تتوافق سوية". وبعبارة أخرى، يُمَكِّن قانون الجذب التثاقلي المرء من بناء نموذج متماسك للنظام الشمسي. وبالمثل، تقدم نظرية التوازن العام في الاقتصاد نموذجًا لاقتصاد السوق يصف كيفية عمل أجزاء الاقتصاد تبعًا لقوانين عامة معينة، تتوافق سوية على نحو متماسك. وربما يزعم المؤرخ أنه أيضًا يطرح نموذجًا متماسكًا، حتى وإن لم يرتكز على أية قوانين من النوع الذي يفكر فيه همبل. حين يقدم المؤرخ معالجة للإصلاح البروتستانتي، مثلًا، فإنه يكابد أن يبين كيف "تضافرت" الاتجاهات المختلفة في أوروبا أوائل القرن السادس عشر، وكيف "تفاعلت" الأحداث المختلفة في هذا الوقت مع بعضها البعض. وربما يُدفع مؤرخ إلى الشك في صحة وثيقة منسوبة إلى مارتن لوثر، مثلًا، لأنها تبدو غير موافقة للعصر، في حين أنه قد يرتأي أن وثيقة أخرى ربما كتبها لوثر، لأنها متسقة مع حقائق أخرى. وقد ينتقد مؤرخ معالجةَ آخر عن الإصلاح على أساس أن العناصر التي ذكرها الأخير لا تتفق سوية، أو ربما لأنه أغفل عناصر معينة ضرورية لاستكمال صورة متماسكة.
قد يحاجُّ البعض أن التماسك هو التماسك، سواء وظِّف كمعيار تفسيري في الفيزياء الفلكية أو كان ذلك في الاقتصاد أو التاريخ، غير أنه من الصعوبة بمكان تحديد القوانين العامة التي تكمن وراء السردية التاريخية. وإنه ليبدو، إذ ينجح المؤرخ في إنتاج معالجة متماسكة للأحداث وتوظيف معايير التماسك في تقييم الشرعية الإمبريقية/ الصدق الإمبريقي لمعالجة ما، أن تطبيق نموذج قانون التغطية ليس الطريقة الوحيدة لتحقيق التماسك. حاجَّ جاك هـ. هيكستر، بتقديم مثال صارخ، أن استعمال النمط السردي هو الطريقة الوحيدة لإنتاج تفسير متماسك للحدث في بعض الحالات[8]. وهذا إنما يؤكد مجددًا على أنه لا بد أن تتناسب منهجية المشروع مع المهمة التي تتعهد بأدائها. أتت الورقة البحثية بالغة الأهمية لجيمس ديوي واتسون وفرانسيس هاري كومبتون كريك التي يصفان فيها بنية جزيء الحمض النووي DNA في صفحة واحدة فقط[9]، مقدمة نموذجًا متماسكًا دون أية معالجة للإجراءات التي وظِّفت في بنائه. وكُتِب كتاب واتسون الذي أعقبها[10]، والذي يصف فيه كيف توصل هو وكريك إلى البنية، كسردية تاريخية. وإن المرء ليتعلم كثيرًا من كليهما، غير أنه لا يتعلم الشيء نفسه. وإن كتبت ورقة واتسون-كريك في صورة سردية، وأتى كتاب واتسون على النمط المحكم الموجز للتقرير العلمي، لم يكن المرء ليتعلم من أيٍّ منهما إلا قليلًا.
وكما قد رأينا، عادةً ما يخصص المؤرخ مساحة أكبر بكثير لوصف الشروط المتعلقة بزمان ومكان معينين من وصف أفعال الأشخاص المحددة. ومع ذلك، تلعب مثل هذه الأفعال دورًا لا غنى عنه في السردية التاريخية. سيكون على معالجةٍ للحملة الصليبية الرابعة- مع ملاحظة مهاجمة الصليبيين لمدينتي زارا والقسطنطينية المسيحيتين قبل التوجه إلى الأراضي المقدسة- أن تقول أن قادة الحملة الصليبية هم من "قرروا" القيام بذلك، غير أن مثل هذا الانحراف الجلي في أهداف الحملة الصليبية لا يستبين دون تفسير الظروف التي اتُخذ في وجودها القرار. وجملة القول أن المؤرخ لا ينظر إلى أفعال الأشخاص على أنها متقلبة دون مبرر أو أنها غير قابلة للتفسير، وإنما كأفعال عقلانية، في ضوء أهدافهم والظروف. تُفسَّر الأحداث التاريخية بالاحتكام إلى مفهوم "العقلانية الموقفية". ويجادل المؤرخ أنْ ليست الظروف الاقتصادية والسياسية وما إلى ذلك من ظروف العصر هي من تحدد الأحداث، وإنما تشكل الظروف التي جعلت من العقلاني للأفراد أن يتعهدوا الأفعال التي لعبت دورًا في وقوعها.
جادل عدد كبير من مؤيدي أطروحة همبل أن للتفسير (بواسطة قوانين التغطية) نفس الشكل المنطقي للتنبؤ. فالتنبؤ يُظهِر أن الحدث نتيجةٌ ضروريةٌ لعللٍ وشروط معينة، لأنه مستنبط منهم منطقيًا، والتفسير يظهر ما العلل والشروط التي يكون لها أن تقتضي الحدث المعني منطقيًا. فالتفسير ببساطة، على هذا، هو "التنبؤ معكوسًا". غير أنه من الممكن أن تشهد الممارسة العملية تكرر تفسير الظواهر التي لم يكن يمكن التنبؤ بها. على سبيل المثال، يمكن لعالم البيولوجيا أن يفسر كيف تطور الحمار الوحشي من الأشكال العضوية الأولى، لكن لا يكون له أن يزعم أنه كان بالإمكان التنبؤ بوقوع هذا. ويعتبر المؤيدون بقوة لنموذج قانون التغطية هذا راجعًا إلى نقص المعلومات؛ فلو عُرفت كل الحقائق والقوانين ذات الصلة قبل تطور الحمار الوحشي، لكان من الممكن التنبؤ بظهوره[11]. ووفقًا لهذه الرؤية، قد كان يمكن للبعض أن يتنبأ بأن قوات الحملة الصليبية الرابعة ستهاجم القسطنطينية؛ وكان هذا من شأنه أن يضعِف الإمبراطورية البيزنطية حدَّ أن الأتراك كانوا ليمدون سيطرتهم الإقليمية في أوروبا؛ ومع ذلك، كانوا ليُصَدُّون في فيينا، وما إلى ذلك. وجملة القول أن إشكالية الحتمية القديمة تعود لتُثار مجددًا.
في محاولة للهرب من فكرة أننا نعيش في عالم كان يمكن للذكاء اللابلاسي[12] أن يتنبأ به وقت الانفجار العظيم، لاذَ المعلقون باعتبارات عديدة، من مبدأ اللا حتمية/ عدم التأكد في ميكانيكا الكم إلى فكرة أن الله يتدخل بين الحين والآخر في شؤون الدنيا. يحاجّ كارل بوبر في كتابه عقم (فقر/ بؤس) التاريخانية (1957) أن هذه الفكرة واهية منطقيًا ويتعذر الدفاع عنها: إذا كان يمكن التنبؤ بالمستقبل، فسيكون للبشر أن يأتوا الفعل على أساس تلك التنبؤات، وبالتالي يغيرون الأحداث عما كانت ستكون عليه لولا ذلك ويثبتون خطأ التنبؤ. وليس هذا ببرهان مقنع، إذ أنه يقحم حرية الفعل في مقدمات حجة تعمد إلى إثبات وجودها. وما يقبع في غَور مفهوم العقلانية الموقفية هو فكرة أن البعض قد يفسرون الأفعال البشرية باستيعابها كنتيجة للقرارات التي كان لِيتخذها البشر العقلانيون، دون ادعاء أنهم أُجْبِروا على اتخاذها. وهذا لُبُّ كلِّ ادعاء أن المؤرخ يوظف أنماط تفسيرٍ لا-عِليَّة. ويجادل أنصار همبل أن مثل هذه الأنماط سببية في نهاية المطاف، لكن كثيرًا منهم غير مستعدين لقبول الحتمية كما النقاد. تتطلب فكرةُ أن للبشر سلطة تغيير مستقبلهم اعتقادَ أن للأحداث عللًا، ولهذه العلل بدورها علل، إلى آخره، غير أن ثمة عناصر، في مكان ما من السلسلة، ربما تتصرف كعلل لكنها نفسها غير معللة. ورغم أنني أنا نفسي أقول بهذا الرأي، إلا أنني لا أتعهد الدفاع عنه هنا. إن الحتمية والحرية مفهومان يمكن إيضاحهما بالمناقشة، وأي جهد لإثباتهما أو دحضهما سيجر المرء، على طول الطريق، إلى مستنقع.
[1] (‘The Function of General Laws in History’, Journal of Philosophy, 1942)
[2] (‘Explanation in Science and in History’, in R.G.Colodny, ed., Frontiers in Science and Philosophy, 1962)
[3] (Ernest Nagel, ‘Determinism and History’, Philosophy and Phenomenological Research, 1960)
[4] يمكن استعمال كلمة "سببية" بديلًا لعلية كترجمة لـ causal أيضًا، وكلمة "مسبب" بديلًا لـ "علة" كترجمة لـ cause [المترجم]
[5] (Philosophical Analysis and History, 1966, 1).
[6] دعنا نبدأ بمثال لتوضيح هذا النموذج: "كان البرق علة حريق الغابة"
من الواضح أن البرق ب لم يكن كافيًا لإحداث الحريق ح، إذ كان لا بد أن تكون الغابة جافة ج كي يحدث الأثر الذي أحدث. لكن البرق ب لم يكن ضروريًا أيضًا، إذا كان يمكن أن تنتج ح، باعتبار وجود ج، من سيجار نافق س.
والآن دعنا ننظر كيف يمكن الجمع بين العناصر ب و س و ج و ح. أولًا، نلاحظ وجود مجموعتين من الشروط الكافية.
يكفي لإحداث ح: (1) ب و ج
(2) س و ج
ويمكننا القول أن: ب ليست كافية Insufficient لاستكمال المجموعة العلية (1).
ب ضرورية Necessary لإتمام المجموعة العلية (1).
وفيما يخص المجموعة (1)، التي ينتمي إليها ب، نعلم أنها ليست ضرورية لإحداث ح، إذ أن بمقدور المجموعة (2) أن تفعل ذلك أيضًا، لكن المجموعة (1) كافية، ولذلك:
المجموعة (1) ليست ضرورية Unnecessary ل ح.
المجموعة (1) كافية لإحداث Sufficient ح.
ولذا، حين نقول أن "البرق أحدث (سبَّب/ علة) حريق الغابة"، فإننا نعني أن ب فرد غير كافٍ لكنه ضروري في مجموعة من العوامل، وهذه المجموعة غير ضرورية ولكنها كافية لإحداث ح. وإذا أخذنا الأحرف الابتدائية الكبيرة المظللة نحصل على الكلمة INUS.
[7] (K.Marc-Wogau, ‘On Historical Explanation’, Theoria, 1962).
[8] (‘Historiography: I. The Rhetoric of History’, International Encyclopedia of the Social Sciences, 1968; see also Terry Pinkard, ‘Historical Explanation and the Grammar of Theories’, Philosophy of Social Science, 1978).
[9] (Nature, 25 April 1953).
[10] (The Double Helix, 1968).
[11] لمثال جيد بشأن هذه الحجة، انظر May Brodbeck, ‘Explanation, Prediction, and “Imperfect” Knowledge’,) Minnesota Studies in the Philosophy of Science, 1963).
[12] نسبة إلى Laplace.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط الخاصة بنا وملفات تعريف الارتباط الخاصة بالجهات الخارجية حتى نتمكن من عرض هذا الموقع وفهم كيفية استخدامه بشكل أفضل ، بهدف تحسين الخدمات التي نقدمها. إذا واصلت التصفح ، فإننا نعتبر أنك قبلت ملفات تعريف الارتباط.