نَهَم الثَّور: تبصرات في السَبْت والعيد والعَطالة

2023-04-04

نَهَم الثَّور: تبصرات في السَبْت والعيد والعَطالة

 

[1] : 1.

تتجلَّى الصلة الوثيقة بين العيد والعطالة في السبْت اليهودي؛ فالأساس اللاهوتي للسبْت —يوم العيد الأسمى عند اليهود، وأساس الإيمان (yesod ha-emunah)، والنموذج الأصلي لكل عيد— هو أن ما قُدِّس في التوراة ليس أعمال الخلق، وإنما التوقُّف عنها:

«في اليوم السابع أتَمَّ الربُّ أعمالَه التي عملها، وفي اليوم السابع سَبَتَ الربُّ عن كل أعماله. وبارك الربُّ اليومَ السابعَ وقدَّسه، لأنه سَبَتَ فيه عن كل أعمال الخلق.» (سفر التكوين 2: 2-3)

«واذكر يوم السَّبْت لتُقدِّسه. فلِستَّة أيام لك أن تكدح وتعمل كل أعمالك، أما اليوم السابع فهو سَبْتٌ للرب إلهك.» (سفر الخروج 20: 8-10)[2]

 ولهذا تُسمَّى حالة اليهود في أثناء تعظيم شعيرة السبْت بـ"menuchah anapausis" أو "Katapausis" في يونانية السبعينية وفيلون السكندري، أي العطالة (inoperativity). وهذه الحالة لا تخص البشر وحدهم، وإنما هي واقع بهيج ومثالي يُعيِّن جوهر وجود الرب نفسه. يقول فيلون: «وحده الرب هو الكائن العاطل بحق ... إن السبْت، الذي يعني العطالة، هو سبْت الرب»[3]، وكذلك عندما أثار الرب مسألة الانتظار الأُخروي في سفر المزامير، قال عن العصاة: «أنهم لن يدخلوا سَبْتي» (مزمور 95: 11)[4].

ونتيجةً لذلك، كرَّس التراث  نفسه (بتدقيقه المفرط المعهود) لتعيين الأعمال غير الجائزة في أثناء السبْت، فعدَّدت المشناه 39 صنفًا من الأعمال (melachot) التي يتعيَّن على اليهود تجنُّبها بكل سبيل: من الزرع والحصاد إلى العجن والخبز، من حياكة الخيوط ونسلها إلى دبغ الجلود، من الكتابة إلى إشعال النيران، من حمل الأشياء إلى فكِّ العُقد المربوطة. وهكذا نجد أن الـ"melachot" (الأعمال المُحرَّمة في السبت) تشمل -وفقًا للتأويل المُوسَّع للتراث التشريعي الشفهي- نطاق العمل المُنتِج برمته.

 

2.

لكن ذلك لا يعني أن على اليهود تجنُّب ضروب الفعل جميعها في أثناء تعظيمهم للسبْت، بل إن ما يتعيَّن عليهم تجنُّبه هو الأفعال المُنتِجة تحديدًا. وعليه، وفقًا للتراث اليهودي، لا يُعَدُّ الفعل التخريبي المحض، الذي لا يُرتجى منه أي نفع، "melachah" (مفرد melachot)، أقول: لا يُعَدُّ اعتداءً في السبْت ولا انتهاكًا لحرمته (ولهذا السبب، عادةً ما تتضمَّن الأعياد، حتى خارج اليهودية، ممارسة فرِحة، بل وعنيفة حتى القصف والهدر والتبديد). ولذلك، مع أن إيقاد النيران والطبخ مُحرَّمان في السبْت، فإن روح تعظيمه تجد تعبيرًا جليًّا عنها في تناول وجبات الطعام، الأمر الذي نوليه قدرًا هائلًا من الاهتمام والعناية في كل يوم عيد (إذ يتضمَّن السبْت مثلًا ثلاث وجبات عيديَّة على الأقل). وفي العموم، نطاق السلوكيات والأفعال المشروعة في العيد —من الإيماءات (الحركات) اليومية الأشد عاديَّةً إلى تراتيل التسبيح والحمد— مصبوغ برمته بتلك الصبغة العاطفية العصية على التعيين التي نُسمِّيها "التعييد" (festiveness). وفي التراث اليهودي-المسيحي هذا النحو المخصوص من الفعل والعيش المشترك، أي التعييد، مُعبَّرًا عنه في الأمر (الذي يبدو أننا قد نسينا دلالته بالكامل في أيامنا هذه) بـ"تعظيم الأعياد": «واذكر يوم السَّبْت لتُقدِّسه» (سفر الخروج 20: 8). وعليه، فالعطالة التي تُحدِّد العيد ليست مجرد خمود وترْك، وإنما هي تعظيم عوضًا عن ذلك، أي: نحوٌ مُعيَّن من الفعل والعيش.

 

3.

بالرغم من مظهر الحنين الشاحب الذي لا يزال محيطًا بيوم العيد في أيامنا هذه، من الجليِّ للغاية أننا لا نستطيع اليوم أن نعيش العيد حقًّا وصدقًا. ولبيان ذلك، شبَّه كارولي كيريني[5] فقدان القدرة على التعييد بحال شخص يريد أن يرقص لكن لم يعد بمقدوره أن يسمع الموسيقى. فنحن نواصل في الأعياد تأدية الإيماءات نفسها التي تعلمناها من أجدادنا —ترك العمل بقدر أو آخر، وتجهيز الديك الرومي في الكريسماس والحمَل في الفصح بقدر من العناية، والتبسُّم في وجوه الآخرين، وتوزيع الهدايا، والغناء— لكن لم يعد بمقدورنا، في واقع الحال، سماع الموسيقى؛ لم نعد نعرف كيف "نُعظِّم" العيد بالضبط. ومع ذلك، نحن غير قادرين على التخلي عن احتفالنا بالأعياد، ولذلك نواصل في كل مناسبة ممكنة (حتى في ما وراء الأعياد الشرعية) ابتغاء هذا النحو المخصوص "والمفقود" من الفعل والعيش الذي نُسمِّيه "التعييد"، فنُصِرُّ على الرقص، ونُعوِّض فقدان الموسيقى بصخب نوادي الديسكو ومكبرات الصوت، ونواصل القصف والهدر والتبديد —تبديد الحياة نفسها حتى، على نحو لا ينفك يتزايد— ومع ذلك، لسنا قادرين على بلوغ الـ"menuchah"، أي تلك العطالة البسيطة لكن المستحيلة علينا، التي يمكنها وحدها أن تسترجع معنى العيد المفقود. فما الذي يجعل العطالة عسيرة للغاية علينا وبعيدة عن منالنا إلى هذا الحد؟ وما طبيعة هذا النحو من الفعل والعيش الذي نُسمِّيه "التعييد"؟

Fig 1

 

4.

روى المؤرخ اليوناني بلوتارخ في كتاب "Quaestiones Convivales" (أسئلة الأعياد) أنه قد شهد عيدًا في مدينة خيرونيا يُسمَّى بعيد "طرد النَّهَم" (expulsion of bulimia). يقول: «يوجد عيد عتيق يحتفل به الحاكم عند المذبح العمومي، بينما يحتفل به جميع المواطنين في بيوتهم، ويُسمَّى بعيد "boulimou exelasis"؛ "طرد النهم". وفيه يطردون من بيوتهم عبدًا من عبيدهم، يضربونه بعصا مصنوعة من شجرة كف مريم[6]، صائحين: "ليخرجْ النَّهَم ولْيدخلْ الغنى والعافية"»[7] وكلمة "boulimos" اليونانية تعني حرفيًّا "نَهَم الثَّور". ويخبرنا بلوتارخ أن عيدًا مماثلًا وُجِد أيضًا في مدينة إزمير؛ كانوا يذبحون فيه ثورًا أسود ويُضحُّون به كامًلا حتى جلده، لكي يطردوا الـ"boubrostis"؛ "الأكل كما يأكل الثَّور".

ولكي نفهم ما هو على المحك حقًّا في هذين العيدين، يتعيَّن علينا أولًا أن نتخَّلص من الافتراض الخاطئ القائل بأنهما كانا يُمثِّلان مساعي لاسترضاء الآلهة طمعًا في الغنى ووفرة الطعام؛ فليس لذلك أي صلة على الإطلاق بمعنى هذين العيدين. ويُبرهَن على ذلك بجلاء أن ما يُطرَد فيهما ليس الجوع والندرة، وإنما "نَهَم الثَّور"؛ أي: أكل البهيمة بلا انقطاع وبلا شبع (مُجسَّدًا في الثور باجتراره البليد المتواصل). وعليه، فإن طرد العبد "النَّهِم" يعني طرد شكل مُعيَّن من أشكال الأكل (الافتراس والالتهام كبهيمة ضارية لإشباع جوع لا يمكن إشباعه أبدًا)، ومن ثم إفساح المكان لشكل آخر من أشكال الأكل، شكلٍ بشري وعيدي (festive)، شكلٍ لا يمكن له أن يبدأ إلا بعد طرد "نَهَم الثَّور"، إلا بعد تعطيل النَّهَم. والأكل بهذا الشكل الثاني لا يُعَدُّ "melachah"؛ عملًا مُنتِجًا، يُرتجى منه غرض ما، وإنما يُعَدُّ "menuchah"؛ عطالة (للنَّهَم)، سَبْت التغذية.

Fig 2

 

5.

في اللغات الحديثة، حُفِظ اللفظ اليوناني "boulimou"؛ نهم الثور، بالمعجم الطبي؛ إذ يُستعمَل لتسمية اضطراب من اضطرابات الأكل، وأضحى شائعًا منذ أواخر سبعينيات القرن العشرين في المجتمعات المترفة، وهو "bulimia nervosa"؛ النَّهَم العُصابي. ويتجلَّى هذا الاضطراب في الأعراض التالية (التي تتقاطع في بعض الأحيان مع أعراض نقيضه "anorexia nervosa"، القَهَم أو فقدان الشهية العُصابي[8]): نوبات أكل شرِه، مصحوبة بإحساس بانعدام السيطرة على النفس، متبوعة مباشرةً بالتقيُّؤ العمد. والحال أن اضطرابات الأكل، التي رُصِدت على نحو متفرق في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، لم تغدُ وباءً متفشيًّا إلا في زمننا هذا. لكن قد لُوحِظ أن سلفَي هذين الاضطرابين الأساسيين (القَهَم والنَّهَم العُصابيين) موجودان في النطاق الديني: في عبادة الصوم، وفي نقيضها؛ ولائم الأعياد (كانت العبارة الإنجليزية “eating binges”، نوبات الأكل الشرِه، التي يستخدمها الدليل التشخيصي والإحصائي للأمراض النفسية (DSM) لتوصيف نوبات النَّهَم العُصابي، تشير في الأصل إلى الإفراط في الأكل بولائم الأعياد. وكذلك نجد أن بعض الشعائر، كصوم شهر رمضان، تتألَّف من التناوب المحض بين القَهَم والنَّهَم، بين الـ"fasting" والـ"feasting"، بين الصيام والإيلام).

Fig 3

ومن هذا المنظور، يمكن اعتبار النَّهَم العُصابي مرتبطًا على نحو ما بالعيد الذي وصفه لنا بلوتارخ، والذي سُمِّي هذا الاضطراب على اسمه. فكما أن العبد، المطرود من البيت بعصا من شجرة كف مريم، يُشخِّص بجسده نهَم الثَّور —شكل الأكل الذي يتعيَّن طرده من المدينة حتى يخلو المكان لشكل آخر من الأكل وهو الأكل العيدي— ويُجسِّد المصاب بالنَّهَم العُصابي أو النُّهامي، بشهيته التي لا تشبع، نهَم الثَّور الذي أضحى من المُتعذَّر طردُه من المدينة في زمننا. ولأنه يكون بدينًا في الغالب، ومتزعزع الثقة، وعاجزًا عن التحكُّم في نفسه، نجده مُعرَّضًا (وعلى خلاف المصاب بالقَهَم العُصابي أو القُهامي لـ[نحوله الشديد وثقته وتحكُّمه الصارم في نفسه]) لاستهجان المجتمع واستنكاره. وبذلك يُعَدُّ كبش فداء عديم النفع، نُكفِّر به عن استحالة التعييد الحق في زمننا. بعبارة أخرى، يُعَدُّ فُضالة بلا نفع لاحتفال تطهيري (تعييد) أضحى معناه مفقودًا في مجتمعنا المعاصر.

 

6.

ومع ذلك، ثمة سلوك للمصاب بالنَّهَم العُصابي (النُّهامي) يشهد، في ظاهره، ولو بقدر ما، على ذكرى هذا المطلب التطهيري. أتحدث هنا عن التقيُّؤ الذي يتعمَّده المريض إما بإقحام إصبعين في الحلق، أو بتناول عقاقير مُقيِّئة ومُسْهِلة (ويمكن لهذه الممارسة الأخيرة تحديدًا أن تودي بحياة المريض، كما جرى للمطربة الأمريكية كارين كاربينتر "Karen Carpenter"، التي ماتت من جراء الإفراط في استخدام المُقيِّئات). ومنذ أبكر الدراسات عن النَّهَم العُصابي، عُدَّ تعمُّد التقيُّؤ شرطًا أساسيًّا لتشخيص المرء بهذا الاضطراب، حتى إذا كانت نسبة بسيطة (نحو 6%) من المصابين به لا يلجؤون إليه[9]. وعزْو التقيُّؤ العمد إلى خشية زيادة الوزن (في حالة النساء المصابات تحديدًا[10]) لا يبدو تفسيرًا شافيًا؛ ففي واقع الأمر، باستفراغه للطعام الذي تناوله حالًا في نوبة الشره، يبدو أن النُّهامي يلغي نهَم الثَّور عنده ويُبطِله، وبذلك يتطهَّر منه بطريقة ما؛ فللحظة —حتى لو كان بمفرده تمامًا، وحتى مع عجز بقية الناس عن استيعاب صنيعه؛ ففي أعينهم التقيُّؤ العمد أكثر استهجانًا حتى من الأكل الشرِه— يضطلع النُّهامي، دونما وعيٍ، بالمهمة التطهيرية التي أدَّاها العبد فرِحًا لأهل خيرونيا في غابر الأيام (وهذا التبديل المنتظم بين الأكل المفرط والتقيُّؤ العمد، بين الذنب والتكفير عنه، هو تحديدًا ما سوَّغ لأحد المؤلفين أن يكتب -في كتاب مُعنوَن على نحو ذي دلالة بـ"النَّهَم المسؤول"- قائلًا إنه قد مارس النَّهَم «بوعي وبنجاح» لعدد مُعتبَر من الأعوام).

 

7.

يتعذَّر في واقع الأمر الفصل بين الالتهام الحيواني والتغذي البشري؛ ففي كلٍّ من خيرونيا وإزمير يتزامن طرد (تعطيل، إبطال، تعليق) الـ"boulimos"؛ نهَم الثور، والـ"boubrostis"؛ الأكل كما يأكل الثور، من الجسد البشري مع ذبح الأضحية ("thysia" في لغة بلوتارخ) والأكل منها في وليمة طقسية. وبالمثل، يبدو الأمر كما لو أن مريض النَّهَم العُصابي —بتقيُّئه الطعام بعد بلعه مباشرةً، ومن دون أن يدرك ذلك تقريبًا— يلتهم ويتقيأ في الوقت عينه. يتقيأ -أي يُبطِل ويُعطِّل_ النَّهَم الحيواني نفسه الذي أكل به حالًا.

وينطوي هذا التمازج بين الحيواني والبشري، بين نهَم الثَّور والتغذية العيدية، على درس نفيس عن الصلة بين العطالة والعيد، التي عزمتُ على تجليتها. وأطروحتي هي التالية: ليست العطالة تبعةً ليوم العيد ولا شرطًا له (ترك العمل)، وإنما هي متطابقة مع التعييد نفسه، أي إنها تتألَّف تحديدًا من تعليق الإيماءات والأفعال والأعمال البشرية وتعطيلها، والتي لا يمكن لها أن تكون عيديَّةً إلا على هذا النحو.

 

8.

ليس السبْت —وكل عيد— إذن مجرد يوم للراحة يعقب أيام العمل (كما تقول لنا الروزنامة)، وإنما هو يشير إلى زمن مخصوص وفعل مخصوص. وهذا منصوص عليه ضِمنًا في رواية سفر التكوين نفسها؛ فنجد أن إتمام العمل وتركه متزامنان في اليوم السابع: «في اليوم السابع أتمَّ الربُّ أعماله التي عملها، وفي اليوم السابع سَبَتَ الربُّ عن كل أعماله.» ولإبراز الاتصال المباشر —وأيضًا التباين— بين العمل وترك العمل، كتب مؤلف المدراش المعروف بـ"genesis Rabbah" (تفسير سفر التكوين العظيم) قائلًا: «لا يعلم الإنسان الفاني [بدقة] أحيانَه ولحظاته وساعاته، ولذلك تجده يأخذ شيئًا من الزمن الدنيوي ويُدخله في الزمن المُقدَّس [السَّبْت]، أما القُدُّوس، تبارك اسمه، فيعلم أحيانَه ولحظاته وساعاته تمام العلم، ولذلك يدخل في السَّبْت في طرفة عين»[11]. وعلى المعنى نفسه، ينبغي للمرء أن يحمل توكيدَ مُفسِّرٍ آخر على أن «الأمر بتعظيم السَّبْت يعدل كل أوامر التوراة»، وعلى أن تعظيم السبْت «يُؤدِّي إلى مجيء المسيح»[12]؛ فكل ذلك يعني أن راحة السبْت ليست مجرد انقطاع وترك، مُنبتَّة الصلة عن أوامر بقية أيام الأسبوع وأعماله، وإنما هي تضاهي التأدية التامة لهذه الأوامر (تمامًا كما أن مجيء المسيح يدل على تمام الشريعة، ومن ثم تعطيلها). ولهذا السبب، عَدَّ التراث الرِّبِّي أن السبْت جزء صغير من المملكة المسيحانية، استباقًا لها، علامة عليها. ويُعبِّر التلمود، بفجاجته المعهودة، عن هذه القرابة بين السبْت والـ"olam habbah" العالم (الزمن) الآتي، قائلًا: «ثلاثة أشياء تُبشِّر بالعالم الآتي: الشمس والسَّبْت والـ"tashmish"؛ وهي كلمة تعني الجماع الجنسي وتعني التبرُّز أيضًا.»[13]

كيف لنا إذن أن نفهم هذا القرب الشديد، الذي يكاد يكون مُلازَمةً، بين السَّبْت والعمل والعطالة؟ في تفسيره لسفر التكوين، استشهد الرِّبِّي راشي بأثرٍ يفيد أن يوم السَّبْت لم يكن خِلوًا من الخلق، وإنما ثمة شيء ما قد خُلِق فيه: «بعد انقضاء أيام الخلق الستة، ما هو الشيء الذي ظل ناقصًا في الكون؟ إنها الـ"menuchah"، العطالة؛ فبحلول السَّبْت حلَّت العطالة، وبذلك اكتمل الكون.»[14] إن العطالة داخلة في الخلق؛ إنها عمل من أعمال الرب، لكنها عمل مخصوص للغاية، عمل يتألَّف من تعطيل جميع الأعمال الأخرى، إيقافها. ولقد عبَّر فرانز روزينزفيج[15] عن هذا التَّماس بين السبْت والخلق عندما قال إن السبْت هو عيد الخلق وعيد النجاة (الفداء، الخلاص) في الوقت عينه، أو على نحو أكثر دقةً؛ نحن نحتفل في السبْت بخلق كان مُقدَّرًا للنجاة (أي للعطالة) منذ البداية.

 

9.

ما يُحدِّد طبيعة يوم العيد ليس ما لا يُفعَل فيه، وإنما أن ما يُفعَل فيه —وهو لايختلف بحد ذاته عمَّا يُفعَل في بقية الأيام— يغدو مُعلَّقًا ومُعطَّلًا، أي مُحرَّرًا من "اقتصاده"، من الأسباب والغايات التي يُفعَل من أجلها في بقية الأيام (والامتناع التام عن الفعل ليس سوى مثال مُتطرِّف على هذا التعطيل)؛ فعندما يأكل المرء في العيد لا يفعل ذلك لكي يتقوَّت، وعندما يلبس الثياب فإنه لا يفعل ذلك لكي يتغطَّى أو يحتمي من البرد، وعندما يستيقظ من نومه فإنه لا يفعل ذلك لكي يعمل، وعندما يمشي فإنه لا يفعل ذلك لكي يذهب إلى مكان ما، وعندما يتكلم فإنه لا يفعل ذلك لكي يُبلِّغ المعلومات، وعندما يتبادل الأشياء فإنه لا يفعل ذلك على سبيل البيع والشراء[16].

يبدأ كل يوم عيد، في المقام الأول، بتعطيل أعمال البشر. في عيد الموتى الصقلِّي، الذي وصفه لنا جوزيبي بيترا[17]، يسرق الموتى (مُجسَّدين في امرأة عجوز تُدعى "Strina"، وهو اسم مُشتَقٌّ من كلمة "strena" اللاتينية، التي تعني تبادل الهدايا في أعياد رأس السنة) البضائعَ من الخياطين والتجار والخبازين، ثم يمنحونها للأطفال (يحدث أمر مشابه لذلك في كل الأعياد التي تتضمَّن إهداءً للهدايا، كالهالووين، الذي يُجسِّد الأطفال فيه الموتى). إن الهدايا والعطايا ولعب الأطفال، هي أشياء (سلع) قد عُطِّلت قيمتها الاستعمالية والتبادلية، هي أشياء مُنتزَعة من اقتصادها. وفي كل عيد كرنفالي، كعيد ساتورن الروماني مثلًا، تُعطَّل العلاقات الاجتماعية القائمة أو تُقلَب، فيحكم العبيدُ الأسيادَ، وتُوضَع السيادة في يد ملك هزْلي (mock-king) يحتل مقام الملك الفعلي. وعلى هذا النحو، يتجلَّى العيد، في الأساس، باعتباره تعطيلًا للقيم والسلطات القائمة. وأيضًا «لا توجد أعياد من دون رقص»[18] كما يخبرنا لوقيان السميساطي[19]، وأي شيء يكون الرقص ما لم يكن تحريرًا للجسد من اقتصاده، من حركاته النفعية، واستعراضًا لإيماءاته في عطالتها النقية؟ وكذلك تلعب الأقنعة، بطرق شتى، دورًا في أعياد الكثير من الشعوب، وأي شيء يكون القناع ما لم يكن تعطيلًا للوجه؟

 

10.

لكن هذا لا يعني أن الأفعال البشرية التي عطَّلها العيد قد فُصِلت ونُقِلت بالضرورة إلى نطاق أكثر سموًّا وجلالًا (نطاق المُقدَّس). أجل، من المُحتمَل أن يكون العيد قد فُصِل ونُقِل إلى النطاق الديني على يد الكنيسة ورجال الدين في مرحلة معينة. لكن لعلَّه يجدر بنا أن نعكس التسلسل الزمني المألوف الذي يفترض أن الظاهرة —العيد هنا— تكون دينية في البداية ثم تُعَلْمَنُ لاحقًا، وأن نفترض عوضًا عن ذلك أن ما حدث في البداية هو مجرد تعطيل أفعال البشر في أثناء العيد ببساطة، ثم تدخَّل ما نُسمِّيه "religion"؛ الدين (وهو مصطلح غير موجود بمعناه الحديث في الثقافات القديمة)، عند هذه اللحظة ونقل العيد إلى نطاق مخصوص[20]. ومن هذا المنظور، تكتسب أطروحة كلود ليفي شتراوس —القائلة بأن المفاهيم الأساسية التي نُفكِّر بها في الدين عادةً هي دوالُّ فائضة، أي فارغة من المعنى (excessive signifiers)، ولذلك تحديدًا يمكن ملؤها بأي مضمون رمزي— معنًى أكثر سعةً حتى؛ إذ يمكن القول إن هذه الدوال الفارغة تضاهي الأفعال البشرية والأشياء التي أفرغها العيد وعطَّلها، ثم أتى الدين وفصلها وأعاد تنظيمها بواسطة آلياته الشعائرية[21].

وعلى أي حال، سواء سبقت العطالةُ العيديةُ الدينَ أو نتجت عن علمنته، يظل الأمر الأساسي هنا هو الممارسة العيدية، حيث أفعال البشر العاديَّة واليومية لا تُمحى ولا تُنفى، وإنما تُعلَّق وتُعطَّل (أي تُفصَل عن غاياتها النفعية) لكي تُعرَض بحد ذاتها على نحو عيدي، فيعرض كلٌّ من الموكب والرقص العيديَّيْن مشية الجسد البشري وخطوته، وتكشف الهدية عن إمكانية غير مُتوقَّعة موجودة ضمن منتجات الاقتصاد والعمل، وتستعيد الوليمة العيدية نهَم الثَّور وتُعطِّله. وليس الغرض من ذلك جعل هذه الأفعال البشرية مُقدَّسةً لا تُمَسُّ، وإنما فتحها على استعمال جديد —أو عتيق— ممكن منسجم مع روح السبْت. إن لغة التلمود الفجَّة والمثيرة للسخرية —التي تتحدث في الجملة نفسها عن السبْت والجماع (أو التبرُّز) باعتبارها علامات على الزمن الآتي— تكشف هنا عن جديتها التامة[22].

 

[1] Giorgio Agamben, “Hunger of an Ox: Considerations on the Sabbath, the Feast, and Inoperativity”, in Idem, Nudities, trans. David Kishik and Stefan Pedatella (California: Stanford University Press, 2011), p. 104-112.

[2] جميع النقول الكتابية من ترجمتي. تستعمل الترجمات العربية للتوراة (الفانديك والمشتركة واليازجي، مثلًا) وبعض الترجمات الإنجليزية (RSV، مثلًا) لفظ "استراح" كترجمة للفظ العبري "שָׁבַּת" (Shabbat). ومع أن الراحة من معاني هذا اللفظ، فإنه يعني في الأصل التوقف والترك والانقطاع. وهذا المعنى هو الأنسب لهذا السياق؛ فالآيات لا تتحدث هنا عن ارتياح الله من تعب الخلق، وإنما عن توقفه عن أعمال الخلق لكونه قد أتمَّها وفرغ منها. ولهذا تستعمل بعض الترجمات الإنجليزية (الـ Jewish Study Bible، مثلًا) لفظ "ceased" هنا عوضًا عن لفظ "rested"، ولهذا استُعمِل المقابل العربي للفظ العبري، سَبَتَ، بمعنى الانقطاع عن العمل أو التوقف عنه، عوضًا عن استراح.

[3] Philo, “on the Cherubim”, in Philo, vol. 2, trans. F. H. Colson and G. H. Whitaker (Cambridge, MA: Harvard University press, 1929), p. 61.

[4] مرة أخرى، أستعمل هنا لفظ "سَبْتي" عوضًا عن "راحتي". يُؤوِّل أجامبين الآية تأويلًا أخرويًّا، وإن كانت في سياق تاريخي: «(10)لقد حلَّ غضبي على هذا الجيل أربعين سنة ورأيت أنهم أناس ضلَّت قلوبهم وتفرَّقوا عن سبيلي. (11)ولذلك أقسمت في حموة غضبي أنهم لن يدخلوا سَبْتي» الآية العاشرة تتحدث عن التيه، ومن ثم يمكن تأويل "سَبْتي" في الآية التالية لها بأنها استعارة عن الأرض التاريخية الموعودة، أرض كنعان. لكن يمكن أيضًا تأويلها -مع أجامبين- بأنها استعارة عن "الجنة" الأُخروية، أرض السبْت، أرض العطالة (par excellence).

[5] فقيه اللغة وعالم الميثولوجيا الإغريقية المجري (ت. 1973).

[6] أو بيلسان إبراهيم، أو شجرة العفة (chaste tree)، لارتباطها بهستيا، ربة الموقد والعفاف في الميثولوجيا الإغريقية.

[7] Plutarch, Moralia, vol. 8, trans. P. A. Clement and H. B. Hoffleit (Cambridge, MA: Harvard University press, 1969), p. 495-497.

[8] مع أن الأصل في حالة القَهَم العُصابي هو الامتناع عن الأكل، قد ينغمس المريض في بعض الأحيان بنوبات أكل شرِه، يتبعها مباشرةً التقيُّؤ واستخدام المُسْهِلات والحقن الشرجية، تمامًا كما يفعل مريض النَّهَم العُصابي بعد كل نوبة أكل شرِه (وقد يعمد إلى التقيُّؤ والمُسْهِلات حتى من دون الانغماس في نوبات أكل شرِه). وبذلك يوجد القَهَم العُصابي على حالتين: حال نقية من القَهَم المحض، وحالة مختلطة من القَهَم والنَّهَم.

[9]* وهذا تحديدًا ما يُميِّز النَّهَم العُصابي عن اضطراب الأكل الشرِه (binge eating disorder)؛ إذ يأكل المصاب به بإفراط شديد وفقدان سيطرة في نوبة الشره لكنه لا يتبع ذلك بالتقيُّؤ العمد.

[10] اضطرابات الأكل (القَهَم والنَّهَم تحديدًا) تكثر في النساء عن الرجال؛ فمن بين كل عشرة أشخاص مصابين بها يوجد تسع نساء ورجل واحد.

 

[11] Genesis Rabbah: The Judaic Commentary to the Book of Genesis: A New American Translation, vol. 1, trans. Jacob Neuzner (Atlanta: Scholars Press, 1985), p. 107.

[12] The Zohar, vol. 4, trans. J. C. Matt (Stanford, CA: Stanford university press, 2007), p. 504.

[13] The Talmud of Babylonia: An Academic Commentary, vol. 1, trans. J. Neuzner (Atlanta: Scholars Press, 1994), p. 338.

[14] Hebrew-English Edition of the Babylonian Talmud: Megillah, trans, M. Simon (London: Soncino, 1984), p. 9a.

[15] عالم اللاهوت الألماني (ت. 1929).

[16] أي إن العيد يُحوِّل الأفعال والإيماءات (الحركات) البشرية إلى وسائل محضة، إلى "وسائل بلا غايات"، حتى نستعمل عبارة أخرى عزيزة على قلب أجامبين.

[17] الطبيب وعالم الفولكلور الإيطالي (ت. 1916).

[18] Lucian, “The Dance,” in Lucian, vol. 5, trans. A. M. Harmon (Cambridge, MA: Harvard University press, 1936), p. 229.

[19]* الأديب الساخر وكاتب الخيال السوري (ت. 192).

[20] ينتقد أجامبين، في موضع آخر، النهج الأركيولوجي الشائع بين علماء الإنسانيات المبني على الرأي القائل بأن تفسير أي ظاهرة تاريخية يستلزم ردُّها إلى أصل أو سياق مُقدَّس أو ديني-سحري. وحجة أجامبين هي أننا لا نجد قط في المصادر هذا الطور التاريخي الديني على نحو محض، وإنما نجد أناسًا متدينين وغير متدينين في الوقت عينه. وعليه، عندما نجد ظاهرة يختلط فيها الديني بغير الديني، ليس من السديد أن نفترض وجود عالم أصلي كانت كل الأفعال البشرية فيه دينية بطريقة أو بأخرى ثم عُلمِنَت ظواهره في ما بعد. انظر كتابه "The Sacrament of Language"، ص 12-17. وللمزيد عن نقده لمفهوم العلمنة، انظر كتابه "The Kingdom and the Glory"، التصدير والفصل الأول كاملًا. وللمزيد عن دلالة مفاهيم الدين والتقديس (الفصل والنقل إلى نطاق مخصوص خارج التداول البشري) والتدنيس (إعادة ما فُصِل ونُقِل مرة أخرى إلى التداول البشري)، عند أجامبين انظر دراسته التالية:

Giorgio Agamben, “in praise of profanation,” in Idem. Profanations (New York: Zone Books, 2007), p. 73-92.

ولشرح مُبسَّط لهذه المفاهيم الثلاثة، انظر: طارق عثمان، "استيهامات ماركسية: أجامبين في وادي البورنو"، مركز نماء للبحوث والدراسات، أغسطس 2019، القسم الثالث تحديدًا.

[21] Claude Levi-Straus, Introduction to the works of Marcel Mauss, trans. F. Bajer (London: Routledge, 1987), p. 64.

[22] بكشفها عن استعمال جديد للجماع (أو التبرز) غير الاستعمال المرصود له: اعتباره علامة على الزمن أو العالم المسيحاني (الأخروي) الآتي؛ عوضا عن اعتباره وسيلة للمتعة أو الإنجاب. أو بعبارة أخرى، بـ"لعبها" بالجماع (أو التبرز)، بالمعنى الأجامبيني للعب باعتباره أداة تدنيس: تعطيل الاستعمال المرصود للشيء واستعماله في استعمال جديد أو عتيق مغاير، وللمزيد عن هذه المعنى للعب انظر:

Giorgio Agamben, “in praise of profanation.”

التعليقات

أضف تعليقك

الكتاب

جورجيو أجامبين

جورجيو أجامبين

جورجيو أجامبين (مواليد 22 أبريل 1942)‏ هو فيلسوف إيطالي اشتهر بعمله في السياسة ا…

المترجم

طارق عثمان

طارق عثمان

باحث ومترجم، ينصب اهتمامه بالفلسفة المعاصرة والتحليل النفسي، صدر له العديد من ال…

أوراق ودراسات ذات صلة

مشاهدة المزيد
دين الرأسمالية (لاهوت النقود)
  • بينيات

دين الرأسمالية (لاهوت النقود)

جسد الَّذين أنعم الله عليهم
  • بينيات

جسد الَّذين أنعم الله عليهم

يا علبة الصبر:  كيف تورث الأغنية حكمة الأيام؟!
  • لا هذا ولا ذاك

يا علبة الصبر: كيف تورث الأغنية حكمة الأيام؟!

فرانسوا توسكييز وثورة الطب النفسي
  • تخصصات

فرانسوا توسكييز وثورة الطب النفسي

ملفات تعريف الارتباط

نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط الخاصة بنا وملفات تعريف الارتباط الخاصة بالجهات الخارجية حتى نتمكن من عرض هذا الموقع وفهم كيفية استخدامه بشكل أفضل ، بهدف تحسين الخدمات التي نقدمها. إذا واصلت التصفح ، فإننا نعتبر أنك قبلت ملفات تعريف الارتباط.