[1][2]: يرى جاك لاكان أن أجلَّ لحظات الحب قاطبةً هي تلك التي يُحقِّق فيها المحبوب استعارة الحب، أي عندما يُبدِّل مقامه في علاقة الحب من موقع المحبوب إلى موقع المُحِب، ويشرع في معاملة المُحِب على النحو نفسه الذي عامله به حتى هذه اللحظة[3]، أي يشرع في حبه، بأن يُعطيه ما لا يملكه. فأن تُحب يعني أن تعطي ما لا تملك[4]. من المُحِب إذن؟ ومن المحبوب؟ المُحِب يفتقر إلى شيء ما، هو ذات مفتقِرة، ومن ثم ذات راغبة. لكنه لا يدري ما الذي يفتقر إليه على وجه التحديد. بينما يمتلك المحبوب شيئًا ما، لكنه لا يدري ما الذي يملكه على وجه التحديد. وهذا الشيء الذي يملكه، هذا الشيء المخفي فيه، هو تحديدًا ما يجعله فاتنًا ومرغوبًا في عين الآخر؛ المُحِب. لكن هل لما يملكه المحبوب أي صلة بما يفتقده المُحِب؟ إطلاقًا، أو كما يقول لاكان: «ما يفتقر المُحِب إليه ليس هو ذلك الشيء المخفي في المحبوب. وهذا التباين بين ما يفتقده المُحِب وما يملكه المحبوب هو منبع دراما الحب برمتها.»[5] يرى المُحِب شيئًا ما في المحبوب، يريد شيئًا ما منه، بينما لا يعرف المحبوب ما الذي يراه المُحِب فيه على وجه التحديد، لا يعرف ما الذي يجعله مرغوبًا في عين المُحب على وجه التحديد[6]. والسبيل الوحيد المتاح أمام المحبوب للتملُّص من هذا المأزق هو أن يقابل هذا الحب بالمثل، بأن يشغل مقام المُحِب. وبذلك يصبح هو نفسه الذات الراغبة، الذات المفتقِرة. وبذلك يعطي نقصه، يعطي ما لا يملكه[7].
سنتناول في الدراسة التي بين أيدينا لحظة الحب الجليلة هذه، أي استعارة الحب، عند باروخ سبينوزا (ت. 1677)، كما وردت في كتابه الإتيقا[8]. فعند سبينوزا -كما عند لاكان- ينشأ الحب، بأتم معنى للكلمة، من التباين الجذري بين ما يراه المُحِب في المحبوب وما يراه المحبوب في ذاته.
تناول سبينوزا لحظة الحب الجليلة التي يتحول فيها المحبوب إلى مُحِب في موضع وحيد من كتاب الإتيقا، وهو القضية 41 من الباب الثالث. إنه أحد المواضع النادرة التي تخلى فيها سبينوزا -ولو إلى حين- عن افتتانه الشهير بأشكال الحب المرَضية، أي المعيوبة والفاسدة. وفيه نجد استعارة الحب معروضة من منظور المحبوب، يقول: «إذا تخيَّل (تصوَّر) شخصٌ أن شخصًا آخر يحبه، مع اعتقاده أنه لم يُعطِه أي سبب يدفعه إلى حبه، فسيحب هذا الشخص في مقابل ذلك.»[9] والآن، ما معنى أن تحب شخصًا عند سبينوزا؟ أن تحب شخصًا يعني أن تتخيله سببًا لسرورك وفرحك وبهجتك. من المُحِب إذن؟ هو الذي يتأثر بفرح مصحوب بفكرة سبب خارج عنه، أي بفكرة المحبوب. ومن المحبوب؟ هو سبب فرح المُحِب. ويُحوِّل المحبوب نفسه إلى مُحِب بقدر ما يعتقد أنه لم يُعطِ المُحِبَّ أي سبب من شأنه أن يجعله يقع في حبه[10].
عندما أُدخِل السرور، بطريقة أو بأخرى، على شخص آخر، فإنه يقع في حبي. وبحبه لي، يرى فيَّ سببًا لسروره. وعندما أرى نفسي محبوبًا له، أعرف أنني -في عينيه- السبب (الخارجي) لفرحه ومسرَّته.
ويتبع ذلك لزامًا -وفقًا للقضية 33- طلب المعاملة بالمثل؛ إذ سيسعى هذا الشخص الذي أحبَّني، بكل وسعه، إلى جعلي أحبه في المقابل؛ إنه يريد مني أن أحبه كما أحبَّني.
ويعتمد إذا ما كنت سأحبه في المقابل أم لن أحبه -وفقًا للقضية 41- على إذا ما كنت أعتقد أنني قد أعطيته سببًا يدفعه إلى حبي أم لم أُعطِه:
دعونا ننظر أولًا في الكُره. وفقًا للقضية 40؛ «إذا تخيَّل شخصٌ أن شخصًا آخر يكرهه، مع اعتقاده أنه لم يُعطِه أي سبب يدفعه إلى كرهه، فسيكره هذا الشخص في مقابل ذلك.» وعليه، ما ينطبق على الحب -بحسب القضية 41- ينطبق على الكره أيضًا. ومن ثم، عندما أُدخِل الحزن، بطريقة أو بأخرى، على شخص آخر، فإنه يكرهني. وبكرهه لي يرى فيَّ سببًا لحزنه. وعندما أرى نفسي مكروهًا عنده، أعرف أنني -في عينيه- السبب (الخارجي) لحزنه وغمه.
ووفقًا للقضية 27؛ «إذا تخيلنا شخصًا آخر، لا نشعر بأي شعور حياله، قد تأثر بعاطفة معينة، فإننا نتأثر بالعاطفة نفسها.»[12] ولذلك عندما أتخيل أن الآخر يكره شيئًا بعينه، سأميل إلى محاكاة كرهه، أي سأكره هذا الشيء. لكن في حالتنا هذه، أنا لا أحاكي كره الآخر لطرف ثالث، وإنما أحاكي كرهه لي، فأنا تحديدًا مَن يكرهه الآخر. وهو ما يعني أن عليَّ أن أحاكي كرهه، لا كعاطفة منصرفة إلى موضوع خارج عني، وإنما كعاطفة منصرفة إلى ذاتي؛ أي إن عليَّ أن أكره نفسي ببساطة.
لكن وفقًا للقضية 40؛ لن أحاكي كره الآخر المنصرف إلى خارج ذاته، ككره منصرف إلى ذاتي، أي لن أكره نفسي لأنني أتخيل أن الآخر يكرهني ببساطة، إلا إذا اعتقدتُ أنني قد أعطيته سببًا حقيقيًّا يدفعه إلى كرهي. وباعتقادي أنني قد أعطيت الآخر سببًا حقيقيًّا لكرهي، أرى في نفسي ما يراه هو فيها، أي سببًا لحزنه وغمه. لكنني لست هنا سببًا لحزنه فحسب، وإنما سببًا لحزني أيضًا. فمع أنني لم أفعل سوى محاكاة الآخر في هذا الحزن، فلا ينفي هذا حقيقة أنني مَن أحزنه في المقام الأول. وهكذا يراني الآخر سببًا لحزنه، وأراني سببًا لحزنه ولحزني تبعًا لذلك.
وحاصل لقائي بالآخر في هذه الحالة كالتالي: يحزن الآخر تأثرًا بسبب خارج ذاته، وهو أنا، فيكرهني. ومحاكيًا لحزن الآخر، الذي أدخلته عليه، أحزن تأثرًا بسبب ذاتي، فأكره نفسي. ولأنني لا أرى سبب حزني في الآخر وإنما في ذاتي، فأنا لا أكره الآخر وإنما أكره نفسي من خلال كرهه لي. إن الآخر يكرهني وأنا أكره نفسي.
وبعبارة أخرى؛ أنا خزيان. يسمي سبينوزا الكره المنصرف إلى الذات، أي الحزن تأثرًا بسبب ذاتي، Pudor، أي «خزي وخجل» (حاشية القضية 33). أن أخزى يعني أن أرى ذاتي مدعاةً للحزن والأسف. ويقول سبينوزا إن هذا نادرًا ما يحدث، لأنني أسعى جهدي لأنفي عن ذاتي كل ما أتخيل أنه يجعلها سببًا للحزن (القضية 25). لأنني سأحاول أن أتجنب الخزي مهما كان الثمن.
دعونا نعود الآن إلى الحب مرة أخرى. عندما أُدخِل -بطريقة أو بأخرى- السرور على شخص آخر، فإنه يحبني. وبحبه لي، يري فيَّ سببًا لفرحه. وعندما أرى نفسي محبوبًا له، أعرف أنني -في عينيه- السبب (الخارجي) لفرحه ومسرته.
ووفقًا للقضية 27؛ سأميل إلى محاكاة حب الآخر، أي فرحه تأثرًا بسبب خارج عنه، وهو أنا. وكما في حالة الكره، لأنني أتخيل أن الآخر يحب شيء معين، فسأحب هذا الشيء.
ووفقًا للقضية 41؛ لن أحاكي حب الآخر المنصرف إلى خارج ذاته، كحب منصرف إلى ذاتي، أي لن أحب نفسي لأنني أتخيل أن الآخر يحبني ببساطة، إلا إذا اعتقدتُ أنني قد أعطيته سببًا حقيقيًّا يدفعه إلى حبي. وباعتقادي أنني قد أعطيت الآخر سببًا حقيقيًّا لحبي، أرى في ذاتي ما يراه الآخر فيها، أي سببًا لفرحه ومسرته. لكنني لست هنا سببًا لفرحه فحسب، وإنما سببًا لفرحي أيضًا. فمع أنني لم أفعل سوى محاكاة الآخر في هذا الفرح، فلا ينفي ذلك حقيقة أنني من أفرحه في المقام الأول. وهكذا يراني الآخر سببًا لفرحه، وأراني سببًا لفرحه ولفرحي تبعًا لذلك.
وحاصل لقائي بالآخر في هذه الحالة كالتالي: يفرح الآخر تأثرًا بسبب خارج ذاته، وهو أنا، فيحبني. ومحاكيًا لفرح الآخر، الذي أدخلته عليه، أفرح تأثرًا بسبب ذاتي، فأحب نفسي. ولأنني لا أرى سبب فرحي في الآخر وإنما في ذاتي، فأنا لا أحب الآخر وإنما أحب نفسي من خلال حبه لي. إن الآخر يحبني وأنا أحب نفسي.
وبعبارة أخرى، أنا أطري نفسي، أغتبط بها، أفخر بها. يسمي سبينوزا الحب المنصرف إلى الذات، أي الفرح تأثرًا بسبب ذاتي، gloria، أي «فخر واعتزاز» (حاشية القضية 30). أن أغتبط بذاتي يعني أن أرى ذاتي مدعاةً للفرح والحبور. ويقول سبينوزا إن هذا كثيرًا ما يحدث؛ فانصراف الحب إلى الذات، أي الافتخار، أكثر حدوثًا -بما لا يُقارَن- من انصراف الكره إليها، أي الخزيان. فعلى عكس الخزي، لن أتجنب الفخر، لأنني أسعى جهدي لأثبت لذاتي كل ما أتخيل أنه يجعلها سببًا للفرح.
لكن بالنظر إلى هذا الحال النرجسي، كيف لي أن أجيب طلب الآخر مني أن أعامله بالمثل؛ أن أبادله الحب؟ لأنني أعتقد أنني قد أعطيت الآخر سببًا حقيقيًّا يدفعه إلى حبي، ولأنني أحب نفسي، تبعًا لذلك، لكونها سببًا لفرحي، لن يشق عليَّ أن أعرف ماذا يريد الآخر مني بالضبط عندما يطلب مني معاملته بالمثل. إنه يحاول أن يجعلني أفرح بسببه، أي إنه يسعى إلى جعلي أراه سببًا لفرحي، لكي يرى في ذاته سببًا لفرحه. ومعتقدًا أنه قد أعطاني سببًا حقيقيًّا لحبه، لن يحبني الآخر وإنما سيحب نفسه. وبإيجاز؛ إنه يستثير حبي لكي يغدو بمقدوره أن يحب نفسه من خلال حبي له.
وعليه، يبدو طلب الآخر لمبادلته الحب -في نظري- على النحو التالي: كلما عظم قدر الفرح الذي يتخيل الآخر أنني أشعر به بسببه، عظم قدر فرحه بذاته، أي زاد افتخاره بها واعتزازه. وبعبارة أخرى؛ كلما عظم قدر حبي للآخر، أو قل، عظم قدر الحب الذي أجيب به طلبه مني بأن أحبه بالمثل،عظم قدر حبه لنفسه (ومن ثم لن أبادله الحب؛ لأن ذلك لن يدفعه إلى حبي أكثر وإنما إلى حب نفسه — غرضه الأساسي من استثارة حبي).
لكن الآخر المُحِب والمتلهف على أن أحبه بالمثل، يسعى الآن -بموجب القضية 39- إلى الإحسان إليَّ. فكيف سيردُّ على امتناعي عن مبادلته الحب؟ عندما يتبيَّن له أنني قد قابلت إحسانه؛ حبه، بالجحود، سيغتم وبذلك سيكرهني، بمقتضى القضية 42.
وعندما لا يقدر الآخر على أن يستثير حبي مباشرةً، أي بأن يحبني ببساطة ويسعى -في الوقت عينه- جاهدًا لجعلي أحبه بالمثل، يمكن له أن يحاول التغلب على ممانعتي عن طريق استراتيجية غير مباشرة: على سبيل المثال، يمكنه، متجاهلًا إياي، أن يحاول إدخال الفرح على س الذي يعرف أنني أحبه والذي لا يبالي به على الإطلاق. وبناءً على القضية 22، التي تعرض لهذه الحيلة غير المباشرة، ينبغى للآخر أن ينجح في مسعاه: «إذا تخيلنا أن شخصًا يُدخِل السرور على مَن نحبه، فسنحب هذا الشخص.» وعلى ذلك، لا بد أن سبينوزا قد اعتبر الحب "حالة لا تقع إلا كأثر جانبي بالضرورة."[13] لكن لكي ينجح الآخر في استثارة حبي له عن طريق هذه الحيلة غير المباشرة، لا بد له قبل ذلك أن يستثير حب س له على نحو مباشر، وهو أمر مستحيل (فهو لا يبالي به على الإطلاق). واختصارًا؛ لا يمكن لهذه الاستراتيجية أن تؤتي أُكلها حقًّا. فحتى إن أفلح الآخر بالفعل في استثارة حب س، ومن ثم حبي، فلا بد لهذه الـ ménage á trois، العلاقة الثلاثية، التي يحب فيها كل مني وس الآخر، بينما لا يحب الآخر سواي في حقيقة الأمر ―لأن حبه لـس حب زائف، مجرد حيلة― أن تنهار لا محالة؛ ففي اللحظة التي سيتبين فيها س أن صلتي بالآخر أمتن من صلته به، سيحسدني وسيشرع في كره الآخر، طبقًا للقضية 35.
عندما يحبني الآخر، أي يرى فيَّ سببًا لفرحه، سأقابل حبه بالمثل، سأحبه، أي سأرى فيه سببًا لفرحي، بقدر ما لا أرى في ذاتي سببًا لفرحه. وبعبارة أخرى؛ سأتحول من محبوب إلى مُحِب بقدر ما لا أرى في ذاتي ما يراه الآخر فيها. يرى سبينوزا إذن أن التباين الجذري بين ما يراه الآخر؛ المُحِب، فيَّ، وما أراه؛ أنا؛ المحبوب، في ذاتي، هو ما يُوجِد الحب، بأتم معنى للكلمة.
وينشأ كرهي للآخر الذي يكرهني من تباين مماثل: عندما يكرهني الآخر، أي يرى فيَّ سببًا لحزنه، سأقابل كرهه بالمثل، سأكرهه، أي سأرى فيه سببًا لحزني، بقدر ما لا أرى في ذاتي سببًا لحزنه.
لكن إذا كنت لا أقابل حب الآخر بالمثل إلا عندما أعتقد أنني لم أُعطِه سببًا يجعله يحبني، فكيف يتأتى للآخر إذن، وفي أي ظروف، أن يرى موضوع حبه، أي سبب فرحته، فيَّ، بينما لا أرى في ذاتي سببًا لفرحته، ومن ثم لن أحب نفسي من خلال حبه لي، وإنما سأحبه في مقابل حبه لي؟ تعرَّض سبينوزا في القضيتين 15 و16 لهذه الظروف التي يحبني فيه الآخر بسبب شيء غير موجود فيَّ، بسبب شيء في ذاتي زائد على مجرد ذاتي، شيء فيَّ زائد عني.
دعونا نلقي أولًا نظرة خاطفة على القضية 14، التي تنبني عليها القضيتان 15 و16. طبقًا للقضية 14، إذا تأثرت النفس (العقل)[14] مرة بعاطفتين في الوقت نفسه، ثم تأثرت في وقت لاحق بإحداهما، فستتأثر بالأخرى على الفور.
يقول سبينوزا في القضية 15 إنه من الممكن لأي شيء أن يكون سببًا عارضًا للفرح، ومن ثم موضوعًا للحب، محبوبًا. وفي شرحه لذلك، تحدث عن الظرف الذي تتأثر فيه نفس المُحِب بالمحبوب لأول مرة، عندما يراه لأول مرة على سبيل المثال؛ لكن في هذه الحالة لا يُعَدُّ هذا التأثر -وكقاعدة- حبًّا من أول نظرة (فآلية الحب من أول نظرة، كحب قاهر لا يُقاوَم، لن تُشرَح إلا تاليًا، في القضية 16). والآن، لنفترض أن نفس الآخر، المُحِب، قد تأثرت بعاطفتين في الوقت نفسه: لم تُعزِّز الأولى من قدرة النفس ولم توهنها، أي لم تفرحها ولم تحزنها، بينما عززت الثانية من قدرتها، أي أفرحتها[15]. ومن ثم عندما تتأثر، في وقت لاحق، بالعاطفة الأولى وحدها، ستتأثر على الفور بالعاطفة الثانية أيضًا، أي ستفرح. أي إن نفس الآخر ستفرح هذه المرة أيضًا على الرغم من غياب السبب الفاعل، المُحدِث للفرحة، أي العاطفة الثانية[16]. وهكذا يغدو الشيء أو الشخص الذي أحدث العاطفة الأولى في نفس الآخر، في هذه المرة الثانية، سببًا ―ليس بذاته وإنما عرضًا― لفرحته. ولذلك سيحبه الآخر، لأنه صاحب فرحه ببساطة، مع أنه ليس بذاته السبب الفاعل المحدِث لفرحه هذا[17]. وهكذا نفهم -كما يضيف سبينوزا في حاشية هذه القضية- كيف يتأتى لشخص أن يحب شيئًا أو شخصًا من دون أن يعرف سبب ذلك.
دعونا ننظر الآن في القضية 16. طبقًا لهذه القضية؛ يمكن للآخر أن يحبني ببساطة لأنني أشبه شخصًا من شأنه أن يُدخِل عليه الفرح عادةً، أي لأنني أشبه محبوبه: إذا تخيل الآخر، غير المكترث بي مطلقًا، أنني أشارك محبوبه في صفة معينة، فسيحبني، مع أن هذه الصفة المشتركة بيننا ليست السبب الفاعل المُحدِث لفرحته حقًّا، كما أنها ليست بحد ذاتها ما جعله يقع في حب محبوبه الأول. ولأن الآخر يحبني بسبب شبهي بمحبوبه، يُسوَّغ لنا القول أنه قد أحبني من قبل أن يراني حتى، قد أحبنى من قبل النظرة الأولى[18]. ولهذا السبب، عندما يراني الآخر لأول مرة، يرى شخصًا قد أحبه على الدوام، لكن من دون أن يعرف ذلك[19].
والحال أن آلية الحب هذه موجودة سلفًا عند ديكارت، وتحديدًا في واحدة من رسائله إلى بيير شانيو[20]. أرجع ديكارت في هذه الرسالة سبب انجذابه القهري إلى مَن بأعيُنهم حَوَل، إلى أنه قد أحب في صباه فتاة من سنِّه، كان في عينيها حَوَل طفيف، يقول:
لقد أضحى الأثر الذي يتركه نظري إلى عينيها الحولاوين في نفسي وثيق الصلة بالأثر المزامن له الذي يثير في نفسي حبي لها، بحيث أنني كلما رأيت -بعد ذلك بزمن طويل- أشخاصًا حُول الأعين شعرتُ بميل شديد إلى حبهم، لا لشيء إلا لأن هذا العيب موجود فيهم ... ولذلك عندما نميل إلى حب شخص من دون أن نعرف سبب ذلك، يُسوَّغ لنا أن نعتقد أن هذا الميل يرجع إلى أنه يشبه محبوبًا سابقًا لنا في شيء ما، حتى إن لم نقدر على تعيين هذا الشيء على وجه التحديد[21].
ولو كان لسبينوزا أن يحلل هذا الـ coup de foudre، الحب من أول نظرة، الذي اختبره ديكارت كلما رأى شخصًا أحول، فسيتألف تحليله من الخطوات الأربع التالية:
وعليه، لقد كانت الصفة التي وقع ديكارت بسببها في سلسلة من تجارب الحب من أول نظرة، والتي حددت اختياره لسلسلة من موضوعات الحب، مجرد صفة عرضية وجزئية في موضوع حبه الأول: إذ لم يكن حَوَل العينين ما ولَّد في نفس ديكارت حب الفتاة، إنه لم يحبها لكونها حولاء ببساطة ― فلا بد أنها كانت تُدخِل عليه السرور بطريقة أخرى غير حَوَلها. وبعبارة سبينوزية؛ لم يكن الحَوَل السبب الفاعل الذي أحدث شعور الفرح، ومن ثمَّ الحب، في نفس ديكارت، وذلك لأنه قد ميَّز بوضوح، في النقل السابق، بين أثرين للفتاة في نفسه: الأثر الذي يتركه نظره إلى عينيها الحولاوين، والأثر الآخر، الذي تتركه الفتاة بحد ذاتها، والذي يثير حبه لها.
عندما يحبني الآخر من دون أن يكون سبب حبه لي ثاويًا في ذاتي، فإن ما يحفظ هذا الحب ويسنده هو آلية المماهاة أو المطابقة الرمزية (symbolic identification). بمعنى أن ما يثير حبه لي، في هذه الحالة، هو مجرد صفة عرضية جزئية أشاركها مع محبوب آخر له، هو الذي يثوي سبب الحب فيه، لكنه محبوب مفقود، لم يعد في متناول يده. وهذه الصفة التي أشاركها مع موضوع رغبة الآخر المفقود، محبوبه البعيد المنال، هي ما يسميه فرويد بالـ einziger zug، الصفة المفردة، الصفة التي تقوم عليها المماهاة الرمزية: أي الصفة التي أُذكِّر بها الآخر بمحبوبه المفقود. وعندما تكون هذه الصفة عطبًا أو عاهة أو إعاقة، كما في حالة الفتاة التي أحبها ديكارت في صباه (حَوَل العينين)، نكون بالطبع بصدد مماهاة هستيرية (hysterical identification)[22].
وتفسر لنا آلية المماهاة الرمزية هذه وقوع المرء في حب شخص ما من دون أن يعرف سبب ذلك. لكن يتعيَّن علينا هنا أن نُدخِل تعديلًا طفيفًا على رأي ديكارت وسبينوزا. فلكي يُفسِّرا حب المرء لآخر من دون معرفته لسبب هذا الحب، سينتهي بهما المطاف، عاجلًا أم آجلًا، إلى تعيين محبوب بعينه، قد أحبه المرء لذاته، بينما أحب كل موضوعات حبه الأخرى بسبب شبهها به (في رأي ديكارت؛ هذا المحبوب لذاته هو الفتاة الحولاء. وفي رأي سبينوزا؛ هذا المحبوب لذاته هو -طبقا للقضية 16- السبب الفاعل المُحدِث للفرح). لكن من المنظور اللاكاني—الفرويدي، موضوع الحب، المحبوب الحقيقي، أي الذي ينطوي على سبب الحب فيه، أي الذي يُحَبُّ لذاته، مفقود أصالة، يستحيل ملاقاته في الواقع (وحده الله يُحَبُّ لذاته). فكل محبوب فانٍ، لا يحب إلا بسبب شبه عرضي ما يجمعه بموضوع الحب المفقود أصالة[23]. وهذا الموضوع المفقود، الذي لم يوجد في الواقع قط، ومع ذلك يُمكِّننا من حب موضوعات الحب الفانية، أي الموجودة في الواقع، هو ما يسميه لاكان بالـ objet petit a[24].
باستثناء الله، نحن لا نحب أي أحد لذاته. فأيما كان مَن نحبه، فنحن لا نحبه لشيء موجود فيه وإنما لشيء مفقود منه، لشيء في ذاته زائد على مجرد ذاته، لشيء فيه زائد عنه[25].
عندما أجد نفسي في مقام المحبوب، بواحدة أو بأخرى من الطرق المذكورة أعلاه، سأحاكي شعور المُحِب المنصرف إلى خارج ذاته، أي حبه لي، كشعور منصرف إلى خارج ذاتي، أي سأحبه في المقابل، سأتحول إلى مُحِب.
دعونا ننظر الآن في الكيفية التي سأحب بها الآخر في مقابل حبه لي، عندما أجد نفسي في مقام المحبوب، على النحو الموصوف في القضية 15[26]. هب أن الآخر رآني لأول مرة بصحبة س، الذي يُدخِل عليه الفرح عادةً، ولذلك يحبه؛ وهب أن الآخر قد ظل في هذه المرة غير مبالٍ بي مطلقًا، أي إنني لم أُدخِل عليه الفرح ولا الحزن. لكي يحبني الآخر، يكفي عندما يراني لاحقًا أن أؤثر عليه بالعاطفة نفسها المحايدة التي أثرت بها عليه في المرة الأولى. فمع أن تأثيري عليه هذه المرة لا يختلف عن تأثيري عليه في المرة السابقة، فإنه يشعر الآن -بالإضافة إلى شعوره بهذه العاطفة المحايدة- بشعور آخر وهو الفرح ―في ظل غياب السبب المُحدِث للفرح، أي س― الذي أثارته فيه العاطفة المحايدة نفسها (لاقترانهما في المرة الأولى). مع أنني أتصرف مع الآخر في المرة الثانية على النحو نفسه الذي تصرفت به معه في المرة الأولى؛ مع أنني أعامله بعدم اكتراث وبرود مماثلين؛ مع أنني لا أريد منه أي شيء، فإنه يحبني الآن. إنه يحبني فقط لأنه قد رآني سلفًا بصحبة س، الذي يُدخِل عليه الفرح، ولذلك يحبه.
يحبني الآخر إذن مع أنني لستُ السبب المُحدِث لفرحه، أي مع أنني لم أُعطِه سببًا حقيقيًّا يجعله يحبني؛ فأنا لم أُثِر فيه إلا عاطفة محايدة، لا هي فرح ولا هي حزن. وبرؤيته سبب فرحه في ذاتي، ومن ثم اتخاذه مني موضوعًا لحبه، يحبني الآخر بسبب شيء غير موجود في ذاتي، يحبني بسبب شيء في ذاتي زائد على مجرد ذاتي، شيء فيَّ زائد عني.
وينطبق الأمر نفسه على الكره. يمكن للآخر أن يكرهني فقط لأنه قد رآني سلفًا بصحبة ص، الذي يُدخِل عليه الحزن، ولذلك يكرهه. فمع أنني لا أؤثر على الآخر إلا بعاطفة محايدة، لا هي فرح ولا هي حزن، فإنه يرى فيَّ الآن سببا لحزنه؛ مع أنني لا أقصد ضَرَّه مطلقًا، مع أنني غير مكترث به تمامًا، فإنه يكرهني.
كره الآخر المفاجئ وغير المُتوقَّع لي هو في نظري بالطبع كره غير قابل للتفسير: فمهما حاولت جاهدًا لا أستطيع أن أجد في ذاتي أي شيء من شأنه أن يُدخِل الحزن عليه، فهو يكرهني الآن فقط لأنه قد رآني مرة بصحبة ص. ولأنني لا أجد سبب كرهه لي في ذاتي، يستحيل عليَّ أن أجدها مدعاةً للحزن؛ أن أجد فيها ما يخزيني ويخجلني، وذلك لأن السبب المُحدِث لحزن الآخر هو ص وليس أنا.
وبكرهه لي، يرى الآخر فيَّ سببًا لحزنه، بينما أنا عاجز عن رؤية كيف تسببتُ في إدخال الحزن عليه. والآن سأحاكي شعور الآخر، أي سأحزن وأكره. ولأنني أعتقد اعتقادًا جازمًا أنني لم أُعطِ الآخر سببًا حقيقيا لكرهي ―فأنا لا أثير فيه إلا عاطفة محايدة لا هي فرح ولا هي حزن― فلن أستطيع بالطبع أن أحاكي شعوره بالحزن المنصرف إلى خارج ذاته كشعور بالحزن منصرف إلى ذاتي، أي أن أكره نفسي. إذ لا يمكن أن أكون أنا سببًا لحزني لأنني لستُ سببًا لحزنه. ولأن الآخر يرى سبب حزنه في ذاتي وليس في أي أحد آخر، بينما أنا عاجز عن تبيُّن طريقة إدخالي الحزن عليه، لا يسعني إلا أن أرى سبب حزنه في ذاته وليس في أي أحد آخر. لكن -في نظري- ليس الآخر سبب حزنه فحسب وإنما سبب حزني أيضًا، أي الحزن الذي أحاكيه فيه. ولأنني أرى سبب حزني في الآخر، أكرهه.
يحدث أمر مشابه في حالة الحب لكن مع اختلاف معتبر: فعلى ناحية، أنا غير مستعد لأن أقرَّ أنني قد أعطيت الآخر سببًا حقيقيًّا لكرهي حتى عندما أكون أنا السبب الفاعل الذي أحدث حزنه، بينما على الناحية الأخرى، أنا أميل إلى الاعتقاد بأنني قد أعطيت الآخر سببًا حقيقيًّا لحبي حتى عندما أكون مجرد سبب عارض لفرحه. ويلزم عن ذلك أن احتمال أن أقابل كره الآخر بالكره أكبر من احتمال أن أقابل حبه بالحب.
فمع أنني لا أرى كيف تسببتُ في إدخال الفرح على الآخر، فإنه لن يجد أي مشقة في جعلي أعتقد أنني سبب فرحه. أنا لا أعرف كيف أدخلت الفرح عليه، لكن لا بد أنني قد فعلت ذلك بطريقة أو بأخرى، بما أن الآخر يصرُّ -عن طريق حبه لي- على أنني السبب الوحيد لفرحه. ومع أنني لا أقدر على تبيُّّن كيفية إدخالي الفرح عليه، فإنه سيجدني على أتم استعداد لموافقته في ذلك. لكن بقدر ما أرى في ذاتي ما يراه الآخر فيها، أي بقدر ما أرى في ذاتي سببًا لفرح الآخرر―ولفرحي تبعًا لذلك― سأحاكي شعوره بالحب المنصرف إلى خارج ذاته، أي حبه لي، كشعور بالحب منصرف إلى ذاتي، أي سأحب نفسي وليس الآخر، ببساطة.
وعليه، أنا لا أقابل حب الآخر بالمثل إلا كنتيجة لوضع لا يُحتمَل، لمأزق، إذا جاز القول: عندما لا أجد -بعدما أضناني البحث- في ذاتي أي شيء على الإطلاق من شأنه أن يُدخِل الفرح على الآخر؛ بعدما تفشل كل تبريراتي النرجسية لفرح الآخر، وأستنفد كل ما أمكنني إبداعه من تفسيرات. أي عندما يحبني الآخر مع أنه لا يوجد في ذاتي أي شيء يمكن أن تحب من أجله، أي عندما يحبني مع أنني لست جديرًا بالحب. وماذا عساني أن أفعل حينها سوى أن أرى سبب فرحي في ذاته، وأن أحبه كما أحبني؟!
وفقًا للقضيتين 15 و16؛ تُنقَل السببية من الشيء الذي أحدث عاطفة الفرح في الآخر إلى ذاتي. بحسب القضية 15؛ تُنقَل السببية إليَّ لأن الآخر قد رآني بصحبة محبوبه، وبحسب القضية 16؛ تُنقَل السببية إليَّ لآن الآخر قد رأى فيَّ صفة معينة موجودة في محبوبه. وفي كلتا الحالتين، يحبني الآخر بسبب رابطة كنائية تربطني بموضوع حبه الحقيقي، لكن المفقود والبعيد المنال[27]. ولأن القضيتين 15 و16 شرطان ضروريان لوقوع القضية 41، أي مقابلتي حب الآخر بالحب، يُسوَّغ أن أقول إنني لا أؤدي الاستبدال الاستعاري إلا عندما أتبين الطبيعة الكنائية لمحبة الآخر لي. إن الكناية، الطبيعة الكنائية لمقام المحبوب، هي شرط تحقُّق استعارة الحب، شرط استبدال مقام المحبوب بمقام المُحِب. أنا أتحول من محبوب إلى مُحِب عندما أتبيَّن أن الآخر لا يحبني لذاتي، عندما أتبيَّن أن الموضوع المسبب حقًّا لحبه لي لا يثوي في ذاتي ― فتحديدًا لأن الموضوع المسبب لحبه ليس فيَّ ومن ثم لا يمكنني أن أعطيه له، لا يتبقى لي إلا حبي لكي أعطيه له في مقابل حبه.
ويلزم عن ذلك، أن الله، الوحيد الذي يُحَبُّ لذاته، لا يحبنا في مقابل حبنا له. وهذا عين ما نجده عند سبينوزا: فلحظة الحب الجليلة ―تحقيق استعارة الحب، أي تحوُّل الله من محبوب إلى مُحِب― لا تقع في ضربي حب الله المعروضين في الباب الخامس من الإتيقا وهما: amor erga Deum؛ حب الله شعوريًّا (القضايا 14-20)[28]، وamor Dei intellectualis؛ حب الله عقليًّا (القضايا 32-36)[29]. فبكل تأكيد، لا يمكن لإله سبينوزا أن ينحط إلى درجة أن يبادلنا الحب. قد يحبنا بالطبع، لكن، يقينًا، لن يكون هذا الحب مقابل حبنا له. وكذلك لا يمكن للحكيم السبينوزي، الخليق باسمه، أن ينتظر من إلهه أن يبادله الحب؛ لأنه يعلم أن طلب مبادلة الحب من الله يقتضي ألا يكون الله -بصفته محبوبًا- هو الله (برهان القضية 19). وعليه، يظل الضرب الأول من حب الله، الحب الشعوري، غير متبادل بالضرورة. بينما يوجد في الضرب الثاني من حب الله، الحب العقلي، شيء زائد على مجرد المبادلة، وهو الوحدة: حب الله للبشر وحب النفس العقلي لله هما unum et idem، الشيء نفسه (لازمة القضية 36).
يمكن أن نجد مثالًا ممتازًا شارحًا لديالكتيك الحب عند سبينوزا في مشهد تحوُّل المرأة المِغناج[30] إلى مُحِبة في الفصل الثاني من رواية پيير دِ ماريڨو (ت. 1736) غير المكتملة La Vie de Marianne، حياة ماريان. ماريان مِغناج، أي امرأة مدفوعة بالرغبة في أن تَسُرَّ، في أن تكون خليقة بالحب؛ امرأة تعرض نفسها لكل أحد كموضوع للحب، لكنها لا تبادل أي أحد الحب أبدًا ― فمن خلال حب الآخرين لها تحب نفسها لا غير. لكنها انهارت، عند لحظة معينة، وقابلت حب الآخر بالمثل. ويُسوَّغ لنا القول إن الفقرة المعنية من الرواية هي الحاشية التي لم يكتبها سبينوزا على القضية 41 من الباب الثالث.
تدور أحداث هذا المشهد في كنيسة، أثناء العبادة، ومن ثم لم تُنطَق فيه كلمة واحدة، وإنما تكشَّف كل شيء فيه من خلال تبادل النظرات فحسب. بعدما دخلت الكنيسة، جلست ماريان في الموضع الذي يجعلها مرئية من طرف الجميع ― فمن فرط اختيالها، هي قادرة على أن ترى مقدمًا النظرات التي ستفتنها. وبمجرد جلوسها، شدهت أنظار كل الرجال الحاضرين. فلغاية اللحظة التي ظهرت فيها ماريان، كانت النسوة الأخريات يلفتن انتباههم، فهن مغناجات مثلها ويتُقن إلى إبهاج العيون ― ولكل واحدة منهن زمرة من المعجبين المتحلقين حولها. «لكن عندما أصل، يراني الجميع، فتتلاشى كل هذه الوجوه، ولا يتبقى منها ولو حتى ذكرى وجه واحد.»[31] وكان بإمكان ماريان أن تُعبِّر عن هذا الأثر بجملة واحدة، تُزاوج بين كلمات يوليوس قيصر وكلمات أنطيوخوس في مسرحية Bérénice، بِرنيس، لچان راسين (ت. 1699): "أتيتُ، فرُئيتُ، فأبهجتُ."[32]
ولا يسع المرء إلا أن يندهش مما استطاعت ماريان تبيُّنه في نظرة واحدة خاطفة رمقتها بها النسوة لمَّا لاحظن أنها قد فتنت أعين معجبينهن وحوَّلت نظراتهم عنهن إليها: «لقد أردن لها أن تبدو نظرة شاردة. لكنه كان شرودًا متعمدًا» (ص 61). فمع أن هذه النظرة الخاطفة قد بدت ―للوهلة الأولى على الأقل― مجرد نظرة شاردة، فإن عين ماريان الثاقبة لاحظت فيها «مسحة من تململ وازدراء». وفي هذا التململ والازدراء أنفسهما، رأت عين ماريان اعترافًا صريحًا منهن بعلو كعبها عليهن (ص 61).
ونظرًا إلى هذا التبصُّر الثاقب، لعله كان من الأنسب للرواية أن تُعنوَن بـ La Vue de Marianne، نظر ماريان، عوضًا عن La Vie de Marianne ، حياة ماريان. تعلم ماريان، -بالطبع- أن الشرود حالة "لا تقع إلا كأثر جانبي بالضرورة"، أي حالة لا يمكن تحقيقها قصدًا وعمدًا؛ لأن تعمُّد إحداثها نفسه يحول دون حدوثها. فلا يمكن للمرء أن يتعمد أن تبدو نظرته شاردة وساهية. لأن النظرة الساهية ستُفشي، حينما تُتكلَّف، لا محالة عن قدر الانتباه الذي تطلبه تصنُّعها. إن القصد الكامن وراء الرغبة في أن تبدو النظرة شاردة، ولتنافيه مع انعدام القصد المميز للشرود، هو تحديدًا ما يجعل النظرة الشاردة «بعيدة المنال»[33]. ليس الشرود المتعمد إذن لا مبالاة متغطرسة ولا ازدراءً نرجسيًّا، كما يُراد له، وإنما هو، في حقيقة الأمر، عكس ذلك تمامًا، أي ضرب من الانتباه والتقدير. ببلوغها مرتبة الكمال في فن التظاهر والتصنُّع، أي بتحقيقها سيطرة تامة على عينيها ونظرتها وتعابير وجهها، أضحت بطلة رواية پيير دِ لاكلو (ت. 1803)Les Liaisons dangereuses، غراميات خطرة، الماركيزة دِ مَرتوي، وبكلماتها، قادرة على انتحال النظرة الشاردة. وعندما نعرف ما تكبدته من عناء في سبيل إتقان هذه المهارة، لا نملك إلا أن نصدقها في ما تقول: لقد كانت تحاول أن تبدو فرحانة في لحظات الحزن التام، وأن ترسم ملامح اللذة على وجهها إبان إنزال الألم على نفسها، وأن تكتم بداخلها التعابير الظاهرة للفرح المباغت، وهلُمَّ جَرًّا. ولا بد أن الماركيزة، التي تتفاخر، كماريان، بمعرفتها بالفلسفة، قد قرأت كتاب ديكارت Les Passions de L'âme، عواطف النفس: إذ تعلم أن بمقدورنا أن نُغيِّر تعابير وجوهنا وعيوننا وبذلك نخفي العاطفة التي نشعر بها عن طريق اصطناع عاطفة أخرى مناقضة لتلك التي نريد أن نخفيها[34].
حتى اللحظة، لا تزال ماريان موضوعًا لنظرة الآخر؛ لقد جذبت أنظار جميع من حولها في الكنيسة، في حين أنها لا ترى أي أحد. إنها مرئية من طرف كل أحد من دون أن يكون أي أحد مرئيًا من طرفها؛ فهي لا ترى في عيون الآخرين، في نظراتهم، إلا ذاتها، إلا تصديقًا على حبها لنفسها. بل يُسوَّغ للمرء حتى أن يقول إنها غير موجودة إلا كموضوع للنظرة، أي إنها لا توجد إلا عندما تُرى، لا توجد إلا من خلال عيون الآخرين ― ففي اللحظة التي يصرفون أنظارهم عنها لا تعود موجودة[35]. وتُشبِه ماريان، في وضعها الأنطولوجي هذا، نيقولاس الكويزراني الذي قال ―أمام أيقونة للإله مرسومة ببراعة شديدة بحيث أن المرء أينما نظر إليها يجدها تنظر إليه: «أنا موجود لأنه ينظر إليَّ، ولو صرف نظره عني لما عدت موجودًا»[36].
وفجأةً، آنت لحظة الحب الجليلة. بينما ينظر إليها الجميع، لفت نظرها شخص بعينه: «من بين كل الرجال الذين جذبتُ أنظارهم، لفت نظري واحد بعينه، طاب لعيني أن تقع عليه دون غيره». لقد أضحت نظرة مَن تَفتِن أنظار الجميع مفتونة بشخص بعينه؛ لقد أضحت مَن يُنظَر إليها تنظر للمرة الأولى. «لقد أحببتُ النظر إليه» (ص 63). لقد كانت ماريان حتى اللحظة تبتهج بكونها منظورة، أما الآن فهي تبتهج بكونها ناظرة. أو بلغة سبينوزيَّة، لقد كان لفرحها حتى اللحظة سببًا ذاتيًّّا، أما الآن ففرحها مصحوب بفكرة سبب خارج عنها.
إلى مَن تحديدًا أعطت ماريان حبها؟ أي في مَن تحديدًا رأت سببًا لفرحها؟ ليس في أي واحد من الذين تعلم أنها تُدخِل الفرح عليهم: فهم يرون فيها سببًا لفرحهم بينما هي ترى في ذاتها سببًا لفرحهم ولفرحها ― الفرح الذي تشعر به لأنها تُدخِل الفرح على الآخرين، أي الفرح المصحوب بفكرة أنها سببه، والذي يسميه سبينوزا بـ gloria؛ فخر واعتزاز، والذي سمته ماريان -ويا لدقتها- بالاسم عينه la gloire (ص 61). إنها ترى السبب الخارجي لفرحها في الشخص الذي تعتقد أنه لم يكن قادرًا على أن يرى فيها سببًا لفرحه، بما أنها لم تُعطِه أي سبب يدفعه لحبها. ولذلك، لم تكن هي أيضا قادرة على أن ترى في ذاتها سببًا لفرحه؛ لأنها قد ذهلت، عند رؤيته، عن إبهاجه ببساطة. «لم أعد أفكر في إدخال المسرَّة عليه، لم أفكر إلا في النظر إليه؛ لقد كنتُ مِغناجًا عند الآخرين أما عنده فلا» (ص 63).
الآن فحسب، عندما لم تعد ماريان تفكر في الإبهاج، يمكن لها أن تُبهِج حقًّا وتسُرَّ: فإرادة الإبهاج موقف لا يقل تناقضًا عن تعمُّد إظهار الشرود؛ لأن الإبهاج، تمامًا كالشرود، حالة لا تقع إلا كأثر جانبي بالضرورة، حالة لا يمكن إحداثها قصدًا وعمدًا. فهو يتنافى مع الإرادة كما يتنافى الشرود مع القصد. فحقيقة أن جميع من استرعت أنظارهم، حاشا الذي استرعى نظرها، قد «هلَّلوا جهارًا لمحاسنها» لتقتضي أن الجميع -باستثنائه- قد انخدعوا في تغنُّجها وانطلى عليهم. وفي المقابل، وحده الذي نظر إليها «على نحو مغاير تمامًا، بقدر أكبر من التحفظ لكن بقدر أكبر من الاهتمام»، قد وجدها مبهجة فقط عندما توقفت عن التفكير في إبهاجه. وهذا هو تحديدًا سبب تكشُّف «شيء أكثر جديَّة بكثير» في هذه اللحظة، بين الاثنين.
على قدر ما كانت ماريان مدفوعة بالرغبة في أن تسُرَّ، في أن تكون خليقة بالحب، على قدر ما سرَّت نفسها، وأحبت نفسها، بينما لم تُسَرَّ بأي أحد، ولم تُحِبَّ أي أحد، ولم تجد مسرَّتها في شخص آخر، أي لم تجد سبب فرحها في غيرها، إلا عندما توقفت عن التفكير في إدخال السرور والفرح على الآخرين. وباختصار؛ لقد أصبحت مُحِبة عندما تخلَّت عن الرغبة في أن تسُرَّ وتُبهِج، في أن تكون جديرة بالحب، في أن تكون محبوبة.
وبلغة لاكانية؛ لقد أصبحت ماريان، عند هذه اللحظة، ذاتًا مفتقِرة، ذاتًا راغبة. يفتقر المُحِب إلى شيء ما، لكنه لا يعرف ما يفتقر إليه على وجه التحديد. وهكذا كانت ماريان، لقد غادرت الكنيسة «بقلب مفتقِر إلى شيء ما، ولا يعرف ما الذي يفتقر إليه» (ص 64). عندما دخلت ماريان الكنيسة، كانت تعتقد أنها تعرف كيف تسُرُّ وتُبهِج، تعرف ماذا يجعلها فاتنة في عين الآخرين، أي تعرف ما تملكه. لكن عندما خرجت من الكنيسة لم تكن تعرف ما تفتقر إليه، ما لا تملكه.
وصفوة القول: يمكن للمرء أن يضيف، وهو مطمئن، على هامش نسخته من كتاب الإتيقا كلمات ماريان هذه «لمَّا ذقتُ حلاوة أن أُحِب انقطعت رغبتي في أن أحَب» كحاشية لماريڨو على القضية 41 من الباب الثالث.
[1]* Miran Božovič, “Before The Frist Sight”, in Idem, an utterly dark spot: gaze and body in early modern philosophy (Ann Arbor: the university of Michigan Press, 2000), 25-41.
[2]** فيلسوف سلوفيني معاصر، من أعلام مدرسة ليوبليانا للتحليل النفسي.
[3] طرح لاكان فكرة "استعارة الحب" (the metaphor of love) في السيمينار الثامن، Transference (التحويل العاطفي)، في معرض تحليله لمحاورة الـ Symposium (المائدة) لأفلاطون. يقول لاكان إن بنية الحب بنية استعارية. فبنيويًّا، تتكون علاقة الحب من موقعين، موقع المُحِب وموقع المحبوب. في العلاقة الغيرية يشغل الذكر (رجل في العادة لكن ليس بالضرورة) موقع المُحِب وتشغل الأنثى (امرأة في العادة لكن ليس بالضرورة) موقع المحبوب. المُحِب يبادر بالحب والمحبوب يقبله (أو يرده)، هو مَن يجهر بـ"أنا بحبك" أولًا، وعليها قد يرد المحبوب بـ"وأنا كمان" (أو يصمت). المُحِب يعطي (ماذا بالتحديد؟) والمحبوب يتلقى. المُحِب يعتني ويهتم والمحبوب يُعتنى به ويُهتَم به. المُحِب يتغزل ويشتهي ويرغب والمحبوب يتغنج ويتمنع. المُحِب ينتظر والمحبوب يتأخر، وإلى آخره من مقتضيات شُغل كل موقع من الموقعين.
ما علاقة الاستعارة بهذا؟ أخذ لاكان -كما نعلم- مفهومي الاستعارة (metaphor) والكناية (metonymy) من اللسانيات البنيوية (دو سوسير وخاصة ياكبسون) واستعملهما في بناء تأويله اللغوي للاوعي الفرويدي (بنية اللاوعي بنية لغوية). ويكفينا هنا أن نعرف الآتي فحسب: تقوم الاستعارة على استبدال دال (signifier) بآخر، وتقوم الكناية على وصل دال بآخر. تبدأ دراما الحب بحق في تلك اللحظة التي يقوم فيها المحبوب بـاستبدال دور المحبوب بدور المُحِب (بـ"استعارة" دور المُحِب)، بالتخلي عن لعب دور المحبوب المتلقي والشروع في لعب دور المُحِب المعطي، أي اللحظة التي يصير فيها مُحِبًّا هو الآخر، ومن ثم يشرع في معاملة المُحِب بالمعاملة نفسها التي كان يتلقاها منه حتى هذه اللحظة (فيجهر بحبه، ويعتني ويهتم، ويتغزل ويشتهي ويرغب، وينتظر ...).
لكن هذه اللحظة، التي يصير فيها طرفا العلاقة مُحبَّين، عوضًا عن مُحِب ومحبوب، لا تقع بالضرورة. إذ في أغلب الأحيان يرى أحد الطرفين (الذكر غالبًا) أن الحب هو أن يُحِب حصرًا، ومن ثم ينزعج لو طُلِب منه أن يتلقى الحب، بينما يرى الطرف الآخر (الأنثى غالبًا) أن الحب هو أن يُحَب حصرًا، ومن ثم ينزعج لو طُلِب منه أن يُعطي الحب. ولذلك اعتبر لاكان هذه اللحظة أجلَّ لحظات الحب، لقلة وقوعها، وللأثر الذي تُحدِثه عند وقوعها: تخلق الحب بأتم معنى الكلمة. ولذلك يعد بروس فينك أن تحقيق المحبوب لاستعارة الحب، تأديته لها، باستبدال مقام المحبوب بمقام المحب، هي «الأمر الأخلاقي للحب»، لو كان للحب أمر، فرض، يأمر به، فسيكون هو التالي: على كل محبوب أن يصير مُحِبًّا. [المترجم]
[4] ما الذي يحدث تحديدًا عندما يؤدي المحبوب استعارة الحب، عندما يصير مُحِبًّا؟ يُولَد الحب، دراما الحب، وذلك عن طريق تبني المحبوب لخطاب جديد. أي خطاب؟ أن يشرع في القول، ضمنيًّا، ولأول مرة، إنه ذات مشطورة (S/)، أي ذات ناقصة، تفتقد إلى شيء ما، وإنه يرى هذا الشيء المفقود (objet a) في الآخر، المحبوب. وهذا هو مقصد لاكان من مقولته الشهيرة "أن تحب يعني أن تعطي ما لا تملك".
ما معنى أن أقول إنني أحب آخر، خليلتي على سبيل المثال؟ أن أغدق عليها الأموال؟ لا، فأن أنفق عليها يعني أن أعطيها ما أملك، أموالي. لكن أن تعطي ما تملك، -يُعلِّمنا لاكان- لا يعني أن تحب وإنما يعني أن تحتفل. إغداق الأموال أشبه بإقامة حفلة ودعوة المحبوب إليها، إنه ضرب من القصف والاحتفال وليس حب. في المقابل، أن تحب يعني أن تعطي ما لا تملك.
لكن ما هذا الشيء الذي لا أملكه ومع ذلك يمكنني أن أعطيه؟ إنه النقص، الفقد، ما لا أملكه هو حرفيًّا ما ينقصني، ما أفتقر إليه. لكن ليس المقصود هنا شيئًا ماديًّا بعينه أفتقر إليه، وإنما المقصود هو النقص عينه، نقصي الوجودي، الفجوة الموجودة في ذاتي، والذي لا أقدر على تعيين كنهها. أن أحب يعني أن أعترف بالنقص، أن أعترف، ولو ضمنيًّا، بأني غير مستغنٍ بنفسي، بأني مفتقد، قاصر، محتاج إلى شيء ما، لا أدري ما هو على وجه التحديد. وأن أعطي هذا النقص لآخر يعني أن أتوجه به إليه، أن أرى فيه ما أفتقر إليه. وعندها سيشعر هذا الآخر، هذا المحبوب، بالامتلاء، بالثراء الوجودي. ففي كل علاقة حب شخص واحد هو من يبدو ممتلئًا وثريًّا، يملك شيئًا، هذا الشخص هو المحبوب. ومن أين جاء الامتلاء والثراء؟ ليس من شيء يملكه المحبوب فعلًا، وإنما من المُحِب الذي أعطاه ما لا يملكه، أعطاه نقصه، وضع فيه هذا الشيء المفقود (objet a).
ونجد صيغة زائدة لهذه المقولة وهي: "أن تحب يعني أن تعطي ما لا تملكه لمن لا يحتاج إليه". وبحسب بروس فينك، هذه الزيادة، "لمن لا يحتاج إليه"، ليست من كلام لاكان، وإنما زيادة ساخرة أضافها أحد الطلاب الحاضرين، بعدما قال لاكان "أن تحب يعني أن تُعطي ما لا تملكه"، في أحد دروس السمينار السادس. ونجد المقولة في نسختها الأصلية مذكورة في كثير من سمينارات لاكان. لكننا لا نجدها في نسختها الزائدة إلا في السمينار رقم 12 فقط لا غير. [المترجم]
[5] وهذا أحد مضامين مقولة لاكان الشهيرة "لا توجد علاقة جنسية". العلاقة الجنسية (العلاقة بعامة، وليس فعل الجماع أو الوطء نفسه)، سواء كانت غيرية أو مثلية، علاقة مستحيلة، أي عسيرة؛ علاقة خلافية، تفتقر إلى التوافق والتناغم والتكامل. لأن كل طرف فيها لا "يُكمِّل" الآخر (أسطورة النصف الآخر أو توأم الروح)، وإنما يريد من الآخر ما لا يملكه، ما لا يقدر على أن يعطيه له، ما لا يريد أن يعطيه له؛ لأن كل طرف يرى في الآخر ما لا يراه الآخر في نفسه، ويبحث في الآخر عمَّا لا يوجد فيه. [المترجم]
[6] لأن المُحِب هو -في حقيقة الأمر- الذي وضع في المحبوب هذا الشيء المفقود. ويتجلى جهل المحبوب بهذا الشيء الذي يملكه، والذي يسبب رغبة الآخر فيه (أي الـ objet a)، في شتى أشكال السؤال الكلاسيكي الذي لا ينفك يطرحه على المُحِب: "إنت بتحبني ليه؟" "إيه اللي إنت شايفه فيَّ بالظبط؟" "إيه اللي فيَّ يخليك تحبني؟" "أنا إيه بالنسبة لك؟"، إلخ. أو كما قال ليفاي مخاطبًا إيمي في رسالته الثانية والأخيرة من هاواي في الموسم الثاني من مسلسل Enlightened (مايك وايت، 2011): «أتذكر أنكِ كنتِ تتكلمين عني ذات مرة كما لو كنتُ شخصًا رائعًا وجميًلا، فقلتُ لنفسي حينها: عمَّن تتكلم بالضبط؟! لقد رأيتِ فيَّ شيئًا لا وجود له.» [المترجم]
[7] Jacques Lacan, Le Seminaire, livre VIII: Le transfert (Paris: Editions du Seuil, 1991), chaps. 2-II, and Le Seminaire, livre IV: La relation d'objet (Paris: Editions du Seuil, 1994), chaps. 8 and 9.
[8] تظل أشمل وأمتن دراسة لنظرية الأحوال النفسية (العواطف والمشاعر) عند سبينوزا هي دراسة ألِكسندر ماثيرون (ت. 2020) التالية: Individu et Communauté chez Spinoza (Paris: Minuit, 1969)، والتي درس فيها الأبواب الثالث والرابع والخامس من كتاب الإتيقا على نحو إزائي مع كتابي سبينوزا الرسالة اللاهوتية-السياسية والرسالة السياسية. والحق أن كتاب ماثيرون هذا لا مندوحة عنه لفهم الأبواب الثلاثة الأخيرة من كتاب الإتيقا، تمامًا كما أنه لا مندوحة عن كتابيَّ مارسيال جيرو (ت. 1976)―Spinoza I: Dieu (Paris: Aubier, 1968) وSpinoza II: L’âme (Paris: Aubier, 1974)― لفهم البابين الأولين منه. ولقد اعتمدتُ في دراستي هذه على كتاب ماثيرون اعتمادًا كبيرًا.
[9] Spinoza, Ethics, part 3, proposition 41.
[10] يجدر التنبيه إلى أن سبينوزا يحصر أحوال النفس (العواطف أو الانفعالات والمشاعر) في ثلاث أساسية، وهي الفرح والحزن والرغبة، وإليها يرد كل ما سواها. [المترجم]
[11] نعرف جميعا مقولة الكاتب الروماني إيلي فيزيل (ت. 2016) الشهيرة: «نقيض الحب ليس الكراهية وإنما اللامبالاة (ونقيض الفن ليس القبح وإنما اللامبالاة. ونقيض الإيمان ليس الهرطقة وإنما اللامبالاة. ونقيض الحياة ليس الموت وإنما اللامبالاة)». وجود الحب لا ينفي وجود الكره، ووجود الكره لا ينفي وجود الحب. على العكس، وجود الحب يقتضي الكره، ووجود الكره يقتضي الحب. لا يوجد حب محض نقي، كما لا يوجد كره محض نقي. كل حب ينطوي على شيء من الكره، وكل كره ينطوي على شيء من الحب. يطلق فرويد على هذا التناقض الشعوري اسم ambivalence. وعوضًا عن أن يستعمل المقابل الفرنسي لهذا الاسم، قرَّر لاكان أن ينحت مصطلحًا جديدًا هو hainamoration، أي الكره الواقع في الحب حرفيًّا؛ كل كره هو كره مِحب، كما أن كل حب هو حب كاره. يقول لاكان لا يوجد شيء اسمه ضمان الحب لأن ذلك يقتضي ضمان الكره أيضًا؛ سعي المرء إلى ضمان حب الآخر يقتضي سعيه إلى ضمان كرهه أيضًا. ويقول إنه لا يُعوِّل كثيرًا على المُحلِّل النفسي الذي لم يشعر قط برغبة في احتضان مريضه أو رميه من النافذة. وحتى نُعبِّر عن ذلك بلغة جورجيو أجامبِن، يمكن القول إن الحب والكره ليسا مائزَين أنطولوجيًّا، وإنما موجودان في "منطقة لا تمايز" (zone of indifference). ويتجلى هذا القرب الفاحش، هذا الاختلاط الأنطولوجي، بين الحب والكره، في الرغبة الجنسية، وما تقتضيه من عنف وتدمير (كما في الاغتصاب كمثال باراديجمي)، وفي ما يُعرَف بجرائم الهوى (crime of passion)، كأن يقتل رجل حبيبته من فرط الغيرة، أي من فرط الحب. ونجد مثالًا ممتازًا على هذا الاختلاط الأنطولوجي بين الحب والكره في علاقة بيري (ألكسندر سكيرسيجارد) بزوجته سِلِست (نيكول كيدمان) في مسلسل Big Little Lies (چان مارك ڨالىٰ، 2017). [المترجم]
[12] أستعمل كلمتي عاطفة وشعور بالترادف، حسب السياق، كترجمة لكلمة affect السبينوزية، عوضًا عن كلمة انفعال أو وجدان. وأتغاضى عن تفريق العلوم العصبية المعاصرة (أنطونيو دَماسيو) بين العاطفة (emotion) والشعور (feeling)، لعدم تأثيره في سياق هذه الدراسة. [المترجم]
[13] بتعبير الفيلسوف النرويجي المعاصر جون إلستر. ويقصد بها الحالات النفسية والاجتماعية التي لا يمكن تحقيقها إلا كأثر جانبي (by-product) لأفعال ترمي إلى تحقيق أغراض أخرى. فهي حالات لا يمكن إحداثها قصدًا وعمدًا؛ لأن تعمُّد إحداثها نفسه يحول دون حدوثها. كعدم الاكتراث، والنوم ... والحب. وفقًا للقضية 22؛ لن يفلح الآخر في استثارة حبي على نحو متعمد، وإنما يمكن لذلك أن يحدث، كأثر جانبي، لاستثارته لحب س. وسنجد في الجزء الأخير من هذه الدراسة مثالًا آخر على هذه الحالات التي "لا تقع إلا كأثر جانبي بالضرورة"، وهو الشرود. [المترجم]
[14] يستعمل سبينوزا، وغيره من فلاسفة عصره، كلمتي نفس وعقل (mind) بالترادف، لأن النفس عندهم ذات طبيعة عقلية. [المترجم]
[15] المفرح عند سبينوزا هو ما يُعزِّز قدرة النفس (على الفعل والتفكير) ويكملها، والمحزن هو ما يوهنها وينقصها. كما بيَّن في القضية 11 وحاشيتها. [المترجم]
[16] السبب الفاعل أو المؤثر، أي السبب المحدِث، في مقابل أنواع الأسباب (أو العلل) الأرسطية الأخرى: السبب الغائي والمادي والصوري. [المترجم]
[17] اعتبارنا لشيء (تخيُّلنا له، تفكرنا فيه، نظرنا فيه) ونحن في حالة فرح يجعلنا نحبه مع أنه ليس مسبب هذا الفرح، تمامًا كما أن اعتبارنا لشيء ونحن في حالة حزن، يجعلنا نكرهه، مع أنه ليس مسبب هذا الحزن. كما بيَّن سبينوزا في لازمة القضية 15. [المترجم]
[18] ومن هنا عنوان هذه الدراسة. [المترجم]
[19] لأن الصفة التي أتشاركها مع محبوبه، موجودة فيَّ على الدوام، موجودة فيَّ من قبل أن يراني. فشبهي بمحبوبه لم يتحقق عندما رآني لأول مرة وإنما هو متحقق سلفًا، أي إن سبب محبته لي متوفر فيَّ من قبل أن يراني، لكنه لم يعرف ذلك إلا عندما رآني. كل حب من أول نظرة هو إذن حب من قبل أول نظرة. [المترجم]
[20] إكتور-بيير شانيو (ت. 1662)، دبلوماسي فرنسي. عمل سفيرًا لفرنسا في السويد. وهو سبب اهتمام ملكة السويد، كريستينا، بديكارت. زوج أخت كلود كليرسيلير (ت. 1684)، وارث التركة الأدبية لديكارت والقائم على نشرها. وعن طريق شانيو، حصل كليرسيلير على مخطوطات أعمال ديكارت. [المترجم]
[21] Descartes to Chanu t, 6 June 1647, in Philosophical Writings of Descartes, 3:322-23.
[22] يعني الـ identification في العموم المماهاة (المطابقة، المماثلة، المساواة، التوحيد) بين شيئين مختلفين، بجعلهما شيئًا واحدًا. ويعني في التحليل النفسي -تحديدًا- مماهاة المرء بين ذاته وشخص آخر، بجعلهما ذاتًا واحدة. ويقسمه فرويد إلى ثلاثة أشكال. الأول، هو المماهاة الأولية (primary): وهي التجلي المبكر والأولي لارتباط الشخص العاطفي بشخص آخر. ومثاله تماهي الولد الصغير مع أبيه، بأن يتخذ منه نموذجًا لنفسه، فيحاكيه في كل شيء، يريد أن يكبر مثله وأن يغدو مثله وأن يحل محله في كل مكان. وبكلمة؛ يريد أن يكون أبيه.
والشكل الثاني هو المماهاة الجزئية (partial): هنا لا يماهي الشخص بينه وبين الآخر تماهيًا كليًّا أو شاملًا، وإنما يستعير منه صفة واحدة أو مفردة (einziger zug). ومثاله في الطور الأوديبي لعلاقة البنت بوالديها، تنافس البنت أمها على حب أبيها. وقد يحدث وتمرض الأم بالبرد مثلًا، فتعاني من كحة شديدة، فتشرع ابنتها في الكحة، لا لأنها قد أصيبت بالبرد هي الأخرى، وإنما لأنها تماهت مع أمها في هذه الصفة تحديدًا، ولسان حالها (بعبارة ديكارتية): أنا أكح إذن أنا أمي. وكذلك يمكن للبنت أن تتماهى مع أبيها في صفة بعينها، الكحة أيضًا على سبيل المثال، لا لأنه منافسها (كما كان الحال مع أمها) وإنما لكونه موضوع حبها (تماما كما تماهت دورا مع أبيها في كحته المزمنة). ولأن التماهي هنا متعلق بصفة مرضية، عَرَض، فهو تماهي هستيري. ويسمي لاكان هذا الضرب الجزئي من التماهي، أي التماهي المتعلق بصفة واحدة أو مفردة، unary trait، سواء كانت مرضية أم لا، بالتماهي الرمزي (في مقابل التماهي التخيلي أو الصوري — تماهي الطفل مع صورته المثالية في المرآة)، لأن هذه الصفة تُعَدُّ "دال" أو "علامة"، "شارة" على الآخر المُتماهى معه.
أما الشكل الثالث للتماهي فهو الذي لا يتعلق بشخص الآخر المتماهى معه. أي إنني لا أتماهى معه لكوني أحبه أو أتخذه نموذجًا أو مثالًا لي، بل ربما أكون غير مبالٍ به بالمرة، وإنما لأني أجد شبهًا ما بيني وبينه. يضرب فرويد المثال التالي على هذا الضرب من التماهي: في مدرسة بنات داخلية، تسكن فتاتان معًا، واحدة منهما على علاقة عاطفية سرية بشاب. وذات يوم تصل رسالة إلى هذه الفتاة من حبيبها، تتضمَّن كلامًا أثار غيرتها بشدة، وعلى إثر ذلك أُصيبت بنوبة من البكاء الهستيرى. وعندئذ تماهت الفتاة الأخرى، رفيقتها في الغرفة، معها ودخلت في نوبة البكاء نفسها. لم تتماهَ الفتاة هنا مع رفيقتها لأنها تحبها وإنما لأنها تشاركها في الرغبة نفسها: أن تكون محبوبة. تريد الفتاة الأخرى أن يكون لها حبيب أيضًا، وأن يصلها منه رسائل غرامية، تمامًا كرفيقتها. لقد وضعت نفسها في مكانها، وشعرت بما شعرت به: أنا في علاقة غرامية ووصلتني رسالة استدعت غيرتي ومن ثم لا بد أن أتألم، أن أبكي. (ويمكننا أيضًا أن نضرب مثالًا على هذا الضرب من التماهي الهستيري بزوجة الجزار الظريفة التي فسَّر فرويد حلمها في تأويل الأحلام، والتي تماهت مع صديقتها النحيفة وضنَّت على نفسها بأكل الكافيار، تمامًا كما تتضن صديقتها على نفسها بأكل السلمون).
وعودة إلى سبينوزا، إلى ديكارت وحبيبته الحولاء: عندما يرى ديكارت امرأة حولاء ويقع في حبها من أول نظرة، فإن ذلك يحدث لا لأن هذه المرأة بحد ذاتها تدخل عليه السرور، وإنما لأنه ماهى، طابق، ماثل، بينها وبين حبيبته المفقودة، أول حولاء في حياته، بناءً على صفة مفردة في هذه المرأة، وهي حَوَل العينين، وليس على أي شيء آخر فيها، لأن الحَوَل هو علامة أو شارة أو "دال" محبوبته الأولى، ومن ثم كلما رآه في أي امرأة أخرى تذكر على الفور حبه المفقود، ووقع في حبها. [المترجم]
[23] معنى أنه مفقود أصالةً: أنه لم يوجد في وقت ثم فُقِد، وإنما لم يوجد قط. فموضوع الحب هذا لا يوجد إلا مفقودًا، أو بعبارة أخرى، فقده هو الذي يوجده. عندما يبحث المرء عن موضوع حبه المفقود فهو لا يبحث عن موضوع حب كان بين يديه يومًا ما ثم فقده، وإنما يبحث عن موضوع لم يكن بين يديه قط. وبعبارة أخرى، لم يكن المرء في جنة عدن (المحبوب) ثم طُرِد منها ويريد الآن أن يعود إليها، وإنما هو لم يدخلها قط؛ الفردوس المفقود، مفقود أصالةً، فردوس لم نُطرَد منه لأننا لم ندخله. وإنما وحده شعورنا بفقده ما يوجده ما يجعلنا نتوهم أننا كنا فيه يومًا ما. وهذا هو الفرق بين المنظورين الديكارتي-السبينوزي: موضوع الحب المفقود (الفتاة الحولاء أو السبب المحدِث للفرح)كان موجودًا بين يدي المُحِب ثم فقده، والآن يبحث عنه في كل ما يشبهه، واللاكاني-الفرويدي: موضوع الحب المفقود (objet a) لم يكن موجودًا قط بين يدي المحب، وإنما هو مفقود دائمًا وأبدًا، ومع ذلك هو ما يوقد رغبته في كل موضوعات الحب الأخرى الموجودة.
أوضح مثال على ذلك هو حال سكوتي في فيلم Vertigo (ألفريد هتشكوك، 1958): مادلين، موضوع حبه المفقود، الذي راح، بعدما ظن أنه قد فقده، يبحث عنه في كل ما يشبهه، في جودي، لم يكن موجودًا على الإطلاق؛ فمادلين لم تكن سوى جودي في دور مادلين. سكوتي هو باراديم (نموذج) المُحِب إذن: كل مُحِب يبحث عن حبيب مفقود أصالةً، أي لم يكن معه قط. [المترجم]
[24] قال لاكان في السمينار 21 إنه لم يبتكر أي شيء في التحليل النفسي سوى الـ objet a. المفهوم الوحيد الذي نهى صراحة عن ترجمته إلى أي لغة أخرى، حفاظًا على فرادته. ذكر لاكان الـ objet a لأول مرة على الإطلاق في السمينار التاسع. وأسهب القول فيه في السمينار 11 أكثر من أي سمينار آخر.
في فكر لاكان المتأخر، حل مفهوم الـ objet a محلَّ مفهوم das ding الفرويدي (الشيء أو "الحاجة" الغامضة والمجهولة في الآخر والتي تثير حيرتي وقلقي منه لكنها تثير أيضًا رغبتي فيه). وبدايةً من السمينار 16، سيطلق لاكان على الـ objet a اسم plus-de-jouir أو surplus enjoyment، أي فائض المتعة (الـ objet a هو نقص يولد فائضًا؛ الشيء المفقود الذي يدفع المرء إلى الرغبة في كثرة من الأشياء الموجودة والتمتع بها).
ما معنى الـ objet a؟ objet يعني موضوع رغبة، و a من autre، آخر؛ أي موضوع الرغبة الآخر. ثمة موضوعان للرغبة إذن: موضوع الرغبة، وموضوع الرغبة الآخر، فما هما؟ موضوع الرغبة الأول هو المرغوب المادي، خليلتي على سبيل المثال. موضوع الرغبة الآخر هو الموضوع المسبب لرغبتي في موضوع الرغبة الأول: أنا أحب خليلتي (موضوع الرغبة) لكن ما سبب رغبتي فيها؟ ما الذي يوقد رغبتي فيها؟ (الموضوع المسبب للرغبة، objet a).
هناك مفهومان يمكن اعتبارهما ركنين بنى عليهما لاكان مفهوم الـ objet a: الأول هو المفهوم الفرويدي partial objects، موضوعات الرغبة الجزئية: عندما أرغب في خليلتي فأنا لا أرغب فيها ككل تام، كذات كاملة، وإنما ما يحرك رغبتي فيها حقًّا هو جزء (أو أجزاء) منها: نبرة صوتها، نظرتها، إيماءتها، شفتاها، شعرها في تسريحة بعينها، إلخ. والثاني هو مفهوم الـ Agalma الذي علَّق عليه لاكان في معرض تحليله لمحاورة المائدة في السمينار الثامن، حيث ذكر ألسيبَياديس هذا اللفظ في خطبته عن سقراط. ما معنى agalma في اليونانية؟ جوهرة، حُلية، تمثال ذهبي لإله، ما يبرق ويلمع، ما يفتن ويسحر ويغوي ويسلب اللب. يتحدث ألسيبياديس عن agalma سقراط: سقراط قبيح في الظاهر لكن يكمن في باطنه "كنز" يفتن كل مَن تجاوز ظاهر سقراط القبيح وتمكن من رؤية باطنه. الـ agalma هي إذن ما يوقد رغبة ألسيبياديس في سقراط، هي الموضوع المسبب لرغبته في سقراط، هي الـ objet a.
لكن لماذا نصف الموضوع المسبب للرغبة، الـ objet a، بأنه موضوع مفقود؟ لأن الجوهرة التي يبحث عنها ألسيبياديس في باطن سقراط ليست موجودة في حقيقة الأمر، كما أخبره سقراط بنفسه: لعلك لم تتبيَّن بعدُ يا عزيزي أنني بلا أي قيمة (أو حتى نستعمل المثال الذي ضربه سلافوي جيجك: سقراط مثل بيضة شوكولاتة كيندر فارغة: لا توجد جوهرة داخل سقراط ولا توجد هدية داخل بيضة كيندر)؛ لأنه لا يوجد أي موضوع للرغبة (باستثناء الله) يحوي بداخله الموضوع المسبب للرغبة فيه، لا يوجد موضوع رغبة يحوي بداخله الـ objet a.
الـ objet a ليس موضوعًا ماديًّا ملموسًا، بل ليس موجودًا على الإطلاق، وإنما هو مفقود على الدوام، لا يوجد إلا مفقودًا، لأن فقده هو ما يوجده، إنه الفقد مجسدًا، شكل وجود الفقد. الـ objet a ليس بشيء بحد ذاته، فهو غير موجود إلا من جهة تعلُّقه بموضوع الرغبة المادي. ومع أن الـ objet a غير موجود فإنه يتجلى في أشياء أخرى موجودة: موضوعات الرغبة الجزئية، والنظرة، والصوت.
لكن ما طبيعة علاقة الـ objet a بموضوع الرغبة تحديدًا؟ يظهر الـ objet a كعائق يحول بين المرء وموضوع رغبته. وعن طريق ظهوره كعائق أمام موضوع الرغبة يسبب رغبة المرء فيه. يضرب لنا تود مِجاوين الأمثلة التالية: غلاف الهدية، علبة هاتف الآي فون. لماذا نعتني بتغليف الهدايا؟ غلاف الهدية هو آخر عائق بين المرء وبينها، وجوده هو ما يجعل الهدية مرغوبة، وبتمزيقه أو فتحه، تتحول الهدية إلى موضوع عادي مبتذل (لنتخيل أننا وضعنا للأطفال هدايا الميلاد تحت شجرة عيد الميلاد بلا أغلفة!) ويضرب لنا سلافوي جيجك الأمثلة التالية: الوحمة أو الشامة في وجه امرأة، أو وزنها الزائد (أو حَوَل عينيها كما في حالة ديكارت الصبي): تلعب الوحمة دور العائق أمام جمال الوجه، وبذلك تحديدًا توجد هذا الجمال. يقول الرجل: لولا هذه الوحمة لغدت فائقة الجمال. وكذلك تلعب زيادة الوزن دور العائق أمام جمال الجسد، وبذلك تحديدًا توجده. يقول الرجل: لولا هذا الكيلوجرام الزائد في وزنها لأضحى جسدها مثاليًّا. هذا الجمال الفائق، وهذا الجسد المثالي، أي موضوع رغبة الرجل، موجود تحديدًا بفضل هذا العائق الذي يقف أمام تحقُّقه؛ يرى الرجل جمال الوجه أو الجسد تحديدًا من خلال هذا العيب في الوجه أو الجسد.
نجد مثالًا ممتازًا على الـ objet a في الموسم الأول من مسلسل The White Lotus (مايك وايت، 2021). يذهب شَين وزوجته رِتشل لقضاء شهر العسل في فندق The White Lotus بجزر هاواي، حيث حجزت له أمه الجناح المخصص لشهر العسل (الذي يحتوي على مسبح مدرج خاص). لكن بسبب غلطة، حجز مدير الفندق (أرماند) للعروسين جناحًا آخر غير الجناح المخصص لشهر العسل. ومع أن هذا الجناح الآخر لا يقل فتنةً عن جناح شهر العسل بل هو أجمل منه في واقع الأمر (فقط لا يوجد فيه مسبح خاص)، ومع أن رِيتشل لم تشتكِ قط بل لم تنفك تُعبِّر عن فرحتها بالجناح الذي انتهى بهما المطاف فيه، ظل شَين طوال المسلسل لا شاغل له سوى جناح شهر العسل، لماذا؟ لأنه كلما مر يوم عليه في الفندق زاد يقينه في أن أرماند قد تعمَّد، لسبب أو لآخر، حرمانه من النزول في جناح شهر العسل. ولولا هذا اليقين لما انشغل حد الهوس بهذا الجناح. جناح شهر العسل هو موضوع رغبة شَين، وأرماند هو العائق (المتخيل) الذي يحول بين شَين وبين موضوع رغبته. أي إن أرماند هو مجسد الـ objet a، هو الموضوع المسبب لرغبة شَين في موضوع رغبته؛ فاعتقاد شين أن أرماند يحول بينه وبين جناح شهر العسل هو تحديدًا ما يوقد رغبته فيه. ولأن أرماند هو الـ objet a، انشغل به شَين أكثر من انشغاله بشهر العسل وبعروسه رِتشل نفسها، لقد كرَّس نفسه له. يرى شَين موضوع رغبته، جناح شهر العسل، تحديدًا من خلال العائق الذي يحول بينه وبينه، أرماند. فمن خلال أرماند، يتخيل شَين جناحًا فندقيًّا فريدًا، مثاليًّا، قادرًا على إشباعه دون أي جناح آخر في الفندق. أرماند غير موجود في عين جميع النزلاء الآخرين، مجرد مدير فندق ببساطة، لكن لا يوجد سواه في عين شَين، لأنه مَن يحول بينه وبينه موضوع رغبته (وهذا هو المقصود من أن الـ objet a غير موجود إلا من جهة تعلُّقه بموضوع الرغبة).
وبعد مناورات لا حصر لها، تمكَّن شَين أخيرًا من أن يملك موضوع رغبته، من أن ينزل في جناح شهر العسل، فماذا وجد؟ لم يجد فيه أدنى قدر من الإشباع (لم ينزل المسبح المدرج قط)، على العكس لقد كان تملُّكه (كشأن تملك أي موضوع للرغبة) محبطًا بل وصادمًا حتى. لم يجد شَين في موضوع رغبته أي agalma، أي جواهر فاتنة، وإنما وجد، عوضًا عن ذلك، خِراءً (حرفيًّا)، في مشهد يجلي صدمة تملك موضوع الرغبة على نحو باراديجمي. بعد تجاوزه العائق الذي يحول بينه وبين موضوع رغبته، أي سبب رغبته فيه، الـ objet a، أرماند (بقتله في نهاية المطاف)، فقد موضوع الرغبة قيمته بالكلية في عين شَين، لم يعد مرغوبًا قط، بل صار مصدرًا للإحباط والصدمة. [المترجم]
[25] أو كما قال هرمان بلوم عن روزماري كروس مخاطبًا ماكس فِشر في فيلم Rushmore (ويز أندرسن، 1998): «أنا لا أعرف ما الذي تراه فيها بالضبط! إنها ليست جميلة إلى هذا الحد، ولا هي فاتنة إلى هذا الحد، وإنما فيها something you can’t put your finger on، شيء لا يمكنك أن تضع يدك عليه.» إن سبب وقوع كل من بلوم وماكس في حب الآنسة كروس ليس جمالها ولا فتنتها، وإنما شيء ما فيها لا يمكن للمرء أن يشير إليه بإصبعه، أن يعينه على وجه التحديد، أن يسميه ويبينه، أي شيء فيها زائد عنها؛ ليس شيء تملكه (جمالها، فتنتها) وإنما شيء لا تملكه (الـ objet a) ― وهذا هو حال كل مُحب مع محبوبه. [المترجم]
[26] عندما يتأثر المرء بعاطفتين في الوقت نفسه، يكفي أن يتأثر لاحقًا بواحدة منهما حتى يتأثر بالأخرى على الفور. [المترجم]
[27] أسلفنا القول (في الحاشية رقم 1) أن الكناية تقوم، في اللسانيات البنيوية، على ربط دال بدال آخر. في مقابل الاستعارة التي تقوم على استبدال دال بدال آخر. علاقتي بمحبوب الآخر المفقود هنا علاقة كنائية، وليس استعارية، لأن ثمة ما يربط بيني وبينه في عين الآخر (اجتماعنا معًا في مناسبة، أو اشتراكنا في صفة معينة) وليس لأني الآخر يستبدلني به. [المترجم]
[28] القضية 15: «كل من يفهم نفسه وعواطفه على نحو واضح وجلي، يحب الله. وكلما زاد فهمه لنفسه وعواطفه زاد حبه لله.» القضية 16: «لا بد أن تنشغل النفس بحب الله أكثر من انشغالها بأي شيء آخر.» القضية 17: «ليس لله أهواء، ولا يتأثر بعاطفتي الفرح أو الحزن.» لازمة: «إن شئنا الدقة، لا يحب الله أحدًا ولا يكره أحدًا، لأنه لا يفرح ولا يحزن.» القضية 18: «لا يمكن لأحدٍ أن يكره الله.» القضية 19: «لا يمكن لمن يحب الله أن يسعى إلى أن يحبه الله في المقابل.» برهان: «مقتضى أن يسعى المرء إلى أن يبادله الله الحب، أن يرغب في ألا يكون الله، بصفته محبوبه، هو الله.» [المترجم]
[29] القضية 32: «نجد متعة في كل ما نفهمه عن طريق النوع الثالث للمعرفة [الكشف الحدسي]، مصحوبة بفكرة أن الله هو سببها.» لازمة: «ينشأ الحب العقلي لله بالضرورة عن النوع الثالث للمعرفة. لأنه ينشأ عن هذا النوع من المعرفة فرح مصحوب بفكرة أن الله هو سببه.» القضية 35: «يحب الله ذاته بحب عقلي لا نهائي.» القضية 36: حب النفس العقلي لله هو عين حب الله لذاته ... أي إن حب النفس العقلي لله هو جزء من الحب اللانهائي الذي يحب الله به ذاته.» لازمة: «بقدر ما يحب الله ذاته يحب البشر، ومن ثم حب الله للبشر وحب النفس العقلي لله هما الشيء نفسه.» [المترجم]
[30] Coquette، غَنِجة ومِغناج ومتدللة ولعوب. حرفيًّا، "متديكة" (كما في متطوسة، من طاووس، ومتلبونة من لبوة) من coq، cock، أي ديك، في إحالة مجازية على اختيال الديك وتبختره وتغندره وتميُّسة (مياصته في العامية) أي تكسُّره وميلانه في مشيته. استُعِملت الكلمة في الأصل لوصف الجنسين، ثم قُصِر استعمالها لاحقًا على وصف الإناث فقط. تتغنج المرأة لتفتن وتغوي وتغري، لتسُرَّ أعين الرجال وتبهجها، لتُدخِل عليهم الفرح والسرور، بلغة سبينوزا، وبذلك تصير محبوبة لهم. تريد المغناج أن تكون موضعًا محضًا للرغبة؛ أن تكون مرغوبة على الدوام لا أن تكون راغبة، أن تكون محبوبة على الدوام لا أن تكون مُحِبة. [المترجم]
[31] Marivaux, La Vie de Marianne, ed. Frederic Deloffre (Paris: Garnier, 1957), 61.
وسأذكر الإحالات التالية على الرواية في المتن. [تتلاشى وجوه النساء بتحوُّل نظرات الرجال عنها إلى ماريان].
[32] عبارة يوليوس قيصر الشهيرة هي: vini, vidi, vici، "أتيتُ، فرأيتُ، ففتحتُ [انتصرت وقهرت]." وعبارة أنطيوخوس للملكة بِرنيس في الفصل الأول من المسرحية هي: «أتى تيتوس، ويا لغمي، فأبهج عينيكِ.» ― لقد كان أنطيوخوس غارقًا في حب بِرنيس التي كانت غارقة في حب تيتوس. [المترجم]
[33] Jon Elster, Sour Grapes (Cambridge: Cambridge University Press, 1983), 43-101.
يمكن اعتبار ماريڨو مرجعية في مسألة "الحالات التي لا تقع إلا كأثر جانبي بالضرورة"؛ انظر، على سبيل المثال، هذين القولين اللذين عزاهما محقق رواية حياة ماريان إلى ولع ماريڨو المفترض بالتلاعب بالكلمات: «بابتغائي نيل الاحترام أتيقن من أنني لم أعد محترمًا»؛ وفي رواية Le Paysan Parvenu، الفلاح الُمحدَث النعمة، أطرى جاكوب سيده بقوله: «بقدر ما أزيد في الإطراء بقدر ما لا أريد التوقف عن الإطراء.» انظر La Vie de Marianne، ص 92، حاشية رقم 1.
[34] Descartes, The Passions of the Soul, in Philosophical Writings of Descartes, 1:367-68.
[35] لنتذكر هنا مذهب الفيلسوف المثالي الأيرلندي جورج بِركلي (ت. 1753): أن توجد يعني أن تُدرَك. أو بعبارة هَملتيَّة: "أُرى أم لا أُرى؟ تلك هي المسألة." [المترجم]
[36] Nicholas of Cusa, The Vision of God, trans. E. Gurney-Salter, in The Portable Medieval Reader, ed. J. B. Ross and M. M. McLaughlin (Harmondsworth: Penguin, 1978), 686.
[نيقولاس الكويزراني، Nicholas of Cusa، (ت. 1464)، الرياضي واللاهوتي والفيلسوف والكاردينال الألماني. اقترح نيقولاس استعمال هذه الأيقونة كتجربة لتعليم الرهبان أول مراتب السير الصوفي إلى الله، أول خطوة في السبيل الموصلة إلى: «أنا موجود لأن الله ينظر إليَّ، ولو صرف نظره عني لما عدت موجودًا»: العلم بإحاطة بصر الله. طلب نيقولاس أن تُعلَّق الصورة على جدار وأن يقف الرهبان أمامها على شكل نصف دائرة. والآن عندما ينظر كل واحد منهم إليها سيجدها تنظر إليه، ومن ثم سيظن أنها تنظر إليه وحده دون غيره. ثم يُطلَب من راهبين منهما أن يتحركا في الوقت عينه لكن في اتجاهين متضادين في مسار نصف دائري أمام الصورة وأعينهما مثبتة عليها. والآن سيجد كل واحد منهما أنها تتبعه بنظرتها طول الوقت. وبذلك سيقتنع الرهبان أن الصورة تنظر إليهم جميعا في الوقت عينه، وأنها تتبعهم بنظرتها أينما كانوا على الرغم من كونها مثبتة على الجدار. وكذلك هو بصر الله Miran Božovič, an utterly dark spot, p. 109-110.]
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط الخاصة بنا وملفات تعريف الارتباط الخاصة بالجهات الخارجية حتى نتمكن من عرض هذا الموقع وفهم كيفية استخدامه بشكل أفضل ، بهدف تحسين الخدمات التي نقدمها. إذا واصلت التصفح ، فإننا نعتبر أنك قبلت ملفات تعريف الارتباط.