التاريخ الميتافيزيقي

2023-11-07

التاريخ الميتافيزيقي

في المقال الأول، لم نولِ أي اهتمام لما يوصَف غالبًا في الأدبيات بأنه "فلسفة التاريخ". تحيلنا هذه العبارة على فكرةِ أن أحداث الماضي تجلياتُ تخطيطٍ جامع، وأن استيعابها هو المهمة الرئيسية للمؤرخ. وهذا هو "نموذج قانون التغطية" في أوضح صوره، إن جاز التعبير: بدلًا من مطالبة المؤرخ بتعيين القوانين الإمبريقية العامة التي تحكم أحداثًا معينة، كما يفعل همبل، تجادل أن الأحداث جميعها يحكمها قانون واحدٌ كبير. ولما كان الحاضر والمستقبل- إلى جانب الماضي- تجلياتٍ لهذه التخطيط، يكون للمؤرخ القادر على استيعابه تجاوز المحاولات البسيطة لعلماء الاقتصاد والسوسيولوجيا والمشتغلين بعلوم اجتماعية أخرى لتحليل الأوضاع المعاصرة وتقييم اتجاهاتها. وإن عبارة "فلسفة التاريخ" فضفاضة جدًا لما نحن بصدده، أما مصطلحا "التاريخانية" (كارل بوبر وفريدريش فون هايك) و"فلسفة التأريخ[1] historiosophy" (أشعيا برلين) فمحدودان جدًا. إنني أشير إليه هنا بـ "التاريخ الميتافيزيقي" لأنه يتناول الأحداث التاريخية بنمط ميتافيزيقي، أي في ضوء "طبيعتها الجوهرية" بدلًا عن "مظهرها" الملموس.

   أشار آرثر لفجوي، في دراسته للتصور الميتافيزيقي للعالم كسلسلة الوجود الكبرى[2] (1936)، إلى هذه الفكرة، التي نظرت إلى الواقع ابتداءًا في ضوء مصطلحات استاتيكية، ثم ابتدأ "تَأقِيتْهُا[3]" في القرن الثامن عشر: تحولت السلسلة الكبرى للوجود إلى سلسلة كبرى للصيرورة. وبدلًا من تصور العالم اكتمالًا توجد فيه كل احتمالات الوجود، بدأ الميتافيزيقيون في اعتباره نظامًا متطورًا يُقدَّر فيه لكل الاحتمالات المتسقة أن تبرز إلى الوجود عبر التكشُّف البطيء للزمن. فالتاريخ- وفقًا لهذه الرؤية- سيرورة يُتَفطَّن من خلالها إلى المخطط الداخلي للعالم على نحو مضطرد. وعلى هذا يكون اكتشاف "الواحد الذي في الكثير the One in the Many" هو مهمة المؤرخ لا الفيلسوف التحليلي؛ إذ يتجلى الواحد على نحوٍ ملموسٍ كقوة ديناميكية في الأحداث التسلسلية التي يدرسها المؤرخ. كانت هذه الصورة متعارضة على نحو أساسي مع الرؤية التي نمت باطراد منذ القرن السابع عشر، والتي تفيد أن العلوم الطبيعية الإمبريقية تمثل نمط التحقيق الملائم لجميع الظواهر. ضُخَّت في الميتافيزيقيا المثالية، التي كانت في حالة تراجع إبان عصر التنوير، حيويةٌ جديدة تولدت لا عن ارتباطها القديم بدراسة الإلهيات وإنما عن ارتباط جديد بالتاريخ. وبحلول الوقت الذي شرع فيه العلم الطبيعي نفسه في استعمار حقل التاريخ بنظرية التطور العضوي لداروين، كان التاريخ الميتافيزيقي قوة فكرية نافذة لصيقة بتطورات أخرى مهمة في فكر القرن التاسع عشر، وبالرومانتيكية والاشتراكية والقومية خاصةً. 

               089b0eb5 4020 461e 97ad 809843fd6b90

   يمكن إيجاد فكرة أن الواحد الذي في الكثير يتكشف في التاريخ عند الكثير من كُتَّاب القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر. رصد كارل مينجر، في جداله الشرسِ المدرسةَ التاريخية الألمانية للاقتصاديين، أن مختلف أنصار فلسفةٍ ما للتاريخ يتفقون على وجود مواضع تفردٍ جوهرية داخلية في العمل في جنبات التنوع الظواهري للتاريخ، غير أنهم يعينونها على نحو مختلف تمامًا:

 إن برهان التقدم المستمر للجنس البشري في تطوره التاريخي (Perrault, Turgot, Leroux)، وبرهان أنَّ نماء الجنس البشري يحصل في عصور محددة (Condorcet)، وبرهان أن التاريخ هو التحقق التقدمي لفكرة الحرية (Michelet)، وتربية الجنس البشري (Lessing)، والتقدم ناحية تحقق فكرة الإنسانية (Herder)، وبرهان أن تاريخ الدول الفردية يُبين عن منحنى صاعدٍ وقمةٍ وآخر هابطٍ للنماء (Bodin, Vico)، وبرهان أن الهدف النهائي للتاريخ أجمعه هو تشكيل دولة تبلغ فيها الحرية والضرورة اتحادًا متناغمًا (Schelling)، وحتى، في الواقع، برهان أن الحضارة الفرنسية هي نوع الحضارة الإنسانية بوجهٍ عام (Guizot). كل أولائك قد صُنِّف بالفعل على أنه فلسفة التاريخ[4].

إنها فقرة جيدة، غير أن مينجر لا يأتي صراحة على ذكر الكاتب الذي كان أهمَّ مَن أدخل التاريخ الميتافيزيقي في الفكر الغربي، ج. ف. ف. هيجل. أثَّر هيجل في ماركس وإنجلز، لكن أثره في الفكر الأوروبي كان أوسع من هذا بكثير. إن أغلبية قراء هيجل المعاصرين ليجدونه ساعيًا إلى تفسير المستغلق بالمبهم، ولن يكون من المفيد هنا أن نحاول وصف تصور هيجل للتاريخ على أنه العملية التي بها يدرك العقل Geist[5] نفسه على نحو مطرد. وبالأحرى، قد تولد تأثير هيجل الرئيسي عن ترويجه فكرة التاريخ الميتافيزيقي العامة لا عن تصوره الميتافيزيقي المخصوص وتفصيلات حجته. وإن أغلبية الذين ألهمهم هيجل، كماركس وإنجلز، قد أقدموا- متحررين من مواصفات هيجل- على بناء تواريخهم الميتافيزيقية ونظرياتهم الاجتماعية، أو اختاروا ما ابتغوا من العناصر الهيجلية، أو حوَّلوها عن وجهتها.

Download (1)

   منذ كتاب رينيه ديكارت "مقال عن المنهج (1637)"، والفلسفة الغربية تعتني كثيرًا بـ"إشكالية العقل-الجسد": وجود نوعين متمايزين ومنفصلين ظاهريًا من الظواهر، الفكر والوعي البشري من جانب، والعالم المادي من جانب آخر. وما زالت الإشكالية قيد السجال؛ إذ ليس لها إلا حلَّان إجماليان، وكلٌّ منهما غير مقبول. يجادل أحدهما أن العقل ما هو في واقع الأمر إلا مادة؛ والوعي ظاهرة من ظواهر العقل المادي، لا تختلف بتاتًا عن الوظائف الفسيولوجية الأخرى، أو- في واقع الأمر- عن أي ظاهرة أخرى من ظواهر العالم غير العضوي. ويجادل الحل الآخر أن المادة هي في واقع الأمر عقل. حتى الظواهر التي تبدو غير عضوية- كالجذب التثاقلي بين الكتل- هي عملُ قوةٍ شبيهة بالوعي البشري. وليست العقيدة الواحدية للآلية، التي ترى البشر كالأحجار، بأكثر إقناعًا من الإحيائية الواحدية، التي تكون فيها الأحجار بشرًا. غير أن العلوم الطبيعية كانت قادرة على التقدم الذي أحرزت بتبنيها الآلية الميتافيزيقية باعتبارها أنطولوجيا إرشادية/ استكشافية. كان الرفض الذي نال هذا من الفلاسفة المثاليين في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر- في جزء لا يستهان به- تمردًا على العلم ونضالًا في وجه تطبيق منهجيته على دراسة الإنسان والمجتمع.

  رأى الرومانتيكيون أن نفيَ الفلسفةِ الآليةِ الحريةَ البشريةَ كان واحدًا من أوجه عوارها الرئيسية. وقد رفضوا، بتشديدهم على أهمية الفرد وقدرته على التأثير في الأحداث، الرؤية المتمثلة في أن العالم محكوم بالقوانين على النحو الذي جزم به علماء الطبيعة وبدأ علماء الاجتماع في ادعائه. غير أنهم- في الوقت نفسه- اعتبروا الأحداث الناتجة عن الأفعال الفردية خاضعةً لتحكم مخططٍ كوني، وأصروا- اتباعًا ليوهان جوتفريد فون هردر- على أن الفرد عضو من كلٍّ أكبر، مجتمع، هو في ذاته كيان عضوي. فُتِن الرومانتيكيون بهيجل لمَّا بدا أن تصوره للتاريخ يقدم حلًّا لهذه الرؤى التي تبدو متضاربة. كان مفهوم "مكر العقل" لهيجل توسعًا في حجة 'جيامباتيستا فيكو' المتمثلة في أن العناية الإلهية تحقق مقاصدها من خلال التاريخ الذي يصنعه الناس بأفعالهم. للناس الحرية في إتيان ما يأتونه من فعل، لكن الرغبات التي تستحثهم (ككائنات اجتماعية) جزء من خطة كونية: إن "الحرية" و "الضرورة" شيء واحد. وإن كان منطقُ هذا محل تساؤل، إلا أنه ضرب على وتر حساس عند الرومانتيكيين، الذين اعتبروا فردانية النظرية النفعية والاقتصاد الكلاسيكي والرأسمالية فردانية زائفة، ولا تحيط كفايةً بطبيعة المجتمع الشمولية والمهمة المتعالية للتاريخ البشري.

   بإمكاننا الآن أن نرى الصلة بين التاريخ الميتافيزيقي والفلسفة السياسية من خلال أثره في الحركة الرومانتيكية في القرن التاسع عشر. تحالفت الرومانتيكية- على فردانيتها- مع التوجه العاطفي المتنامي للقومية، ومع الاشتراكية التي أُوِّلت كشكلٍ من أشكال المجتمع يستبدل وحدة الغرض الاجتماعي العضوية بإجراءات الرأسمالية الآلية. فُتِن الرومانتيكيون بالتاريخ الميتافيزيقي لمَّا ضمن لهم- رغم ما تجرعوه من هزائم القرنين السالفين في مجالي الفكر والممارسة- أنَّ نصرًا نهائيًا سيكون حليفهم، لأن للتاريخ البشري غرضًا أو هدفًا متعاليًا. وقد أوَّلوا هذا الهدف، مثل كل الذين احتضنوا هذا التصور للتاريخ، تحققًا لمجتمع يجسد قيمهم الأخلاقية والسياسية. ومع ذلك، يخفق التاريخ الإمبريقي في أن يولي الفلاسفة انتباهًا أو اهتمامًا، لأن البشر يرفضون عنادًا الانصياع للقوانين التي يزعمون اكتشافها. غير أنه سيكون من الغلط أن نبلِّغ انطباعَ أنه لم يَرُق تصور التاريخ محكومًا بقوانين عامة إلا للمفكرين الذين اعتبروا التاريخ الميتافيزيقي قادرًا على الوقوف على حقائق أعمق مما قد يقف عليه العلم الإمبريقي. لم يرتأِ جون ستيورات ميل، على سبيل المثال، أيًا من هذه الرؤى، وكتب رسالته العظيمة في الإبستمولوجيا (نظام المنطق، 1843) لدعم الموقف الإمبريقي للعلم، ومع ذلك، رأى أن "مسار التاريخ [البشري] خاضغ للقوانين العامة، التي ربما تستجليها الفلسفة"، وامتدح أوجست كومت لعمله الرائد فيما يتعلق بهذا، وأعرب عن أسفه حيال عدم اتباع المفكرين الإنجليز خطى المفكرين الأوروبيين غير الإنجليز في بحثهم عن هذه القوانين. لم يفعل ميل نفسه أي شيء لتقدم هذا النمط من التحقيق التاريخي. ورغم عِظَته، لم يُكتب النجاح لهجرة التاريخ الميتافيزيقي إلى إنجلترا. وقد استمر- لزمن طويل بعد ذلك- وجود فارق ملحوظ بين علماء اجتماع إنجلترا وعلماء اجتماع أوروبا غير الإنجليز (بما في ذلك ماركس وإنجلز) حدَّ أن كثيرًا من علماء الأخير سعوا إلى استجلاء القوانين الحاكمة المتعالية للتطور التاريخي "بالفلسفة"، في حين وجَّه الفريق الأول جهوده لتحقيق أهداف أكثر تواضعًا. 

 

 

 

[1] يعنى ال historiosophy بدراسة طرائق وممارسات المؤرخين، كما بات يستخدم حديثًا للإشارة إلى دراسة وتحليل الطرائق التاريخية للبحث والتحقيق والاستدلال. لذا، آثرت استعمال كلمة "فلسفة" كدلالة على الممارسة وكلمة "التأريخ" لا "التاريخ" للدلالة على النشاط الذي يمارسه المؤرخ، وهو المعنى الألصق بالمصطلح. [المترجم]

[2] كتاب "سلسلة الوجود الكبرى" للفجوي يعد أكثر الأعمال تأثيرًا في تناول تاريخ الأفكار.

[3] ربطها بالزمن.

[4] (Problems of Economics and Sociology, 1883/1963, p. 121 n.)

 

[5] عادةً ما تترجم الكلمة الألمانية Geist إلى spirit (الروح) وكذلك mind أو reason (العقل)، وغالبًا ما تُعتمد الترجمتان، وقد تشير إلى قوة إلهية حية فوق إنسانية تكشف عن نفسها في الوجد الديني. وقد ارتأيت في هذا الموضع ترجمتها إلى "العقل". [المترجم]

التعليقات

أضف تعليقك

الكتاب

سكوت جوردون

سكوت جوردون

أستاذ مميز بقسم الاقتصاد وأستاذ بقسم التاريخ وفلسفة العلم في جامعة إنديانا، وهو …

المترجم

يوسف عيسى

يوسف عيسى

باحث ومترجم مهتم بالرياضيات البحتة وبفلسفة العلم والأدب …

أوراق ودراسات ذات صلة

مشاهدة المزيد
دين الرأسمالية (لاهوت النقود)
  • بينيات

دين الرأسمالية (لاهوت النقود)

جسد الَّذين أنعم الله عليهم
  • بينيات

جسد الَّذين أنعم الله عليهم

يا علبة الصبر:  كيف تورث الأغنية حكمة الأيام؟!
  • لا هذا ولا ذاك

يا علبة الصبر: كيف تورث الأغنية حكمة الأيام؟!

فرانسوا توسكييز وثورة الطب النفسي
  • تخصصات

فرانسوا توسكييز وثورة الطب النفسي

ملفات تعريف الارتباط

نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط الخاصة بنا وملفات تعريف الارتباط الخاصة بالجهات الخارجية حتى نتمكن من عرض هذا الموقع وفهم كيفية استخدامه بشكل أفضل ، بهدف تحسين الخدمات التي نقدمها. إذا واصلت التصفح ، فإننا نعتبر أنك قبلت ملفات تعريف الارتباط.