الكَذِب علىٰ أريكة التحليل النفسي

2023-08-24

الكَذِب  علىٰ أريكة التحليل النفسي

* ** :1.

على أي نحو يمكن للتحليل النفسي، كإطار نظري، أن يساعدنا على فَهْم الصِلة الوثيقة بين الثقافة والكَذِب؟ أو بعبارة أدق، ما الذي يمكن للتحليل النفسي قوله عن ضروب الكَذِب المتأصلة في ثقافتنا أو في الثقافة بعامة،كـ"الكَذِبات المتلطِّفة" و"الكَذِبات البيضاء"، أي الكذب على سبيل اللُطّف والمجاملة والذوق والأدب؟

دعونا نبدأ بما يمكن اعتباره "حقيقة أساسية": لا يمكن للمرء أن يتناول مسألة الكَذِب (الباطل) بمعزل عن مسألة الصِدق (الحق، الحقيقة).[1] ولا يرجع ذلك إلى أنهما يقترنان على الدوام كزوج من المتناقضات، يدعمان بعضهما البعض كوجهين لنفس العملة الكلامية. فعلاقتهما أشد أسرا للاهتمام من مجرد ذلك، كما أنها ليست علاقة متكافئة أو متناظرة بأي حال من الأحوال. فبقدرٍ ما، نشأت "فِنومِنولوجيا الكَذِب" الثقافية عن مشكلة متأصلة في الصِدق نفسه. فلو لم يكن الصِدق مُشكِلا في نفسه، ولو كان من الممكن قول "الحق، الحق كله، ولا شيء إلا الحق،" لمَا احتاجنا قط إلى مناقشة ثقافات الكَذِب (أو قل الكَذِب الثقافي). أنا لا أحاول، على الإطلاق، أن ألعب هنا اللعبة النسبية أو السوفسطائية القديمة: "كيف يمكن لنا أن نتكلم عن الكَذِب إذا كنا لا نعرف ما هو الصِدق؟ ماذا لو أننا نقول الحق بتفوهنا بما نظنه باطلا؟ كيف يمكن لطبيب، على سبيل المثال، أن يخبر مريض بـ"الحق كله" فيما يخص مرضه، فيما يخص سبب أعراضه، وآثاره المرجح وقوعها؟ فهو نفسه لا يعرف، يقينا، كل ما ينبغي معرفته، وحتى لو كان يعرف...إلخ، إلخ." أنا لا أوعز هنا إلى أنّ علينا أن نتدبر في هذا الضرب من الأسئلة لنخلص، في نهاية المطاف، إلى تلك الحكمة الشَكّية: "لكن ما هو الحق وما هو الكذب؟" ففي واقع الأمر، التفكير في هذا الضرب من الأسئلة اللُجيّة سحيقة الغور ليس له إلا تأثير بسيط للغاية على كلامنا اليومي. إنّ ما أريد أن أبينه هنا هو أمر آخر. أولا، الصدق والكذب ليسا متكافئين. فلو كان الكَذِب هو نقيض الصِدق، فإن ذلك لا ينطبق إلا على جزء ضئيل للغاية مما نسميه كذِبا، جزء ليس له أهمية كبيرة في مناقشة "ثقافات الكَذِب" التي تشغلنا هنا. الصدق والكَذِب ليسا متكافئين لأن بُعد الصدق أشد أساسية من بُعد الكَذِب: لا لسبب لاهوتي أو أخلاقي وإنما بسبب طبيعة الكلام نفسها. فلا يمكن أن يوجد كلام (سواء كان حقا أو باطلا) غير مُمَوضَع في بُعد الصدق. دعوني أستشهد بچاك ألان مِلير الذي عبّر عن المقصود هنا بأوجز ما يكون:

يوجد بلا شك صدق ليس سوى نقيضا للكذب، لكن يوجد صدق آخر يحفظ الاثنين، الصدق والكَذِب، ويحملهما، مرتبط بالتكلم نفسه؛ لأنه لا يمكن للمرء أن يقول أي شيء من دون أن يطرحه كصدق، كحق. وحتى عندما أقول: "أنا أكذَب،" فإن ما أقوله حينها في واقع الأمر هو: "الحق أقول لكم، أنا أكذِب"―ولهذا، الصدق ليس نقيض الكذِب. أو يمكننا أن نقول، مرة أخرى، أنه يوجد صِدقين: الأول هو نقيض الكَذِب، والثاني هو ما يحمل الصِدق والكَذِب كليهما على حد السواء.[2]

أو بعبارة أخرى، يحتاج الكَذِب إلى أرضية من الصِدق ليقوم عليها، بينما لا يحتاج الصدق إلى أرضية من الكذِب ليقوم عليها. ولذلك ينبغي التمييز بين الصِدق والصِحة (الدقة). ولهذه التثنية للصدق (إلى صدق وصِحة) أثر كبير على الكذِب، فهي تشطر الكَذِب نفسه إلى شطرين: إذ يسع المرء أن يقول أنه ينبغي التمييز  أيضا بين الكَذِب والخطأ (الباطل)، ينبغي عدم اختزال الكذب في الخطأ أو المماهاة بينهما. لكن، ولأكرر مرة أخرى، هذه التثنية للكذب (إلى كذِب وخطأ) لا تتكافأ مع تثنية الصِدق (إلى صدق وصحة). الكذِبة شيء مختلف عن الخطأ أو الباطل، إنها أثر الصدق الذي يمكن للباطل خلقه في مستوى الكلام، أي في مستوى التفوه بالباطل ]لأن الكذِبة لا تكون كذِبة إلا إذا صُدِقت؛ الكذِبة هي باطل مُصَدّق.

ولشرح هذا التشابك (غير المتكافئ) بين الصدق والكَذِب بشيء من التفصيل، دعونا نضرب مثالا باستراتيجيتين غالبا ما يقابلهما المرء في التحليل النفسي وفي الكلام اليومي، وهما: "الكَذِب عن طريق قول الحق" و"قول الحق عن طريق الكذب". ولم يكن لهذين الاستراتيجيتين أن يكونا ممكنتين لولا أن الصدق والكذب غير متكافئين، وأن الصدق موجود في جانب الصدق وجانب الكذب في الوقت عينه. فـ"الكذِب عن طريق قول الحق" ليس سوى "الكذب عن طريق تحري الصحة،" أي الكذِب بالتفوه بشيء صحيح في حد ذاته. "وقول الحق عن طريق الكذب" ليس سوى "قول الحق عن طريق تحري الخطأ،" أي الصِدق بالتفوه بشيء خاطئ في حد ذاته.

وهاتان الاستراتيجيتان هما أيضا مثالين بالغي الجلاء على خاصية أخرى سيتعين علينا تناولها في نقاشنا، وهي: عندما نتكلم، وخاصة عندما يكون الصدق والكذِب على المحك، نحن نأخذ موقع  الآخر، مخاطَبنا (أي مدى معرفته بما نتكلم عنه، وتوقعاته مننا) بعين الاعتبار.

يخبرنا فرويد أنه غالبا ما يحدث أثناء التحليل أن يقول العُصابي المُوَسوِس (obsessive)، الذي أضحى على قدر من المعرفة بمعنى أعراضه، للمحلِل النفسي شيئا من قبيل التالي: «لقد استحوذت علي فكرة وسواسية جديدة...وخطر لي على الفور أنها قد تعنى كذا وكذا. لكن لا؛ لا يمكن لتأويلي هذا أن يكون صحيحا، وإلا لَما خطر لي.»[3] وهذا مثال شيق على استراتيجية "الكذب عن طريق قول الحق." إذ استعمل المريض هنا معرفته بالتحليل النفسي على النحو الذي يمكّنه من إنكار معنى معين لعَرَضِه (الكذِب: «لا يمكن لتأويلي هذا أن يكون صحيحا») تحديدا عن طريق الإقرار به جهرا (قول الحق: «أنها قد تعني كذا وكذا»)، معوّلا في ذلك على أن المحلِل سيرتاب في تأويل قُدِّم له على طبق، إذا جاز التعبير. والمنطق الذي يتبعه المريض هنا هو: "إذا كان بمقدوري أن أقول ذلك صراحة، فلا يمكن له أن يكون مكبوتا―أو هذا ما سيظنه مُحلِلي النفسي على الأقل" [وبالتالي بنصي عليه صراحة سيصرف المحلِل نظره عنه].

أما الاستراتيجية الأخرى "قول الحق عن طريق الكذِب"، والتي تأخذ أيضا في عين الاعتبار معرفة المخاطَب (المحلِل النفسي هنا)، فنجد مثالا ممتازا عليها في تحليل فرويد لـ"دورا". في مرحلة معينة من تحليلها، تركزت أحلام "دورا" وتأملاتها على شيء بعينه، وهو:  Schmuckkästchen، أي علبة المجوهرات. وعندما ألمح إليها فرويد أن هذه الكلمة تُستعمل غالبا للإشارة إلى فرج المرأة، ردت عليه قائلة: «لقد عرفتُ أنكَ ستقول ذلك.» فرد عليها بحذق قائلا: «أجل، لقد عرفتي، أليس كذلك؟» (أو حرفيا: "ما تريدين قوله هو أنكِ قد عرفتي أن كلمة علبة المجوهرات تحيل على فرج المرأة.") بعبارة أخرى، لقد استعملت دورا معرفتها بالتحليل النفسي، وكما هو الحال غالبا مع الهستيريين، لقول شيء حقيقي (أنها تعرف أن علبة المجوهرات تحيل على فرج المرأة) عن طريق قول شيء آخر باطل (أنها عرفت أن فرويد سيقول لها أن علبة المجوهرات تحيل على فرج المرأة).[4]

لكن علينا ألا نغفل عن شيء مهم في هذين المثالين: إذا كان هذا الضرب من "الكذِب عن طريق قول الحق" و"قول الحق عن طريق الكذِب" يكشف بجلاء عن آلية "أخذ الآخر بعين الاعتبار"، فلا ينبغي لذلك أن يدفعنا إلى اختزال الوضع في علاقة ثنائية (محضة) بين شخصين. أو بعبارة أخرى، يوجد هنا أكثر من آخر واحد. إذ لا يمكن بأي حال من الأحوال اختزال الكَذِب في علاقة ثنائية بين الشخص الذي يتفوه بالرسالة ("الكاذبة") والشخص الذي يتلقاها. لأنه حينما يخاطب شخصان بعضهما البعض باستخدام الدوال اللغوية، يحضر طرف ثالث لا محالة. فعندما آخذ الآخر بعين الاعتبار (أي عندما آخذ معرفته ومعتقداته ومصطلحاته، ... إلخ بعين الاعتبار)، فإن ما آخذه حينها بعين الاعتبار هو، في حقيقة الأمر، موقفه إزاء هذا الطرف الثالث. وهذا واضح للغاية في المثالين المذكورين آنفا، "دورا" واستعمالها لكلمة علبة المجوهرات، والموسوس الذي يزعم أن شيئا ما لا يمكن له أن يكون صحيحا لأنه يناقض المعرفة التحليلية النفسية. أو بعبارة أخرى، حينما أكذب على الآخر الصغير أنا أفعل ذلك دائما من خلال الآخر الكبير.[5] ويسوغ للمرء أن يقول أنه لكي تجد الكذِبة قبولا عند الآخر الصغير (أي لكي تنطلي عليه و"يبتلعها") لا بد أن تحظى بالقبول عند الآخر الكبير. أو بعبارة أدق، لكي "يبتلع" مُخاطبي كذِبتي لا يلزم أن يصدقني أنا ببساطة، وإنما يلزم أن يصدق أن الآخر الكبير يصدق كذبتي. وعليه، يتطلب الكَذِب بنية الآخر الكبير (وتأييده) لكي يصير ممكنا. وهذا هو عين ما يرمي إليه جاك لاكان بتشديده على أن موضع الآخر الكبير هو موضع الحقيقة (التي ليست نقيض الباطل وإنما التي تدعم قول الحق وقول الباطل كليهما).

Figur E2

2.

دعونا ننتقل الآن إلى السِمة الهامة الأخرى التي تحكم العلاقة بين الصدق والكذِب. في مستوى الكلام، الصدق أشد أساسية من الكذِب (كما بيّنا أعلاه)، لكن علاوة على ذلك، الصِدق مُشكِلّ في نفسه، مسكون باستحالة متأصلة فيه. ويعبّر لاكان عن هذه الاستحالة بعبارته الشهيرة: ليست الحقيقة شيئا كاملا أو تاما (pas-toute)، وبقوله: يستحيل قول "الحق كله ولا شيء إلا الحق."[6] لكن ليس لهذا علاقة بالاعتراض البرجماتي أو العملي المتكرر على هذا الأمر بقول "الحق كله". أي ليس له علاقة بالزعم القائل بأنه لا يمكننا قط أن نقول الحقيقة كلها لأنه لا يمكننا قط أن نعرف الحقيقة كلها، ولا بالزعم القائل أنه لا يمكننا حتى قول كل ما نعرفه بأكمله. فالأطروحة اللاكانيّة ترمي إلى شيء مغاير لذلك تماما، شيء له صلة بما قلناه آنفا، وهو: ما يجعل الحقيقة غير تامة أو كاملة هو أنها الأرضية التي يقوم عليها الكلام بحد ذاته (صدقا كان أم كذبا)، لكنها في الوقت عينه شيء مُتضَمن في الكلام نفسه، ولا يمكن فصلها عنه. أو بعبارة أدق، ما يجعل الحقيقة غير تامة هو التالي: في نطاق لغتنا المتكلَمه، يستحيل تعيين حدود هذين المستويين اللذين تعمل فيهما الحقيقة والتعامل معهما على نحو منفصل (كونها أساس الكلام وكونها جزء لا ينفصل عنه). والحال، أن المناطقة قد خلصوا، بمعزل عن لاكان والتحليل النفسي، إلى نفس الاستنتاج. فعلى سبيل المثال، بيّن ألفريد تارسكي، وبكلمات چاك ألان مِلير، أنه:

لا يمكن تعيين الحقيقة ضمن اللغة التي يتكلم بها المرء: فلكي تُعيّن يجب على المرء أن يقفز إلى خارج هذه اللغة، كما هو الحال في اللغات الصورية (الشكلية) التي تُرَقّم وتقسَم إلى طبقات أو مستويات(كأن نضع بعد المستوى ن+1 حقيقة المستوى ن). لكن هذا الفصل بين المستويات، الذي يسميه كارناب بالـ"ميتا-لغة"، لا يمكن تنفيذه في اللغة التي نتكلمها، لأنها ليست مصورنة.[7]   

وهذا هو عين المقصود من قول جاك لاكان "لا توجد ميتا-لغة" [لغة خارج اللغة، لغة للغة، أي لغة للكلام عن أي لغة أخرى]، وأيضا من قوله أن الحقيقة ليست تامة. ففي اللغة الطبيعية، وعلى العكس من اللغة الصورية، حقيقة المستوى-ن موجودة عند المستوى-ن عينه وليس في مستوى منفصل عنه، فحقيقة ما نقول هي جزء مما نقول، وهذا ما يمنعها من أن تكون شيئا تاما ومغلقا.

لكن أن نقول أن الحقيقة ليست تامة لا يفيد أنه لا يمكننا قول كل ما ينبغي قوله، أن شيئا ما يظل ناقصا على الدوام، شيئ لا يمكن قوله أو يُغفل دوما عن قوله. وإنما تكمن المشكلة في عكس ذلك: بقولنا الحقيقة، نقول ما هو أكثر من الحقيقة. ولذلك، ما يعترض طريق إمكانية قول "الحق كله"، ليس شيئا ناقصا وإنما شيئا زائدا، فائض ملتصق بما نقوله أيّما كان. أو بعبارة أخرى، لا يمكن فصل مستوى النطق أو اللفظ [أي التلفظ بالكلمات وطريقة قولها] عن مستوى المنطوق أو الملفوظ [أي دلالة هذه الكلمات ومعناها]، لأنه ملتصق به على نحو لازب. فلو لم تكن الحقيقة مكونا أساسيا يقوم عليه الكلام، لو لم تكن بُعدا متأصلا في الكلام، أي لو كان من الممكن موضعتها في مكان ما خارج الكلام، لَما وجدنا أي مشكلة في "قول الحق، الحق كله، ولا شيء سوى الحق". لكن لأن الحال ليست هذه (ولأن الكلام ليس مجرد أداة يمكننا استعمالها للتعبير عما نريد التعبير عنه)، تتعثر الحقيقة وتكبو لازما. وعلينا أن ننظر في مشكلة الكذب الثقافي من هذه الجهة تحديدا، أي أن نعتبر هذا التعثر المتأصل في الحقيقة سبب هذه المشكلة أو باعث عليها على أقل تقدير (فالكذب الثقافي موجود بغرض احتواء هذا التعثر والتغلب عليه). ففي أغلب الأحيان، يكون الكذب على سبيل اللطف والأدب طريقة لقول ما على المحك في موقف بعينه أفضل من قول الحقيقة المجردة صراحة. ويرجع ذلك تحديدا إلى أن مستوى النطق ليس مجرد وعاء حقيقة فارغ يحمل كل قول نقوله (إذ أن كل قول نقوله يبدأ ضمنيا بـ"الحق أقول لكم كذا"، حتى لو كنت أقول "أنا أكذب"، كما سلف ونقلنا عن مِلير)، وإنما هو الباب الذي تلج منه الذات الناطقة إلى القول المنطوق. ففي مستوى النطق تتجلى، على سبيل المثال، عواطف الشخص الناطق ومشاعره.

ولقد أشار فرويد إلى هذه المشكلة في موضع من أحد نصوصه السجالية النادرة، وهو "عن تاريخ حركة التحليل النفسي"، إذ يقول:

تكشف لنا التجربة عن أن قِلة من الناس قادرة على التزام الأدب، ناهيكم عن الموضوعية، في النزاع العلمي، ولطالما تركت الخصومات العلمية في نفسي انطباعا بغيضا. ولعله قد أسيئ فهم موقفي من هذه الخصومات؛ لعل الناس قد ظنوا أنني شخص بالغ اللطف والطيبة أو شخص يسهل ترهيبه، لا حاجة إلى أخذ ردّة فعله بعين الاعتبار. وهذه غلطة؛ فبمقدوري أن أغضب وأطعن كأي أحد؛ لكنني لا أمتلك مهارة التعبير عن العاطفة التي أشعر بها بعبارة صالحة للنشر، ولذلك أفضل أن أعتصم بالصمت.[8]

ما الذي يقصده فرويد بـ«التعبير عن العاطفة التي أشعر بها بعبارة صالحة للنشر»؟ ليس المقصود هو كتمها وكظمها، وإنما التعبير عنها على نحو لا يجعلها تطغى على مضمون ما يُقال. وبالتالي لا يصير الحجاج العلمي المفترض مترعا بعبارات من قبيل: "أيها الأبله!"..."يا أحمق!"..."يا غبي!" وعلى ذكر ذلك، يحضر للمرء أن فرويد قد ضرب في تحليله لـ"رجل الجرذان" مثالا ممتازا على حالة يطغى فيها مستوى النطق تماما على مستوى المنطوق. فألفاظ من قبيل "أبله" و"أحمق"  و"غبي" لا تزال تنطوي على صلة متينة بين فحواها وبين الطعن والسب، مما يجعل طغيان النطق على المنطوق أقل وضوحا، لأننا قد نرى أن معنى هذه الكلمات (أي المنطوق) هو السُبّة ببساطة. لكن الحال ليست هذه في تلك الواقعة التي حكاها فرويد من طفولة "رجل الجرذان": حينما كان ولدا صغيرا فعل فعلة رزيلة، فعزم أبوه على ضربه عقابا عليها، وأثناء ما كان يضربه، استعر غضب الولد، وشرع في شتم أبيه. لكن لأنه لا يعرف في هذه السن لغة السب والشتم، راح يرمي أبيه بكل أسماء الأشياء العادية التي خطرت على باله، صارخا: «يا لمبه! يا فوطة! يا طبق!»[9] نجد هنا المثال الأتم حرفية على فحوى عبارة “to call someone names”، أن تسب شخصا (أن تدعوه بالأسماء، حرفيا). ونجد هنا أيضا مثالا ممتازا على قدرة ألفاظ "حميدة" للغاية ("لمبة"، "فوطة"، "طبق") على أن تخلق في مستوى النطق معنى من قبيل: «أنا أكرهك!، أنا أكرهك!، أنا أكرهك!» [في حين أنها لا تعني ذلك في مستوى المنطوق على الإطلاق].

Figure 3.

 

3.

يُستعمل الكذب بداعي اللطف والأدب في العديد من المواقف التي قد تنطوي على تضارب كبير بين النطق والمنطوق. وإليكم مثال على ذلك. هب أنني ألقيت محاضرة في مكان ما، فوجدها بعض الحاضرين مريعة. ومع ذلك، لو عمدت، بعد الفروغ منها، إلى واحد من هؤلاء وسألته مباشرة: ما رأيك في محاضرتي؟ لرد على الأرجح بعبارة من قبيل «حسنا، لقد كانت شيقة». وعلى المرء ألا يتعجل ويسم هذا الرد بأنه ضرب من النفاق. فعلى الرغم من أنه ثمة حد رفيع بين المنافقة والكذب على سبيل اللطف، إلا أنه حد على أي حال، ويفصل بين الإثنين. لكن هب أنه عبّر عن رأيه فيها صراحة وقال لي: «سأخبرك بالحقيقة، محاضرتك غير شيقة بالمرة، إنها مشوشة، ولا تستحق الورق المكتوبة عليه.» (وبالمناسبة، سيجدر بي حينها أن أرد عليه قائلا: «لو كان هذا هو رأيك فيها، فلماذا لم تقل لي ببساطة "حسنا، لقد كانت شيقة"؟ فحينها كنت سأفهم مرادك على أكمل وجه.» أو بعبارة أخرى، أستعير فيها قفشة النُكتة الشهيرة التي أوردها فرويد في كتابه عن النُكت، «لماذا تقول لي أنك ذاهب إلى كراكوف في حين أنك ذاهب إلى كراكوف فعلا؟»)[10] والفرق بين الردّين، اللطيف والصريح أو "الصادق"، هو أن الثاني ردّ جارح بجلاء. لكن الجرح الذي ينطوي عليه هذا الردّ الصريح لا يكمن ببساطة في كون "الحقيقة تجرح"، وذلك لأنه في حالتنا هذه، الردّ اللطيف―«حسنا، لقد كانت شيقة»―ينم بقدر كافٍ من الوضوح عن أن محاضرتي لم تعجبه. فالمرء لا يغتر، في العادة، بهذا النحو من الردود بحيث يظن أن صاحبها قد وجد محاضرتي عظيمة وملهمة حقا. أي أن "الحقيقة التي تجرح" ليست غائبة بالضرورة عن الردّ اللطيف. لكن حتى في حالة الردود اللطيفة التي تغيب عنها الحقيقة، نشعر أن الرد الصريح والقاس لن يصيب أيضا كبد الحقيقة بطريقة أو بأخرى. ويرجع سبب ذلك إلى أن ما يجرح ويوجِع حقا في هذه المواقف ليس "الحقيقة" بحد ذاتها (أي المنطوق) وإنما اختيار الآخر قولها على هذا النحو، وتحمله طوعا لمغبة مضمونها الجارح (أي النطق). وبعبارة أخرى، ما يوجِع في عبارة «محاضرتك لا تستحق الورق المكتوبة عليه» هو أن النطق بها يفيد معنى من هذا القبيل: «أنا مستعد لأن أجرحك.» وهذا أمر لا علاقة له بجودة محاضرتي، ولا بـ"حقيقة" رأي الآخر فيها.

ثمة مواقف أخرى نشعر فيها بوضوح أننا لو صدَقنا وقلنا الحقيقة صراحة سنقول ما هو أكثر من الحقيقة. بل قد نشعر  بأننا سنكون أشد صدقا―في علاقتنا بالشخص الذي نكلمه―لو تفوهنا بكذبة متلطفة عوضا عن التفوه بالحقيقة المجردة. لكن ممّ يتألف هذا الـ"أكثر من الحقيقة" بالضبط؟ بعبارة تقريبية، يسوغ لنا القول بأن التفوه بالحقيقة المجردة (الردّ الصريح) يفشل، بطريقة أو بأخرى، في إبقاء النقاش محصورا ضمن حدود الموضوع محل النقاش. لأنه يتجاوز بسهولة الحد الفاصل بين "الموضوع" محل النقاش ذي الصلة بي (المحاضرة) وبين "ذاتي". أي أنه يمكن اعتبار الردّ الصريح هجوما على ذاتي، على كينونتي، وليس على محاضرتي. وبعبارة أخرى، من العسير للغاية أن تقول لي: «لقد كانت محاضرتك رديئة للغاية» من دون أن تقول لي، في الوقت عينه، شيئا من قبيل: «أنت غير مؤهل، غبي، مُضجِر...،» أو من قبيل: «أنت دعيّ، مُنتحِل.» بل من قبيل: «أنت تزعجني،» «أنا لا أطيقك،» أو حتى «أنا أكرهك.» أي أن الردّ الصريح  يتجاوز أيضا حدا في الاتجاه الآخر، في اتجاه ذاك الذي يتفوه به، لكنه يتفوه، في الوقت عينه، بما يعبّر عن "حالته الوجودية" (لا يطيق، يكره) على نحو زائد عمّا كان ينتويه.

ترجع كل هذه المشاكل تحديدا إلى أنه يستحيل في جُلّ تواصلنا اليومي أن نفصل في كلامنا، على نحو تام، بين مستوى النطق ومستوى المنطوق. وإلى أنه يستحيل أيضا أن نفصل بين ما نقوله وبين الأثر الذي يتركه في مَن نقوله له. والكذب بداعي اللطف هو أحد السبل الراسخة لدرء هذه المشكلة. لكن دعونا نحاول تعيين المشاكل ذات الصلة بقول الحق، على نحو أكثر دقة. فيما يلي سأحاول أن أعين وأفسر نظريا واحدة من هذه المشاكل. وسأختصها بالذكر، بالرغم من أنها ليست المشكلة الوحيدة، لأن قسطا كبيرا من كذباتنا المتلطفة ترمي إلى درءها دون غيرها. ولأنها ذات صلة وثيقة بالنقاش حول علاقة الثقافة بالكذب.

 

4.

يوجد شيء يمكن تسميته على أفضل وجه بـ"فُحش الحقيقة"، أو بعبارة أدق، فحش قول الحقيقة. أنا استعمل لفظ "فحُش" (obscenity) هنا بمعنى قريب من المعنى الذي يستعمله به الطبيب والمحلل النفسي السويسري آرون رونالد بودِنهايمر في كتابه: Warum? Von der Obszönität des Fragens، لماذا؟ عن فاحشة طرح الأسئلة.[11] بيّن بودِنهايمر أن ثمة فُحش متأصل في الأسئلة، في فعل طرح السؤال بحد ذاته، بمعزل عن مضمون السؤال نفسه (مثلا: «لماذا تلعب بقلمك؟»، «ماذا تقصد بذلك؟»، «هل تحبني؟»، «ما رأيك في كذا؟»، إلخ). ويعرّف بودِنهايمر الفُحش على النحو التالي: يقع الفُحش في المواقف التي تنكشف فيها أجزاء معينة من شخصيتي―أجزاء أخفيها عادة عن الآخرين وعن نفسي―على نحو مباشر، ومن دون أن أكون مستعدا لانكشافها. هنا أجد نفسي عرضة للانفضاح وعاجز عن منع وقوعه. ونشهد في الموقف الفاحش أمرين: فعل كشف وفضح على يد طرف، وشعور الخزي والخجل الذي يحدثه هذا الفعل في الطرف الآخر. علاوة على ذلك، لا يقرّ الطرف الذي يرتكب الفاحشة، أي الذي يكشف ويفضح، بفعلته، وإنما يزيد الطين بلة، يوغل في الفحش، بأن يطرح على الطرف الخزيان بالفعل، أسئلة أخرى من قبيل: «ما خطبك؟»، «هل مسّك سوء؟»، "هل أزعجك شيء مما قلت؟".

من شأن طرح بودِنهايمر أن ينير لنا نقطتين في مسألة الكذب بداعي اللطف: أولا، يسهل علينا أن نلحظ فحشا مماثلا في بعض حالات قول الحق على نحو صريح وفج. وثانيا، عدد كبير من كذباتنا المتلطفة هي في واقع الأمر أجوبة على أسئلة طُرِحت علينا. ولنعد إلى المثال السابق: عندما أسأل شخصا (لا أعرفه بالقدر الكافي أو لا أعرفه على الإطلاق) مباشرة عن رأيه في محاضرتي، يمكن اعتباري حينئذ الشخص الذي يخلق "الموقف المستحيل"، الموقف الفاحش. فسؤالي هذا أبعد ما يكون عن البراءة. فلعل ما دفعني إلى طرحه هو حاجتي الماسّة إلى سماع بعض كلامات الإطراء، أو شعوري بغصّة لأن لا أحد من الحاضرين قرر الخروج عن صمته وبادر، من تلقاء نفسه، بالثناء على محاضرتي. لقد كان صمتهم مدويا لا يطاق. وهكذا اخترت شخصا من بينهم، وطرحت عليه هذا السؤال، طمعا في أن أسمع منه ما أود سماعه. وبذلك أطلب، حرفيّا، من هذا الشخص أن يكشفني، يفضحني، لكنني في الوقت عينه، أتوسل إليه، ضمنيا، ألا يفضحني. وقد يقبل الآخر حينها أن يلعب اللعبة التي أدعوها إليها، ويقدم لي بعض كلمات الإطراء اللطيفة، التي لن تروي غليلي على الأرجح، لكنها ستبقيني، على الأقل، في منأى عن الفضيحة الآزفة. وكذلك ستخفف، بقدر ما على الأقل، من وطأة الانفضاح الذي وقع بالفعل في اللحظة التي طرحت فيها السؤال وبذلك كشفت عن أنني في حاجة ماسّة إلى شيء من الاستحسان. 

وتذييلا على طرح بودِنهايمر، أود أن أضيف أن فحش طرح الأسئلة لا يتوقف عند مستوى فضح الآخر (المخاطَب بالسؤال) فحسب، وإنما يمتد إلى مستوى فضح الذات (طارحة السؤال) أيضا. إذ من شأن طرح السؤال أن يضع الآخر في موقف وعر، بأن يشعره بالحرج أو الخزي والخجل، لأن طرحي للسؤال يكشف شيئا من ذاتي (ضعف ما أو وسواس ما)، من الأحسن أن يظل مستورا. نعرف جميعا أنه يمكن للحرج أو الخزي أن يكون شعورا مُوكَلّا (inter-passive)، على حد تعبير روبِرت فالر.[12] أي أنه بمقدور المرء أن يشعر بالحرج أو الخزي بالنيابة عن شخص آخر، خاصة―لكن ليس حصرا―عندما لا يبدو أن هذا الشخص يلاحظ أنه يُحرج نفسه علنا. وإليكم هذا المثال الشائع: يحضر رجل وزوجته مناسبة عامة، فيفرط الرجل في شرب الخمر ومن ثمّ يشرع في التصرف على نحو محرج. يلاحظ الجميع ذلك، لكنهم يواصلون التبسم بأدب. وبسبب صلتها الوثيقة بالرجل، تشعر الزوجة أكثر من غيرها بحرج شديد. ولكي ترفع عن نفسها هذا الحرج، تعزم على أن توضح للآخرين أن زوجها قد لا يعلم أنه يحرج نفسه، لكنها تعلم ذلك وليست راضية عنه مطلقا. وهكذا، تقول (جهرا) شيئا من هذا القبيل: «فلتنظر إلى حالك! أنت تتصرف كأحمق! فلتكف عن إحراج نفسك!» وهذا مثال جلي على قول الحق الذي يخلق، لا محالة، موقفا فاحشا. إذ لا يعد حينها بمقدور الناس أن يواصلوا التظاهر، تأدبا، بأنهم لا يرون الجزء الذي يحسن-أن يظل-مستورا لكن الزوج يكشفه، بسُكرِه، على الملأ. وإنما سيتعين عليهم حينها أن يحطوا أنظارهم على شيء يقتضي الأدب (الثقافة) غض الطرف عنه. وغالبا ما يكون الغرض من الكذب على سبيل اللطف، كما الصمت على سبيل اللطف، هو درء هذا الضرب من الانكشاف أو الفضح. فنحن نعمد إلى الكذب بداعي اللطف لكي نتجنب الإشارة بالبنان إلى نقص الآخر (عندما يكون هذا النقص مرئيا بالفعل)، وإلى الصمت بداعي اللطف لكي نتجنب قول شيء من شأنه أن يكشف نقص الآخر (عندما لا يكون مرئيا). وإليهما نعمد أيضا عندما نكون بصدد خطر ظهور شيء (شعور، رأي، قناعة، ضعف، إلخ) في موضع لا ينبغي أن يظهر فيه أي شيء، أو عندما يحسن أن يظل هذا الشيء مستورا. وظهور الشيء الذي ينبغي له أن يظل مخفيا وتجلي النقص أمران متلازمان، وذلك لأن كليهما حالة فضيحة. وعلينا أن ننظر إلى المعاناة والإذلال أو المهانة وغيرهما من الأحوال المشابهة، التي نعمد إلى الكذبات البيضاء والمتلطفة بغرض وقاية الآخر منها، من هذه الجهة. فمن غير الكافي أو من غير الدقيق، أن نقول أن الكذبات البيضاء والمتلطفة مباحة بل ومستحبة حتى، طالما أنها تمكننا من تجنب إنزال الألم و/أو الإذلال بالآخر من دون داعٍ. لأن الألم والمعاناة والإذلال أو المهانة هي حالات فضيحة بالمثل [أي أننا نكذب على الآخر كذبة بيضاء لا لكي نجنبه المهانة أو الألم وإنما لكي نجنبه الفضيحة إن شئنا الدقة]. وحتى في الحالات التي نعمد فيها إلى اختلاق كذبة تجنبنا قول الحقيقة التي ستجرح الآخر لا محالة، لا يكفي إطار "تألم الآخر―تآلمنا معه ورحمتنا به" لتفسير آلية هذا الضرب من "ثقافة الكذب". فقد يكون من المهم في بعض الأحيان أن يتخذ الإشفاق شكل "كَذِبة". وما أقصده بذلك وهو التالي: في بعض الأحيان يكون أمثل سبيل، إن لم يكن السبيل الوحيد، لإظهار شيء من الرحمة هو عدم إظهارها تحديدا، أو تلافي خلق الموقف الذي من شأنه أن يستدعي إظهارها. وذلك لأن إظهار الرحمة والشفقة في هذه المواقف يكون مهينا ومذلا بحد ذاته، لأنه يلعب دور البنان الذي يشير إلى كرب الآخر، إلى نقصه[وأن نشفق على الآخر تحديدا عن طريق عدم إظهار الشفقة عليه يعني أن نكذب عليه: أن نشفق عليه فعلا لكن نخفي عنه شفقتنا هذه]. 

والأطروحة التي يمكن لنا أن نستنبطها من ذلك هي التالية: جزء كبير من الكذبات البيضاء والمتلطفة مرتبط بفكرة اللباقة والذوق والحشمة (decency) أكثر من ارتباطه بأي شيء آخر. سأتغاضى هنا عن بعض نماذج الكذب الثقافي الشيقة الأخرى لأنها تتبع منطق مختلف نسبيا، مثل: 1) كذبات الضيافة والحفاوة. 2) الكذبات التي نحاول أن نتجنب من خلالها تحول قولنا الصريح لرأينا إلى "نبؤة ذاتية التحقق"

 على سبيل المثال: يدخل صديقنا في علاقة غرامية جديدة، من الجلي لنا أنها لن تفلح قط. ومع ذلك، لو سألنا عن رأينا فيها لن نقول له ذلك صراحة. لأننا نعلم أن قولنا «هذه العلاقة لنا تفلح» قد يُحدِث، بحد ذاته، الكارثة التي يخبر عنها، والتي قد لا تقع بفضل بعض الظروف الخافية علينا. 3) ما أسميه بالكذبات التأسيسية أو التكوينية، والتي تتخذ عادة شكل تصريح أو إعلان. وثمة نوعين (على الأقل) من هذه الأقوال التصريحية. الأول، يمكن على وجه التقريب المماهاة بينه وبين أفعال الكلام الأدائية، على سبيل المثال: «افتتحَت الجلسة". نحن هنا بصدد ضرب من "الخلق من العدم"، إذ يخلق قول، بفضل إعلانه عما أعلن عنه، وضعا رمزيا بعينه لا توجد سلسلة سببية مؤدية إليه [كجلسة محكمة أو جلسة مؤتمر علمي في حالتنا هذه]. أما الثاني فله بعد أدائي أيضا لكن علاقته بالسببية والزمنية أكثر تعقيدا. خذ على سبيل المثال التصريح بالحب. من المفترض أن التصريح بالحب ينبع من مشاعر المرء ومع ذلك لا يمكن اختزاله في مجرد التعبير عن هذه المشاعر. إذ لا توجد صلة منطقية أو سببية مباشرة بين مشاعري حيال الآخر وتصريحي بـ«أنا أحبك» [فقد أشعر حياله بحب جمّ لكن لا أصرح له بذلك قط، والعكس صحيح]. فلماذا أقولها له اليوم وليس غدا؟ لماذا لما أقلها له أمس عوضا عن اليوم؟ [بما أنني كنت أشعر بحبه أمس وسأشعر بحبه غدا] والحال، أنه لا يوجد توقيت صائب لقول «أنا أحبك»، إنها عبارة لا تقال في أوانها قط، لا تقال إلا قبل الأوان أو بعد فواته. إذ ينطوي العبور من الشعور بالحب إلى التصريح بالحب على قفزة دائما. ولا يكون هذا العبور خطيا ومستقيما قط. لكن القول بأن كل تصريح بالحب ينطوي على شيء من "الكذب" لا يعني أن كل تصريح بالحب يفتقر إلى الإخلاص. وإنما يعني أن التصريح بالحب يقول (ويفعل) شيئا أكثر من مجرد وصف حالة المرء الشعورية. إذ يجوز لنا أن نقول أن التصريح بالحب يتألف من وصف دقيق (تقريبا) لمشاعري زائد شيء آخر لا يتطابق مع أي شيء في الواقع (حتى في واقع ذاتي أو نفسيتي). وبهذا الشيء الزائد أقول أكثر مما "يسوغ" لي قوله في وضعي هذا. فبتصريحي بالحب لشخص آخر أقدم له أكثر مما "أملك". ثمة تعبير موفق يقول: «أن تعطي أحدا أمارة على الحب»، ويمكن اعتبار التصريح بالحب: «أنا أحبك» مثالا نموذجيا على هذه الأمارة. وبالطبع يقتضي ذلك ضربا من الدَور، الأمر الذي يقودنا إلى السمة التالية لهذا النحو من الأقوال التصريحية: إنها أقوال متعجلة تخلق (بأثر رجعي) ما يدفع على التلفظ بها. فقد يحدث أن يردّ من أقول له: «أنا أحبك» عليّ متسائلا: «هل تعني ذلك حقا؟»، الأمر الذي من شأنه أن يضع كلانا في موقف عسير، إذ لا أحد مِنّا يعرف بالضبط ما تحيل عليه هذه الـ"ذلك" في «هل تعني ذلك حقا؟» إنها شيء لا نعرفه بعدُ، "كذبة" قد تغدو حقا أو لا تغدو.

لكن دعونا نعود إلى ذلك الضرب من الكذبات المتلطفة وثيق الصلة بفكرة اللباقة والذوق. بالطبع، فكرة اللباقة نفسها مراوغة ومتفلتة. فهي تختلف من ثقافة إلى أخرى (وضمن تاريخ الثقافة الواحدة)، وتعتمد بقدر كبير على ذوقنا الشخصي. لكن هذه الاختلافات الثقافية والشخصية لا تغير كثيرا في منطق عملها الأساسي. فثمة أمور لا ينبغي قولها أو كشفها أو الإشارة إليه بالبنان. لأن حصول ذلك يُخجِل ويُخزِي. لكن ذلك لا يعني أن هذه الأشياء ينبغي أن تظل مخفية ماديا، وإنما يعني أنّ علينا التصرف كما لو كنا لا نراها. لقد استُقبح الكذب واستُنكر أخلاقيا على الدوام لكن قد استُحسن أخلاقيا أيضا، وذلك بالحض على عدم قول شيء ما (أي الإمساك عن قول بعض ما سنقوله)، وبالحض على قول شيء آخر (شيء أكثر لطفا وأدبا عما سنقوله). بالطبع لا يُحض أخلاقيا على الكذب بإسم "الكذب" وإنما بإسم "الأدب" و"الإحترام"، أي بإسم اللباقة إن شئنا الدقة. عندما نعلّم الأطفال ألا يصيحون في الشارع قائلين: «انظري يا أمي، يا له من رجل قبيح»، أي عندما نعلّمهم "الأدب"، نحن نعلّمهم تعيين المواقف التي لا ينبغي فيها قول أشياء معينة (جهرا) أو الإشارة إلي أشياء معينة (والإشارة بالبنان واحدة من الأفعال التى يُنهى عنها الأطفال بشدة)، والصلة وثيقة بين هذين الفعلين.

وعلى ذلك، يسوغ للمرء أن يقول أن لـ"ثقافة الكذب" علاقة متينة بـ"فحش قول الحق المجرد". والسؤال التالي الذي يطرح نفسه علينا في هذا الصدد هو: هل الفحش، في نفسه وفي جوهره، شأن جنسي؟ يرى بودِنهايمر أنه ليس كذلك. فبحسبه، الربط بين الفحش والجنسانية عرضي تماما، ووليد أوضاع ثقافية-تاريخية بعينها حصرت الجنسانية في نطاق الحميمية.[13] وحاجج عن ذلك قائلا: لو عرّفنا الفحش بأنه كشف شيء بالغ الشخصية والخصوصية، فإن ذلك لا ينطبق قط على الجنسانية، لأنها شيء بالغ العمومية والشيوع. لكن هذه الحجة فيها عيبان. الأول، أنها تخلط بين الجنسانية و(ممارسة) الجنس. والثاني، أنها تغفل عن عمومية الفحش. إذ لماذا يُحدِث كشف الشيء بالغ الحميمية والخصوصية، بغض النظر عن كنهه (أي بغض النظر عن كنه ما يمثل أعمق ما في وجود كل شخص تعرض لهذا الفضح) أثرا فاحشا لا محالة؟ والجواب، على ما أرى، هو أن فعل الكشف عينه ذو طبيعة جنسية. أي أن المكون الجنسي في الفحش―الذي لا يمكننا نفيه―لا يتعلق قط بمضمون الشيء المستور الذي كُشف وفُضح، وإنما بفعل الكشف عينه. أو بكلمات أدق: كشف الشيء الحميمي أو المستور (سواء كان قناعة أو شعور أو ضعف، إلخ) هو ما يُجنسِنه، ما يصبغه بصبغة جنسية، بغض النظر ―وهنا أتفق مع بودِنهايمر―عن طبيعة هذا الشيء نفسها، سواء كانت جنسية أو غير جنسية. وبعبارة أخرى، من شأن الكلام (وبالتالي الثقافة والبنى الرمزية) أن يُجنسِن أشياء معينة، ومن ضمنها الجنسانية نفسها. قد تبدو هذه الفكرة الأخيرة مفارقة، لكن أليس ما يميز الجنسانية البشرية عن الجنسانية الحيوانية أو النباتية هو أنها مُجنسَنة؟ أليس هذا هو منبع ما نلقاه من مشاق (وملذات) جنسية؟ لكن ذلك لا يعني ببساطة أن الجنسانية برمتها شأن ثقافي أو رمزي. وإنما يعني أن الثقافة (أو النظام الرمزي) نفسها مُجنسَنة سلفا. وهنا نجد أنفسنا أمام وضع دوراني هو المسئول عمّا يسميه فرويد “das Unbehagen in der Kulture”، "كدر (نكد، بؤس) الثقافة".[14] إذ نشأت الثقافة من قلب مأزق جنسي بغرض التغلب عليه (ترويض الدوافع الجنسية الطبيعية)، لكنها خلقت أثناء سعيها إلى التغلب عليه مآزق جنسية جديدة (تحتاج إلى حلول ثقافية جديدة).[15]

تعمل آلية الكشف أو الفضح البنيوية هذه كإطار مجنسَن/مجنسِن. ولذلك يُخلع على أي شيء يؤطر بها سمة معينة تستدعي استجابة معينة. فكشهود على هذا النحو من الكشف (لنقص الآخر أو لشيء منه يحسن به أن يظل مستورا) الذي أسفر عنه "قول الحقيقة المجردة" صراحة، يمكن لنا أن نشيح بأبصارنا في خجل؛ ويمكن لنا أن نختلس النظر ("متلصصين") إلى المشهد؛ ويمكن لنا أن نستمتع (بـ"سادية") صراحة بهذا النقص، هذا الشرخ، الذي تجلى في الآخر؛ ويمكن لنا أن نتظاهر بأننا لم نلحظ أي شيء ببساطة. لكن هذه الاستجابات جميعها ليست محايدة أو لامبالية.

كما قلت آنفا، يمكن لـ"قول الحقيقة المجردة" صراحة أن يفضح، ويمكن للكذبات المتلطفة أن تجنبنا وقوع ذلك (أو تجعله يقع دون أن يُلاحَظ). لكن ذلك لا يعني أن الثقافة―وكذباتها المتلطفة―هي دِرع محايد أو "روحاني" نتقي به الفحش. وإنما الثقافة تلعب على الجناحين: فالفضح (وأثره الفاحش) ظاهرة ثقافية (أو رمزية) تماما كالكذبات البيضاء والمتلطفة. أي أن الثقافة تنتج حلولا (فعالة بقدر أو آخر) لمآزقها البنيوية، أي المآزق النابعة من كون الثقافة قد نشأت من قلب الواقع الجنسي (الطبيعي) التي تسعى إلى ضبطه وترويضه. 

        

Figure 4

* Alenka Zupančič, “Lying on the Couch,” Problemi International (No. 1/2017), 99-115.

ولنلتفت إلى التورية التي ينطوي عليها العنوان؛ فكلمةlying  تعني استلقاء وكذب في الوقت عينه.

** فيلسوفة سلوفينية معاصرة، من أعلام مدرسة لوبِليانا للتحليل النفسي.

[1] يجدر التنبيه على أن كلمة "حقيقة" (truth) مستعملة في هذه الدراسة بمعناها الثقافي أو الاجتماعي (الصدق) وليس بالمعنى الفلسفي أو الميتافيزيقي الدقيق للكلمة. [المترجم]

[2] Miller, Jacques-Alain (1990)“Microscopia: An Introduction to the Reading of Television,” trans. Denis Hollier et al., in Lacan (1990). P. xx.

[3] Freud, Sigmund —(2001 [1925])“Negation,” trans. James Strachey, The Standard Edition of the Complete Psychological Works of Sigmund Freud XIX:235–9 (London: The Hogarth Press and the Institute of Psycho-Analysis), p. 235.

[4] Freud, Sigmund (2001 [1905a])“Fragment of an Analysis of a Case of Hysteria,” trans. James Strachey, The Standard Edition of the Complete Psychological Works of Sigmund Freud VII:1–122 (London: The Hogarth Press and the Institute of Psycho-Analysis), p. 69.

[5]  يفرق جاك لاكان، كما هو معلوم، بين نوعين من الآخرية: الآخر الصغير (other)، والآخر الكبير (Other)؛ الآخر الصغير هو الآخر المعروف: الأخ، الجار، الزميل، الصاحب، الزوج، إلخ. وعلاقة المرء بالآخر الصغير علاقة تخيلية (تصورية). أما الآخر الكبير فهو السلطة أو المرجعية الاجتماعية، حارس النظام الرمزي (القانون، بالمعنى الواسع للكلمة) الحاكم للمجتمع والقائم عليه: من يقرر قيمة الأشياء والأفعال ومدى مشروعيتها، من يعين الصواب والخطأ، من يفرق بين الحق والباطل، بين الصدق والكذب. الآخر الكبير هو مَن يجيبني، أنا الآخر الصغير، عن الأسئلة الذي لا أنفك اطرحها على نفسي: ما الذي ينبغي علي أن أرغب فيه؟ ما الآراء التي ينبغي علي أن أتبنيها؟ ما الأفعال التي ينبغي علي أن أفعلها والتي ينبغي علي أن لا أفعلها؟ ما اللغة وما اللهجة التي ينبغي علي أن أتكلم بها؟ ونحو ذلك من الأسئلة—لكنه لا يجيبني صراحة، في واقع الأمر، وإنما أنا الذي استنبط جوابه تأويلا. الآخر الكبير هو مَن أتوجه إليه لكي يضمن لي أنني على صواب. ولذلك العلاقة بين المرء والآخر الكبير علاقة رمزية (وليست تخيلية كما هي علاقته بالآخر الصغير)، تقوم على الإكبار والإنصياع والاحترام. الآخر الكبير ليس كيانا ماديّا وإنما كيان رمزي بحت (لغة)، لكن له ممثلين، يتجسد فيهم، وينطق على ألسنتهم (على سبيل المثال: الأب أو الأم ومن يحل محلهما، أصحاب المقام الاجتماعي والسياسي المرموق، والمشاهير والمؤثرين في زمننا، إلخ). [المترجم]

[6] Lacan, Jacques (1990) Television, trans. Denis Hollier et al. (New York: Norton), p. 6.

[7] Miller, Jacques-Alain (1990)“Microscopia: An Introduction to the Reading of Television,” trans. Denis Hollier et al., in Lacan (1990). P. xxii.

[8] Freud, Sigmund (2001 [1914]) “On the History of the Psycho-Analytic Movement” trans. James Strachey, The Standard Edition of the Complete Psychological Works of Sigmund Freud XIV:3–66 (London: The Hogarth Press and the Institute of Psycho-Analysis), P. 39.

[9] Freud, Sigmund (2001 [1909])“Notes Upon a Case of Obsessional Neurosis,” trans. James Strachey, The Standard Edition of the Complete Psychological Works of Sigmund Freud X:151–249 (London: The Hogarth Press and the Institute of Psycho-Analysis), p. 205.

[10]  Freud, Sigmund (2001 [1905b])“Jokes and Their Relation to the Unconscious, trans. James Strachey, The Standard Edition of the Complete Psychological Works of Sigmund Freud VIII (London: The Hogarth Press and the Institute of Psycho-Analysis). P. 115.

تحكي النكتة عن يهوديين التقيا في محطة القطار وسأل أحدهما صاحبه إلى أين أنت ذاهب فأخبره أنه ذاهب إلى مدينة كراكوف [في بولندا] فردّ عليه قائلا: «عندما تخبرني أنك ذاهب إلى كراكوف، أنت تريد بذلك أن تجعلني أظن أنك ذاهب إلى لفيف [في أوكرانيا]. لكنني أعلم أنك ذاهب إلى كراكوف فعلا. فلماذا تكذِب علي؟»

[الفكرة هي أن اليهودي، كيهودي، لن يخبر صاحبه بوجهته الحقيقية قط، فإذا كان ذاهبا إلى كراكوف سيخبره لزاما أنه ذاهب إلى مكان آخر، لفيف على سبيل المثال. صاحبه يعلم ذلك، لأنه سيفعل نفس الشيء إذا سُئل عن وجهة سفره. وبالتالي عندما يخبر أحدهما صاحبه، في العادة، أن ذاهب إلى كراكوف يعلم صاحبه أنه يكذب بالطبع وأنه ذاهب إلى مدينة أخرى في حقيقة الأمر. لكن في الحالة التي ترويها النكتة هو يعلم سلفا أن صاحبه مسافر إلى كراكوف بالفعل، وبالتالي هو يتوقع أنه إذا سأله عن وجهته سيخبره أنه ذاهب إلى أي مكان آخر سوى كراكوف، لفيف على سبيل المثال، لكنه أخبره أنه مسافر إلى كراكوف، بالرغم من أنه مسافر إلى كراكوف بالفعل! وبذلك كذب عليه.  وهذا مثال ممتاز على استراتجية "الكذب عن طريق قول الحق" آنفة الذكر: بقوله الحق: أنا ذاهب إلى كراكوف، كذب اليهودي على صاحبه: لأنه يعلم أن صاحبه سيفهم من جوابه أنه ذاهب إلى أي مكان آخر سوى كراكوف.]   

 

[11] Bodenheimer, Aron Ronald (1984) Warum? Von der Obszönität des Fragens (Stuttgart: Reclam).

[12] Pfaller, Robert (2014) On the Pleasure Principle in Culture: Illusions Without Owners, trans. Lisa Roseblatt (London & New York: Verso).

[صك الفيلسوف النمساوي المعاصر روبرت فالر مصطلح الـ interpassivity (كمقابل لمصطلح interactivity) للإشارة إلى ظاهرة ثقافية دقيقة وطريفة للغاية وهي توكيل المتعة: أن يعهد المرء إلى غيره بمتعته، يوكلها إليه، يفوضه بها، وأن يستمتع بها من خلاله، أي أن يستمتع بالوكالة. وإليكم بعض الأمثلة: الضحك المسَجل في المسلسلات الكوميدية (وهو المثال الذي يكثر سلافوي چِچك من ضربه): أنت تشاهد المسلسل لكن التلفزيون يتولى مهمة الضحك بالنيابة عنك، يغنيك عن الضحك، تضحك من خلال ضحكة؛ تنزيل الأفلام من على الإنترنت: تشعر برغبة ملّحة في أن تشاهد فيلم معين فتهرع إلى تنزيله، لكن بمجرد ما يصير بحوزتك تنقطع الرغبة فجأة في مشاهدته أو تبهت على الأقل ولا تعود ملحة. كأنك شاهدته بمجرد تنزيله على الكمبيوتر، أو بالأحرى كأن الكمبيوتر شاهده بالنيابة عنك؛ تنزيل الكتب من على الإنترنت (أو شرائها): تنزيل الكتاب أو شرائه يجعلك تزهد في قرائته بقدر أو بآخر، ويكأن التابلت (أو رف المكتبة) قد قرأه بالنيابة عنك؛ إيقاد الشموع على مذبح كنيسة أو مقام ولي: توقد الشمعة وتخرج لدنياك وتترك الشمعة لتصلي بالنيابة عنك. إلخ]   

[13]  استعملت كلمة intimacy  في الأصل بمعنى الجِماع. ثم استعملت مجازا بمعنى القرب الشديد والألفة والمعرفة العميقة. ولا ننسى، في هذا الصدد، أن التوراة تستعمل كلمة "معرفة" للتعريض بالجماع. [المترجم]

[14] عنوان كتاب فرويد زائع الصيت.تُرجم إلى الإنجليزية بعنوان Civilization and its discontents، وإلى العربية بعنوان قلق في الحضارة. والعنوان الأصلى الذي اختاره فرويد لهذا للكتاب، ثم عدل عنه، هو: des Unglück in der Kulture، أي تعاسة الثقافة. ويستعمل فرويد في هذا الكتاب كلمتي ثقافة وحضارة بالترادف. [المترجم]

[15] على سبيل المثال: ارتداء الثياب حل ثقافي لمأزق جنسي: عري الجسد―الأنثوي على وجه الخصوص―لكن هذا الحل نفسه خلق مآزق جنسية جديدة: عززت الثياب فتنة الجسد وغوايته عوضا عن أن توهنها. أضحت الثياب سبيلا لكشف الجسد وجنسنته عوضا عن ستره وتجريده من جنسيته. [المترجم]

التعليقات

أضف تعليقك

الكتاب

ألينكا زوبانجج

ألينكا زوبانجج

ألينكا زوبانجج (مواليد 1966) هي فيلسوفة لاكانية ومنظرة اجتماعية. وهي أستاذة في ك…

المترجم

طارق عثمان

طارق عثمان

باحث ومترجم، ينصب اهتمامه بالفلسفة المعاصرة والتحليل النفسي، صدر له العديد من ال…

أوراق ودراسات ذات صلة

مشاهدة المزيد
دين الرأسمالية (لاهوت النقود)
  • بينيات

دين الرأسمالية (لاهوت النقود)

جسد الَّذين أنعم الله عليهم
  • بينيات

جسد الَّذين أنعم الله عليهم

يا علبة الصبر:  كيف تورث الأغنية حكمة الأيام؟!
  • لا هذا ولا ذاك

يا علبة الصبر: كيف تورث الأغنية حكمة الأيام؟!

فرانسوا توسكييز وثورة الطب النفسي
  • تخصصات

فرانسوا توسكييز وثورة الطب النفسي

ملفات تعريف الارتباط

نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط الخاصة بنا وملفات تعريف الارتباط الخاصة بالجهات الخارجية حتى نتمكن من عرض هذا الموقع وفهم كيفية استخدامه بشكل أفضل ، بهدف تحسين الخدمات التي نقدمها. إذا واصلت التصفح ، فإننا نعتبر أنك قبلت ملفات تعريف الارتباط.