من أقدم الأقوال المكررة حول فلسفة شيلر أنها شكل من أشكال "الأنسنة". ولكن ما المقصود بالضبط بالأنسنة؟ نظرًا لأن المصطلح غامض جدًّا، فمن المغري عدم التوسع في الإجابة أو عدم الإجابة على الإطلاق. ونظرًا لأن شيلر نفسه لم يستخدم المصطلح، فمن الواضح أننا نتعامل هنا مع مصطلح فني. لقد كان العلماء، لسبب أو لآخر، يصفون فلسفة شيلر بأنها "أنسنة". ورغم ذلك، لا يوجد بينهم إجماع حول معنى المصطلح.
على الرغم من أننا لا نجد لمصطلح "الأنسنة" معنى محددًا في دراسات شيلر، يبدو لي أنه يمكن، بل ينبغي، إعطاؤه معنى. يمكننا إعطاء هذا المصطلح مثل هذا المعنى إذا عدنا إلى السياق الفكري المبكر لشيلر، وهو تراث الأنثروبولوجيا الفلسفية لمدرسة كارل.1
كلما فحصنا الأنثروبولوجيا الفلسفية المبكرة لشيلر عن كثب، كلما دُهشنا بغناها وتعقيدها. ويأخذ مصطلح "الأنسنة" معاني مختلفة بحسب الجانب الذي نركز عليه. فلها ثلاثة معانٍ مختلفة: منهجي وأخلاقي وميتافيزيقي.
جُسد المعنى المنهجي للأنسنة في مقولة ألكسندر بوب الشهيرة "الدراسة الصحيحة للبشر هي الإنسان".2 وتعود جذور هذه العقيدة إلى عصر التنوير الإسكتلندي3، الذي كان له تأثير كبير على الأنثروبولوجيا الفلسفية لمدرسة كارل. حاولت الأنثروبولوجيا الفلسفية إعادة توجيه الفلسفة، بحيث يكون موضوعها الصحيح هو الطبيعة البشرية، وكيف يعيش البشر ويتصرفون في العالم. يعود مفهوم الفلسفة هذا إلى التراث الأنسني لعصر النهضة. وفقًا لهذا التراث، ينبغي أن تكون الفلسفة هي فن الحياة الجيدة. وعارض هذا التراث مفهوم الفلسفة السائد في التراث المدرسي، الذي يرى أن غاية الفلسفة هي التأمل، كما يعرّفها أرسطو في الكتاب العاشر من الأخلاق النيقوماخية.4 وحدث شيء مشابه لرد الفعل ضد المدرسية في القرن الثامن عشر في ألمانيا. كان علماء الأنثروبولوجيا الألمان يتفاعلون ضد مدرسية فلسفة فولف، التي كانت فلسفتها الأولية هي الأنطولوجيا، والتي جعلت من الوجود بما هو وجود وليس الإنسانية الموضوع الأساسي للفلسفة ونقطة انطلاقها.5 وبدا أن الفولفيين، مثل أسلافهم في العصور الوسطى، يجعلون التأمل الفكري هو الغاية الرئيسية للحياة، لأنهم انخرطوا في براهين أكثر عمقًا وجدالات جوفاء، ليس لها تأثير على الحياة.
يظهر المعنى الأخلاقي للأنسنة في اهتمام الأنثروبولوجيا الفلسفية بالسؤال التقليدي للأخلاق: ما الخير الأسمى؟ ما أفضل حياة للإنسان؟ ونظرًا للأهمية التي أعطتها الأنثروبولوجيا لفن الحياة الجيدة، فمن الواضح أن هذا السؤال كان محوريًّا. إذا فحصنا كتابات شيلر في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن الثامن عشر - وعلى وجه التحديد، فلسفة الفسيولوجيا والرسائل الفلسفية - يمكننا رؤية أنه كان مشغولًا بشكل خاص بهذا السؤال. يرى شيلر في كلا الكتابين أن الخير الأسمى للإنسان هو الكمال، وإعمال كل قدراته المميزة إلى أقصى حد.6 ويجادل بأن الكمال والسعادة مرتبطان بشكل أساسي، لأنه كلما أصبحنا أكثر كمالًا في تنفيذ الأنشطة المميزة، زادت سعادتنا. يبدو هنا أن شيلر يعتقد، مثل أرسطو من قبله، أن إعمال قدراتنا المميزة نشاط ممتع بالنسبة لنا.7 وهذا النشاط يسعدنا، لأن المتعة هي المكون الأساسي للسعادة.
يظهر البعد الميتافيزيقي للأنسنة في سؤال آخر حاسم للأنثروبولوجيا الفلسفية: ما غاية الإنسان؟8 إن السؤال عن غاية الإنسان هو السؤال عن مكانة الشخص في خليقة الله، وعن الدور الذي ينهض به الشخص في العناية الإلهية. والافتراض وراء هذا المفهوم، هو أن الله قد خلق الكون بحيث لكل شخص دور محدد يلعبه في هذا الكون، ويتوقف خير كل فرد وخير الجميع ككل، على أداء كل شخص الدور الذي يحدده له الله. فالحياة مثل مسرحية، تعتمد جودة إنتاجها على أداء كل ممثل دوره بأفضل ما يستطيع، والله مثل الكاتب المسرحي الكوني، الذي كتب مسرحية يلعب فيها كل فرد دورًا محددًا.
ارتبطت غاية الإنسان ارتباطًا وثيقًا بمفهوم الخير الأسمى. ويُفترض أن الشخص لا يمكنه تحقيق الخير الأسمى إلا إذا تصرف وفقًا لغايته. هذا لأن الله خلق الكون من أجل أفضل مخلوقاته، فالله خير ويمكننا تلقي نعمته من خلال العمل وفقًا للعناية الإلهية.
أصبحت مسألة غاية الإنسان مشهورة في القرن الثامن عشر على يد يوهان خواكيم سبالدينغ في كتابه الصغير الشهير "غاية الإنسان".9 أثار هذا الكتاب في ستينيات القرن الثامن عشر جدلًا مشهورًا بين موسى مندلسون وتوماس أبت وهيردر الصغير،10 وهو نزاع كان معروفًا في مدرسة كارل. ويبدو أن الشاب شيلر كان على دراية بالنزاع، لأنه يناقش بعبارات صريحة جدًّا في الفقرة الأولى من كتابه "فلسفة الفسيولوجيا" قضية غاية الإنسان برمتها.11
غالبًا ما تُفهم الأنسنة على أنها تعني أخلاقًا لا دينية أو حتى معادية للدين. من المفترض أولًا وقبل كل شيء أن تكون أخلاقًا دون إله. لكن مفهوم غاية الإنسان يُظهر أن أخلاق الأنثروبولوجيا الفلسفية لها معنى ديني عميق، ولم يكن من المنطقي الحديث عن الخير الأسمى أو غاية الإنسان، دون النظر إلى العناية الإلهية وخلق الله. ويظهر البعد الديني للأنسنة المبكرة لشيلر بوضوح شديد في الفقرة الأولى من كتابه "فلسفة الفسيولوجيا"، حيث يقول بصراحة: "التشابه مع الله هو قدر الإنسان".12 فعند قراءة هذا السطر، يسمع المرء أصداء خافتة للتراث المسيحي، يبدو الأمر كما لو كنا نقرأ كتاب "الاقتداء بالمسيح" لتوما الكمبسي، الذي نجد فيه أن أفضل حياة للإنسان هي التشبه بالمسيح.
يبدو أن النزعة الإنسانية الدينية المبكرة لشيلر، لم تستطِع النجاة من لقاء كانط. فيبدو البعد الديني لأنسنة شيلر ضعيفًا بشكل خاص، أمام تعاليم كانط حول حدود المعرفة. كان كانط يقصر المعرفة على التجربة الممكنة، ولا يقبل تكهنات مشروعة حول غاية الإنسان أو العناية الإلهية، التي هي أمور تتجاوز التجربة الممكنة.
ومع ذلك، هناك اثنتان من المقدمات الخاطئة وراء هذا التعليل. أولًا: يفترض هذا التعليل أن شيلر تخلى عن أنسنته الدينية، بسبب تحوله إلى كانط في أوائل تسعينيات القرن الثامن عشر، لكن هذا الافتراض خاطئ، فقبل هذا التحول، كانت لدى شيلر بالفعل شكوكه حول الجوانب الدينية لأنسنته. ثانيًا: يفترض هذا التعليل أن الفلسفة الكانطية حرمت الأنسنة الدينية، لكن كانط نفسه طور في كتاب "نقد ملكة الحكم" شكله الخاص من الأنسنة الدينية. وكان على شيلر إذا أراد الاحتفاظ بأنسنته الدينية أن يحذو حذو كانط. ومع ذلك، لأسباب خاصة بشيلر، فقد رفض استراتيجية كانط.
بدأت الشكوك تساور شيلر حول عقيدة العناية الإلهية، في ثمانينيات القرن الثامن عشر، قبل دراسته الدقيقة لكانط في تسعينيات هذا القرن. ففي "المشي تحت الزيزفون"13 وهو حوار كتبه شيلر في عام 1782، يدعي الشخص المتشائم المادي وولمار أن الطبيعة هي مشهد من الدمار واليأس والموت المستمرين، بلا أي غرض خلاصي. تتبع الطبيعة دورة من الخلق والدمار، "مثل الوحش القذر الذي يتغذى على فضلاته".
لا يشير شيلر في هذا الحوار إلى رد معقول على شكوك وولمار. وبعد ذلك في "الرسائل الفلسفية" الذي نُشر لأول مرة في عام 1786، سقطت شخصية يوليوس في حالة من اليأس، لأنه فقد إيمانه السابق بالله والعناية الإلهية.14 لقد نصحه معلمه رافائيل بالتمسك فقط بتلك المعتقدات التي تصمد أمام التمرين النقدي للعقل، ولا يجد يوليوس دليلًا يكفي للتمسك بنظامه الديني القديم. ويعترف يوليوس لرافائيل: "إن هجومًا جسورًا من طرف المادية من شأنه أن يسقط الخليقة بأكملها".15 وهنا مرة أخرى، لا يقدم شيلر إجابة مقنعة على شكوك يوليوس. ويُترك القارئ في حالة تشويق. وقد وعد شيلر بتكملة الرسائل، ومع ذلك لم تأتِ هذه التكملة أبدًا.
يبدو أن كل شكوك شيلر حول فكرة العناية الإلهية قد أكدتها فلسفة كانط، فقد كان المبدأ الرئيسي لكتاب "نقد ملكة الحكم" أنه ليس للعقل مبرر نظري لإصدار أحكام غائية حول الطبيعة. ويقول كانط أنه لا يمكن أن يكون لدينا دليل كافٍ لفرضية أن الطبيعة تحكمها غايات، وبالتالي ليس لدينا حق افتراض أن الطبيعة قد خُلقت وفقًا لخطة صممها الله.
كان هذا تركيزًا على الجانب السلبي فقط لتعاليم كانط، ولكن هناك جانب إيجابي أيضًا. في الأقسام 86-87 من "نقد ملكة الحكم"، جادل كانط بأنه على الرغم من أن مفهوم العناية الإلهية لا يمكن أن يكون له تبرير نظري أو ميتافيزيقي، إلا أنه يمكن أن يكون له تبرير عملي أو أخلاقي. ثم شرح كانط مفهومًا للعناية الإلهية متمركزًا حول الإنسان، مثل ذلك المتضمن في الأنسنة الدينية لشيلر تمامًا. وأوضح أنه يمكننا أن نفترض 1) كل الطبيعة موجودة لغاية ما، وأن 2) هذه الغاية ليست أقل من إعمال القوى الأخلاقية للإنسان. بعبارة أخرى، جادل كانط بأننا مبررون في افتراض، ولو على أسس عملية وأخلاقية فقط، أن الغاية النهائية للخلق هي إعمال القدرات الأخلاقية للبشر.
هنا إذن كان كانط يعرض على شيلر مخرجًا، استراتيجية لإنقاذ الجوانب الدينية لأنسنته. فإذا تبنى شيلر التبرير من خلال العقل العملي وليس العقل النظري، يمكنه الحفاظ على مفهوم العناية الإلهية وفكرة أن الإنسان هو تاج الخليقة. فلا يزال بإمكان شيلر الحفاظ على أنسنته الدينية، وأن يكون مدافعًا عن الفلسفة النقدية، وهي طريقة للتمسك بإيمانه وعقله النقدي في نفس الوقت.
على الرغم من إغراء هذا العرض، فقد رفضه شيلر بحزم وحتى بفظاظة. لقد وضع استثناء قويًّا من عقيدة كانط للإيمان العملي، ومن أي محاولة لإنقاذ العقائد الدينية القديمة من خلال الاحتكام إلى الأخلاق. وهذا واضح جدًّا في رسالة شيلر بتاريخ 28 فبراير 1793 إلى كورنر: "أشك كثيرًا فيما إذا كان كانط قد قام بعمل جيد لدعم الدين المسيحي على أسس فلسفية. كل ما يمكن للمرء أن يتوقعه من الخصائص المعروفة للمدافعين عن الدين، هو أنهم يقبلون الدعم الذي يتلقونه، ولكنهم يتخلصون من الأسس الفلسفية، وبالتالي لم يفعل كانط شيئًا أكثر من إصلاح صرح الغباء المتهالك".16
لا يقول شيلر أي شيء هنا على عن دفاع كانط الأخلاقي أو العملي عن المسيحية، لكن من الواضح أنه يرفض أي دفاع فلسفي عن المسيحية، التي يعتبرها "صرح الغباء المتهالك". ويشير شيلر إلى أن أي محاولة لإصلاح هذا الصرح ستفشل.
يبقى السؤال لماذا رفض شيلر بشدة، الاستراتيجية الكانطية لإنقاذ مفهوم العناية الإلهية، من خلال الوسائل العملية أو الأخلاقية؟ والجواب واضح، ولكنه متناقض أيضًا: رفض شيلر الاستراتيجية الكانطية لجميع الأسباب الكانطية أيضًا. والسبب الأكثر أهمية لتحول شيلر إلى كانط في تسعينيات القرن الثامن عشر، هو مبدأ الاستقلالية الكانطي: الشخص ملزم فقط بطاعة تلك القوانين التي يضعها ككائن عقلاني. ونعلم أن شيلر أكد هذا المبدأ واحتفل به بالفعل. فقبل عشرة أيام فقط من رسالته في 28 فبراير إلى كورنر، كتب شيلر له في 18-19 فبراير 1793: "بالتأكيد لم يتحدث إنسان بشري عن عوالم أعظم من تلك العوالم الكانطية، والتي هي محتوى فلسفته بأكملها: قرر بنفسك...".17
كانت "قرر بنفسك" صياغة أخرى من أجل فكرة الاستقلالية، والحكم الذاتي، وتوجيه حياتك وفقًا لقواعد تضعها بنفسك. وكرس شيلر حياته المهنية والأدبية والفلسفية للحرية، التي أعطاها كانط تعبيرها الفلسفي الدقيق.
إذا قبلنا مبدأ الاستقلالية، فلا يزال بإمكاننا التمسك بمفهوم العناية الإلهية. يمكننا أن نقول إن هناك تناغمًا بين المبادئ التي نحكم بها أنفسنا، والمبادئ التي تحكم الطبيعة. ويوجد هذا التناعم لأن كلا المبدأين يحكمهما العقل، وهو موجود في النشاط الواعي للذات، وكذلك في الطبيعة. كان هذا هو الحل لهذه المشكلة في الرواقية الكلاسيكية، التي كان لها نسختها الخاصة من كلا المبدأين. كافح الحكيم الرواقي من أجل توافق كل شيء في الحياة مع إرادته، التي لم تخضع أبدًا لحوادث القدر، لكنه أمر أيضًا باتباع قانون الطبيعة ليتوافق مع العناية الإلهية. إن حل هذا التوتر الواضح، يكمن في مفهوم العقل الرواقي، الذي يحكم الطبيعة والإرادة وفقًا لنفس القوانين.
على الرغم من أنه كان لا يزال بإمكان شيلر، مثل الرواقيين، التمسك بمفهوم العناية الإلهية، إلا أنه اختار عدم الاحتفاظ به؛ لقد أصبح بالنسبة له مثل الأمتعة الزائدة. فمبدأ الاستقلالية وحده يكفي لتبرير الأخلاق، وليس هناك حاجة لتبني مفهوم العناية الإلهية كدعم أساسي. وبعبارة أخرى، أصبح مفهوم العناية الإلهية غير ضروري. إن أساس السلطة الأخلاقية يكمن في الإرادة العقلانية وحدها، بغض النظر عن وجود الله أو عدم وجوده. لذلك ليس من المستغرب، أن نرى أنه بعد تحول شيلر إلى كانط، تختفي ميتافيزيقيا كتاباته السابقة. فقد تخلى شيلر عن اللاهوت والأخلاق كأساس لأنسنته، وذلك دون الإعلان عن هذا التخلي.
سار تفكير شيلر في أواخر ثمانينيات وأوائل تسعينيات القرن الثامن عشر، في اتجاه أقل تدينًا، بل في الواقع في اتجاه معادٍ للدين. وسبب هذا التحول قصة صعبة وطويلة، ولا يمكنني سردها هنا. يكفي أن أُشير هنا إلى المبدأ الكامن وراء هذا التفكير. هذا المبدأ هو "مبدأ المحايثة"،18 وهو اسم سيظهر لاحقًا في الفلسفة الألمانية. ينص هذا المبدأ على وجوب السعي إلى الغرض من الحياة، وهو الخير الأسمى، في هذه الحياة وحدها، وأنه لا يمكن العثور عليه في جنة ما خارج الأرض. فما هو ذو قيمة في هذه الحياة، ليس له معنى أو غرض يتجاوز هذه الحياة، لذلك من غير المجدي توجيه الحياة نحو ما يتجاوزها. كان لهذا المبدأ تاريخ عظيم، يعود إلى التقاليد الأبيقورية والمادية. لكن هذا المبدأ كان لا يزال مثيرًا للجدل جدًّا في عصر شيلر، بسبب انتشار المسيحية وهيمنتها. وأدخلت القصائد التي يشير فيها شيلر إلى وثنيته، وتفضيله لمبدأ المحايثة (قصيدة "الاستقالة"، قصيدة "آلهة اليونان") شيلر في الكثير من المتاعب والجدل.
كان مبدأ المحايثة نقيضًا أساسيًّا للتراث المسيحي بأكمله. كان محور هذا التراث هو موقفه من الخير الأسمى، كما ذكر أوغسطين، في الكتاب التاسع عشر من كتاب "مدينة الله". تناول أوغسطين مشكلة الخير الأسمى كما ناقشها الفلاسفة الوثنيون، وجادل أوغسطين بأن هذه المشكلة ليس لها إلا حل مسيحي فحسب. فلا يمكن أن يوجد خير أسمى في هذه الحياة، في المدينة الأرضية بسبب معاناتها المستمرة التي لا مفر منها، وبدلًا من ذلك يمكن أن يوجد في الحياة الآخرة، في المدينة السماوية، حيث يوجد سلام وتحرر أبديان من كل معاناة. لم يطعن أوغسطين في الادعاء الرواقي والأبيقوري بأن الخير الأسمى هو الطمأنينة، لكنه رأى أن هذه الطمأنينة تحدث في العالم السماوي وليس العالم الأرضي. وفي عصر الاضطرابات السياسية (انهيار الإمبراطورية الرومانية)، بدت حجة أوغسطين حول إمكانية السلام والطمأنينة مقنعة. وسادت هذه الحجة طوال العصور الوسطى، وحتى بداية العصر الحديث. وكانت عقيدة أوغسطين أساسية بالنسبة لمصلحين عظيمين هما لوثر وكالفن، اللذان استمرا في التبشير بأن السلام والطمأنينة الأبديين، لا يمكن العثور عليهما إلا في الجنة. وساد لاهوتهم، وإن كان في شكل مخفف، حتى في أواخر القرن الثامن عشر في ألمانيا.
يوضح هذا أن مبدأ المحايثة، كان لا يزال مثيرًا للجدل جدًّا في عصر شيلر. وتثير الشعبية المتزايدة لهذا المبدأ سؤالًا مهمًّا: ما الرد على حجة أوغسطين؟ إذا كانت الحياة على الأرض مسرحًا للمعاناة والمأساة المستمرتين، وهو ما لا يمكن إنكاره، فكيف نجرؤ على افتراض أنه يمكن العثور على الخير الأسمى هنا؟ واجه شيلر، مثل جميع مفكري التنوير، هذا السؤال. وكانت إجابته مثل العديد من منوري عصره: إن البشر، من خلال جهودهم الخاصة، ومن خلال استخدام ملكاتهم الطبيعية، يمكنهم تحسين الحياة على الأرض بحيث لا تُعد مسرحًا للمعاناة المستمرة. فإذا استخدم البشر عقلهم الطبيعي وإذا قرروا تحقيق غاياته، يمكنهم الاقتراب تدريجيًّا من تحقيق الخير الأسمى، حتى لو لم يتمكنوا من تحقيقه. ويمكن أن يكون خلاص البشر هنا على الأرض.
تكمن وراء هذا التفاؤل عقيدة شجبها أوغسطين، وأدانها رسميًّا، وهي البيلاجية. كانت هذه عقيدة تبناها لأول مرة بيلاجيوس رجل الدين الويلزي في القرن الخامس، وهي ترى أن البشرية يمكنها تحقيق الخلاص من خلال جهودها الخاصة وملكاتها الطبيعية، وبالتالي فهي لا تحتاج إلى نعمة إلهية. أعلن أوغسطين في عام 416 أن هذه العقيدة هرطقة. ومن السهل فهم مصدر معارضة أوغسطين: إذا تمكنا من تحقيق الخلاص من خلال جهودنا الخاصة، فما الحاجة إلى النعمة الإلهية؟ ما الحاجة حتى لعالم سماوي؟
تظهر البيلاجيانية الجديدة عند شيلر صراحة في مقالته "في المجتمع البشري الأول" التي نُشرت لأول مرة في صحيفة تاليا عام 1790. 19 وهنا يطرح شيلر الحجة القائلة بأن البشرية يمكن أن تستعيد، من خلال قدراتها الطبيعية وجهودها الواعية بذاتها، السعادة والكمال اللذين أُعطيا لها ذات مرة في حالة الطبيعة. فيمكن إعادة إنتاج ما قدمته لنا الطبيعة (السلام والوئام) من خلال استخدام عقلنا. يتبنى شيلر بهذا القول المفهوم المسيحي القديم للسقوط (تمثل حالة الطبيعية عنده جنة عدن)، لكنه يفترض أيضًا إمكانية الخلاص في هذه الحياة. وتحدث دراما البراءة/ السقوط/ الخلاص بالكامل على مسرح هذه الحياة، دون الحاجة إلى جنة مستقبلية. أود الإشارة إلى أن أفضل طريقة لقراءة مقالة شيلر، هي اعتبارها ردًّا على تشاؤمية أوغسطين. يقول شيلر إنه لا يزال من الممكن العثور على الخير الأسمى على الأرض لأنه يمكن تغييرها، ولو ببطء وتدريجيًّا، من خلال جهودنا الخاصة، لذلك لا داعي لأن يظل مشهد المحنة، والمرض، والموت، الذي صوره أوغسطين إلى الأبد.
من المهم رؤية أن مبدأ المحايثة يتطلب بيلاجانية جديدة - إذا كان من الممكن تحقيق الخير الأسمى في هذه الحياة، فيجب أن تكون قدراتنا الطبيعية كافية للمهمة - لكن العكس لا يصح، فمن الممكن أن توجد بيلاجانية جديدة، ويستمر التأكيد أن الخير الأسمى لا يمكن تحقيقه إلا في السماء، فيقال يمكننا استخدام ملكاتنا الطبيعية لكسب خلاصنا، على الرغم من أن الخلاص لا يزال يحدث في السماء. احتاج شيلر إذن إلى سبب مستقل لتأكيد مبدأ المحايثة. وهذا يتركنا مع السؤال: لماذا أكد شيلر هذا المبدأ في المقام الأول؟
تكمن الإجابة في مفهوم "شيلر" للخير الأسمى، والذي كان يتطور في اتجاه دنيوي في تسعينيات القرن الثامن عشر. وفقًا لهذا المفهوم، فإن الخير الأسمى يتألف من التطوير الكامل والشامل للإمكانات البشرية، الذي لا يشمل فقط القدرات الفكرية للبشر، ولكن يشمل قدراتهم الحسية أيضًا.20 وقد أكد شيلر هذه الأطروحة بشكل خاص في كتاب "التربية الجمالية للإنسان" حيث يشرح "وجهة نظره الأنثروبولوجية الكاملة"، التي وفقًا لها يكمن الكمال البشري في تطوير القدرات الحسية، وكذلك العقلانية للشخص. وبالتشديد على تطوير جوانبنا الحسية والعقلانية، عارض شيلر كانط وفيشته، اللذين رأيا تحقيق الذات من منظور عقلاني ضيق. وبتركيز شيلر على الجانب الحسي للإنسان، فقد وضع تحقيق الخير الأسمى بحزم في المجال الأرضي، لأن الجانب الحسي من الإنسان ينطوي على جانبه المادي، الذي لا يوجد إلا هنا على الأرض. بعبارة أخرى، فإن مفهوم شيلر للكمال البشري أو تحقيق الذات، يعني أنه يجب أن يحدث على الأرض. إذا كان للإنسان أن يحقق الخير الأسمى، فلا يمكنه فعل ذلك في أي مكان آخر غير هذه الحياة، في العالم المادي الموجود الآن.
الآن يمكننا أن نرى بشكل أوضح لماذا أصبحت إنسانية شيلر مناهضة للدين. لم يعد هناك مكان في فلسفته لعقيدة الاقتداء بالله القديمة. إذا كان الخير الأسمى يكمن في تطوير حساسيتي، فلم يعد من الممكن القول إنني بكمالي أقترب من الطبيعة الإلهية. إن صقل جانبي الجسدي والحسي، لا يأخذني نحو الروحانية النقية للطبيعة الإلهية، بل يبعدني عنها. يشير مفهوم شيلر للأنسنة هنا إلى إعادة اكتشاف الحساسية، التي ستحدث في حركة ألمانيا الفتاة، في ثلاثينيات القرن التاسع عشر.
لذا فإن تطور النزعة الإنسانية لشيلر، من أواخر سبعينيات القرن الثامن عشر إلى أوائل تسعينيات هذا القرن، يُظهر التحييث أو العلمنة التدريجيين لفكره. فيختفي البعد المتعالي والميتافيزيقي، عندما يلغي شيلر أخلاق الاقتداء بالله، ويزيل الحاجة إلى اللجوء إلى العناية الإلهية. إن مصدر المبادئ الأخلاقية يكمن في الإرادة البشرية وحدها وفق مبدأ الاستقلالية، ومحل الكمال البشري يكون في هذا العالم وحده وفق مبدأ المحايثة. إذا ركزنا على هذه النقاط، فإننا نصل إلى استنتاج عام مهم: إن شيلر كان من أوائل الأنسنيين الألمان الذين أزالوا البعد الديني من الأخلاق. وفي هذا الصدد، كان شيلر أبًا للراديكاليين الذين جاؤوا من بعده، ديفيد فريدريك شتراوس، ولودفيغ فيورباخ، وفريدريك نيتشه.21
NOTES
1 On the intellectual background of the Karlschule, see E. Müller, Der Herzog und das Genie: Friedrich Schillers Jugendjahre, p. 25-128; R. Buchwald, Schiller I, p. 181-198; W. Riedel, Die Anthropologie des jungen Schiller; and P.-A. Alt, Schiller I, p. 113-134, p. 141-150.
2 A. Pope, An Essay on Man, epistle II.
3 On anthropology in the Scottish Enlightenment, see A. Garret, “Anthropology: the ‘original’ of human nature”.
4 Aristotle, Nicomachean Ethics, Book X, chap. 7, 1177a-1178a.
5 See C. Wolff, Philosophia prima sive Ontologia, §1 “Ontologia seu Philosophical prima est scientia entis in genere, seu quatenus ens est.”
6 See F. Schiller, Philosophie der Physiologie, §1, NA XX, p. 10-11; and Philosophische Briefe, NA XX, p. 119.
7 Aristotle, Nicomachean Ethics, Book X, chapters 4 and 5, 1174a-1176a.
8 On the importance of this question for Schiller and the Karlschule, see L. A. Macor, Der morastige Zirkel der menschlichen Bestimmung: Friedrich Schillers Weg von der Aufklärung zu Kant, p. 25-71.
9 J.J. Spalding, Betrachtung über die Bestimmung des Menschen (1748). This book went through many editions, the last of which appeared in 1794.
10 The controversy partly took place in the correspondence between Herder and Mendelssohn. For Herder’s letters, see J. G. Herder, Briefe, Gesamtausgabe: 1763-1803, I, p. 137-143, 177-181; for Mendelssohn’s letter to Herder, see M. Mendelssohn, Gesammelte Schriften. Jubiläumsausgabe, 12/1, p. 182-87; and M. Mendelssohn, “Anmerkungen zu Abbts freundschaftlicher Correspondence’. See also the original exchange between Moses Mendelssohn and Thomas Abbt, T. Abbt, “Zweifel über die Bestimmung des Menschen”; and M. Mendelssohn, “Orakel, die Bestimmung des Menschen betreffend”. For a clear account of the whole dispute, see A. Altmann, Moses Mendelssohn: A Biographical Study, p. 130-140, p. 167-179.
11 F. Schiller, Philosophie der Physiologie, NA XX, p. 10.
12 Ibid.
13 F. Schiller, “Spaziergang unter den Linden,” NA XXII, p. 78.
14 F. Schiller, Philosophische Briefe, NA XX, p. 109-111.
15 Idem, p. 78.
16 F. Schiller, letter to Körner, 28 January 1793, NA XXVI, p. 219.
17 Idem, p. 191.
18 The first to use this phrase, as far as I have been able to determine, was Schopenhauer. See A. Schopenhauer, ‘Über das metaphysische Bedürfnis’, Die Welt als Wille und Vorstellung, SW II, p. 234, 237. Cf. SW I, p. 377. In 1865 two works appeared that argue for this principle, even if they do not name it as such. The first is O. Liebmann’s, Kant und die Epigonen, p. 208-209; the second is E. K. Dühring’s, Der Wert des Lebens, 4-5. Both authors argue that the question of the value of life can be determined only within life itself.
19 Cf. F. Schiller, “Etwas über die erste Menschengesellschaft,” NA XVII, p. 398-413.
20 F. Schiller, Ueber die ästhetische Erziehung des Menschen in einer Reihe von Briefen, NA XX, p. 316-317, 375-376n.
21 For a development of some of these themes in Schiller, see my earlier monograph: F. C. Beiser, Schiller as Philosopher: A Re-Examination; and in relation to the philosophy of Strauß, see F. C. Beiser, David Friedrich Strauß, Father of Unbelief: An Intellectual Biography.
Abbt Thomas,“Zweifel über die Bestimmung des Menschen,” Literaturbrief, June 21, 1764, in: Mendelssohn Moses, Gesammelte Schriften. Jubiläums ausgabe, V/1, 619-29.
Alt Peter-André, Schiller: Leben – Werk – Zeit. Eine Biographie, München: Beck, 2000.
Altmann Alexander, Moses Mendelssohn: A Biographical Study, London : Routledge & Kegan Paul, 1973.
DOI : 10.3828/liverpool/9780197100158.001.0001
Aristotle, Nicomachean Ethics, Chicago: University of Chicago Press, 2011.
DOI : 10.1093/actrade/9780198752714.book.1
Augustine, De Civitate Dei, The City of God, Oxford: Oxford University Press, 1999.
Buchwald Reinhard, Schiller. Leben und Werk, Wiesbaden: Insel, 1953.
Beiser Frederick C., Schiller as Philosopher: A Re-Examination, Oxford: Oxford University Press, 2005.
DOI : 10.1093/019928282X.001.0001
Beiser Frederick C., David Friedrich Strauß, Father of Unbelief: An Intellectual Biography, Oxford: Oxford University Press, 2020.
Dühring Eugen Karl, Der Wert des Lebens: Eine philosophische Betrachtung, Breslau: Verlag von Eduard Trewendt, 1865.
Garret Aaron, “Anthropology: the ‘original’ of Human Nature,” in: Broadie Alexander (ed.), The Cambridge Companion to the Scottish Enlightenment, Cambridge : Cambridge University Press, 2003, p. 79-93.
Herder Johann Gottlieb, Briefe, Gesamtausgabe: 1763-1803, edited by Wilhelm Dobbek and Günter Arnold, Weimar: Hermann Böhlaus Nachfolger, 1977ff.
Liebmann Otto, Kant und die Epigonen: eine kritische Abhandlung, Stuttgart : Carl Schober, 1865.
Macor Laura Anna, Der morastige Zirkel der menschlichen Bestimmung: Friedrich Schillers Weg von der Aufklärung zu Kant, Würzburg: Königshausen & Neumann, 2010.
Mendelssohn Moses, Gesammelte Schriften. Jubiläumsausgabe, Berlin : Akademie Verlag, 1929ff.
Mendelssohn Moses, “Anmerkungen zu Abbts freundschaftlicher Correspondence,” Jubiläumsausgabe, VI/1, p. 148-150.
Mendelssohn Moses, “Orakel, die Bestimmung des Menschen betreffend,” Jubiläumsausgabe, V/1, p. 630-37.
Müller Ernst, Der Herzog und das Genie: Friedrich Schillers Jugendjahre, Stuttgart : Kohlhammer, 1955.
Pope Alexander, An Essay on Man, in: The Poems of Alexander Pope, vol. 2, edited by John Butt, New Haven: Yale University Press, p. 501-547.
DOI : 10.1515/9781400880447
Riedel Wolfgang, Die Anthropologie des jungen Schiller: zur Ideengeschichte der medizinischen Schriften und der „Philosophischen Briefe“, Würzburg: Königshausen & Neumann, 1985.
Schopenhauer Arthur, „Über das metaphysische Bedürfnis“, Die Welt als Wille und Vorstellung, in: Sämtliche Werke (SW), hg. v. Wolfgang Freiherr von Löhneysen, Darmstadt: Wissenschaftliche Buchgesellschaft, 1989, II, p. 234-237.
Spalding Johann Joachim, Betrachtung über die Bestimmung des Menschen, Greifswald: Johann Jacob Weitbrecht, 1748.
Wolff Christian, Philosophia prima sive Ontologia, Frankfurt: Renger, 1736.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط الخاصة بنا وملفات تعريف الارتباط الخاصة بالجهات الخارجية حتى نتمكن من عرض هذا الموقع وفهم كيفية استخدامه بشكل أفضل ، بهدف تحسين الخدمات التي نقدمها. إذا واصلت التصفح ، فإننا نعتبر أنك قبلت ملفات تعريف الارتباط.