***1. يرى مالبرانش[1] أن العقل[2] قائم بين الله[3] والجسد، وممزق بينهما―إن جاز القول―على الدوام. فالعقل مرتبط بالله والجسد كليهما. وكل ارتباط من هذين الارتباطين محكوم بقوانينه الخاصة. الأول بالقوانين التي تحكم ارتباط العقل بالله، والثاني بالقوانين التي تحكم ارتباط العقل بالجسد (القوانين النفسية-الجسدية). وكلما زاد ارتباط العقل بالجسد وتعزز كلما نقص ارتباطه بالله ووهن، والعكس بالعكس. وإذا كان من الممكن تمتين ارتباط العقل بالله عن طريق الاستزادة من معرفة الحقيقة، فمن شأن التغيرات التي يُحدِثها الجسد في العقل أن تُضعِف هذا الارتباط وتنقضه.[4]
يرى مالبرانش أن الله قد خلق بمشيئته الأجساد (الأشياء، المخلوقات) ويقوم منذ لحظة خلقها على حفظ[5] وجودها.[6] فكل جسد موجود في مكانه بمشيئة الله وحده: «وحده الذي أوجد الأجساد قادر على وضعها في الأماكن التي تشغلها.»[7] ولا يمكن تحريك جسد من مكانه ما لم يحركه الله منه. فلكي تقدر قوة ما على تحريك ولو حتى أصغر الأجساد من أماكنها التي يحفظها الله فيها، لا يكفي أن تعدل قوة الله وإنما يلزم أن تفوقها. ومقتضى ذلك، أن أعظم القوى لا تقدر على تحريك جسد من مكانه «ما لم يتدخل الله ويحركه.»[8] وعليه، ليست القوة المحركة لجسد سوى «تأثير إرادة الله الذي يحفظ هذا الجسد تباعا في أماكن شتى.»[9] فأينما تكون الأجساد فإنها تكون ثمة بمشيئة الله وحده على الدوام. وبعبارة دقيقة: «وحده خالق الأجساد يمكن له أن يكون محركها.»[10]
دعونا ننظر الآن في حالة الجسد البشري وحركة أعضائه. يرى مالبرانش أننا لسنا قادرين، بأنفسنا، على تغيير أماكننا أو تحريك أذرعنا أو النطق ولو بحرف؛ وباختصار، لسنا قادرين على إحداث ولو حتى أبسط تغيير في العالم. فمن دون عون الله لنا، كل ما نقدر على فعله هو «أن نسعى سُدى» أو أن نرغب في «رغبات بلا أي قدرة على التأثير.»[11]
ما رأي مالبرنش إذن في إمكان الحركة الجسدية، تحريك المرء لذراعه على سبيل المثال؟ من الناحية الفيسيولوجية المحضة، يمكن تحريك الذراع «فقط عن طريق المادة العصبية[12] التي تسري خلال الأعصاب إلى أن تصل إلى العضلات فتقبضها، وتشد إليها العظام المرتبطة بها.»[13] لكن، حتى لو كنا على معرفة تامة بتكوين أجسادنا لدرجة أننا نعرف على وجه التحديد الألياف العصبية التي تمر المادة العصبية من خلالها إلى عضلة الذراع فتقبضها، سنظل غير قادرين على تحريك ذراعنا بأنفسنا. وذلك لأن المادة العصبية ليست ببساطة سوى أجساد―جسيمات الدم والأخلاط[14] متناهية الدقة―لا يقدر على تحريكها إلا الله.[15] وبالتالي، فالله هو الذي يحرك أعضائنا الجسدية عن طريق «حفظ» المادة العصبية، «تباعا»، في كل موضع في مسارها من الدماغ إلى الأعصاب ومن الأعصاب إلى العضلات.
وأيّما يكن تصورنا عن تحكمنا في أجسادنا، لو لم يشأ الله أن يوفق بين إرادته «المؤثرة على الدوام» ورغباتنا «العاجزة على الدوام» لظللنا «هامدين بلا حركة.»[16] فالقدرة التي نتحكم بها في أجسادنا ليست قدرتنا في حقيقة الأمر وإنما قدرة الله نفسه.[17] ولقد نقل الله قدرته هذه إلينا عن طريق وضعه للقوانين التي تحكم ارتباط العقل بالجسد—وبفضل هذه القوانين، تتحرك أذرعنا في اللحظة التي نشاء تحريكها فيها. وعليه، من خلال حالات عقلية معينة (إرادات أو رغبات) تنفذ إرادة الله، المحرّك الوحيد لجميع الأجساد، ومن ضمنها جسيمات الدم والأخلاط متناهية الصغر. أو بعبارة أخرى، جعل الله حالات معينة لعقولنا (رغبتنا في تحريك ذراعنا في حالتنا هذه) "مناسَبة" لإحداث حالات معينة في أجسادنا (تحريك ذراعنا في حالتنا هذه)،[18] أي "مناسبة" لحدوث «التأثيرات التي يحدثها بنفسه.»[19] ولأننا ندين بكامل قدرتنا على أجسادنا إلى الله، أو بعبارة أخرى، لأن الله هو الذي يريد لذراعنا أن يتحرك في اللحظة التي نريد أن نحركه فيها، بغرض قتل شخص ما على سبيل المثال، فإننا لا نكون، في هذه الحالة، مذنبين بجريمة القتل فحسب وإنما مذنبين أيضا بجريمة اساءة استعمال القدرة التي خولها الله لنا من خلال القوانين التي تحكم ارتباط العقل بالجسد.[20]
وبعبارة دقيقة، هذه القوانين النفسية-الجسدية لا تخوّل لنا قدرة مباشرة على الجسد، وإنما على الله، المقتدر الحقيقي على أجسادنا. أي أن ما نقدر عليه في هذا الصدد هو تفعيل قدرة الله على أجسادنا. ولأن القدرة التي تحرك الجسد، أي قدرة الله، خارجة عن الجسد بقدر ما هي خارجة عن العقل، نحن لا نقدر على التحكم في أجسادنا إلا على نحو غير مباشر، وذلك عن طريق توجيه إرادة الله (نحو تحريك جسدنا في حالتنا هذه). يبدو لنا أن الجسد يستجيب لإرادتنا على الدوام، أننا قادرون على التحكم فيه بأفكارنا بحد ذاتها، بيد أن حقيقة الأمر هي أننا نؤثر على الله وليس على أجسادنا (نؤثر على الله لكي يؤثر على أجسادنا). وبالتالي، ليس الجسد، وعلى الرغم من كماله، سوى مجرد آلة.
وعلى ذلك، العقل مرتبط على نحو مباشر بالله وليس بالجسد؛ فهو لا يرتبط بالجسد إلا على نحو غير مباشر، وذلك من خلال ارتباطه بالله. يقول مالبرانش: «يشعر العقل بالوجع عندما يُضرب الجسد، من خلال ارتباطه بالله فقط.»[21]
من دون الله، لا نقدر على تحريك أجسادنا ولو بأبسط حركة، ومن دون الله، لا نقدر على الإحساس بأي شيء. لكن ليس هذا فحسب، فمن دون الله، لا نقدر أيضا على معرفة أي شيء. فبحسب مالبرانش، لا يمكن للعقول «أن تعرف أي شيء ما لم يبصّرها (ينورها) الله به.»[22] وعليه، نحن لسنا عاجزين في عالم الحس المادي فحسب وإنما عاجزين في عالم العقل أيضا. فكما أننا معتمدون تمام الاعتماد على إرادة الله في شأن حركة أجسادنا، نحن معتمدون تمام الاعتماد على تفهيم الله في شأن معرفة عقولنا. إن العقل قادر على التفكير فقط بفضل ارتباطه بالله، وهذا من شأنه أن يضعنا «في مقام الاعتماد على الله—بأتم ما يمكن للاعتماد أن يكون.»[23]
وفقا لمالبرانش، عندما نريد أن نفكر في شيء بعينه، فإن الله يُجلي فكرة هذا الشيء في عقولنا. لكن الله لا يُحدث الأفكار مباشرة في عقولنا، أي أنه لا يغيّر في عقولنا حينها، وإنما يكشف لنا فحسب عن أفكاره عن هذه الأشياء التي نريد أن نفكر فيها. فالأفكار تُحضر إلى العقل،[24] لكنها ليست حاضرة في العقل: إن العقل يراها—إذا جاز القول—خارج نفسه. وعلى ذلك، يمكن القول أن لأفكارنا واقع مستقل عن تفكيرنا، لأنها موجودة حتى عندما لا نفكر فيها.[25] وبما أنّ الله يكشف عن أفكاره لعقولنا، فكل فكرة تُحضر إلى عقولنا ترقى إلى مقام الوحي الإلهي. علاوة على ذلك، كل انتباه لعقولنا، كل نظر واعتبار، أي كل جهد نبذله لاستحضار الأفكار، هو ضرب من الصلاة (الدعاء) الطبيعية،[26] لأننا نتوجه من خلاله إلى الله مباشرة. ويستجيب الله دعاء العقل بأن يكشف له عن الفكرة المناسبة في كل مرة. وعلى ذلك، عندما نفكر نحن نفكر من خلال أفكار الله، حرفيا. وهذه هو ما يقصده مالبرانش من وصفه لله بأنه "العقل الكلي لجميع العقول،"[27] لأن كل العقول المخلوقة لا تفكر إلا من خلال أفكاره، لا تعقل إلا من خلال عقله.
وبالتالي، لكي نحل مسألة هندسية أو ندرس مبدأ مِتافِزيقي، كل ما علينا فعله هو أن نركز انتباهنا عليها، وسيفيض نور العقل بداخلنا على قدر انتباهنا. ولأن الله هو مصدر هذا النور، يكون الله نفسه هو "مؤلف معارفنا" في حقيقة الأمر.[28] يقول مالبرانش: أيما كان رأي الفلاسفة في معارفهم، فإن «الله نفسه هو من بصّرهم ونورهم بالمعرفة، التي يزعم أولئك الجاحدون بنعمة الله، أنها مجرد فكر طبيعي، في حين أنهم لا يتلقونها إلا من السماء.»[29] أو كما قال، على لسان المسيح: «من دوني، لن تفكر في أي شيء، ولن ترى أي شيء، ولن تدرك أي شيء.» فـ«كل أفكارك مِنّي، وكل معارفك تعود إليّ.»[30]
دعونا ننظر الآن بإيجاز في العلاقة بين الأفكار والأحاسيس. الأحاسيس أقرب إلى النفس من الأفكار. فالأفكار خارجة عن النفس، و«لا تغيّر فيها أو تؤثر عليها،»[31] كما ذكرنا. أما الأحاسيس فهي «داخل النفس—إنها تغيرّ فيها وتؤثر عليها.»[32] إن الأحاسيس تغيّرات تحدث للنفس، أو بكلمات أدق، «ليست الأحاسيس سوى أحوال وجود مختلفة للنفس.»[33] وفي حين لا يسعنا أن نقول أن الأفكار تعود إلينا، مِلكنا، أفكارنا—فهي أفكار الله في حقيقة الأمر، ولا يمكن أن يكون لنا فكرة ما إلا بعدما يكشفها الله لنا—لا يسعنا، وعلى النقيض من ذلك، إلا أن نقول أن الأحاسيس تعود إلينا حصرا، مِلكنا، إنها أحاسيسـنا: فالله الذي يُحدِث فينا الإحساس بالألم، يعرف الألم، بمعنى أنه يعلم كنه حال النفس المتألمة، لكنه لا يشعر به (بينما نشعر نحن بالألم لكننا لا نعرفه).[34]
ولأن الأفكار مائزة أنطولوجيّا عن النفس بينما ليست الأحاسيس مائزة أنطولوجيّا عنها (فهي «ليست سوى أحوال وجود مختلفة للنفس»)، يمكن للعقل أن يذهل ويشرد عن التفكر في أجلّ الحقائق، كالتفكر في الله وما إلى ذلك، بسبب أدنى إحساس―بسبب لدغة حشرة أو أزيز ذبابة على سبيل المثال: «عندما تلدغنا حشرة، نذهل عن أمتن الحقائق؛ عندما تأز ذبابة بجوار آذاننا، تنتشر الظلمة في عقولنا.»[35] وعلى ذلك، يمكن لأي إحساس، ومهما كان بسيطا، أن يشتت العقل ويصرف كل انتباهه عن الله إلى الجسد. فلأن العقل متناه ومحدود، يمكن للأحاسيس أن تستنفذ سريعا قدرته على التفكير، بحيث لا يسعه أن يحس بالألم أو اللذة وأن يفكر طوعا في الله في آنٍ واحد.
باعتبارنا عقول (أنفس، أرواح)، نحن خُلِقنا «لكي نعرف الله ونحبه،»[36] ولكي نؤدي هذه المهمة نحن لا نحتاج إلى الجسد. فإن شئنا الدقة، «نحن لسنا أجسادنا،»[37] ولذلك يمكننا أن نوجد من دونها. لكننا لا نعرف أننا لسنا أجسادنا، لأن الله قد حجب عنّا عمدا معرفة طبيعتنا الحقة. يوجد في العقل الكلي إذن فكرة بعينها―فكرة أننا عقولنا―لم يشأ الله أن يكشفها لنا على الرغم من كل تركيز انتباهنا عليها (كما لو كانت دعوة غير مستجابة). وعلة حجب الله لهذه الفكرة عنّا هي تمكيننا من حفظ الجسد الذي نسكنه ونحييه. لأنه لو كانت هذه الفكرة في متناول أيدينا، أو بعبارة أخرى، لو عرفنا كنهنا حق المعرفة، لتوقفنا عن العناية بالجسد الذي كلفنا الله بحفظه.[38] لكن لأن الله قد أعمانا عن طبيعتنا الحقة، نحن نعتبر، خطأً، أننا أجسادنا، ولذلك نقوم على حفظها. وعليه، ينتظر الله منّا أن نحافظ على ارتباطنا بالجسد، أي بالشيء الذي يوهن ارتباطنا به (الله) في واقع الأمر.
وحتى لا تصير عناية العقل بحفظ الجسد المرتبط به مشغلة له عن تمتين ارتباطه بالله، يُحدِث الله في العقل أحاسيس مختلفة عندما يتعرض لأجساد مختلفة، وعن طريق هذه الأحاسيس يخبرنا بطبيعة علاقة هذه الأجساد بجسدنا الخاص. على سبيل المثال، عندما نتذوق تفاحة، يُحدِث الله في عقلنا إحساسا بالحلاوة أو اللذة، وعن طريق هذا الإحساس يخبرنا بأن هذا الجسد، التفاحة، ملائم لحفظ جسدنا، وبالتالي من الملائم لنا أن نلحقه بأنفسنا بأكله. وبإخبارنا، بواسطة هذه «البراهين الحسية القصيرة،»[39] بمدى نفع الأجساد المحيطة بنا لحفظ جسدنا، يقتصد الله في انتباه عقولنا: فلو كان علينا أن نعرف بأنفسنا طبيعة العلاقة بين الأجساد المحيطة بنا وجسدنا الخاص، لانشغلت عقولنا بذلك غاية الانشغال ولانصرفت بالكلية عن التفكر في الله، أي عن غايتها وما فيه نفعها وخيرها حقا.[40]
وبالتالي، إحساسنا بالأجساد المحيطة بنا محكوم بـ"حيلة":[41] لكي نصل أنفسنا طوعا بأجساد بعينها (ونفصلها عن أجساد أخرى)، بما يتماشى مع حاجات جسدنا، يجعل الله العقل «يحس في الأجساد بخصائص لا تمتلكها الأجساد في حقيقة الأمر.»[42] فعلى الرغم من أن التفاحة، على سبيل المثال، عديمة الطعم في ذاتها (فلا توجد حلاوة في التفاحة، وحتى لو كان فيها، لا يمكن للتفاحة أن تنقلها إلينا لأنها ليست سببا فاعلا ولا يمكنها بحد ذاتها أن تؤثر في عقلنا) إلا أن العقل يجدها، بفضل هذه الحيلة، «عامرة بالطعم الحلو.»[43] فلو أن العقل يرى الأجساد «كما هي عليه، من دون أن يحس فيها بما ليس فيها في حقيقة الأمر،»[44] لوجد حفظ الجسد مهمة لا تُطاق. وعليه، فإن الله لا يُريي العقل الأجساد كما هي عليه وإنما مموهة بـ«خصائص مستعارة.»[45] وينبغي لرؤيتنا الأجساد على ما ليست عليه حقا أن تمكننا من رؤية الله على ما هو عليه حقا. لكن، هذه الأحاسيس التي يخلقها الله في عقولنا، في حضرة الأجساد الخارجة عنا، حتى لا ننشغل بحفظ أجسادنا عنه، هي تحديدا التي تشغلنا عن الله وتجعلنا نتعلق بهذه الأجساد―فنحن لا نصل أنفسنا بأجساد بعينها أو نفصلها عن أجساد أخرى فحسب، وإنما نحبها أو نكرهها على ما ليس فيها أيضا.
وعليه، ليست حيلة «البراهين الحسية القصيرة» مصدر أكبر لذاتنا فحسب، وإنما مصدر أكبر شرورنا أيضا. على سبيل المثال، عندما يُجرح الجسد، الإحساس بالألم الذي يخلقه الله في عقولنا ساعتها لا ينذرنا بأن علينا أن نفعل شيء لحفظ سلامة جسدنا فحسب، وإنما يملأ عقولنا بالكامل، أي أنه يصرف، على عكس إرادتنا، انتباهها بأكمله إلى الجسد، وبذلك يحول بين عقولنا وبين التفكير فيما فيه خيرها حقا، في الله. وهنا يكمن «التناقض الفظيع»:[46] في حين يجعلنا نور العقل نرى أننا، كأنفس، أسمى من أجسادنا، أننا مخلوقون لنعرف الله ولنحبه، تجعلنا الأحاسيس التي يخلقها الله في عقولنا نقتنع بعكس ذلك تماما، بأن العقل معتمد، اعتمادا مهلكا، على الجسد المرتبط به، لدرجة أنه يغفل، بسبب هذا الجسد، عمّا فيه خيره حقا، عن الله.
علاوة على ذلك، لماذا يخلق الله الإحساس باللذة في عقولنا عندما نبتغي خيرات الجسد، أي عندما نبتغي خيرات باطلة، بينما لا يخلق فيها ولو حتى أدنى إحساس باللذة عندما نبتغيه هو، أي عندما نبتغي الخير الحق؟ عندما يفكر العقل في الله ويتقرب إليه بحبه، لماذا يملأوه الله في بعض الأحيان بـ«القحولة والجفوة»؟[47] أو بعبارة أخرى، لماذا نجد أثر ابتغائنا لخيرات العقل―أي معرفة الله―على إحساسنا محايد في أحسن أحواله، بالرغم من أننا مخلقون أصلا لابتغائها، أي لمعرفة الله ولمحبته؟
لكي يثير اهتمامنا بالخيرات الجسدية، أي بالأشياء أو الأجساد الحسية الضرورية لحفظ أجسادنا، يجعل الله هذه الخيرات تبدو لعقولنا على نحو مغاير لما هي عليه حقا، بأن يخلع عليها خصائص ليست فيها. في مقابل ذلك، لكي يثير الله اهتمامنا به، حبنا له، لا يحتاج قط إلى أن يخلع على نفسه هذه «الخصائص المستعارة.»[48] لو رأينا الله على ما هو عليه حقا فسنحبه على الفور، أما لو رأينا الأجساد على ما هي عليه حقا لوجدنا ذلك مؤلما للغاية، وشاقا للغاية،[49] بل لا يُطاق.[50]
حبنا للأشياء التي تُحدِث (على ما يبدو لنا) فينا اللذة، هو حب غريزي وأعمى، أما الحب الناتج عن نور العقل وحده، فهو حب يحررنا وينورنا. إذ تربطنا اللذة «على نحو غريزي أو لا إرادي» بالأشياء المسببة لها (على ما يبدو لنا)، بينما نور العقل محايد حسيّا، وبالتالي يترك إرادتنا حرة تماما، لتقرر وحدها ما إذا كانت سترد على هذا النور بالحب أم لن تفعل.[51] وينتظر الله منا أن نحبه بالعقل، أي بحب طوعي ومستنير.
علاوة على ذلك، ابتغائنا لخيرات الجسد، الخيرات الباطلة، «ميسور وملِذّ»، بينما ابتغائنا لخيرات العقل، ابتغائنا لله، ليس ميسورا ولا ملذا، بل «شاق ومؤلم» في أغلب الأحيان.[52] وهكذا، يثيبنا الله على معاصينا، باللذة التي يحدثها فينا عندما نولّيه دبرنا وننشغل عنه بابتغاء الخيرات الباطلة، ويعاقبنا على طاعاتنا، بالألم الذي يحدثه فينا عندما نقبل عليه وننشغل بابتغائه وحده. وبجعله سُبل الطاعة «شاقة ومؤلمة»، وسبل المعصية «سارة وميسورة»، أي بإحداثه للروع أو الجفاء في أنفسنا حينما نبتغي خيرات العقل، وبإحداثه للذة فيها عندما نبتغي خيرات الجسد، يتصرف الله كما لو كان يريد أن يصرفنا عنه، أن يجعلنا نتعلق بالأشياء أو الأجساد الحسية.
ولأن سُبل الطاعة «شاقة ومؤلمة،» يرهقنا التفكر في خيرات العقل عاجلا، ولا نقدر على تركيز انتباهنا عليها طويلا إلا بشق الأنفس. في المقابل، لأن سُبل المعصية «سارة وميسورة،» نُسلِم أنفسنا في عجل إلى خيرات الجسد، إلى الكسل أو إلى أي شيء من شأنه أن يدخل علينا اللذة الحسية. وهكذا يتمكن الفيلسوف المناسبي من أن يتبين تحت شأن يومي وعادي تماما، وهو سأم المرء من التفكر وغلبة الكسل عليه، يد الله الخفية وهي تعمل عملها―عندما ينكب الفيلسوف على التفكر، يخلق الله الروع أو الجفاء في نفسه، وبذلك يصرفه عن تمتين ارتباطه بالعقل الكلي، يصرفه عن الله نفسه. عندما يجد نفورا من التفكر، لا يستسيغ الفيلسوف المناسبي أن يقول حتى لنفسه: لا يرجع نفوري من التفكر إلى كسلي وإنما إلى الروع أو الجفاء الذي يحدثه الله في نفسي عقابا لي على إقبالي عليه، أو بعبارة أخرى، الله هو الذي يريد مني أن أضع قلمي وأسلم نفسي لخيرات الجسد، ولذلك بمقدوري أن أتصرف بحر إرادتي، ألا أخضع لإرادته وأن أواصل عملي الفكري بجد ومثابرة. يردّ الله الفيلسوف المناسبي بازدراء تام عندما يقبل عليه، ولابد للفيلسوف أن يجد في ذلك الطرد تناقضا شديد «الفظاعة»، إذ يعتقد أن الله نفسه هو الذي يخلق فيه هذا الباعث الذي يدفعه إلى الإقبال عليه ويديمه.[53] لا عجب إذن في أن يسودّ مالبرانش هذا الكم الهائل من الصفحات.[54]
وهكذا يتبين للفيلسوف المناسبي أن إلهه، الموجود الوحيد الجدير بالحب، منحرف (يدفعه على الإقبال عليه لا لشيء إلا ليرده بازدراء)؛ ومع ذلك يتعين على كل فيلسوف مناسبي، خليق باسمه، أن يحب إلهه الذي لا خير له إلا فيه.
يرى مالبرانش أن هذه الشدائد التي نتكبدها في سبيلنا لتمتين صلتنا بالعقل الكلي، أي ما نجده من مشقة ونفور[55] كلما صرفنا انتباهنا إلى الخيرات الحقة، ترجع إلى عصيان الجسد وتمرده.[56] يقول: «إننا لم نعد على الهيئة التي خلقنا الله عليها.»[57] لأن العلاقة بين العقل والجسد التي أوجدها الله كعلاقة "ارتباط" قد تبدلت، بسبب خطيئتنا، إلى علاقة "اعتماد"، اعتماد العقل على الجسد.[58] والعقل الذي يغدو معتمدا على الجسد، لدرجة تجعله يغفل عن خيره الأسمى، عن الله، لا يعود جديرا بأن يفكر في الله أو يحبه ويعبده. ولذلك، سحب الله نفسه عن العقل «بأقصى قدر ممكن من دون تدميره ومحوه.»[59]
2.
يتمرد الجسد علينا إذن. يتمرد علينا لأن آدم تمرد على الله. لما عصى آدم ربه توقف جسده عن طاعته. إن عصيان الجسد هو العقوبة التي أنزلها الله على آدم بسبب خطيئته الأولى. وكما ورثنا خطيئة آدم، ورثنا أيضا عقوبته.[60] فمن أول البشر إلى آخرهم، جميعنا يسكن جسدا متمردا.
لأننا لم نعد أسيادًا على أجسادنا، لم نعد أسيادًا على انتباهنا. صحيح لا يزال بمقدورنا أن نفكر في كل ما يحلو لنا التفكير فيه―فقوانين الارتباط بين عقولنا والعقل الكلي لم تتغير منذ خطيئة أول البشر: لا يزال الله مستعدا لإجابة كل "صلاة طبيعية"، ولا تزال رغباتنا هي السبب العرضي (مناسبة) لحضور الأفكار إلى عقولنا―لكننا لم نعد أسيادًا على رغباتنا؛ لقد كان لاعتماد عقولنا على أجسادنا أثرا مهلكا على رغباتنا. فلأن العقل لم يعد مرتبطا بالجسد فحسب وإنما صار معتمدا عليه، أدخلت الأحاسيس الاضطراب والبلبلة على أفكارنا، «ولذلك لا نفكر دائما في ما نود التفكير فيه.»[61]
لم يُخضِع الله العقل للجسد؛ وإنما ربط بين الإثنين فحسب. ويقوم هذا الارتباط على علاقة "تبادل" بين أحوال العقل وأحوال الجسد وليس على علاقة سببية. يقول مالبرانش: «أراد الله (ويريد) أن تكون أحوال العقل والجسد تبادلية. وعلى ذلك يقوم الارتباط بين هذين الجزئين المكونين لنا، ويقوم اعتمادهما الطبيعي على بعضهما. وهذة التبادلية مبنية على أساس الأحكام (القوانين) الإلهية الذي لا تتزعزع، الأحكام التي يخولني إنفاذها القدرة التي امتلكها على جسدي وامتلكها، من خلاله، على الأجساد الأخرى، الأحكام اللازبة التي تربطني بجسدي وتربطني، من خلاله، بأصحابي وبمتاعي وبكل ما يحيط بي.»[62] تبادلية أحوال العقل والجسد صادرة إذن عن أحكام الله. والقدرة التي نظن أننا نتمتع بها على أجسادنا ليست سوى «إنفاذ» هذه الأحكام الإلهية وجريانها؛ والارتباط الذي نظنه بين العقل والجسد ليس سوى «لزوب» هذه الأحكام ودوامها. ولقد أرسى الله قوانين الارتباط بين العقل والجسد وقوانين القدرة على تحريكه حينما خلق العالم. ولقد كانت آنذاك على نفس ما هي عليه اليوم؛ لكن حينئذ شاء الله أن يعلّق (يعطل) هذه القوانين لصالح آدم طالما أنه لم يعصه.
إن حواسنا «تشوش أفكارنا» و«تنهِك انتباهنا،»[63] إنها «تستبد»[64] بنا، باختصار، أما حواس آدم فقد كانت تخطره وتنذره «بخضوع». لقد كانت حواس آدم تنصحه بما فيه نفع جسده «من دون أن تصرفه عن الله.»[65] ولأنه كان لا يزال سيدا مطلقا على جسده، كان آدم سيدا على انتباهه، على عقله وأفكاره. ولم يكن للأشياء المحسوسة أن تؤثر على عقله وتشتت انتباهه إلا لو أراد ذلك. لا تؤثر الأشياء المحسوسة على عقولنا إلا عندما تصل حركة المادة العصبية، الناجمة عن اتصال الجسد بهذه الأشياء المحسوسة، إلى «لُبّ الدماغ وأعمق جزء فيه،» الجزء الذي ترتبط به الروح ارتباطا مباشرا.[66] فهذا الموضع من الجسد هو الموضع الوحيد الذي يعقب حدوث تغير في حاله حدوث تغير في حال العقل. وبعبارة أخرى، إن تغيرات هذا الجزء من الدماغ هي التي تحدد سريان قوانين الارتباط بين العقل والجسد. قبل ارتكاب آدم للمعصية، كان حركة المادة العصبية «خاضعة خضوعا تاما»[67] لإرادته، ولذلك كان قادرا على وقف حركتها بمجرد وصولها إلى لبّ الدماغ، أي بمجرد شعوره بإحساس معين، الألم على سبيل المثال. وبمنعه حركة المادة العصبية من التأثير على لُبّ الدماغ، لم يشعر آدم بالألم ببساطة. أي أن آدم كان قادرا على إخراس أحاسيسه بمحض إرادته. لقد كان قادرا على فصل لُبّ دماغه عن بقية جسده، لو جاز القول.[68] وبفصله لُب دماغه (مقام الروح ومقعدها في الجسد) عن بقية جسده، كان آدم قادرا، حرفيا، على فصل روحه عن جسده. ولأن لُبّ دماغ آدم كان «خاضعا خضوعا تاما له»،[69] لم يشرد انتباه عقله قط رغما عن إرادته.
بفضل سلطانه على جسده، كان بمقدور آدم «أن يأكل من دون أن يلتذ، وأن ينظر من دون أن يرى، وأن ينام من دون أن يحلم.»[70] وعليه، يبدو أن الحياة في جنة عدن قد كانت ولا بد كئيبة وغير سارة إلى حدِ ما. لكن حكمنا هذا على توصيف مالبرانش للحياة في جنة عدن يشهد تحديدا على فسادنا، أي على خضوعنا لـ«قانون الشهوة»: لقد استعبدتنا أجسادنا لدرجة أنه يستحيل علينا تصور أن علينا أن نعتمد على اللذة حصرا لتبين ما إذا كان شيء نافع لحفظ أجسادنا أم غير نافع، ثم نتخلى بالكلية عن هذه اللذة بمجرد تناوله.
لكن من أين أتت القدرة الاستثنائية التي تمتع بها آدم على جسده؟ لقد قلنا فيما سلف أن الله قد أرسى قوانين ارتباط العقل بالجسد وقوانين القدرة على تحريكه حينما خلق العالم، وأنها لم تختلف بعد معصية آدم عمّا كانت قبلها. وعلى ذلك، ينبغي لأي تأثير على لبّ دماغ آدم، أن يعقبه على الدوام تأثير مقابل في عقله. لكن الفرق هو أن آدم كان قادرا على وقف حركة المادة العصبية قبل أن تصل―أو بمجرد وصولها―إلى لُبّ دماغه وتؤثر عليه. لقد كان بمقدور آدم أن يوقف حركة المادة العصبية متى أراد أن يكرس نفسه للتفكر. إن مصدر قدرة آدم على جسده، قدرته على التحكم في حركة أدق جزيئات دمه وأخلاطه، هو أن الله كان، في حالات معينة، يعطل قوانين تحريك الجسد وقوانين ارتباط الروح بالجسد، على سبيل الاستثناء، من أجل آدم.[71] ولقد كان الله يفعل ذلك حتى لا يصرف جسد آدم انتباهه عمّا يريد التفكر فيه. ولذلك، لم تكن قدرة آدم على جسده―باعتبارها استثناءً من قوانين الطبيعة―سوى «شذوذ،»[72] على حد وصف فردِنو ألكِي.[73]
لكن بمجرد ما ارتكب المعصية، «لم يعد آدم جديرا بأن تُعطّل قوانين الطبيعة من أجله.»[74] وبذلك فقد القدرة التي كان يتمتع بها على جسده، وأضحى عقله خاضعا لجسده بعدما كان مرتبطا به فحسب. لقد غدت حركة «المادة العصبية المتمردة»[75] تصل إلى لُبّ دماغه، وهكذا أصبح عقل آدم عرضة لشتى التغيرات.
يبدو كما لو أن إله مالبرنش، الذي يعتز أيما اعتزاز بـ«بساطة طرقه،»[76] كان يترقب سقوط أول البشر في الغواية، حتى يتحرر من تعطيل قوانين الطبيعة من أجله واستثنائه منها، أي حتى يتحرر من الحط من شأنه بالتصرف بموجب إرادة خاصة.[77] ولهذا السبب، فضّل الله، أثناء سقوط آدم، أن يراقب العالم ينهار إلى أنقاض على أن يتدخل فيه بموجب إرادة خاصة؛ ولهذا نحن نسكن، منذ معصية آدم، «حُطام، خرائب عالم أكثر كمالا.»[78] ويرى مالبرانش أن الله ببقائه «ساكنا» أثناء السقوط، أي بإعراضه التام عن أجلّ مخلوقاته وهو في حال معصيته، قد أظهر بجلاء أبديته وطبيعته الإلهية.[79]
بخطيئته، بعصيانه وانقلابه على الله، حرر آدم الله من الحط من شأنه بالتصرف بموجب إرادة خاصة، مكنّه من أن يشرع في التصرف كإله خليق باسمه، أي بموجب إرادة وقوانين عامة بسيطة. والحق، أن العقوبة التي أنزلها الله على آدم، وهي تجريده من قدرته على التحكم في جسده، هي، بحد ذاتها، نموذج على بساطة الطرق الإلهية: لكي يعاقب الله آدم، لم يمض إرادة خاصة جديدة، وبذلك يشيب تصرفه بشائبة إضافية، وإنما أبطل الإرادة الخاصة الوحيدة التي تصرف بموجبها، وبذلك خلّص تصرفه من الشائبة الوحيدة التي أشابته. لقد جرّد الله آدم من سلطانه على جسده، بأن شرع في التصرف بصرامه وفقا لقوانينه التي وضعها بنفسه. ولذلك يسوغ أن نقول أن إله مالبرانش لم يصبح إلها بحق، إلها جديرا باسمه، إلا من خلال معصية أول البشر.
يرى مالبرناش أن «سعادة آدم قبل المعصية كانت تتألف، في المقام الأول، من أنه لم يكن يشعر بالألم.»[80] ولم يكن آدم يشعر بالألم لأنه كان قادرا على وقف حركة المادة العصبية في جسده ومنع حدوث تلك التغيرات في لُبّ دماغه التي كان سيعقبها، لا محالة، إحساسا بالألم في عقله. إن ما جعل الجنة جنة إذن ليس سوى القدرة التي تمتع بها آدم على جسده، أي الامتياز النفسي-الجسدي الذي خُلع عليه. أي أن الجنة نفسها كانت قائمة على استثناء، على تعطيل قوانين الطبيعة. ومن خلال معاقبة الله لآدم بتجريده من هذا الامتياز النفسي-الجسدي، أبُطلت آخر إرادة إلهية خاصة وبذلك أضحى الله هو الله بحق، وزال آخر شذوذ من العالم وبذلك أضحى العالم هو العالم بحق.[81]
3.
قبل المعصية، عرف آدم «أن الله وحده مَن يقدر على التأثير عليه.»[82] ولأنه عرف «أكثر مما عرف أعظم الفلاسفة قاطبة»[83] أن الله هو السبب الحقيقي الوحيد، ينبغي علينا أن نعتبر أول البشر فيلسوف مناسبي بامتياز. وعليه، لم تولد الفلسفة في الجنة فحسب، وإنما ولدت كفلسفة مناسبة مالبرانشية تحديدا. لقد عرف آدم، من خلال نور العقل، أن الله يؤثر عليه، لكنه «لم يحس بذلك.»[84] وأحس آدم بـ«أن الأجساد تؤثر عليه» لكنه «لم يعرف ذلك.»[85]
وهكذا، من شأن آدم نفسه، أول فلاسفة المناسبة، أن يتفق على الأرجح مع نقاد المذهب من المحدَثين: ليس الأمر أنه لا يوجد برهان حسي على الدعوى الأساسية لمذهب المناسبة (الله وحده هو السبب المؤثر) وإنما التجربة الحسية برمتها تدحض هذه الدعوى صراحة. فحينما يتذوق آدم فاكهة ويجد لذة حلاوتها يعلم، كفيلسوف مناسبي، أن الله هو الذي يحدث هذه اللذة فيه، لكن حواسه تقنعه بنقيض ذلك: أن الفاكهة التي رأها وأمسكها وأكلها هي التي أحدثت هذه اللذة. لقد كان أول فلاسفة المناسبة وأرسخهم اعتقادا من دون معرفة حسية بتأثير الله المتواصل عليه، ولذلك لابد أن فلسفته قد بدت، في عينينه، مناقضة صراحة لشهادة الحواس.
كفيلسوف مناسبي، علم آدم علم اليقين أنه لا يستطيع أن يعرف شيئا ما لم ينوره الله به، ولا أن يحس بشيء ما لم يحدث الله معه تغيرا في حال عقله، لكنه لم يحس بذلك قط. لقد كان يعرف ما لا يحس ويحس بما لا يعرف، ولابد من أن ذلك قد بدا، في عينيه، تناقضا في التصرف الإلهي: أولا: لأن آدم علم أن الله يؤثر عليه، لكنه أحس بأن الأجساد تؤثر عليه، لابد أن الله نفسه مَن أراد لتجربته الحسية أن تكون مناقضة لمعرفته بتأثير الله السببي، أي مناقضة لما أراه الله له من خلال نور العقل. ثانيا: لأن آدم لم يحس قط بما عرفه، لابد أن الله نفسه مَن حجب عنه برهانا حسيا على ما أراه له من خلال نور العقل؛ أو بعبارة أخرى: الله نفسه هو مَن أخفى يده كلية القدرة عن آدم، الله نفسه مَن جعل تأثيره السببي خفيا على عين آدم. ثالثا: لأن آدم لم يعرف قط ما أحس به، لم يكن ينتظر أن يرى ذلك من خلال نور العقل، أي أن يرى أن الأجساد تؤثر عليه. واختصارا، لم يمتلك آدم أي دليل حسي على مذهب المناسبة: الله هو المؤثر، ولم يمتلك أي معرفة عقلية على نقيضه: الأجساد هي المؤثرة.
لكن لماذا لم يحس آدم بأن الله يؤثر عليه، على الرغم من «معرفته الجلية»[86] بذلك؟ ولماذا أحس بأن الأجساد هي ما يؤثر عليه في واقع الأمر؟ لأنه لو أحس آدم بتأثير الله الذي لا ينقطع عليه، لتعلق بالله تعلقا لا يُقهر.[87] أو بعبارة أخرى: لو أحس آدم بتأثير الله عليه لجعله ذلك يحب الله من خلال الغريزة وليس من خلال العقل كما ينبغي له أن يُحب. ولأن مذهب المناسبة ليس، في صلبه، سوى حبا طوعيا وعقليا لله، لا يعود افتقار آدم إلى المعرفة الحسية بتأثير الله المستمر عليه نقطة ضعف المذهب وإنما نقطة قوته الأساسية.
ينتظر الله منّا أن نحبه بحب طوعي وعقلي، لكنه―بتسببه في أحاسيسنا―لا يثير فينا تجاه إلا حبا أعمى وغريزيا. وعليه، لم تكن المشكلة التي واجهها إله مذهب المناسبة هي جعل آدم يحبه وإنما منعه من أن يحبه حبا أعمى وغريزي. ولم يكن ذلك بالأمر الهين، لأن ذلك اقتضى منه أن يبقى خفيا على آدم، بالرغم من أنه هو سبب كل أحاسيسه؛ أن تظل يده خفية، على الرغم من أنها وراء كل أفكار آدم وأحاسيسه وحركاته.
هذا هو السبب الذي جعل الله يعير―إذا جاز القول―تأثيره السببي إلى الأجساد غير المؤثرة في حقيقة الأمر. لقد نكّر الله تأثيره السببي، ألبسه للأجساد، جعل آدم يحس بأنها تؤثر عليه، وبذلك نجح في منع آدم من أن يحبه حبا أعمى وغريزيا؛ لكنه بذلك أيضا جعله عرضة للتعلق بالأجساد. ولكي يقدر آدم على مقاومة الحب الأعمى والغريزي للأجساد الذي يحدثه إحساسه بها―أو بالأحرى الذي يحدثه الله فيه من خلالها―خلع الله عليه امتيازه النفسي-الجسدي، عطّل له قوانين الطبيعة. فبفصله لُبّ دماغه عن بقية جسده، ومن ثمّ إخراس حواسه، تمكّن آدم من أن يعرف―بالرغم من تأثير الأجساد الظاهر عليه―أن الله هو السبب الحقيقي، ومن أن يحبه بحب طوعي وعقلي. وعليه، لكي يظل آدم مستمسكا باعتقاده المناسبي، على الرغم من شهادة حواسه الصريحة على نقيضه، خلع الله عليه الامتياز النفسي-الجسدي الذي حظى به. لقد كان اعتقاد آدم في تأثير الله السببي، أي حبه المتنور لله، مذهبه المناسبي، مرهونا بالقدرة التي تمتع بها على جسده.
4.
أين تكمن معصية أول البشر إذن؟ ماذا كان ذنبه؟ ما الذي فعله؟ أو بالأحرى ما الذي لم يفعله؟ ما لم يفعله آدم هو أنه لم يستعمل القدرة التي خولها الله له على جسده: حينما ألحق نفسه بجسد معين، أي حينما أكل من "الشجرة المحرمة" لم يخمد آدم إحساس اللذة التي أحدثه الله في عقله، وإنما انغمس فيه عوضا عن ذلك. فبعدم تخليه عن اللذة بمجرد ما أدت وظيفتها الناصحة (أن هذا الجسد، الثمرة، ملائم لجسده) مباشرة، عبر آدم الحد الفاصل بين الصلاح والطلاح، بين البراءة والذنب. بعدم إخراسه لحواسه، أي بعدم فصله للُبّ دماغه عن بقية جسده، سمح آدم لإحساس اللذة بأن يطغى على عقله، لدرجة أن ظلمة الحس طمست نور العقل بالكامل. وبذلك انصرف انتباه عقله عن الله، ولم يسترده بعد ذلك قط. لقد محا إحساس اللذة، الذي لم يرد آدم التخلي عنه، من عقله «إدراكه الجلي، الذي بصرّه بأن الله هو خيره، هو السبب الوحيد للذته وفرحه، والذي ينبغي عليه أن يحبه وحده دون سواه.»[88] أي أن ما محي من عقل آدم حينها ليس سوى حقيقة مذهب المناسبة وصلبه، وفي ذلك كانت خطيئة أول البشر.
لم يعد آدم يرى، من خلال نور العقل، أن الله وحده قادر على التأثير عليه، لكنه لم يزل يحس، بلا انقطاع، بأن الجسد الذي ألحق نفسه به، أي ثمرة "الشجرة المحرمة"، يؤثر عليه. وبذلك تبين له أن الثمرة هي مصدر لذته (وليس الله الذي أحدث فيه اللذة حال أكله منها). وباختصار، لقد صار آدم مؤمنا بأن للأشياء تأثير سببي. لقد تنح حبه المتنور لله جانبا وحل في محله حبه للشيء الذي بدا له أنه مصدر إحساسه باللذة؛ لقد حلّ الحب الأعمى والغريزي للأجساد في محل الحب الطوعي والعقلي لله.
لم يستعمل آدم القدرة التي تمتع بها على جسده، فسلبها الله منه. وبتجريده من هذا الامتياز النفسي-الجسدي، يبدو أن الله قد عاقب آدم على تبديل مذهبه الفلسفي تبديلا كليا، بأن عدّل وضعه الفسيولوجي لكي يتناسب مع مذهبه الجديد. لقد ارتد آدم طوعا عن عقيدته المناسبية واعتقد في قدرة الأجساد على التأثير السببي، فحُكِم عليه بأن يصير لامناسبيّا إلى الأبد؛ لقد تخلى طوعا عن حبه لله، فقضي عليه بأن يحب الأجساد لا محالة.
قبل سقوط آدم في الخطيئة، أي حينما كان مستمسكا بمعتقده المناسبي، استثناه الله من القوانين التي أرساها بنفسه وعطلها له، وبذلك تصرف على نحو لا يليق بإله مذهب المناسبة، الذي يفخر ببساطه طرقه وعموميتها؛ لكن بعدما سقط آدم في الخطيئة، أي حينما تخلى عن اعتقاده المناسبي، وسلبه الله الامتياز الذي خصه به، وبذلك شرع في التصرف على نحو خليق بإله مذهب المناسبة، أي إله لا يتصرف إلا وفقا لقوانين بسيطة وعامة، أضحى مذهب المناسبة نفسه مذهبا واهيا بالكلية. إنه مذهب موقوف على حالة استثناء، إذن، على تعطيل قوانين الطبيعة، ولذلك ليس ممكنا إلا في الجنة، إنه فلسفة لعالم شاذ عن الطبيعة.
رسّخت فسيولوجيا ما قبل السقوط اعتقاد آدم في تأثير الله السببي، وبذلك رسخت حبه له، بينما رسّخت فسيولوجيا ما بعد السقوط اعتقاده في تأثير الأجساد السببي، وبذلك رسخت حبه لها.
علاوة على ذلك، تسببت فسيولوجيا ما بعد السقوط في ظهور بعض الإشكالات الأساسية في الفلسفة الحديثة المبكرة. على سبيل المثال، بفضل قدرة آدم الاستثنائية على التحكم في جسده، لم يمثل وجود العالم الخارجي و التفريق بين الظاهر والحقيقة أي مشكلة له. فلأن مسار المادة العصبية كان «خاضع تماما لمشيئته،» كان بمقدور آدم أن يفرق بين تأثر دماغه بمؤثر داخلي وتأثره بمؤثر خارجي―ولذلك يقول مالبرانش: «لم يكن آدم مثل المجنون أو المحموم ولا مثلنا ونحن نيام، أي عرضة للخلط بين الأوهام والحقائق.»[89] وعلى ذلك، يسوغ لنا القول بأن تجريد الله آدم من القدرة التي متعه بها على جسده هو ما أنتج هذه المسائل في الفلسفة. أو بعبارة أخرى، لقد ابتلينا جميعنا بهذه المسائل العصية على الحل، عقابا لنا على خطيئة أول البشر: ارتداده عن مذهب المناسبة.
بفقدنا القدرة على التحكم في أجسادنا، أي القدرة على فصل لُبّ دماغنا عن بقية جسدنا، صار وقوعنا في حب الأجساد محتوما. فبعدما فقد أول البشر قدرته على جسده، أضحى حب الأجساد―النقيض الصريح لمذهب المناسبة، أي الاعتقاد في أن الأشياء تؤثر علينا ولذلك فيها خيرنا―منقوشا، إذا جاز القول، في أجسادنا. إذ يصاب العقل بهذا الحب بمجرد ما يرتبط بجسده، أي في رحم الأم. ولذلك يحب الطفل الأجساد، من قبل أن يولد حتى.
يرى مالبرانش أنه بسبب تواصل دماغ الأم مع دماغ الجنين، عن طريق المادة العصبية، «تنصرف روح الطفل ضرورة إلى الأجساد»[90] وبالتالي تنصرف عن الله. إذ لابد أن في دماغ الأم آثار ممثِلة للأشياء المحسوسة: إذ يكفي أن ترى شيئا أو تتغذى عليه. فلكي تظل على قيد الحياة لابد أن تأكل؛ ولابد لذلك أن يترك أثرا في دماغها. ويعقب كل أثر في الدماغ حركة معينة للمادة العصبية، تدفع روح الأم إلى حب الشيء الذي ترك في دماغها هذا الأثر. ولأن الأشياء وحدها يمكنها التأثير على الدماغ، لن يُصرَف الحب إلا لها. ويرى مالبرانش أنه لا توجد أم من دون بعض آثار الأشياء المحسوسة في دماغها وبالتالي لا توجد أم لا تميل إلى حب الأشياء المحسوسة.[91]
ونتيجة لاتصال دماغه بدماغ أمه أثناء الحمل، يصير لدى الطفل «نفس الآثار ونفس حركات المادة العصبية التي لدى أمه.»[92] ولذلك، بالرغم من أنه مخلوق «لكي يعرف الله ويحبه،»[93] إلا أنه «يعرف الأجساد ويحبها»[94] وهو لا يزال في رحم أمه. ولأننا ننصرف، ونحن أجنة في بطون أمهاتنا، عن الله إلى الأجساد، نولد جميعا مؤمنين بتأثير الأجساد سببيا، أي نولد على نقيض مذهب المناسبة.
أجسادنا نحن بحد ذاتها هي، إذن، ما ينشر الإعتقاد في تأثير الأجساد سببيا، أي ما يعزز حب الأجساد. لكن بينما يسوغ لنا القول بأن حب الأجساد، أي نقيض مذهب المناسبة، قد نتج مباشرة عن فسيولوجيا ما بعد السقوط―يصاب العقل بهذا الحب بمجرد ارتباطه بجسده―لا يمكن لحب الله، الاعتقاد في تأثيره السببي، أي مذهب المناسبة، أن ينقل عن طريق المادة العصبية من عقل لآخر. ويرجع ذلك إلى أن الله لا يُحس وبالتالي لا يوجد أثر ممثِل له في الدماغ، كما هو حال كل ما لا يدرك إلا بالعقل. ولذلك، يمكن، على سبيل المثال، لأم تحب الله «بحب طوعي،»[95] أن تتخيله في هيئة «شيخ جليل،»[96] لكن لا يمكنها أن تنقل إلى جنينها إلا الأثر الدماغي المتعلق بفكرة شيخ جليل، بينما لا يمكنها قط أن تنقل إليه الفكرة التي ربطتها بنفسها بهذا الأثر، أي فكرة الله. ولذلك لا يمكن لأتقى الأمهات أن تنقل إلى جنينها حب الله، لكنها ستنقل إليه―من خلال الآثار الدماغية الممثلة للأشياء المحسوسة والمثيرة للأهواء―حب الأجساد لا محالة. وهكذا، بينما تفكر الأم في الله، سيفكر طفلها في شيخ جليل؛ بينما تحب الأم الله، لن يحب طفلها إلا الأجساد. لعلها قديسة لكنها لن تلد إلا عاصيا.[97]
لا يمكن لمذهب المناسبة أن ينتقل إذن إلى طفل من أمه قبل أن يولد. أو بعبارة أدق، لا يمكن لمذهب المناسبة أن يُورَث إلا في شكل نقيضه، أي كحب للأجساد. فحتى الأم التي تحب الله «بحب طوعي»، أي المعتنقة لمذهب المناسبة، لا يسعها إلا أن تلذ ذرية معتنقة لنقيض مذهب المناسبة. ومن هذه الجهة، يمكن القول أن مذهب المناسبة قد ساهم بنفسه في انتشار نقيضه، حب الأجساد عوضا عن الله.
5.
لأنه لا يسعنا―نتيجة لفقدان آدم قدرته على جسده―إلا أن نحس بأن الأجساد المحيطة بنا تؤثر علينا، ولأننا نحب الأجساد حبا أعمى وغريزيا، لا يمكن لنور العقل وحده أن يهدينا إلى الاعتقاد في أن الله هو السبب الحقيقي الوحيد، إلى حب الله حبا خالصا وعقليا، أي إلى مذهب المناسبة باختصار. ولأنه لا يمكن التغلب على الأحاسيس التي تدفعنا إلى حب الأجساد بواسطة «نعمة الاستنارة» (نور العقل) وحدها، يعيننا الله عليها بـ«نعمة الشعور،» أي بما يحدثه أحيانا في عقولنا من أحاسيس «مناقضة لأحاسيس الشهوة.»[98] على سبيل المثال، يبطل الله الأحاسيس التي نتجت عن فقدان أول البشر لقدرته على جسده، أي اللذات المتعلقة بالخيرات أو الأجساد المحسوسة والآلام المتعلقة بالخيرات الحقة، بأن يحدث في عقولنا «لذات متعلقة بالخيرات الحقة» (لذة الطاعة) و«بغض أو نفور متعلق بالخيرات المحسوسة» (ألم المعصية).[99] تتألف نعمة الشعور إذن من الأحاسيس التي يحدثها الله في عقولنا لكي تبطل «تأثير أول البشر»[100] علينا، لكي تقاوم «فعله المتواصل»[101] فينا.
نتيجة لفقدنا القدرة على أجسادنا، يبدو أننا نُعاقَب على أعمالنا الصالحة بالألم الذي يحدثه الله فينا حينما نبتغي الخيرات الحقه، وأننا نُثاب على أعمالنا الآثمة باللذة التي يحدثها فينا حينما نبتغي الخيرات الباطلة؛ لكن بإبطاله لتأثير أول البشر علينا، أي بإحداثه فينا لذات متعلقة بالخيرات الحقة، وبغض أو نفور متعلق بالخيرات المحسوسة، يجعل الله سبل الطاعة «سارة وميسورة» وسبل المعصية «شاقة ومؤلمة.» أي أن الله يتوقف، في نطاق «نعمة الشعور» فحسب، عن التصرف على نحو منحرف.[102]
لكن لذة الطاعة تجعلنا نحب الله بحب أعمى وغريزي، أي تجعلنا نحب بالغريزة ما لا ينبغي حبه إلا بالعقل.[103] وبعبارة أخرى، لكي يعالج عِلّة أول البشر: الشهوة المجرمة، أحدث الله فينا عِلّة جديدة: شهوة قدسية.[104] ولذلك، حتى لا يُستبدل الحب الأعمى والغريزي للأجساد بحب لا يقل عمى وغريزية لله، لا بد لـ«نعمة الشعور» أن تعمل عملها بحيث تعادل كفة اللذات المتعلقة بالخيرات الحقة كفة اللذات المتعلقة بالخيرات الباطلة من دون أن ترجحها. وفقط عندما تستعيد عقولنا توازنها من خلال تعادل هذين اللذتين المتناقضتين (لذة الطاعة ولذة المعصية)، نصير في وضع يسمح لنا بأن «نتبع نورنا في توجيه حبنا؛»[105] أي فقط عندما لا يكون العقل منجذبا باللذة سواء نحو الله أو نحو الأجساد، يصير بمقدورنا أن نحدد وجهة حبنا نحو ما نرى، من خلال نور العقل، أنه خيرنا الأسمى. لأننا فقدنا قدرتنا على أجسادنا، أضحى تأثرنا بـ«نعمة الشعور» ضروري لـكي نتأثر بـ«نعمة الاستنارة». ترمي «نعمة الشعور،» إذن، إلى استرداد توازن العقل الهش بين الله والأجساد―التوازن الذي حفظه آدم قبل المعصية بفضل الامتياز النفسي-الجسدي الذي خلعه الله عليه.
منذ السقوط، نحن نؤمن بالتأثير السببي للأجساد لكن الأنكى أننا نؤمن أيضا بالتأثير السببي لمشيئتنا. على سبيل المثال، لأن أطرافنا تتحرك في اللحظة التي نريد أن نحركها فيها، نعتقد أن إرادتنا هي السبب الحقيقي لحركتها. يجعلنا إحساسنا الداخلي بجهد الإرادة الذي نبذله لتحريك أحد أطرافنا نعتقد أننا سبب حركته. فكما أنه لا يسعنا، منذ فقدنا لقدرتنا على أجسادنا، سوى أن نحس بأن الأجساد المحيطة بنا تؤثر علينا، لا يسعنا سوى أن نحس بأن إرادتنا تتسبب في حركة أطرافنا. وعلى الرغم من أن الله يجلي لنا عجزنا من خلال إحساسنا بحهد الإرادة هذا، إلا أننا نعتبره علامة على قدرتنا.[106]
إن ما يحجب عنا يد الله القادرة وهي تعمل عملها، ويقوي، في الوقت عينه، اعتقادنا في التأثير السببي لإرادتنا، هو أن حركة أي من أطرافنا تتبع، على الدوام، إرادتنا لتحريكه. لا يمتنع طرف من أطرافنا عن الحركة إذا أردنا له أن يتحرك، ولا يتحرك طرف من أطرافنا إذا لم نرد له أن يتحرك.
وبذلك، كلما اطّرد فعل الله فينا، كلما قوي اعتقادنا في التأثير السببي لإرادتنا؛ كلما تبعت النتائج الأسباب العرضية، كلما حجبت سببها الحقيقي: الله؛ كلما حضر الله كسبب، كلما شق علينا إدراكه كذلك.
وعليه، كلما ضعفت قدرتنا على أجسادنا، كلما بدا لنا أننا سبب حركاتها. فنحن نتمتع بقدرة على أجسادنا أقل من التي تمتع بها آدم على جسده قبل المعصية (نطاق الأسباب العرضية أضيق عندنا مما كان عند آدم). لكن هذا الضعف، أي عجزنا عن فصل لُبّ دماغنا عن بقية جسدنا، هو تحديدا ما يجعلنا نحس بأننا سبب حركة أجسادنا.
كيف يمكن لله إذن أن ينقض اعتقادنا في أن إرادتنا هي التي تتسبب في حركة أجسادنا، أي الاعتقاد الذي يجلي―تماما كالاعتقاد في التأثير السببي للأشياء المحيطة بنا―«تأثير» أول البشر علينا أو «فعله المتواصل» فينا؟ أحد الطرق الممكنة، أن يفعل ما فعله من خلال «نعمة الشعور»، أي أن يحدث فينا إحساسا مناقضا لإحساسنا بأن إرادتنا هي التي تسبب حركة أطرافنا. لكن السبيل الجلي لفعل ذلك هو أن يجردنا في بعض الأحيان من السببية العرضية التي نتمتع بها على حركة أي طرف من أطرافنا التي نعتقد أننا نحركها بأنفسنا. وبتجريدنا من ذلك، أي بتحريك طرف لا نريد تحريكه أو منعه من الحركة عندما نريد تحريكه، يضعنا الله في موقف محبط، لا تقع فيه التأثيرات المفترضة لإرادتنا على وفقها، أو تقع على عكسها.
من بين جميع أطرافنا، ثمة طرف تقاوم حركته أحيانا إرادتنا، أي تأثيرنا السببي المفترض، على نفس النحو المذكر أعلاه، وهو: القضيب―ففي بعض الأحيان نريده أن ينتصب فلا ينتصب وفي بعضها الآخر لا نريده أن ينتصب فينتصب. وبتحريكه أحيانا لهذا الطرف عندما لا نريد تحريكه، وبمنعه من الحركة عندما نريد تحريكه، يكشف لنا الله عن عجز إرادتنا عن التأثير.[107] من خلال انتصاب القضيب على الرغم من إرادتنا ألا ينتصب وعدم انتصابه على الرغم من إرادتنا أن ينتصب، يحعلنا الله نحس بأن إرادتنا ليست سبب انتصابه.
لأن نعمة الله تتألف من جعلنا نحس بأحاسيس تُبطِل تلك الأحاسيس المناقضة لما يجعلنا نراه بنور العقل، أي كونه السبب الحقيقي الوحيد، يمكن اعتبار انتصاب القضيب وعدم انتصابه على خلاف إرادتنا جزء من نعمة الله. فكما أن الله يبطل اللذات المتعلقة بالخيرات الباطلة بواسطة اللذات المتعلقة بالخيرات الحقة، يبطل الله إحساسنا بأن إرادتنا تتسبب في حركة أطرافنا بواسطة الانتصاب غير المتعمد والانتصاب الفاشل. وكما أننا نصير بعد إبطال اللذات المتعلقة بالخيرات الباطلة، بواسطة اللذات المتعلقة بالخيرات الحقة، في وضع يسمح لنا بأن نتبع نور العقل وأن نرى أن الله هو السبب الوحيد لكل لذّاتنا، نصير بعد إبطال إحساسنا بأن إرادتنا تتسبب في حركة أطرافنا، بواسطة الانتصاب غير المتعمد والانتصاب الفاشل، في وضع يسمح لنا بأن نتبع نور العقل وأن نرى أن الله هو السبب الوحيد لجميع حركات أجسادنا.
يكشف الانتصاب غير المتعمد أو الانتصاب الفاشل على قدر من فقد المرء لقدرته على التحكم في جسده، ولعل ذلك ما دفع القديس أوجستين (ت. 430) إلى خلوصه إلى القول بأن معصية القضيب لنا هي العقوبة التي عوقبنا بها على معصية آدم.[108] يكشف الانتصاب غير المتعمد أو الانتصاب الفاشل بجلاء عن تضيق نطاق الأسباب العرضية المتاحة لنا، أي فقدنا المزيد من قدرتنا على أجسادنا، لكن هذا الفقد العارض للسيطرة على القضيب يعدّ نظيرا ما بعد سقوطي للقدرة الاستثنائية التي تمتع بها آدم على جسده قبل السقوط: إذ يسوغ القول بأن النتيجة المباشرة للإنتصاب غير المتعمد أو الانتصاب الفاشل تعادل، من الناحية المعرفية، النتيجة المباشرة لاستعمال آدم للامتياز النفسي-الجسدي الذي كان يتمتع به قبل الخطيئة―ففي كلا الحالتين، يُفتَح لنا الباب لكي نتبع، طوعا، نور العقل، لكي نتبين أن الله هو خيرنا الحق، هو السبب الوحيد للذاتنا وحركات أجسادنا، هو الوحيد القادر على التأثير علينا، ولذا علينا أن نحبه وحده دون سواه. وبينما فُتِح هذا الباب لآدم كلما أخرس حواسه وشهادتها المناقضة لنور العقل، يُفتَح لنا هذا الباب كلما جعلنا الله نحس بأحاسيس تبطل تلك الأحاسيس المناقضة لنور العقل، أي التي لا يسعنا إلا أن نحس بها نتيجة لعدم إخراس آدام لحواسه أثناء أكله من الشجرة، ولعدم اتباعه حينها لنور العقل. لأننا فقدنا قدرتنا على أجسادنا، أي القدرة على فصل لُبّ دماغنا عن بقية الجسد، ومن ثمّ إخراس حواسنا، كان لا بد من المزيد من الفقد لقدرتنا على أجسادنا، لكي نتأثر بـ«نعمة الاستنارة». وعليه ليس الانتصاب غير المتعمد أو الانتصاب الفاشل «عقوبة عادلة،»[109] وإنما تجلي لإبطال الله لتأثير أول البشر علينا؛ لإرادته هدايتنا إلى مذهب المناسبة. إن الانتصاب الفاشل أو الانتصاب غير المتعمد، مثل «نعمة الشعور»، فرصة، يتيحها الله لنا بفضله أحيانا، لكي نتبين، طوعا، أنه السبب الحقيقي الوحيد؛ لكي نحبه من خلال نور العقل؛ لكي نترك فلسفة الحية (سبب غواية آدم وأكله من الشجرة) ونعتقد فلسفة المناسبة من جديد.
بحسب مالبرانش، نحن نسكن، منذ معصية آدم، «حطام، خرائب عالم أكثر كمالا.»[110] ولأنه انهار إلى أنقاض بسبب خطيئة أول البشر، لا يختلف هذا العالم عن الأهرام المصرية، التي وصفها إميل تشارتيه بأنها «نُصب مشيدة كأنقاض.»[111] وعلى الإعتراض القائل بأن هذا العالم باعتباره «مسكن العصاة» هو «بناء مهجور»، سيردّ مالبرانش بالحجة القائلة بأن العالم المستقبلي (الأخروي)، وليس العالم الحاضر (الدنيوي)، هو موضوع الخلق الحقيقي؛[112] فالعالم الحاضر ليس سوى مرحلة تمهيدية في سبيل تشييد المعبد الأبدي، الذي لن يسكنه إلا الأنفس التي نجت بفضل الله ورحمته. ومثل قوانين الطبيعة، قوانين توزيع النعمة (الفضل والرحمة والعفو) عامة وعمياء.[113] فكما أن بساطة قوانين الطبيعة وعموميتها هي السبب في أن المطر لا يهطل على «الأرض المبذورة التي تحتاجه» فحسب وإنما «على البحر الذي لا يحتاجه» أيضا، بساطة قوانين النعمة وعموميتها هي السبب في أن «مطر الرحمة» أو «المطر السماوي» لا يهطل على «القلوب الطيبة» فحسب وإنما على «القلوب القاسية» أيضا.[114] ولأن النعمة توزع على الجميع بغض النظر تماما عن مدى فسادهم، غالبا ما تكون كمية النعمة المسبغة أقل مما نحتاج فلا تجعلنا ننصرف عن حب الأجساد إلى حب الله وبذلك تذهب سدى، أو أكثر مما نحتاج فتجعلنا نستبدل حبنا الأعمى والغريزي للأجساد بحب لا يقل عمى وغريزيه لله. ولذلك يبدو لنا أن الله يهدر النعمة―بسبب بساطة قوانين توزيعها وعموميتها―في بعض الأحيان على الرغم من كل نفاستها.[115] وهكذا، يستمسك إله مذهب المناسبة ببساطة وعمومية القوانين الحاكمة لنجاتنا حتى لو كان الثمن هو هلاك معظمنا. ولأن رمية إله مالبرنش―نعمته التي تُبطل تأثير أول البشر علينا―لا تصيب مرماها بدقة (لا تصل إليه أو تجاوزه) عادة، من المرجح لهذا «الحطام» الذي نسكنه، نحن الآثمين والعصاة، أن يدوم ويبقى كالأهرام التي دامت وبقت تحديدا لأنها شيدت، في الأصل، كأنقاض.
* Miran Božovič, “Malebranche's Occasionalism, or, Philosophy in the Garden of Eden,” in Slavoj Žižek (ed.) Cogito and the Unconscious: Sic 2 (Durham and London: Duke university press, 1998), 149-174.
** فيلسوف سلوفيني معاصر، من أعلام مدرسة ليوبليانا للتحليل النفسي.
[1] نيقولا مالبرانش (ت. 1715)، الفيلسوف واللاهوتي الفرنسي. والدراسة التي بين أيدينا دراسة في مذهبه في السببية، المعروف بالـ Occasionalism، مذهب المناسبة أو الظرف، أو مذهب الاقتران والعادة، كما يُعرف في علم الكلام الإسلامي (الأشعري)، والذي يمكن اختصار لُبّه، على أبسط نحو ممكن، في هذه العبارة التوحيدية: "لا سبب إلا الله." [المترجم]
[2] أو النفس أو الروح. والكلمات الثلاث مستعملة بالتبادل طوال هذه الدراسة وفقا للسياق. [المترجم]
[3] نحن في غنى عن القول أننا نتحدث في هذه الدراسة عن إله مالبرانش، أي عن الإله في مذهب مالبرانش الفلسفي واللاهوتي. [المترجم]
[4] Malebranche, The Search after Truth, preface, xix-xxix.
[5] هذا الحفظ يقتضي، عند مالبرانش، أن الله يعيد خلق العالم في كل لحظة [المترجم]
[6] Nicolas Malebranche, Dialogues on Metaphysics, trans. Willis Doney; in Philosophical Selections, ed. Steven Nadler (Indianapolis: Hackett, 1992), 228-30.
وجميع النقول التالية من هذه الطبعة من المحاورات.
[7] المصدر نفسه، ص 231.
[8] نفسه، ص 231.
[9] نفسه، ص 231.
[10] نفسه، ص 234.
[11] نفسه، ص 233.
[12] أترجم هنا كلمة animal spirits على نحو بالغ التصرف والتساهل بـ"المادة العصبية". ويكفينا أن نعرف التالي في هذا المقام: في الفسيولوجيا العصبية النفسية الديكارتية (الموروثة من جالينيوس ومدرسة الإسكندرية الطبية)، الجسد مجرد آلة تتحكم فيها الروح (النفس). ولكي يتسنى للروح التحكم بالجسد لا بد أن تتصل به، أن تقيم فيه. والموضع الذي تتخذه الروح موطأ ومقاما لها في الجسد هو الغدة الصنوبرية في الدماغ (لُبّ الدماغ). ومن هذا الموضع تتحكم الروح في حركة الجسد وإحساسه. لكن ما هي الوسيلة التي تتحكم من خلالها الروح في الجسد؟ إنها "المادة العصبية"، وهي مادة بالغة الدقة يقطرها الدماغ من الدم، تجرى في الأعصاب لتنقل أوامر الروح إلى جميع أجزاء الجسد. وكلمة spirits مستخدمة هنا بالمعنى الأصلي للكلمة أي هواء (نَفَس تحديدا). ففي فسيولوجيا مدرسة الاسكندرية، يدخل الهواء إلى الرئة ومنه إلى القلب وفيه يتحول إلى الـ vital spirits، "المادة الحيوية"، التي يحملها الدم إلى الدماغ وهناك تتحول إلى الـ animal spirits ، "المادة العصبية". لاحقا، سيكتسب مصطلح animal spirits معاني (نفسية) جديدة، تدور في المجمل حول الدوافع والعواطف الأساسية، التي تحفز الإنسان على الفعل وتدفعه إليه. ونجده بهذا المعنى عند ماركس في رأس المال (مثلا، المجلد الأول، الفصل 13، التعاون). وكذلك عند جون م.كينيز من بعده (في النظرية العامة للتشغيل والفائدة والنقد، مثلا، الكتاب الرابع، الفصل 12، حالة التوقعات طويلة الأجل). [المترجم]
[13] نفسه، ص 233، وما بعدها.
[14] الأخلاط أربعه في نظرية الأخلاط الجالينيوسية كما نعلم: الدم، البلغم، الصفراء، السوداء. [المترجم]
[15] نفسه، ص 234. وانظر أيضا: Malebranche, The Search after Truth, 671.
[16] Malebranche, Dialogues on Metaphysics, 234.
[17] لزوم حصول هذا التوفيق بين إرادة الله وإرادة الإنسان في كل مرة، هو أحد الانتقادات التي وجهها توما الإكويني (ت. 1274)، فيما سلف، ضد مذهب المناسبة. [المترجم]
[18] ومن هنا اسم المذهب: "المناسبة"؛ رغبتنا في تحريك ذراعنا ليست سبب تحريك ذراعنا وإنما هي مجرد "مناسبة" لحصول تأثير السبب الحقيقي الوحيد لتحريك ذراعنا وهو إرادة الله. أو بلغة أبي حامد الغزالي (ت. 1111): تحرك الذراع عند إرادة المرء تحريكه لا يدل على أنه قد تحرك بسببها؛ يقول: «فقد تبين أن الوجود عند الشيء، لا يدل على أنه موجود به» الغزالي، تهافت الفلاسفة، تحقيق، سليمان دنيا (القاهرة: دار المعارف، الطبعة الرابعة)، ص 241. [المترجم]
[19] المصدر نفسه، ص 231.
[20] Malebranche, Entretien d'un philosophe chretien et d'un philosophe chino is, in Oeuvres completes de Malebranche, ed. Andre Robinet (Paris: Vrin, 1986), 15:29.
[21] Malebranche, The Search after Truth, 366.
[22] المصدر نفسه، ص 449.
[23] نفسه، ص 231.
[24] نفسه، ص 213.
[25] Malebranche, Dialogues on Metaphysics, 154.
[26] Malebranche, Meditations chretiennes et metaphysiques, in Oeuvres completes, 10:144; Reponse it la troisieme lettre de M. Arnauld, in Oeuvres completes, 8-9:959.
[27] Malebranche, Treatise on Nature and Grace, trans. Patrick Riley (Oxford: Clarendon Press, 1992), II4; Elucidations, 613- 15·
[28] Malebranche, Entretien d'un philosophe chretien, 15:23.
[29] Malebranche, The Search after Truth, 231.
[30] Malebranche, Meditations chretiennes et metaphysiques, 10:125.
[31] Malebranche, The Search after Truth, 213.
[32] المصدر نفسه، ص 213.
[33] المصدر نفسه، ص 218.
[34] Malebranche, Dialogues on Metaphysics, 170.
[35] Malebranche, Conversations chretiennes, 4:159.
[36] Malebranche, Dialogues on Metaphysics, 237.
[37] Malebranche, The Search after Truth, 359; Meditations chretiennes et metaphysiques, 10:190; Entretiens sur la mort, in Oeuvres completes, 12-13:412.
[38] Malebranche, Meditations chretiennes et metaphysiques, 10:104-5.
[39] المصدر نفسه، ص 113.
[40] Malebranche, Dialogues on Metaphysics, 190-92.
[41] Malebranche, Conversations chretiennes, 4:39; Entretiens sur la mort,12-13AI2-13·
[42] Malebranche, Dialogues on Metaphysics, 195.
[43] المصدر نفسه، ص 192.
[44] Malebranche, Elucidations, 580.
[45] Malebranche, Dialogues on Metaphysics, 195.
[46] المصدر نفسه، ص 193.
[47] Malebranche, Treatise on Nature and Grace, 189.
[48] Malebranche, Dialogues on Metaphysics, 195.
[49] Malebranche, Conversations chretiennes, 4:37.
[50] Malebranche, Meditations chretiennes et metaphysiques, 10:154.
[51] Malebranche, Treatise on Nature and Grace, 181.
[52] Malebranche, Conversations chretiennes, 4:88; see also The Search after Truth, 365.
[53] Malebranche, The Search after Truth, 449.
[54] تقع النشرة الفرنسية لمؤلفات مالبرانش الكاملة في 20 مجلد كبير. [المترجم]
[55] Malebranche, Meditations chretiennes et metaphysiques, 10:140.
[56] Malebranche, Dialogues on Metaphysics, 176.
[57] Malebranche, Dialogues on Metaphysics, 193; see also Entretiens sur la mort, 12-13:393.
[58] للمرء أن يستحضر هنا آيتي سورة التين: «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ.» [المترجم]
[59] Malebranche, The Search after Truth, 339.
[60] Malebranche, Conversations chretiennes, 4:98-105.
[61] Malebranche, Entretiens sur la metaphysique et sur la religion, in Oeuvres completes, 12-13:289.
[62] Malebranche, Dialogues on Metaphysics, 234.
[63] المصدر نفسه، ص 193.
[64] ترجم لينون وأولسكامب عبارة:
“cette Puissance Qu’ils [les sens] ont de tyrannizer des pecheurs” (Oeuvres completes, 1: 75)،
على نحو غير دقيق بعض الشيء بـ “their power to victimizing sinners” ]والأدق أن نقول أن الحواس تستبد وليس تجني[؛ انظر:
The Search after Truth, 22.
[65] المصدر نفسه، ص 22.
[66] موطئ الروح ومقعدها، وهو الغدة الصنوبرية وفقا للفسيولوجيا الديكارتية، كما أسلفنا. [المترجم]
[67] Malebranche, Dialogues on Metaphysics, 217.
[68] Malebranche, Conversations chretiennes, 4:40.
[69] Malebranche, Dialogues on Metaphysics, 218.
[70] المصدر نفسه، ص 194.
[71] Malebranche, Meditations chretiennes et mttaphysiques, 10:113; Dialogues on Metaphysics, 193.
[72] Ferdinand Alquie, Le Cartesianisme de Malebranche (Paris: J. Vrin, 1974), 470.
[73] فيلسوف فرنسي (ت. 1985)، ديكارتي، وسوريالي (صديق مقرب لأندريه برِتون). أشرف على أطروحة دولوز عن سبينوزا. [المترجم]
[74] Malebranche, Dialogues on Metaphysics, 194; see also Entretiens sur la mort, 12-1):386, and Conversations chretiennes, 4:102.
[75] Malebranche, Dialogues on Metaphysics, 218.
[76] Malebranche, Entretien d'un philosophe chretien, 15:29.
[77] التفرقة بين الإرادة العامة والإرادة الخاصة أساسية في مذهب مالبرانش برمته، خاصة في نظريته عن العدل الإلهي (الثيوديسا بمصطلح لايبنتز؛ مشكلة الشر). يرى مالبرانش أن الله يتصرف―أو قل يدبر أمر العالم وأمر رحمته―وفقا لإرادة عامة وليس إرادات خاصة إلا فيما ندر (كما في حالة المعجزات). وبهذه الإرادة العامة، أرسى القوانين التي تحكم الطبيعة (قوانين الحركة، وقوانين ارتباط الروح بالجسد) وتحكم توزيعه لرحمته. وهذه القوانين (الطرق) تتسم بأنها عامة وبسيطة أي: قليلة العدد وناجعة وثابتة لا تتغير. لكن لماذا ينبغي أن يتصرف الله وفق إرادة عامة، وفق قوانين عامة وبسيطة؟ لأن هذا مقتضى كمال حكمته (علمه). فالتصرف وفق إرادات خاصة وقوانين خاصة هو شأن المخلوق محدود العلم وليس الخالق كلي العلم. ولأن الله يحب ذاته ويحب حكمته، لا يجيز لنفسه أن يتصرف بما يخالف هذه الحكمة، ولأن التصرف وفقا لقوانين عامة وبسيطة هو مقتضى هذه الحكمة، لا يتصرف الله إلا وفقها مهما كانت تبعات ذلك. فشرور العالم الطبيعية (الزلازل والسيول والجفاف والتشوهات، إلخ) والأخلاقية (طغيان الفسقة وإفسادهم في الأرض، إلخ) تبعات لهذه القوانين العامة والبسيطة، "يسمح" الله بحدوثها (دون أن يريدها بإرادة خاصة) على الرغم من إحاطته علما بها وقدرته على منعها، لماذا؟ لأن محوها سيقتضي منه أن يعقد قوانينه (يزيد عددها ويغيرها ويخصصها) وهذا منافٍ لكمال حكمته، ومنافاة حكمته هي الشيء الوحيد الذي ألزم الله نفسه بعدم فعله. أو بعبارة أخرى، لو كان ثمن خلق عالم أكمل من هذا العالم (بلا شرور) هو تخلي الله عن إرادته العامة وقوانينه العامة، عن بساطة طرقه، فلن يخلقه الله لأن ذلك ينافي كماله. وهنا نعود إلى السؤال الأشد جذرية: لماذا خلق الله العالم أصلا؟ يرى مالبرانش (مخالفا لسبينوزا) أن خلق الله للعالم لم يكن ضروريا ولا محتوما. فلأن الله كامل بذاته ومستغنٍ بها، لم يكن بحاجة قط إلى خلق العالم. لكنه خلقه في نهاية المطاف، فلماذا؟ خلق الله العالم لكي تتجلى صفات كماله من خلاله، أي لكي يحمد ذاته ويمجدها ويعظمها، أي أن الله قد خلق العالم لأنه يحب ذاته. أو بعبارة أخرى، لقد خلق الله العالم لنفسه وليس للإنسان، وبالتالي ما يهمه فيه أن يتصرف وفقا لكمال ذاته ومقتضى حكمته، بغض النظر عن تبعات ذلك. ولذلك يتصرف وفقا لقوانين عامة حتى لو كان الثمن هو كل ما نعتبره شرا في هذا العالم. [المترجم]
[78] Malebranche, Meditations chretiennes et metaphysiques, 10:73.
[79] Malebranche, Traite de la nature et de la grace, in Oeuvres completes, 5:18; Reflexions sur la premotion physique, in Oeuvres completes, 16:u8; and Entretiens sur la mort, 12-13:387.
[80] Malebranche, Elucidations, 564.
[81] أعتمد هنا على كتاب فردِنو ألكي سابق الذكر Le Cartesianisme de Malebranche، ص 469-470.
[82] Malebranche, Elucidations, 564.
[83] المصدر نفسه.
[84] المصدر نفسه.
[85] Malebranche, Conversations chretiennes, 4:95.
[86] المصدر نفسه، ص 97.
[87] نفسه.
[88] Malebranche, Elucidations, 581.
[89] Malebranche, Dialogues on Metaphysics, 217.
[90] Malebranche, Conversations chretiennes, 4:98.
[91] انظر المصدر نفسه، ص 98-99.
[92] نفسه، ص 99.
[93] Malebranche, Dialogues on Metaphysics, 237.
[94] Malebranche, Conversations chretiennes, 4:99.
[95] Malebranche, The Search after Truth, 123.
[96] Malebranche, Conversations chretiennes, 4:99.
[97] Malebranche, Conversations chretiennes, 4:99-100; The Search after Truth, 123.
[98] Malebranche, Treatise on Nature and Grace, 151.
[99] المصدر نفسه، ص 151.
[100] نفسه.
[101] نفسه، ص 192.
[102] فخارج هذا النطاق، يجعل الله―كما ورد سلفا―سبل الطاعة «شاقة ومؤلمة» وسبل المعصية «سارة وميسورة.» وهذا هو التناقض الفظيع الذي يشعر به فيلسوف المناسبة حيال سلوك إله معه. [المترجم]
[103] Malebranche, Treatise on Nature and Grace,154; Meditations chretiennes et metaphysiques, 10:153·
[104] Malebranche, Meditations chretiennes et metaphysiques, 10:155.
[105] Malebranche, Treatise on Nature and Grace, 190.
[106] Malebranche, Elucidations, 670; Meditations chretiennes et metaphysiques, 10:12
[107] عن "عجزنا السببي"، على غرار عجزنا الجنسي، إذا جاز القول. [المترجم]
[108] Augustine, De Nuptiis et Concupiscentia, II, xxxi, 53, in Migne, Patrologia Latina, 44:467-68; The City of God, X1V, 24, in Political Writings, trans. Michael W Tkacz and Douglas Kries (Indianapolis: Hackett, 1994), 107-8; Michel de Montaigne, "Of the Power of the Imagination," in Complete Essays of Montaigne, 72-73.
[109] Augustine, De Nuptiis et Concupiscentia, 44:468.
[110] Malebranche, Meditations chretiennes et metaphysiques, 1073.
[111] مذكور في:
Roger Caillois, Meduse et Compagnie (Paris: Editions Gallimard, 1960), 45.
[112] Malebranche, Meditations chretiennes et metaphysiques, 1073.
[113] من أركان المعتقد المسيحي، كما نعلم، أنّ لا أحد من البشر يستحق النجاة بعمله، فلن ينجو أي أحد إلا بفضل الله ورحمته المحضة (ونجد لهذا المبدأ صدى كبيرا في المعتقد الإسلامي. خذ هذا الحديث الشهير―الذي نجده في مسند أحمد وحلية الأولياء لأبي نعيم والترغيب والترهيب للمنذري وغيرها―على سبيل المثال: «لن يَدخُلَ الجَنَّةَ أحَدٌ إلّا برَحْمةِ اللهِ، قُلْنا: يا رسولَ اللهِ، ولا أنتَ؟ قال: ولا أنا، إلّا أنْ يَتَغمَّدنيَ اللهُ برَحمَتِه.»؛ «ما منكُم من أحدٍ ينجِّيهِ عملُه قالَوا: ولا أنتَ يا رسولَ اللهِ قال ولا أنا إلّا أن يتغمَّدنِيَ اللهُ برحمتِهِ.»). لكن تظهر هنا معضلة: وفقا لنصوص العهد الجديد يريد الله أن ينجي جميع البشر، ومع ذلك توجد أنفس هالكة لن تدخل في رحمته، فكيف نحل هذا الإشكال؟ الحل الذي قدمه خصم مالبرانش الأساسي، أنطوان أرنولد (تبعا للمدرسة الينسينية)، هو أن المنصوص عليه في الكتاب المقدس هو أن الله يريد أن ينجي جميع أجناس البشر وليس جميع أفراد البشر. وأن الله يصطفي من يشاء لنيل فضله؛ أن الله يدعو الجميع إلى الدخول في رحمته لكنه لا يهبها إلا لمن يصطفيه منهم. بالطبع يرفض مالبرانش هذا القول لأنه يقتضي تصرف الله وفق إرادة خاصة (اختصاص الله برحمته أشخاصا بأعيانهم دون غيرهم. ويرى في مقابل ذلك أن قوانين تدبير رحمة الله، تماما كقوانين الطبيعة، لا بد أن تكون عامة وبسيطة، لأن ذلك مقتضى كمال الله وحكمته. ولذلك سيوزع الله رحمته بلا تمييز لحال كل شخص على حدة، بغض النظر عن تبعات ذلك؛ سيلتزم الله بعمومية إرادته وبساطة قوانينه حتى لو هلك أكثر الناس. وذلك لأن الله (وكما هو حاله مع خلق العالم) يهب رحمته لكي يتعظم ويتمجد، لكي يجلي آثار صفات كماله، بغض النظر عن مصير آحاد الناس. [المترجم]
[114] Malebranche, Treatise on Nature and Grace, 129.
[115] Jon Elster, Leibniz et la formation de l'esprit capitaliste (Paris: Aubier, 1975), 192.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط الخاصة بنا وملفات تعريف الارتباط الخاصة بالجهات الخارجية حتى نتمكن من عرض هذا الموقع وفهم كيفية استخدامه بشكل أفضل ، بهدف تحسين الخدمات التي نقدمها. إذا واصلت التصفح ، فإننا نعتبر أنك قبلت ملفات تعريف الارتباط.