أصبحت حقوق الإنسان واحدة من أكثر الأفكار المشار إليها في السياسة والقانون الدولي عالميا. وتحمل فكرة حقوق الإنسان إلحاحا، وهي سلطة معرفية معنوية وأخلاقية وسياسية. ومع ذلك، يستخدم السياسيون والمواطنون العاديون المصطلح بشكل مختلف ولغايات مختلفة. واكتسب مفهوم حقوق الإنسان زخما ورواجا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ما دفع بعض العلماء إلى الإشارة إلى العصر الذي نعيش فيه على أنه "عصر الحقوق، حيث لم يحظى أي قرن سابق في التاريخ برؤية هذا النطاق من الحقوق المعلنة في القرن العشرين" [1] (ص142).
تفتقر خطابات حقوق الإنسان والتربية عليها إلى الفروق الفلسفية الدقيقة المرتبطة بأهمية الاعتبارات السياقية لحقوق الإنسان، وبالتالي التربية على حقوق الإنسان. وهذا البحث عبارة عن تمرين فلسفي يعرض بعض القضايا المرتبطة بالخطاب. وتتمحور حجتي في هذا البحث حول إنشاء إطار فلسفي لتعزيز قضية حقوق الإنسان والتربية عليها عبر تسليط الضوء على الأهمية الأساسية لبعض المفاهيم المرتبطة بهما: الكرامة والاستقلال الأخلاقي والحق في التبرير. وتدافع حجتي عن إدراج الحق في التبرير كشرط مسبق لأي مناقشة تتعلق بهذه المجالات. ويُنظر إلى هذا الإدراج على أنه مفيد لمعالجة القضايا والتحديات التي تواجه الخطابات، لأنه يبني جسور التفاهم في ثنايا الثقافة وعبر الثقافات.
أسعى في البداية إلى عرض النموذج الحالي لحقوق الإنسان على أنه لا يفضي إلى روح حقوق الإنسان ولغتها، وذلك لاعتماده الشديد على اتفاقيات حقوق الإنسان وإعلاناتها لنشر المعرفة حول الحقوق مع استبعاد المفاهيم الثقافية الأخرى ذات الصلة بالحقوق من السرد الشامل ليشمل سردا واحدا يعتمد على تجارب بلدان قليلة. ونتيجة لنموذج حقوق الإنسان الحالي، ظهرت بعض الأرثوذكسيات اللاتربوية التي تتعارض مع لغة التحرر. وتشمل هذه الأرثوذكسيات: تعارض ثنائية النعيم والجحيم، ونموذج حركة المرور في اتجاه واحد، والتراث الإلغائي. ويصبح واضحا أن هناك انفصالا بين حقوق الإنسان وكرامة الإنسان والاستقلال الأخلاقي، وهو ما أحاول تسليط الضوء عليه من خلال شرح العلاقة الأساسية بين هذه المفاهيم وحقوق الإنسان، وضرورة استخدام الإطار الفلسفي للحق في التبرير، وهو فكرة شاملة لمعالجة بعض التحديات والقضايا التي تواجه حقوق الإنسان والتربية عليها. ويخرج عن نطاق هذا البحث تطوير إطار منهجي للتربية على حقوق الإنسان، ولكن توجد مناقشة مفصلة في موضع آخر (Al- Daraweesh, F., Snauwaert, D. Human Rights Education Beyond Universalism and Relativism: A Relational Hermeneutic for Global Justice. Palgrave Macmillan: New York, NY, USA, 2015.) كما يخرج عن نطاقه مناقشة أوجه الاختلاف والتشابه بين البحث الأخلاقي والبحث الأخلاقياتي. وفي هذا الصدد، أتفق مع رأي فورست "يندمج كلا المنظورين في الهوية العملية الشاملة للشخص"[2] (ص33).
منذ الإعلان الأول عن حقوق الإنسان، طورت التربية على حقوق الإنسان بيداغوجيا تعتمد بشدة على إعلانات حقوق الإنسان واتفاقياتها [1]. وكانت التربية على حقوق الإنسان هي قناة حقوق الإنسان العالمية التي تستمد شرعيتها من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وبالتالي، فقد وُحِّدت التربية على حقوق الإنسان كقناة لنقل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بجانب صكوك حقوق الإنسان الأخرى. وتنفذ عملية توحيد محتوى التربية على حقوق الإنسان عبر نموذج مفاهيمي أحادي الطرف يعتمد على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان كمنهج دراسي وبيداغوجيا ومصدر لجميع الأدوات والاحتياجات التعليمية للتربية على حقوق الإنسان [1]. وتعمل الصكوك، التي هي نتاج إعلانات بشأن حقوق الإنسان المتجسدة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، كأداة لتوحيد وسائل العملية التعليمية وغاياتها في التربية على حقوق الإنسان. وبالتالي أدى توحيد محتوى التربية على حقوق الإنسان من منظور الإعلان العالمي إلى الحد من دور التربية على حقوق الإنسان في بناء إجماع حول الإعلانات والبيانات، التي وضعتها الوكالات الحكومية الدولية والإقليمية. وقد زودت هذه الصكوك التربية على حقوق الإنسان بزخم وإلحاح النشر، لكن هوس توحيد محتوى التربية على حقوق الإنسان أدى إلى سيطرة طرف واحد على مناقشة حقوق الإنسان والتربية عليها.
هناك نقطة مركزية أخرى وهي الافتقار إلى التعددية في عرض الخطاب وفهمه وتفسيره. ويبدو أن الخطاب يقدم تجربة غربية خالصة في صياغة قائمة من الحريات ومحاولة فرضها. ونادرا ما تذكر التراثات الأخرى، إلا بصدد وجود انتهاك لحقوق الإنسان. وتعكس هذه النقطة وجهة نظر باكسي: "ينبغي أن يكون خطاب الحقوق تعدديا، وفقا للكرامة المتساوية لجميع تراثات العالم" [1] (ص151). ويؤكد غالتونغ أن ما هو غربي بشأن حقوق الإنسان "ليس مضمون المعايير ولكن البنية نفسها ... حيث يُعبر عن هذه البنية في خطاب الحقوق والواجبات من أعلى بدلا من التعاطف الإنساني" [3] (ص12). ويؤكد استخدام الإعلان العالمي كأداة تربوية للتربية على حقوق الإنسان عدم وجود تعددية في تشكيل الخطاب نفسه، أو في العملية التعليمية الناتجة عن مثل هذا التكوين. وقد هُمشت مساهمات التراثات الثقافية المتنوعة في جميع أنحاء العالم فيما يتعلق بفكرة حقوق الإنسان. ويشهد هذا التهميش على سوء فهم فكرة حقوق الإنسان التي يرتكز تبريرها بشدة على مفهوم الكرامة الإنسانية. وهكذا قُدمت فكرتا حقوق الإنسان والتربية عليها على أنهما نتاج نصف الكرة الأرضية الغربي مع مخطوطة شبيهة بالإنجيل ذات ثلاثين مادة موجهة لإنقاذ الثقافات والبلدان والأمم الأخرى من انتهاكات حقوق الإنسان. وبالتالي يعد استمداد التربية على حقوق الإنسان شرعيتها ورواجها ومنهجها التعليمي وبيداغوجيتها من الإعلان العالمي إشكاليا ولا تربويا، لأن عملية التربية تتطلب أكثر من نقل معرفة محتوى موضوع حقوق الإنسان.
وبالتالي، نتجت بعض القضايا عن الاعتماد على الإعلانات فحسب كمحتوى للتربية على حقوق الإنسان. وأشرح هذه النقطة في جزأين: أولا، تحول النموذج التربوي الحالي إلى أرثوذكسية لا تربوية، ثانيا، نموذج التربية على حقوق الإنسان الحالي يهمش الفاعلية الثقافية والاستقلال الأخلاقي. وكنقطة انطلاق، من المهم تعريف التربية على حقوق الإنسان، وهي وفقا للبرنامج العالمي للتربية على حقوق الإنسان: "التربية والتدريب والمعلومات التي تهدف إلى بناء ثقافة عالمية لحقوق الإنسان. فالتربية الشاملة في حقوق الإنسان لا تقدم المعرفة حول حقوق الإنسان والآليات التي تحميها فحسب، بل تنقل المهارات اللازمة لتعزيز حقوق الإنسان والدفاع عنها وتطبيقها في الحياة اليومية أيضا. وتعزز التربية على حقوق الإنسان المواقف والسلوك اللازمين لدعم حقوق الإنسان لجميع أفراد المجتمع" [4] (ص3).
يستند هذا التعريف للتربية على حقوق الإنسان على صكوك حقوق الإنسان الدولية مثل المادة 13/1 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية؛ المادة 7 من الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري؛ المادة 26/2 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان؛ الفقرتين 33 و 82 من إعلان وبرنامج عمل فيينا، المادة 5/1 من اتفاقية مناهضة التمييز في التعليم؛ المادة 29/1 من اتفاقية حقوق الطفل؛ وإطار عمل داكار [4].
اعتمد تطوير التربية على حقوق الإنسان إلى حد كبير على الصكوك السياسية التي تشكلت في ظل الأمم المتحدة. ويقول فريدمان: "يوجد الآن ما يقرب من مائتي صك قانوني لحقوق الإنسان" [5] (ص36)، بُنيت هذه الصكوك على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وعلاوة على ذلك، فإن الإعلان العالمي نفسه "يعامله مؤيدوه كنص شبه مقدس، ويعامله نقاده كنص أخرق من الفلسفة السيئة" [5] (ص34). وحدد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والصكوك المشتقة منه محتوى التربية على حقوق الإنسان لدرجة ينظر المربون إلى الإعلان كمصدر أساسي في توحيد التربية على حقوق الإنسان بالرغم من السلامة المنقوصة لأسسه الفلسفية.
لقد طُورت البنية التعريفية للتربية على حقوق الإنسان لاستيعاب الأحكام والصكوك التي تشكلت دبلوماسيا أو سياسيا. ويعمل الإعلان العالمي كأساس لحقوق الإنسان، وبالتالي هو أساس للتربية على حقوق الإنسان. وبهذا المعنى، فإن دور التربية على حقوق الإنسان محدد سلفا من خلال ارتباطه بالإعلان العالمي. وهذه إشكالية، فبما أن التربية على حقوق الإنسان تابعة، فإن إمكاناتها ووعودها محدودة. وتفاقم عملية توحيد التربية على حقوق الإنسان لتقديم محتوى الإعلان العالمي المشكلات التي تواجهها هذه التربية بالفعل. وبالإضافة إلى توحيد المنهج الدراسي والبيداغوجيا لنقل المعرفة حول الإعلان العالمي، بدأ الممارسون الدعوة إلى توحيد محتوى تمارين التربية على حقوق الإنسان. وفي هذا الهوس بالتوحيد، يصبح واضحا وجود انفصال بين حقوق الإنسان والتربية عليها وبين المبررات الأخلاقية لكل منهما والاستقلال الأخلاقي للثقافات الأخرى.
فكما أوضحنا، تفتقر التربية على حقوق الإنسان إلى التنوع المفاهيمي المتوقع في صياغتها البيداغوجية لمفهوم حقوق الإنسان. وكما تقول لورينشيت: "يمكن النظر إلى الإعلان العالمي نفسه كمنهج دراسي في ثلاثين خطوة أو فقرة" [6] (ص175). وتؤكد لورينشيت أن "الأهداف الشاملة لأي تربية على حقوق الإنسان هي زيادة الوعي وتعزيز الاحترام الفعال لحقوق الإنسان كما صاغها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" [6] (ص175). ومع ذلك فشلت جهود لورينشيت في رسم الطريق نحو "الاحترام الفعال" لحقوق الإنسان. فلم تشرح لورينشيت بالتفصل منهج الثلاثين خطوة، ولم تقدم منهجا للتربية على حقوق الإنسان عبر الثقافات. وطرح كلود حجة مماثلة لحجة لورينشيت، مدعيا أن التربية "تعمل كأداة تستخدم لتسهيل الاندماج"[7]. وبهذا المعنى تعمل التربية على حقوق الإنسان كأداة لنشر المعرفة حول الإعلان العالمي. ورأيي هنا هو أن التربية على حقوق الإنسان قد صُورت ومورست فيما يتعلق بالتربية كأداة لنشر الإعلانات السياسية والدبلوماسية. ويفاقم توحيد العملية التربوية التحديات التي تواجه التربية على حقوق الإنسان بالفعل، حيث ينصب التركيز على توحيد العمليات عبر الاستشهاد بالإعلان العالمي باعتباره الوثيقة المهمة الوحيدة وتوحيد نتائج التعلم من خلال غرس المعرفة باعتبارها تجاوبا مع الإعلان العالمي.
ونتيجة لتوحيد التربية على حقوق الإنسان، فقد شجع نموذج التربية الحالي ظهور أرثوذكسيات لا تربوية، مثل ثنائية النعيم والجحيم، ونموذج المرور في اتجاه واحد، والنموذج الإلغائي [8]. ففي ثنائية النعيم والجحيم، يقسم خطاب حقوق الإنسان السائد العالم إلى مجتمعين "أحدهما نعيمي والآخر جحيمي" – أحدهما يحترم حقوق الإنسان والآخر ينتهكها [8] (ص566). ويمكن النظر إلى هذا الرأي المتشدد على أنه لا تربوي لأن "مجموعة حقوق الإنسان الحالية، التي تتكون من جميع المعاهدات والصكوك الدولية، غالبا ما تُصور على أنها نعيمية ومعصومة"، ينبغي ألا يُطعن فيها، وهي أمر لا جدال فيه، وتوكد مجموعة من الحقائق القطعية تشبه الإنجيل [8] (ص566). وفي المقابل، أصبحت النصوص التأسيسية التي تعطي معاني تجريبية لحقوق الإنسان المتمثلة في التراثات الثقافية الأخرى، مثل الكونفوشيوسة والهندوسية والتراثات الإفريقية والإسلام غير ذات أهمية في عملية تطبيق هذا التصنيف الثنائي. وبالتالي، يبدو أن الباحثين في مجال التربية على حقوق الإنسان يقرون أن انتهاكات حقوق الإنسان تحدث في الحيز الجحيمي فحسب. لقد أعاقت ثنائية النعيم/الجحيم تبني حقوق الإنسان عبر الثقافات وأبعدت طلاب التربية على حقوق الإنسان عن رسالة حقوق الإنسان، وبالتالي انتقصت من شرعية مشروع حقوق الإنسان [8]. وعلاوة على ذلك، تساهم ثنائية النعيم والجحيم في فكرة المطلقية التي "تعيق فكرة التلقيح المتبادل لأفكار حقوق الإنسان والتفكير حولها عبر العالمين الغربي والثالث" [8]. ولهذا السبب، تقسم التربية على حقوق الإنسان، التي من المفترض أن تزرع التفاهم الإنساني العالمي، العالم وفق سياق استعماري قديم إلى بربري ومتحضر. وفي ظل هذه الظروف، يصبح نموذج التربية الحالي "وضعا فلسفيا غير ملائم لأي مشروع حقوق إنسان يأمل في اكتساب شرعية واسعة بين سكان العالم الثالث المتشككين تاريخيا" [8] (ص574).
تدشن هذه الثنائية قواعد ومعايير ما يُنظر إليه على أنه بنية دائمة وراسخة للنعيم والجحيم. وعلى غرار البنية المعيارية للنوع الاجتماعي كما ناقشتها بتلر (لمزيد من المعلومات حول بنية التناقض الثنائي، انظرButler, J. Gender Trouble: Feminism and the Subversion of Identity. New York, NY, USA, 1990.)، تستند هذه الثنائية على موقع المرء الثقافي والاجتماعي والديني في سياق معين فيما يتعلق بالسياقات الثقافية والاجتماعية والدينية العالمية الأخرى. وتعتمد هذه العملية على الفهم الموضوعي الخاص للفرد لحقوق الإنسان بالتزامن مع تسييس "الآخر" باعتباره غير متوافق مع إنفاذ حقوق الإنسان وحمايتها. وبمجرد إنشاء هذه القواعد والمعايير، فإنها ترتبط بوجهة نظر مركزية وخطاب حول الأنا والآخر. ومع تبني خطاب حقوق الإنسان لوجهات نظر مركزية، تظهر لغة جديدة للحقوق تركز على الأمن وأعمال الشرطة وتصوير "الآخرين" ككائنات مستكينة أمام انتهاكات حقوق الإنسان.
بالإضافة إلى ذلك، يتدفق السرد الإنساني حصريا من النعيمي إلى الجحيمي في ما يطلق عليه أوكافور وآخرون "نموذج المرور في اتجاه واحد" [8] (ص575). واستخدم علماء التربية على حقوق الإنسان هذا النموذج إما بوعي أو بدون وعي لنقل معرفة حقوق الإنسان من الحيزات النعيمية إلى الحيزات الجحيمية، استنادا إلى صلاح نص حقوق الإنسان المصمم في الحيز النعيمي، الذي من المفترض أن يحدث تأثيرا ملهما على الأرض الجحيمية متى طُبق. وقد أعمى هذا النموذج بعض الباحثين في هذا المجال عن انتهاكات حقوق الإنسان في الثقافات الغربية وأدام فكرة أن الانتهاكات تحدث في الخارج في الحيز الجحيمي. ويتضح تناقض هذا النموذج لأنه "لا يوجد نعيم حقوق إنسان معصوم ولا يوجد جحيم حقوق إنسان عرضة للخطأ حتما" [8] (ص581). وبدلا من ذلك، "ينبغي أن يكون هناك مرور في اتجاهين بشأن مسائل حقوق الإنسان، أي حوارات حقيقية"، وهي خطوة أكثر أصالة نحو تحقيق إجماع حول حقوق الإنسان بدلا من الحديث الفردي الذي "يبشر فيه بطريقة غير نقدية بوجهة النظر الغربية دون الاستفادة من" [8] (ص575) وجهات النظر الأخرى حول حقوق الإنسان والتربية عليها. إن الحوار الحقيقي القائم على المساواة والاحترام بين الشعوب من الجانبين سيعزز النموذج الملائم الذي يكون جامعا ومفيدا للتربية على حقوق الإنسان. ويتساءل أوكافور وآخرون، "كيف يمكن لشعب أن يشعر بنوع من الإحساس "بالملكية" لحركة حقوق الإنسان إذا لم يكن لهذا الشعب مشاركة في ما يتعلق بصحة الأسس الفلسفية الرئيسية لمجموعة قوانين حقوق الإنسان، أو في ما يتعلق بأهمية أولويات الحركة بالنسبة إلى تجربتهم المعيشة الخاصة؟" [8] (582).
ولكي ينجح مشروع حقوق الإنسان، من المهم إشراك المتعلمين ومجتمعاتهم عبر منحهم إحساسا بالملكية ليس فقط لعملية التعلم ولكن أيضا العمل النشط من أجل ما تعلموه. وبالإضافة إلى الملكية، يمكن للحوار الإسهام في "تعديل أو توسيع مفيدين لروح وجسد حقوق الإنسان" [8] (ص582).
أخيرا، يسعى النموذج الإلغائي إلى "إلغاء الممارسات المحلية التي تنتهك أوامر القانون الدولي لحقوق الإنسان" [8] (ص584). وفي هذا السياق، تعيق الثقافة التربية على حقوق الإنسان وتعيق التمتع بهذه الحقوق. وبدلا من كشف هذه الممارسات الثقافية أو وضعها في سياقها أو فهمها وكيفية إكمالها لحقوق الإنسان، يعمد العلماء والمربون والناشطون إلى إلغائها. ففي وجهة النظر هذه، مثلا، لا توجد حقوق المرأة في العادات أو الممارسات غير الغربية، وينبغي الاستعاضة عنها بالتشريعات الوطنية أو نظام حقوق الإنسان الدولي الذي استبعدت منه معظم الثقافات المحلية" [8](ص584). وتصور حقوق الإنسان في هذا النموذج الأخير على أنها مناقضة تماما للثقافة والممارسات الثقافية. ومن ثم، ينبغي فصل التربية على حقوق الإنسان عن سياقها، حيث يرى العلماء والمربون "التقاليد والثقافة المحلية لا تاريخية ولا سياقية، ويرونها أحادية وثابتة ومتحجرة وبصفة عامة عاجزة عن التحول حتى بواسطة السكان المحليين أنفسهم" [8](ص585). ويديم هذا المنطق تناقضات الثنائية ويهمش الفاعلية البشرية في الثقافات المختلفة.
يتضح أن هذا المنطق يجسد جوهر الظلم العالمي لأنه يكشف علاقة قوة بين الأقوياء والضعفاء لأنه يخدم أغراض الأقوياء للهيمنة على السلطة. وفي هذا المثال، يستعرض الأقوياء قوتهم عبر ادعاء امتلاك الأخلاق التي يفتقر إليها "الآخر"، حيث يمثل هذا ديناميكية القوة في المخطط الثنائي "نحن" و"الآخر". وبالتالي يصبح الضعفاء متلقين دائمين لللوم لافتقادهم القدرة الأخلاقية، مما يؤثر سلبا على مكانتهم في ديناميكية القوة ويفتقدون القدرة على التأثير.
وهذه الأرثوذكسيات اللاتربوية هي نتيجة استخدام سرد محدد للحقوق يركز على الإعلان والاتفاقية. والقضية ليست الإعلانات والاتفاقيات في حد ذاتها، بل الطريقة التي تستخدم بها كأداة أو مصدر وحيد لحقوق الإنسان والتربية عليها. وبالإضافة إلى ذلك، ينتظر المعلمون من المتعلمين في جميع أنحاء العالم أن يعكسوا ليس فقط هذه الحقوق ولكن أيضا الثقافات الليبرالية التي ولدت فيها هذه الحقوق.
نتجت هذه النماذج من انفصال بين مفهومي حقوق الإنسان وكرامة الإنسان. فكرامة الإنسان هي الدعامة الأساسية لحقوق الإنسان. ويمدد هذا المفهوم الكرامة لتشمل جميع البشر، وتقوم هذه الكرامة على القول بأن البشر متساوون أخلاقيا. والمساواة الأخلاقية هي المفهوم الأساسي الذي يعلم العدالة والحقوق وكرامة الإنسان والحرية. وتستند كرامة الإنسان على المساواة الأخلاقية. ويقول جورج كاتب إن المساواة الأخلاقية تعني "المساواة في الكرامة لكل شخص" [9] (ص1). وتتطلب المساواة الأخلاقية معاملة متساوية للمواطنين بفضل عضويتهم في مجتمع أخلاقي معين أو المجتمع العالمي الأكبر. ويقوم هذا المفهوم على استحقاق جميع المواطنين وحرمتهم بغض النظر عن الكيفية التي يصنفهم بها مجتمع أو كيان سياسي معين. وكرامة الإنسان هي الحد الأدني لظروف العيش المطلوب للحياة داخل نظام سياسي معين.
يميز ماركوس دويل بين خمسة نماذج مثالية لكرامة الإنسان، وفي نفس الوقت يعترف أيضا بصعوبة تحديد معنى لكرامة الإنسان بالرجوع إلى المصطلحات وحدها. ويفسر النموذج ذي الصلة الكبيرة بمناقشتنا معنى كرامة الإنسان كالتالي "احترام كرامة الكائن البشري الفرد... ينبغي النظر إليها كتعبير يدل على مكانة يجب على البشر الآخرين والمؤسسات السياسية احترامها. يمكن تفسير هذا الاحترام مبدأيا بمعنى التزامات أخلاقية أو ... بمعنى حقوق الفرد التي يمكن إنفاذها قانونا. وبما أن هذا الاحترام ذو أهمية جوهرية من وجهة نظر أخلاقية، فيمكن اعتباره مبررا لفهم المكانة السياسية والقانونية كاملة والنظام الدولي على أساس كرامة كل كائن بشري فرد وحقوقه. فمفهوم "كرامة الإنسان" ... عالمي: يشير إلى مكانة لا يمكن فقدانها، وبالتالي يمكنها توفير أساسا للحقوق" [10](ص27).
تقوم مناقشتي للكرامة الإنسانية على فهمها وتطبيقها من خلال مفهوم استقلال الإنسان عند كانط ومفهوم الحق في التبرير عند فورست. يوضح هيل أثناء محاولة شرح المفهوم الأساسي للكرامة الإنسانية مستندا إلى مبادئ كانط أن "فكرة الكرامة الإنسانية هي معيار أساسي للعلاقات الشخصية. يعبر كانط عن المبدأ الأول لنظام المبادئ "الأخلاقية" على النحو التالي: "التصرف وفقا لمبدأ الغايات الذي يمكن أن يكون قانونا شاملا للجميع. ووفقا لهذا المبدأ، يعتبر الإنسان غاية في ذاته كما يعتبر الآخرون أيضا غايات في ذواتهم، ولا يكفي أنه غير مصرح له باستخدام نفسه أو الآخرين كمجرد وسائل (إذ من الممكن أن يظل غير مبال بهم)؛ بل عليه واجب إيجابي أن يجعل الإنسان غاية في ذاته [11] (ص 218).
يتجسد المفهوم الكانطي للكرامة في نمط منظم للعلاقات بين الأفراد، حيث يكون التعامل مع جميع الأفراد بنفس الوزن الأخلاقي، ويُنظر إلى كل شخص كغاية في ذاته. ويشكل هذا الواجب أمرا مطلقا في الطريقة التي تنظم العلاقات الإنسانية. ومن الواضح تماما – استنادا إلى مناقشتي السابقة للتحديات التي تواجه حقوق الإنسان – أن البشر لا يعتبرون غاية في حد ذاتهم. وبدلا من ذلك، يستخدم البشر كوسيلة لغاية، ويُسلَط الضوء عليهم من حيث علاقات القوى التي غالبا ما ترى ضحايا حقوق الإنسان على أنهم ناتج لا حول له ولا قوة لبيئة غير ودية لحقوق الإنسان لا تكف تجاربها أبدا عن أن مقارنتها بالنظرة المركزية للذات وبقية العالم التي تشكل ثنائية لا نهائية للذات والآخر.
بالإضافة إلى ذلك، يضيف غوفيرت دين هارتوغ نقطة ذات صلة عملية كبيرة بمفهوم الكرامة وبمناقشتنا هنا: "إذا كانت حقوق الإنسان مستمدة من كرامة الإنسان، يكون واجبنا الأول هو احترام كرامة الإنسان، ويكون الامتناع عن التعدي على حقوق الإنسان ما هو إلا وسيلة لاحترام هذه الكرامة، وهو وسيلة واحدة بين وسائل أخرى. وبالتالي، إذا تعارض واجب احترام كرامة الإنسان مع واجب إقرار حق إنساني معين، فإن واجب احترام الكرامة ينتصر لأنه الواجب الأساسي. وبالتالي فحماية كرامة الإنسان هي سبب وجيه لتقييد ممارسة حقوق الإنسان [12] (ص204).
وكما بينت سابقا، فعند فحص القضايا والمشكلات التي تحيط بحقوق الإنسان، من السهل جدا تبين الانفصال بين الخطاب وبين الاتجاهات والنماذج الحالية لحقوق الإنسان. ويستند هذا الاستنتاج إلى القضايا والأرثوذكسيات اللاتربوية التي تخنق قضية حقوق الإنسان. فعلى الرغم من أنه من المفترض أن يهدف الخطاب إلى تعزيز حقوق الإنسان ونشرها، ففي بعض الحالات – كما وضحنا في ثنائية النعيم والجحيم، ونموذج المرور في اتجاه واحد، وتلاعب علاقات القوة بالمعرفة – يساهم هذا الخطاب في انتهاك الكرامة الإنسانية لأولئك الذين تنتهك حقوقهم في تشكيل السرد حول الحقوق، وبسبب اعتناقه نظرة مركزية أوروبية للعالم. واستنادا إلى موقف دين هارتوغ من الكرامة، فإن ما ينبغي التركيز عليه هو أن الكرامة هي المفهوم الأساسي للحقوق، وفي غياب الكرامة يكون من الصعب مناقشة الحقوق. وعلاوة على ذلك، ينبغي من أجل إعمال حقوق الإنسان أن تتسق رسالتنا ونوايانا وأدواتنا مع الكرامة، والحال ليس كذلك نظرا للمسار الذي يوجه الخطاب.
يلخص مفهوم الكرامة الإنسانية وجهات نظر مختلفة لقيمة الإنسان. ويوظَف مفهوم الكرامة لرفع مستوى قيمة الإنسان إلى مستوى أعلى يؤدي إلى الازدهار ويتسق مع العدالة والحقوق والسلام. وهناك بعض الأوضاع المسنونة والمحددة يمكن أن تؤدي في النهاية إلى ازدهار الإنسان. وتشكل هذه الأوضاع التصور الخاص للمرء حول الحياة الجيدة التي يختار المرء السعي إليها عبر الزمن. والاختيار جزء لا يتجزأ من الاستقلال الأخلاقي للإنسان. واحترام الاستقلال الأخلاقي للأفراد جزء أساسي من كرامة الإنسان.
وقد ذكر مفهوم كرامة الإنسان كثيرا في الإعلانات والعهود الدولية. ومن أوائل ما ذكر الكرامة ديباجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: "الاعتراف بالكرامة المتأصلة في جميع أعضاء الأسرة البشرية وبحقوقهم المتساوية الثابتة هو أساس الحرية والعدل والسلام في العالم" [13]. ويقول جورج كاتب: "يبدو كما لو كانت فكرة كرامة الإنسان بديهية وبالتالي فهي لا تتطلب دفاعا نظريا" [9] (ص1). ويوجد مفهوم الكرامة في جميع الثقافات عبر العالم، العلمانية والدينية، الغربية وغير الغربية، مع بعض الاختلافات والتماثلات.
ففكرة الكرامة الإنسانية معترف بها وموقرة في معظم الثقافات حول العالم. ولهذا الاعتراف العالمي أثران. أولا، يمكن أن يكون هذا الاعتراف مبررا لإتمام اتفاق، مبني على الإجماع المتداخل، حول تشريع الكرامة الإنسانية وحفظها وتفعيلها. ثانيا، يمكن أن يؤدي التبني العالمي لمفهوم الكرامة إلى إثراء فهمنا لإنسانيتنا المشتركة. ويوضح ريردون و كابزودو في كتابهما "في تعلم إلغاء الحرب": "نعتقد أن أشكال التربية على السلام المتنوعة ثقافيا والمرتبطة مجتمعيا لا تخدم المتعلمين بشكل أفضل فحسب، بل تثري بشكل كبير مجال التربية على السلام بأكمله، ما يزيد من إمكانية إدخاله في جميع بيئات التعلم في جميع أنحاء العالم ... وبينما ندافع عن الحاجة العالمية للتربية على السلام، فإننا لا ندعوا إلى تعميم نهجها ومحتواها وتوحيدهما. نحن نعتقد أن التربية على السلام مهما كان الشكل الذي تتخذه ينبغي أن تكون جزءا لا يتجزأ من عملية التنشئة الاجتماعية التي تلعب فيها التربية دورا رئيسيا [14] (ص17).
إن توظيف أشكال متنوعة مرتبطة بالثقافة لكرامة الإنسان وحقوقه يثري بيئة التعلم والخبرة. وهذه الأشكال مهمة لأن لها آثار بيداغوجية واجتماعية وديمقراطية. وتشكل هذه الأشكال نهجا بيداغوجيا للتربية أو التعليم من أجل/حول الكرامة الإنسانية. وفي هذه الحالة، يستخدم المربون المعرفة السياقية المحلية (المعرفية والوجودية) لتحويل ديناميات القوة. وتتعلق تلك الأشكال بالمعلومات حول النسيج الاجتماعي المتعلق بدينامية القوة التي تحتاج إلى تغيير (See Al-Daraweesh, F. (2019). Reardon’s conception of human rights and human rights learning. In Dale Snauwaert (Ed.), Exploring Betty A. Reardon’s perspective on peace education: Looking Back, Looking Forward. Heidelberg: Springer). وبنفس الأهمية، فإن مثل هذا الاعتراف بالثقافات الأخرى عالميا هو جزء من العملية الديمقراطية.
وبما أن مفهوم الكرامة الإنسانية يقوم على أساس أن البشر متساوون أخلاقيا، فينبغي النظر إلى مساهماتهم وطرق حياتهم على أنها متساوية. وعلى هذا النحو، ينبغي احترام المساهمات الثقافية المختلفة لحقوق الإنسان على قدم المساواة وأخذها في الاعتبار في السرد الكبير حول حقوق الإنسان والتربية عليها. ويبدو أن ريردون وكابيزودو يدركان أهمية توظيف أشكال ثقافية مختلفة في التربية على حقوق الإنسان والتربية على السلام عبر الثقافات [14]. ويقوم هذا الإدراك على عاملين. أولا، لا يتبنى المجتمع الليبرالي رؤية موضوعية واحدة حول غايات الحياة أو ما يشكل هذه الغايات [14]. وفي هذا السياق، فإن تجنب ريردون الإجراء الموحد كالإجراء الذي يتجلى في الاتجاهات الحالية في التربية على حقوق الإنسان ويرتكز أساسا على التقليد الليبرالي المتمثل في سعي المرء إلى تصوره الخاص للخير. وفي هذا المثال، يمكن أن تكون الكرامة الإنسانية مكونا لخير الإنسان، وربما تكون خيرا إنسانيا في حد ذاتها. ووفقا لمقاربة ريردون، تُعالج الاحتياجات البشرية من خلال نهج محلي ومحتوى يتوافق مع مفهوم الكرامة في التقاليد الليبرالية. والعامل الثاني المتعلق بتجنب ريردون توحيد النهج والمحتوى من حيث صلته بالتربية على السلام ذكره بوضوح، حيث يقول "يلهم الالتزام بالكرامة الإنسانية الذي هو جوهر اللاعنف النضال من أجل حقوق الإنسان كأساس للتغلب على العديد من أشكال العنف التي تعرقل السلام الدائم والعادل. ويستلزم هذا الالتزام الاتساق بين الوسائل والغايات" [15] (ص9). ويرى ريردون ضرورة اتساق الوسائل مع الغايات. فإذا كنا نهدف كمعلمين إلى تعليم الديمقراطية، فيجب علينا اتباع نهج يتوافق مع محتوى الديمقراطية. وإذا كانت غايتنا هي الكرامة الإنسانية، فيجب أن يكون نهجنا متسقا مع محتوى الكرامة، مع الاهتمام الخاص بالاستقلالية التي تعد جزءا لا يتجزأ من مفهوم الكرامة. وفي حالة استخدام الأشكال الثقافية ذات الصلة للتعليم من أجل السلام والكرامة الإنسانية، يحرص المعلمون على الاتساق بين الوسائل والغايات.
الاستقلال الأخلاقي هو أيضا جزء لا يتجزأ من مفهوم الكرامة. إنه عنصر أساسي للكرامة ومؤشر على وجودها في شكل الاعتراف بقدرات الآخرين على حكم أنفسهم بعقلانية ورشد وفقا لمبادئهم الأخلاقية. ويفصل هيل: "الاستقلال العقلاني الكانطي هو قدرة الجميع ونزعتهم إلى حكم أنفسهم من خلال مبادئ عقلانية ورشيدة يمكن تبريرها بالنسبة للجميع بقدر ما يتبنون وجهة نظر مشتركة يعد فيها الجميع مشرعا مشتركا متساويا لمبادئ أخلاقية خاصة" [11] (ص218). وتستند هذه الفكرة إلى الفلسفة الكانطية التي ترى معاملة الناس لغاية في ذاتهم. ويوضح إرنست توغندهات قائلا "تمثل أخلاق احترام الجميع المفهوم الوحيد الموثوق للأخلاق" [2] (ص43). ويتوقف الاستقلال الأخلاقي في هذا السياق على قبول مسئولية الإنسان تجاه البشر الآخرين كاشخاص ذوى عقول، والوفاء بالالتزامات التي تنشأ من قبول مثل هذه المسئولية [2]. وفي تعليم حقوق الإنسان، من المهم الامتناع عن بناء معرفة حقوق الإنسان على إنجاز ثقافة أو دولة أو أمة واحدة. وبدلا من ذلك، يجب على المتعلمين الاستفادة من جميع أشكال المعرفة السياقية المتعلقة بحقوق الإنسان. وهذا لا يعطي المتعلمين دافعا للتعرف على حقوق الإنسان فحسب، ولكن أيضا الالتزام بهذه الحقوق وتغيير الأوضاع التي لا تتوافق معها باستخدام أدوات السياق المحلي. وبالإضافة إلى ذلك، تبرر المعرفة السياقية الأفعال التي تتوافق مع الاستقلال الأخلاقي للمتعلمين. ويقول فورست: "ينظر الأفراد إلى بعضهم البعض في المجتمع الأخلاقي ككائنات وهبت العقل، بقدر ما يثق بعضهم في قدرة بعض على طرح مبررات الأفعال واستقبالها أو الرفض المنطقي لهذه المبررات؛ وينظرون إلى بعض ككائنات مستقلة بقدر ما تكون مبرراتهم الخاصة مطلوبة في "لعبة طرح وطلب المبررات" وبقدر ما يكون الشخص مقررا أفعاله بنفسه بما يكفي لعدم تجربة تقرير أفعاله بشكل عشوائي [2](ص38).
وفكرة الاستقلال الأخلاقي هي فكرة تبادلية وملزمة لجميع أعضاء المجتمع الأخلاقي. حيث ينظر إلى الأفراد على أنهم أشخاص أخلاقيون يعيشون في "مملكة غايات"، وينظر بعضهم إلى بعض كأعضاء متساوين وأحرار ومسئولين. وهذا يشكل المفهوم الأساسي للاستقلال الأخلاقي وكذلك الكرامة الإنسانية، وبالتالي يؤدي إلى قيام ممالك يكون البشر فيها هم أنفسهم الغايات.
إحدى الركائز الأساسية لمملكة الغايات هي مراعاة مقترح فورست بشأن الحق في التبرير. وأسعى في السطور التالية لتقديم بعض الإجابات على الأسئلة التالية: ما هو الحق في التبرير؟ كيف يعد هذا الحق محوريا في إعادة توجيه فهم حقوق الإنسان؟ كيف يعمل هذا الحق ضمن خطاب حقوق الإنسان والتربية عليها؟ وكيف يرتبط بالأمر الكانطي القطعي بمعاملة الآخرين كغايات؟
يوضح فورست في كتابه المؤثر أن البشر كائنات مبررة، لأن المبرر هو أحد القدرات الأساسية للتمييز بين الصواب والخطأ، وبالتالي تحتاج المبررات إلى إثبات عن طريق تأسيس التبرير إلى سياق. ويضيف فورست: "بالتالي يجب أن تكون الأسس التي أوجدتها المبررات أساسا مشتركا للفكر والعمل المبررين. وتعني عبارة "الثبات على الموقف" أن الأشياء المبررة يمكنها الصمود أمام التحديات والنقد، وأن المبررات ذات الصلة تصبح بالتالي ملكية مشتركة: قد تشير المبررات إلى معتقدات وأفعال خاصة جدا، ولكن كمبررات هي متاحة للجميع من حيث المبدأ [2] (p. 14).
ويؤكد فورست على أهمية العقل في للتمييز بين الصواب والخطأ، وأهمية الفهم السياقي استنادا إلى الأفكار والأفعال المشتركة، وهذا الفهم السياقي هو الذي يحدد ما الصواب وما الخطأ. وهذا الفهم المشترك الجماعي المتاح للجمهور يشكل السبب. والسبب جزء لا يتجزأ من الحق في التبرير الذي يقوم على فكرة أن الإنسان هو كائن اجتماعي وسياسي يتمتع بالعقل. وعلى هذا النحو، ترتبط ممارسات البشر ارتباطا وثيقا بالتبرير استنادا إلى أفكارهم وأفعالهم. نحن كبشر نعطي ونتلقى ونطالب بأسباب لتبرير أفعالنا [2]. وبالتالي، فالحق في التبرير، بناء على اقتراح فورست "لا يتطلب فقط أسبابا لكون شخص ما لديه أو ليس لديه حقوقا أو سلعا معينة، ولكنه يسأل أولا وقبل كل شيء كيف يتم تحديد من لديه مطالبة بشأن ماذا وكيف يقف المشاركون – مفهوم بشكل ديمقراطي في دورهم المزدوج كمؤلفين ومخاطبين للتبرير – فيما يتعلق ببعضهم البعض [2] (p.1-2).
ومن ثم، يلعب العقل دورا في توفير المنطق السياقي للمطالبات بطريقة يفهمها الأفراد داخل المجتمع السياسي. وبالتالي، يكون الأفراد مؤلفين ومخاطبين بناء على فهم مشترك لتبرير الأفكار والأفعال. وتستند فكرة العقل والحق في التبرير إلى افتراض أن الأفراد كائنات حرة ومستقلة وقادرة على تقرير المصير، ولديها القدرة على تقديم مبررات، وتعترف بقدرة الأفراد الآخرين على فعل نفس الشيء.
تعترف فرضية الحق في التبرير بتعدد المصادر الأخلاقية في تقديم أسباب لما يُنظر إليه في سياق معين على أنه صواب أو خطأ، وبالتالي فالتبرير ليس فقط للعدالة، ولكن أيضا لحقوق الإنسان. يضيف فورست أنه لا توجد لغة عالمية للحق في التبرير؛ بل إن مثل هذا الحق هو شكل حساس سياقيا يقدم أسبابا وراء الأفعال والأفكار [16]. ويعتقد فورست أن العوالم الأخلاقية هي أكوان من الخطابات التي لا يمكن اختزالها في لغة واحدة، ومع ذلك تحتوي هذه الخطابات في جوهرها على مبادئ عالمية في أشكال معينة [16].
ويمكن لمقاربة الحق في التبرير أن تكون ذات أهمية في النهوض بقضية حقوق الإنسان والتربية عليها. فكما أوضحنا سابقا، فالنموذج الحالي لحقوق الإنسان، ومحتواها الأساسي، والإنفاذ في الجنوب العالمي يتجلون كقواعد تعسفية. ينبع هذا التعسف من حقيقة حاجة الخطاب إلى إثبات بناء على تبرير محلي. وما لم يتم استخدام المعرفة والمبررات المحلية لدعم حقوق الإنسان، فإن الخطاب يقف بمعزل عن الثقافة المحيطة به. وبالتالي، لا يمكنه الصمود لأنه سيكون بلا فحوى. بالإضافة إلى ذلك، فإن مثل هذا النموذج ينتهك حقا أساسيا، فكما أوضح فورست "الحق في عدم الخضوع لقوانين أو هياكل أو مؤسسات "لا أساس لها"، أي التي تمارس السلطة أو الحكم دون شرعية كافية. إن المطالبة بالعدالة مطلب تحرري يوصف بمصطلحات مثل الإنصاف أو المعاملة بالمثل أو التماثل أو المساواة أو التوازن؛ فأساس هذه المطالبة احترام الشخص كفاعل التبرير، أي كرامة الشخص باعتباره الذي يمكنه طلب التبرير وإعطائه. إن ضحية الظلم ليس في الأساس الشخص الذي يفتقر إلى بعض السلع، ولكن الشخص الذي لا "يؤخذ في الاعتبار" في إنتاج السلع وتوزيعها"[2] (p. 2).
إذا تقلص الحق في التبرير، يصبح نشر حقوق الإنسان خاضعا للقوانين والهياكل والمؤسسات المتمثلة في ديناميكية القوة التي وضحناها سابقا - ناهيك عن حقيقة أن ديناميكية القوة هذه هي عرض للظلم العالمي الذي يتميز بإقصاء بعض الكيانات من إنتاج حقوق الإنسان كما هو معروض في السرد الكبير للخطاب. علاوة على ذلك، فإن لغة الحقوق هي لغة التحرر الاجتماعي والحرية. ويستلزم هذا "ممن يتكلم هذه اللغة ألا يعتمد على سلطة غير مبررة، بل يعتمد على فكرة التبادلية التي لا يمكن اعتبارها تبسيطيا - كما يعتقد البعض - سمة مميزة للثقافة الغربية" [16] (p. 212). ومن ناحية أخرى، فإن خطاب حقوق الإنسان الذي أسسته الأرثوذكسيات اللاتربوية يقوض غرض حقوق الإنسان المتمثل في التحرر والحرية والعدالة. بل إنها تخلق انقساما وشكوكا وعدم يقين وانعدام ثقة بين شمال العالم وجنوبه. من ناحية أخرى، يعتمد اقتراح فورست على ترسيخ الإيمان بالآخرين والثقة فيهم بطريقة مماثلة لما يدعيه المرء لنفسه والمجتمع القريب. وفي هذا السياق، يجب التعبير عن الأخلاق بطريقة تعترف بالفاعلية الأخلاقية والقوى الإبداعية للآخرين من خلال تأسيس حقوق الإنسان على الاعتراف بالاستقلالية الأخلاقية للثقافات والأمم والشعوب المختلفة، والثقة في قدرتهم الأخلاقية على ترسيخ ثقافة حقوق الإنسان على أساس المبررات. وبالتالي، يُقدر البشر ويُحترموا ويُكرموا من خلال امتلاكهم الحق في تبرير أفعالهم وأفكارهم بشكل معقول باعتبارهم "مؤلفو ادعاءات الصلاحية والمخاطبين بها" [2] (p.43).
ولسوء الحظ، تفتقر اتجاهات التربية على حقوق الإنسان الحالية إلى أخذ مفهوم الاستقلال الأخلاقي في الاعتبار عندما يتعلق الأمر بحقوق الإنسان. حيث يقل التركيز على جزء لا يتجزأ من مفهوم كرامة الإنسان وهو الاستقلال الأخلاقي. وبدلا من ذلك، يزود المتعلمين بمحتوى مُعد سلفا دون مساهمة من المتعلم أو المتلقي. وبالتالي، من الآمن استنتاج أن اتجاهات التربية على حقوق الإنسان الحالية أقل اهتماما بأفكار الكرامة الإنسانية والاستقلالي الأخلاقي والحق في مطالبات مبررة للحقوق بناء على فهم سياقي للمفهوم.
إن المعايير السياقية البين ذاتية للحقوق، أو ما يشير إليه هابرماس على أنها وجهات النظر الإثنية، مهمة في تمكين الخطاب من اكتساب الشرعية الثقافية الجماعية [17]. وتعتبر وجهات النظر الإثنية حول حقوق الإنسان مكونا مهما للتربية على حقوق الإنسان. ويؤكد هابرماس: "في الخطاب الأخلاقي، تتمدد وجهات النظر الإثنية لجماعة معينة إلى منظور شامل أو مجتمع تواصل لا محدود، يضع جميع أعضائه أنفسهم في موقف كل فرد، ونظرته للعالم، وفهمه لذاته، ويتقمص كل منهم دور الآخر" [17] (p. 162).
ويعدد هابرماس أربع مزايا لمقاربة عابرة للحدود: (1) توسيع فهم المرء لنفسه والآخر؛ (2) تكون "مجتمع تواصل لا محدود" [17] (p.162) يعزز التواصل القائم على الفهم المشترك داخل الثقافة الواحدة وعبر الثقافات؛ (3) تضييق الفجوات بين الثقافات والأمم ومد جسور قائمة على التعاطف؛ و(4) تعزيز "تقمص الدور" حيث تقوم كل ثقافة أو تقليد بتوسيع فهمها، وبالتالي، تقوم بالدور الضروري للتثقيف من أجل حقوق الإنسان [17]. ويقول هابرماس "تبرز أهمية التفسيرات السياقية جدا للموقف التي تعتمد على الفهم الذاتي المختلف للرؤى الكونية للمشاركين الفعليين" [17] (p. 162). إن تطبيق هذه المقاربة على التربية على حقوق الإنسان يضيف مصداقية إلى التربية وكذلك إلى حقوق الإنسان. وهكذا، فإن التربية على حقوق الإنسان تصبح "حساسة، وغير قسرية، ومتناسقة لوجهات النظر التفسيرية المختلفة" [17] (229). فمن خلال مقاربة منهجية تعطي الأولوية للحوار يمكن الاعتراف بعالمية وتعميمات حقيقيتين حول الحقوق.
من الجلي أن التربية على حقوق الإنسان الحالية تُظهر اتجاهات ونماذج إشكالية. وتتمحور المشكلة الفلسفية الأساسية حول الانفصال بين حقوق الإنسان والكرامة الإنسانية، تلك الكرامة التي تتجلى في الاستقلال الأخلاقي والحق في التبرير المقبول لحقوق الإنسان. وبالتالي، تنتقل هذه القضايا إلى التربية على حقوق الإنسان كمواقف متشددة لا تربوية. وقد كُرست التربية على حقوق الإنسان لإبراز الاختلافات في التجربة الإنسانية، في حين من المفترض أن تحقق عالمية تجربة إنسانية عامة مشتركة. وبناءا على تشخيصي لقضايا خطاب حقوق الإنسان، فإن إعادة توجيه فهمنا للخطاب القائم على حق التبرير الذي اقترحه فورست يصبح علاجا ضروريا. ويقوم هذا العلاج على الاعتراف المتبادل بالآخر كأعضاء في مجتمع التبرير الأخلاقي الذي يعامل فيه جميع البشر بكرامة، أي ككائنات مستقلة ومسؤولة تتمتع بالعقل. ويشكل الحق في التبرير إطارا نظريا متماسكا لإعادة التفكير في خطاب حقوق الإنسان وممارستها، نظرا لأنهما يقومان على الاعتراف المتبادل بالآخر ككائن مستقل، تشكل مشاركته في المداولات الأخلاقية جزءا لا يتجزأ من العدالة.
وينبثق من عناصر الإطار النظري المقترح هنا مفهوم لحقوق الإنسان غير قابل للرفض من طرف الثقافات ومعقول ومقبول عالميا وقابل للتطبيق حتى في الحالات الخاصة الاستثنائية. ويمكن لهذا الإطار تخطي المشكلات والتحديات التي يواجهها الخطاب، لأن ممارسة هذا الخطاب ونظريته يقومان على الاحترام ومعاملة الناس بكرامة والاعتراف بسلطتهم الأخلاقية المستقلة كشركاء في عملية إعمال حقوق الإنسان والحفاظ عليها. وهكذا، يُعترف بالأفراد والثقافات والأمم كممثلين للسلطة الأخلاقية للإنسانية باستخدام مبرراتهم المشتركة للعمل من أجل العدالة وحقوق الإنسان. ومن ثم، يُعترف بالبشر كغاية في حد ذاتهم ويعاملون كغاية في حد ذاتهم، وليس كوسيلة لتحقيق غايات أخرى.
References
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط الخاصة بنا وملفات تعريف الارتباط الخاصة بالجهات الخارجية حتى نتمكن من عرض هذا الموقع وفهم كيفية استخدامه بشكل أفضل ، بهدف تحسين الخدمات التي نقدمها. إذا واصلت التصفح ، فإننا نعتبر أنك قبلت ملفات تعريف الارتباط.