يا علبة الصبر: كيف تورث الأغنية حكمة الأيام؟!

2024-10-01

يا علبة الصبر:  كيف تورث الأغنية حكمة الأيام؟!

يا علبة الصبر؛ هو اسم غامض لموال الشيخ أحمد برِيِنْ، الذي لم أعرف تمامًا متى بدأت علاقتي به، مثل كثيرين، وقعوا في فخاخ محبته ومداده من دون أن يدركوا، لكنهم عوضًا عن ذلك رأوا، عرفوا، فالتزموا! ولا أزال من وقتها أتلمس في سماعه بعض الحنين للذكرى، ثم في سلوى غناءه بالصبر على أذى الأيام وضناها! هو أيضًا ما انتقلت إليه اليوم، بعد محادثة قصيرة مع الشاعرة "إيمان المغربي". عرفت أنها بلديات محمد العجوز تلميذ برين، إذ تمتد صلته بالقرابة والنسب بينه وبين والدة الشاعرة وابنتها البكر، وجذور مشتركة تعود لقرية نجع هلال- إدفو- أسوان، لصدفة بحتة أو لترتيب خفي، كما يحدث عادة! غير أن أكثر من مصدر يذكر أن العجوز ابن أخت برين، إلا أن الشاعرة نفت تلك المعلومة، وهذا ما أكده أيضًا الشاعر والباحث "محمد المتيم" في فيلم وثائقي من بحثه وكتابته بعنوان "برين .. شيخ المداحين". أما الشيخ وهو الصوت الأشهر في مرافقة فيديوهات التحطيب المنتشرة على الإنترنت، والتي أغرم بها منذ سنوات؛ لعرق جنوبي –نافر- أيضًا، يمتد من جبهتي إلى سائر الجسد، يطرح سؤاله الصعب، بين هواي القاهري، وملامح وجه ودماء تعود إلى هناك!

ثم في معزوفته الأشهر مع العجوز يقول شيخ المداحين: "علامة السبع يستحمل قسى الأيام/ يمشي مع الوقت ولا يشكي من الأيام/ ويجابل الضيف بالوجه البشوش أيام/ ويكرم الضيف شتا مع صيف ميملش/ لو أتته كلمة ومن غير بال ميملش/ يكلها بالملح والفرفات ميملش/ السبع ميملش ولو حكمت عليه الأيام". هو تدشين أول لبعض الحكم الضرورية لحياة تقسو حتمًا على السباع، والطيبين كما يتضح من المتن. وتقوم فكرة المقطوعة (فرش وغطا) على غناء الأستاذ وتلميذه معًا، ليمثل الأول فرشًا، ويرد الآخر فيكون الغطاء! غير أن الأيام أبت إلا أن تُفرق بينهم، مرة بافتراق العمل، فيترك العجوز برين، ويرتحل للقاهرة ومنها إلى أوروبا ليقيم بعض الحفلات، ثم بافتراق نهائي وحاسم، بموت التلميذ في حادث مؤلم 2010م. ليلحقه شيخه ومربيه أحمد برين عام 2015م من الصعيد، كما اشتهى أن يموت!

 

الأغنية: فنون مختلفة/ تجليات الحقيقة

يشترك الشيخ أحمد برين مع مشاهير آخرين مثل ياسين التهامي وأحمد التوني وعبد النبي الرنان وأولاده من بعده في الميل إلى ثيمة غنائية تتخذ من المديح النبوي مادة خام لتشكيل مخيالها الموسيقي والأدبي. صحيح أن لكل من هؤلاء فلسفته الغنائية، إلا أنهم يشتركون في لمحة صوفية ما، تبدو على أرواحهم، ثم الأصوات وأبيات الأناشيد. حيث فضائل مثل التخلي والزهد والصبر معراج إلى محبة الله، وربما التأكيد على أن هذه المعاني هي الحكمة الحقيقية للحياة والأحداث، هذا لو أن هناك حكمة يجب أن تورث. بالإضافة إلى كثيرين لم يحالفهم حظ الظهور في الأوساط المضيئة، وتلك قضية أخرى تتعدد أسباب تعقدها، غير أن هناك أصوات مهمة للغاية، قدمت في فترات نشاطها تعبيرًا جماليًا عن هذا اللون الغنائي أو ذاك. أو فيما يتعلق بتوارث حكمة الأيام كما أشرنا، فهناك على سبيل المثال الشيخ سيد العريبي كواحد من المنحدرين من عباءة برين والعجوز والتوني بطريقة ما. هذا بالإضافة إلى السحر الكامن في فن المربعات المنحدر من فن الواو الشهير بالصعيد، مثل مربعات ابن عروس، وممن أجادوا هذا الفن باقتدار بالغ مثل الريس شوقي القناوي والريس بشندي وغيرهم. هذا غير التراث الشعبي الصعيدي مع المطرب ربيع البركة، وياسر رشاد عملاق فن الكف في وقتنا الحالي، الذي ينحدر أيضًا من الواو والنميم وفنون صعيدية أخرى.

وكما هو الحال مع أغان الصعيد وفن الواو ومربعاته الشهيرة، هناك لدى البدو أيضًا أغانِ السامر، والتي يختلف فيها بدو سيناء على سبيل المثال عن البدو في أماكن أخرى داخل مصر وخارجها، لكننا نشير إلى أنها تشترك جميعًا في ثيمة تبدو متقاربة، وجميعها تحكي ما ورثته من جد الأيام وهزلها، وحكمتها بالأخص. كما أنها -أي الأغنية- تشكل ترابطًا حيًا ومتناغمًا، أو خيطًا رفيعًا للغاية يجمع كل هذه الأشكال؛ فالسيرة الهلالية التي امتدت أحداثها من نجد إلى تونس مرورًا بالصعيد، لم تكن بعيدة تمامًا عن العربان من الواحات وسيوة الذين ينحدرون من أصول المغرب العربي وتونس، وبين ثنايا الأبيات وطرق الغناء حتمًا ستجد تشابهًا بالمعاني لو لم يكن بالكلمات. وقد ظهر هذا التمازج والتلاقح في المربعات وهي قريبة الوزن من بحر المجتث في الشعر (مستفعلن فاعلن)، ولعل أبرز من غناها كان الشاعر الراحل جابر أبو حسين، مع الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودي وزوجته عطيات الأبنودي. لتعطي الأغنية صور صادقة للمجتمع بمختلف شرائحه وتفاعلاته.

في الريف أيضًا اشتهرت أغنيات أخرى، تتضمن قصص الأنبياء وحكايات العشاق والعاشقات ممن غدر بهم الزمان أو أكرمهم وجمع شملهم وهنأهم بالوصال الجميل، أو من أتت عليه الأيام بثقلها، فعذبه الفقر أو الغدر أو غياب الأحباب، أو من أنصفته الأيام على جبروتها عمدًا أو حظوة وكرامة، مع يوسف شتا وغيره ممن أجادوا قراءة الواقع وحكيه في قصص تهدف إلى الطرب والمتعة، ولا تغفل تقديم حكمة ناصحة للمستمع، الذي سيرى ذاته حتمًا في أحد أبطال هذه القصص المغناة، وعليه، فغالبًا سيفعل ما تقتضيه الحكمة المسموعة، وكأن القصة لا تأخذ فحسب من الواقع لتغزل ثوبها، بل تعطيه بريقًا وإغراءً ما بقبول حكمتها راغبًا يتأمل النجاة. وكأحد تمظهرات الثقافة عمومًا، تتبدى الأغنية ومن ثم ما تنقله من حكمة كأداة مهمة في تشكيل الواقع والتفاعل معه، وربما تغييره، فضلًا عن التعبير عنه بدايةً.

أما في السويس وبورسعيد ودمياط وغيرها من مدن القناة، تجلت الغنيات عن الحرب والهزيمة والانتصار، مُخلفةً وراءها ما تركته الحرب من علامات أو ندوب، حافظة للأجيال الجديدة سيرة نضالها الحر، في رقصة البمبوطية، أو آلة الطنبورة التي ظهرت مع العمال النوبيين الذين عملوا في حفر قناة السويس. وعلى أنغام السمسمية، عُرفت مجموعة الضمة وعازفيها باسم "الصحبجية"، وأشهرهم الريس زكريا وفرقة الطنبورة، بالإضافة إلى "الريس إمبابي" و"محمد الدشناوي". مثلما يوضح الباحث "إسلام عبدالوهاب"، وقد أشار أيضًا إلى أغان النوبة التي حفظت تراثها بعد ما حدث من تهجير/ تغير ديموغرافي تلازم مع بناء السد العالي، والمُخبأ في إيقاعات "الكوم باك" و"نجر يشاد" وهو الخاص برقصة الكف، وإيقاع "شكا". بالإضافة إلى أن الشكل الشعري الذي يعتمده النوبي في الغناء، هو الرباعية، وهو يذكرنا بطريقة ما بالمربعات التي أشرنا إليها، كواحدة من علامات التمازج بين الأشكال الشعرية والثقافات المختلفة للمجتمع الواحد. ومن هؤلاء الذين حققوا شهرة واسعة للغناء النوبي كان "علي كوبانا"، ومن بعده الكثيرين مثل "حمزة علاء الدين" و"أحمد منيب" و"محمد حمام" والكينج "محمد منير" بالطبع.

ولعل هذه لم تكن سوى إرهاصة حب لهذا التراث الإبداعي حتى وإن لم أدرِ -مع الشيخ- في بحر الهوى أين موضعي، ورغبة في استكشاف ما يمثله في مخيال المستمع عمومًا، والمصري بالأخص لأنه في حالة الأخير قد تتجاوز الأغنية دورها الطربي والإنشادي، إلى التعليم والتهذيب وشحذ أدوات/ حواس المتلقي في التعامل مع الواقع الذي أنتج هذه الفنون في الأساس. وربما من اللافت للغاية اشتراك معظم هذه الفنون إن لم يكن كلها في صفة التناقل والحفظ الشفاهي. وهي الصفة التي حافظت بشكل عفوي (أي لم يتقصد الحفظ) على التراث الشعري والغنائي الشعبي، من ناحية كما هو الحال في حفظ وإنشاد السيرة الهلالية وقصائد المديح النبوي وقصص الريف والبدو، أو الصنعة والإلقاء المرتجل كما هو الحال في فنون المربعات والكف وغيرها مما يقتضي حضور الكلمة على اللسان محفوظة أو مرسلة من غير تدوين أو طباعة. للحد الذي يمكن القول فيه أن الوسيط الشفاهي كان عاملًا رئيسًا في نقل الحكمة سواء مغناة أو قصصية، مرة وهو يلقنها للمستمع المريد، ومرة حين حافظ عليها طازجة حرة في مواجهة النسيان وعوامل الزمن.    

الوصية وحكمة العارف

في مواله "علبة الصبر" يجلي الشيخ برين مساحات شاسعة للحث -كما هو واضح- على فضيلة الصبر. الصبر لأنه مرونة تتطلبها الأيام، وكذلك أحوال الدنيا في العموم. وفي المخيال الشعبي لم يكن ثمة حيلة سوى الصبر للقفز على جراح المصائب الكبرى. وربما نصيحة لطبقة اجتماعية بعينها، قد تعزي حوادث الأيام بتصوف جم، ورضىًّ بالغ؛ ما هو خارج اليد، إلى الذي خلقها، آملين الجزاء الحسن. والصبر لأنه علامة واضحة في جباه الذين غلبوا الفقر بترفعهم النبيل، إذ الفقر لم يكن عن المال فحسب، بل عن الحياة بجملتها في بلاد يضيع فيها الصابرين وذوي المروءة والشرف، لصالح أرطال لحم قذرة من الخسة والنذالة لمرابين الفساد في المال والأعمال والسياسة.

يفتتح مولانا ملحمته بصوته البديع، قائلًا: "إن قل مالي فلا خلً يصاحبني/ وإن زاد مالي فكل الناس خلاني. يا علبة الصبر من شالك ضنى قبلي/ مكتوب على ماركتك دا الطيب المبلي!" تربيتة على كتف متعبة، شجن يحمله صوت الشيخ بما لا يضاهى أحيانًا؛ ليأخذك من أناك إلى أناه، من وجدك الحزين، القانط، لتتمايل مع نقر الدفوف، وكلمات الصبابة. عزاء ساذج ربما، لكنه يظل حقيقيًا! وفي الوقت نفسه لا يتركك في حيرة جريح يحسب أنه وحيد، ليعلمك أن الجراح ليست سوى ضريبة متواضعة لارتقاء الروح، كي تصبح شفافة أكثر. هكذا يجعل من الحزانى والمبتلين، قلوب رقيقة كأفئدة الطير، وفي الوقت عينه، يدعو الطبيب كي يرى، وكأن الجريح لا يحتاج سوى أن يرى الآخر جرحه، ليكون الآخر على الدوام مؤنسًا، ومطيبًا للخاطر. فيقول: "احنا سمعنا من أهالي الفن/ كل اللي سهروا الليالي جسمهم مبلي/ تعال يا طبيب شوف جرح المبتلي ماله .. شوف ماله واللي جرا له" وحيث ينقل سياق حكايته –في أغنية أخرى- من العصفور الذي رعاه، ليكتشف بالوقت وبعد فرار العصفور والبحث عنه، أنه لم يصن الفضل ولا الجميل. ليعرج ناحية مشاركة ألمه وشكواه من الخاص إلى العام، وكأنه حال كل المحبين، ما يعودون به من بلاء أو ألم، وما تتطلبه الجراح من صبر كطوق وحيد للنجاة!

"اوعاك تعاشر قليل الأصل تتعب فيه"، واحدة من أهم الوصايا وحكم العارف ببواطن الأمور، والتي تظهر بشكل أو آخر، كحكم متوارثة داخل الأسر الممتدة. ومعيارك يا ولدي أنك إذا رأيت عيبًا ما في صديق أو قريب أو مجايل باختلاف الأماكن والبلاد، فالحكمة أنه "إذا سوس الفرع يبقى الأصل ملعوب فيه"! فلا تحتار! ولذلك إذا كنت "غاوي نسب .. حاسب من الألوان.. البودرة بتغش، خد بالك من الألوان.. البحر واحد ولكن السمك ألوان!" هو المقابل للحكمة الأولى، فلا تغرك المظاهر مهما بدت براقة، لامعة، مدعية للبراءة، فالمخرج ومن ثم النجاة في البحث عن الأصل لا غيره، هناك الحقيقة جلية واضحة. فالزم؛ تفز! وحتى إذ لم تتضح الوجهة تمامًا، ينبغي عليك إذا طلبت النجاة، أن تعرف أولًا من أين أتيت. حينها، وحينها فقط يمكنك أن تمشي في البلاد حاملًا إرثك، أصلك وفصلك، بين ضلوعك وفي مضغة بحجم كف، تسمى القلب!

"لو تطعهم يوم تبقى على الدوام فيهم/ كيد النسا شين يحتار الدليل فيهم/ أوحش ما فيهم توريك المرار ألوان!" لعل هذا يذكرنا حتمًا بصورة المرأة في نصوص تراثية كثيرة، أهمها "ليالي ألف ليلة وليلة" إذ تقدم المرأة الشرهة جنسيًا، تلك التي تُحيك المكائد فتوقع كاملين العقل فيها-أي الرجال، حسب نص الليالي-، لأنهن (أي كل النساء) معجونات بماء شيطانية، نجسة. صحيح لا يمكننا أن نسحب ما جاء في الليالي على قول الشيخ، لكنه ليس منقطع الصلة تمامًا، إذ تعيش هذه النظرة في أوساط اجتماعية كثيرة بأطياف مختلفة، ولأن التناص وارد حتمًا، وربما ضروري. ليبقى الحال على الدوام في رأي الشيخ، والليالي، والكثير من الرجال في زماننا، هو عدم طاعة المرأة في العموم، التقليل من شأنها وتحقير محاولاتها، بادعاء يقول بنقصان عقلها ودينها معًا! وإن لم يكن هذا عنفًا موجهًا إلى كل النساء، فهو على الأقل يؤكد الفكرة الشعبية أن "الكيد" جزء من تكوين النساء على وجه العموم وهو خطير؛ لأنه إذا مال تجاه الشر، فإن المرأة -أي امرأة- تستطيع أن تسقي الرجل -أي رجل- عذابات المرار وألوانه! إلا أن حكمة الشيخ –وإن بقينا على تحفظنا عليها- تبقى مفهومة ضمن سياقها التاريخي والحضاري، والوسط الاجتماعي الذي نشأ فيه الشيخ، وولدت كذلك قصائده.

ولا يعني هذا أن الرجل يؤسس بشكل واع لاستبداد الرجل، بل يعيد إنتاج ما وجده دارجًا في مجتمعه، وهو ما أشرنا إليه سابقًا حول القصص الشعبي ممثلًا في أغنيات وفنون مختلفة. بل أن برين يجلي مساحة مغايرة تمامًا لهذه النظرة وهو يقدم قصة يوسف وزُليخا. فبينما تستنكر امرأة العزيز غضب النسوة حولها جراء محبتها ليوسف، تؤكد أنهن جميعًا واقعات في محبته لا محالة، لو حدث ورأوه مرة. وحتى تقول على لسان الشيخ: "يا مساكين أهو اللي فيه لُمتوني"؛ أي الحب! إذ الحب هنا، لا عفة يوسف هو محل الرؤية والإجلال. وهي رؤية مغايرة، ترفع عن كاهل المرأة ما سبق وأكدته في أغنية أخرى، بل إنه يدين المرأة هناك عبر مقولة "كيد النساء"، التي أسستها للغرابة قصة يوسف طبقًا للرواية القرآنية، ليعود فينكرها في قصة يوسف نفسها! بل لعل هذا التناقض يجلي بدوره عفوية الشيخ وارتجاله سواء في الإنشاد كما يتضح من مشاهدة أداءه على مسارح مصرية وعالمية، وكذلك أثناء التأليف الحي وعلى مستوى الأفكار أيضًا وإيقاعات العزف الحر، بل إن هذا التناقض يؤكد ما أشرنا إليه سابقًا من دور الواقع في التعاطي مع أغنيات الشيخ أخذًا وردًا، تحاورًا ومناهضة.

لكن عوضًا عن هذا الجدال الذي ربما لم يقف لديه الشيخ كثيرًا؛ فإنه قدم مثالًا إنسانيًا لم يرى في الإنسان سوى الإنسان، حتى مع الاعتراف ضمنيًا بأن للحياة اختباراتها الوعرة، وأنها لم تسر يومًا بالحب وحده، وإن بدا الأخير علامة على طيبها من عدمه، وأنها رغم ذلك من دونه لا تستحق حتى مجرد المحاولة. فيقول موضحًا علامة السبع في تحمله لقسوة الأيام، وناصحًا له في الوقت نفسه، أن يا كريم "إن جار عليك الزمن يابن الأصول طاطي/ امشي مع الجد ماتمشيش مع الواطي". وهي حكمة أصيلة بالفعل، فكما يولي أهمية لمبدأ الأصل في التعامل مع البشر، لأنه ينبغي للإنسان في حله وترحاله أن يعرف أولًا من أين أتى، فإنه ببساطة لا يترك لك فرصة كي تركب بحر الأيام مرتحلًا مع الأنذال والسفلة من الناس والمنحطة نفوسهم، مهما تعاظمت خيلائهم بما يمتلكون من حطام الدنيا، لأنه يا ولدي؛ مجرد حطام! وحتى إذا "سبك الندل ما تجرش معاه واطي"، لأنك حينها لن تختلف عنه شيئًا، فإذا كان في نفسه شيء من الوضاعة والخسة، فإنك لا محالة متأثرًا بوضاعته، آخذًا قسطًا من النذالة، لذلك لا تترك ثغرة تنفذ منها سفالة الرعاع إلى نفسك، ومن البداية لا تصحبهم. وحتى إذا جار عليك الزمن، لا تناطح وتعاند الأيام لأنها ربما تكسرك، ولكن في الوقت عينه مت واقفًا كالشجر، مت حرًا نبيلًا؛ لتعش.

غير أنه يعود فيقدم علامات على غياب الأصل وفساد الفرع، إذ يقول: "بيت البخيل معروف من بين البيوت واطي". فإذا تبدت الحيرة في رؤية الصاحب الأحق بالصحبة، فانظر إلى ماء يده يفيض على المُحتاج ومن تَعَفَف السؤال أم يقطر بُخلًا وكمدًا، وحينها ستعرف حتمًا وجهتك. ومن ثم فإنه -أي برين- يقيم المقابل لهذه العلامة، قائلًا عن السبع في كل حال وزمان: "يجابل الضيف بالوجه البشوش أيام/ ويكرم الضيف شتا مع صيف ميملش/ لو أتته كلمة ومن غير بال ميملش/ يكلها بالملح والفرفات ميملش/ السبع ميملش ولو حكمت عليه الأيام"، حيث تحضر فضيلة الكرم، كعلامة أولية على طهارة الأصل ونقاوته، فضلًا عن شفافية الروح وطيبة صاحبها، فهو الكرم لو لم يكن بالمال لعلة الفقر والفاقة، فعلى الأقل بابتسامة حنون. وبين الكرم والتأكيد على الأصل ونكران الوضاعة والبخل، كانت هذه بكل بساطة، علامة السبع، مهما قست عليه الأيام. حتى إذا هدد الزمن صفو الحكاية بعكارته، ومن ثم رفع الأنذال الأراذل درجات عظيمة ظاهريًا، فإن "الندل مهما علي واطي مع الأيام"، ولسان حاله -أي الشيخ- يقول: إني أنا أخوك فلا تبتئس، لأن علو شأن النذل ليس دليلًا على أصله ونجاحه، فكما أن الضمانة لاستمرار علوه -مع الأيام نفسها- معدومة، فإنه مهما ارتفع نجمه ولمع، حقير مبتذل في النهاية، ولا عزاء.

ثم إنه ينتصر للحب في الأخير، قائلًا: "العذاب في الحب هين بس لو يرضى الحبيب". مؤثرًا حتى العذاب واللوعة والألم طالما هناك حب، لأنه مهما بدت هذه الأمور صعبة الاحتمال فإنها هينة، شريطة أن يراها الحبيب، أن يرضى ولو مرة، فماذا لو ابتسم؟! أما هجره، فهو السؤال الصعب على الدوام، السؤال الذي ينبغي تجاوزه، كونه شيئًا مرعبًا، يزيد من لهيب هذه النيران المستعرة، ويشعل الجنون؛ جراء الحب مع الغياب. بينما يسأل في موضع آخر: "يا مليح وحياة جمالك؛ كيف تمنعني وصالك؟!" فهو يسوق على الحبيب المتدلل علة دلاله بداية، أي جماله، فيقسم عليه بهذا الجمال الساحر أن يعود. بل يوضح علة طلب العودة التي جاوزت الحب ذاته، قائلًا: "تيهتموني في بديع جمالكم" والنتيجة أن "تملكتم روحي وقلبي ومسمعي!" لكنها محبة لا تثق، ليس في ذاتها، بل في مقدار الحب الذي تملكه وهل هذا فقط ما يستحقه الحبيب فائق الجمال والبهاء، فيقول: "ولم أدرِ في بحر الهوى أين موضعي" ليصبح التمازج بين محبة النبي ومحبة الله، ومحبة الناس فيهم طريقًا إلى الحب في الهيولي الأول ومادته الخام. حتى إذا نفد الصبر -فضيلته الأولى- وغلبه الشوق والإعياء من الهجر والقطيعة، انتهى أمام قاضي الحب يشكو غرامه قائلًا: "أحبتي، جفوني وقالوا في الحب أنت مدعي!". هكذا حيث يفنى المحب في حبيبه، ويا لها من خسارة! لنعرف أيضًا أن جمال المحبة في نفوس المحبين أولًا، وأن متعة الحب تتحقق حين نحب أولًا بغير قيد أو شرط، من دون انتظار أن نكون محبوبين في المقابل. وعلى هذا؛ فإن بدا في الغياب جنون تام؛ فهو جنون لا يمنع الحب الجارف أو يطفىء جذوته!   

******

اسمه محمد أحمد بِرِينْ، لُقِّب بأحمد برين التى ينطقها بعض الصعايدة «بريم»، وولد عام 1939، وتوفي عام 2015م. كان ميلاده فى قرية سلوى مركز كوم أمبو، ومات أبوه وتركه فى عمر سنتين، فقد بصره تمامًا إثر مرضه بالحمى، ثم انتقل-مع أمه وأخواته البنات الأربع- إلى قرية الحليلة مركز إسنا.

ولا عجب في تلقيبه بشيخ المداحين، إذ فرادة غناءه وعذوبته تفرض على الجميع الإنصات، لا المتعة العابرة فحسب، ثم هو يحفظ الشعر ويرتجله. كما أن مدائحه تتفق في بنيتها الموسيقية مع غناء حكواتية الجنوب ساردي السيرة الهلالية. ثم في علاقة تناغم وألفة عجيبة بينه وبين الدف، لن تدركها إلا برؤياه ينشد، واضعًا يده مرة على أذنه هائمًا في فضاء اللحن وعذوبة الكلمة والمدد الواصل بينه وبين السماء، وبين الحب! إذ الأخير فلسفته ودأبه على الدوام. ومرة يمسح على دفه؛ ليعزف بحب أيضًا بينما يقول: "أنا حب النبي يا ولا دوبني دوب!".

 

 

مراجع:

  • دراسة بعنوان "خريطة الغناء الشعبي في مصر" للباحث إسلام عبدالوهاب. منشورة بموقع رصيف 22 بتاريخ 3 يوليو 2016.
  • كتاب "الأغنية الشعبية بين الدراسات الشرقية والغربية" مجدي شمس الدين.
  • كتاب "أوراق في الثقافة الشعبية" عبدالحميد حواس.
  • كتاب "أشكال الغناء الشعبي في الشرقية" حامد أنور.
  • كتاب "مقدمة في التراث الشعبي" محمد الجوهري.
  • "المنشد الكفيف الذي أنار بصيرتي". خالد سليمان. موقع رصيف 22 بتاريخ 20 يونيو 2023م.
  • "برين .. شيخ المداحين". فيلم وثائقي إنتاج الوثائقية المصرية 2024م.

 

 

التعليقات

أضف تعليقك

الكتاب

سيد أحمد

سيد أحمد

باحث ماجستير فلسفة كلية الأدب جامعة القاهرة شاعر ومحرر صدر له أعمال سابقة…

أوراق ودراسات ذات صلة

مشاهدة المزيد
دين الرأسمالية (لاهوت النقود)
  • بينيات

دين الرأسمالية (لاهوت النقود)

جسد الَّذين أنعم الله عليهم
  • بينيات

جسد الَّذين أنعم الله عليهم

فرانسوا توسكييز وثورة الطب النفسي
  • تخصصات

فرانسوا توسكييز وثورة الطب النفسي

الجسد المحيط بكل شيء عِلما
  • بينيات

الجسد المحيط بكل شيء عِلما

ملفات تعريف الارتباط

نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط الخاصة بنا وملفات تعريف الارتباط الخاصة بالجهات الخارجية حتى نتمكن من عرض هذا الموقع وفهم كيفية استخدامه بشكل أفضل ، بهدف تحسين الخدمات التي نقدمها. إذا واصلت التصفح ، فإننا نعتبر أنك قبلت ملفات تعريف الارتباط.