ليست التفرقة بين الصّديق والعدو، بين النحنُ والـهُـم، بتفرقة سرمديّة. بوسع المرء أن يتخيّل (بل ويشهد) تلاشيها. بيد أنّ هذا التلاشي له أثرٌ على تشويش حقل التباري السياسيّ. فبدون التفرقة بين الصّديق والعدو، فإنّنا نخسرُ السياسةَ بما هي كذلك -أو بالأحرى، يخضع الشكل الذي تفترضه السياسةُ إلى تحول دراماتيكي وبائس. وذلك هو الاستبصار المركزيّ لكارل شميت (Carl Schmitt) وأحد أسباب سطوة شميت في أوساط المُنظِّرين السياسيين اليساريين المُعاصرين؛ هؤلاء المُنظّرين الذين ربّما كان شميت لَيعتبرهم بمثابة شُركاء فراش أغراب. يرى شميت تمامًا ما يجنيه تقابُل الصّديق– العدوّ من مكاسب بالنسبة إلينا.
وفقًا لشميت، تُشكّل التفرقة بين الصّديق والعدو حقل السياسة لأنّها تمدّنا بشيءٍ يستحقّ القتال من أجله. يقول شميت:
"إنّ العالم الذي تُقضَى فيه تمامًا على إمكانيّة الحرب، العالَم المُسالِم كُليًّا، سيكون عالَمًا خِلْوًا من تفرقة الصّديق والعدوّ، ومن ثمّ فهو عالَم بدون سياسة. من المتصوّر أنّ عالَمًا كهذا قد يشتملُ على الكثير من النقائض والتبايُنات المُثيرة للغاية، وعلى التنافسات والدسائس من كلّ ضربٍ، ولكن لن يكون هناك نقيضٌ مُجدٍ، ذي معنى، يمكن للبشر بمقتضاه أن يُطلَب من التضحية بالحياة، والسّماح بسفك الدّماء، وقتل البشر الآخرين." (Schmitt, 1996, p. 35).
إن صورة عالَمٍ لم يعد يطلب منا "التضحية بالحياة" و"قتل البشر الآخرين" تبدو أفضل بكثير من عالَم يهمين العنفُ السياسيُّ عليه. بيد أنّ "عالمًا بلا سياسة" -نتيجةَ القضاء على تفرقة الصديق/العدوّ أو الهُم/والنحن- هو أيضًا عالمٌ يكبتُ بداخله العداوة. ويؤدي كبت العداوة إلى عودتها في شكل أحزاب يمينيّة شعبويّة، وجماعات إرهابيّة وأصوليّات دينيّة. بعبارةٍ أخرى، إنّ السعي إلى التهرّب من تفرقة العدّو-الصديق هو سعيٌ عقيم.
يخلقُ غياب المعارضة السياسيّة الأصيلة داخل عالم الرأسماليّة العالميّة المعاصرة الشروط التي تنبثق منها العداوة بأشكال بربريّة على نحوٍ متزايد. إنّ شانتل موف (Chantal Mouffe)، وارتكازًا إلى مزاعمها عن الرابط الذي يقيمه شميت بين تفرقة الصديق/العدو والسياسة، لتكشفُ وتُبِينُ عن الكلفة المقتضية لكبت الخصومة والتشديد على قيمة التوافق السياسيّ. أو مثلما تقول: "فضبابيّة الحدود بين اليمين واليسار وغياب جدال نزاعيّ في أوساط الأحزاب الديمقراطيّة … قد تمخّض عن فراغٍ كان من المحتمل أن تشغله أضرابٌ أخرى من التجانسات التي قد تصبح بمثابة إشكاليّة بالنسبة إلى عمل واشتغال النّسق الديمقراطيّ[1]" (Mouffe, 2005, p. 69). والأمرُ حقًا كما تنظر إليه موف بصورة صائبة؛ فكلّما كبتنا الخصومة والعداء ولغينا تفرقة الـهُم/الـنَحنُ، آبتْ إلينا في أشكال عنيفة بصورة أشدّ تزايدًا. إذ تُشكّل الخصومة لبّ العلاقة الاجتماعيّة؛ وهي تؤثّر، ولا بدّ، على كلّ تدبيرٍ اجتماعيّ، سيّما تلك التدابير التي تسعى إلى تجاوزها.
يتمثّل حلّ شانتل موف لضرورة التفرقة بين الهُم/النحن في ضرورة العمل على موقعة هذه التفرقة في صلب النسق الديمقراطيّ نفسه. والحال أنّ الاضطلاع بهذه الموقعة ينطوي على استبدال الصراع العدائيّ بين الأعداء بما أسمته موف بالجدال النزاعيّ بين مختلف المعسكرات السياسيّة. وعلى الرغم من أن موف تهاجم النموذج الإجماعيّ (consensus model) بسبب كبته وقمعه للعداء السياسيّ، إلا أن بديلها يرتكز على الإجماع مناصفةً. فإذا كان لفكرة موف عن الجدال النّزاعيّ أن تؤتي أُكلها بصورة سليمة؛ فلا بدّ للمتشاركين أن يقبلوا، بشكل أساسيّ، بالعمليّة الديمقراطيّة وبنتائجها. إذ لا يُسمَح لأيّ شخصٍ يرفض هذه العمليّة أن يشارك في اللعبة [الديمقراطيّة]. وعلى إثر ذلك، فعوضًا عن فكّ الكبت والقمع الممارس على الخصومة والعداء، يواصل الجدال النّزاعيّ هذا القمع، ومن ثمّ لا يُسدي شيئًا لتحرير العودة العنيفة للمكبوت. بيد أنّ موف، مع ذلك، تتحرّك في الاتّجاه الصّواب. ويكمنُ السرّ، كما ترى موف، في تجاوز الشّكل التقليديّ للعداء دونما إبطال للعداء بحدّ ذاته. والحال أنّ نظرية جاك لاكان عن الجنسنة (sexuation) هي التي تسمح لنا بأن نتّخذ هذه الخطوة.
يُولي لاكان، خلافًا لكارل شميت، الاعتبار لكيف يُمكن أن يُنقَذ العداء السياسيّ دون الإبقاء على تفرقة العدو/الصّديق في شكلها النموذجيّ. فعلى الرّغم من أنّ هذه التفرقة تهمين على النّمط الشائع من التفكير في السياسة، إلا أنها لا تستنفد هذا الحقل. ينسجمُ التعارض بين الصديق والعدو مع تصور لاكان للذاتية الذكورية (male subjectivity): فالذّات الذكوريّة تشكّل نفسها من خلال شخصيّة تُهدّد اقتدارها على الإشباع (satisfaction). ومن ثمّ، فلا وجود لذات ذكوريّة دونما تفرقةٍ بين الهُم والنّحن. غير أنّ الذاتيّة الأنوثيّة تُقدّم نموذجًا مباينًا إرشاديًّا ههنا. إذ تحدثُ الجنسنة الأنوثيّة، كما يرى لاكان، دون إحالة إلى عدوّ مهدِّد كذلك الذي تقتضيه الجنسنة الذكوريّة، ونظرًا إلى هذا السبب؛ تُقدّم لنا الذاتيّة الأنوثيّة نسيجًا لإعادة تشكيل الصراع السياسيّ.
إنّ تصوّر لاكان للجنسنة الذكوريّة والأنوثيّة إنّما يرى كلًّا منهما كسبيل مميّزة للولوج إلى اللغة. إذ الذاتيّتان الذكوريّة والأنوثيّة، في فكر لاكان، هي مقولات/تصنيفات بنيويّة (structural)، وليست بمقولات بيولوجيّة. ولمّا كانت اللغة مُبَنْينَة حول الدّال صاحب الامتيازات (ما يُحدّده فرويد (١٩٣١) بالفالوس)، فإنّ هنالك احتماليْن للولوجِ إلى اللغة وضربيْن من الذاتيّة مختلفين ناجمين عن ذلك. الأوّل هو إمّا أن يكون لدى المرء هذا الدالّ صاحب الامتيازات [الفالوس]، أو أنّ المرء لا يمتلكه. ينطوي كلّ ضرب من ضربيْ الذاتيّة هذينِ على شكلٍ نفسانيّ إضافيّ يؤسّس المسارات التي تتحصّل الذاتُ من خلالها على الإشباع.
ظاهريًّا، يبدو أنّ امتلاك الفالوس هو الحلّ الأمثل. إذ ينولُ المرء، بحيازته الفالوس، اعترافًا اجتماعيًّا، ومن المؤكّد أنّ مَن هم على الصّعيد الذكوريّ كانوا أفضل من الناحية الماديّة على مرّ معظم التاريخ. كما إنّ مَن يحوزون على الفالوس يتبّوؤن على مناصب السّلطة العليا في المجتمع؛ حيث إنّ الفالوس في واقع الأمر هو رديف للسلطة الاجتماعيّة. بيد أنّ الذاتيّة الذكوريّة، مَثلها مثل السياسة القائمة على التعارُض بين الهم والنحن، تعاني من تقييدٍ لا يَمس الذاتيّة الأنوثيّة. أن تمتلك الفالوس يعني أن تكون على الدّوام متشكّكًا في أنّ المرء سيمتلكه دائمًا. إذ إنّ امتلاك الفالوس يُخلِّف المرء مهدّدًا بصورة دائمة بفكرة خسارته، وفي الوقت نفسه يسعى لحيازة تكون أكثر أصالةً ووثوقيّة.
تمتلكُ الذات الذكوريّة الدّال صاحبَ الامتيازات، إلّا أنّ هذا الامتياز يبقى هشًّا حتى، لأنّ الذاتيّة الذكوريّة تُشكّل نفسها بالإحالة إلى تهديد متمثّل في الإخصاء (castration). حيثُ المرء يمتلكُ الفالوس مقدارَ ما يتحمّل تهديد خسرانه. والحال أنّ هذا التهديد يَحدّ، بصورة قاسية، ممّا يمكنُ للذات الذكوريّة أن تفعله. فعوضَ أن يُحرّر الذات، يُقيّدها امتلاكُ الفالوس في شكل من الهويّة محكم بقوّة. وهذه الذات، كما يصفها جاك -آلان ميلر (Jacques-Alain Miller)، هي "كينونة ثقيلة، ومُثقلَة، وترضخُ على أكتافها أثقالُ الحيازة والامتلاك. فالحيازةُ بمثابة عائق لهذه الذات، ولمّا كانت هذه الذاتُ تمتلكُ شيئًا يمكنها أن تخسره؛ فقد حُكِمَ عليها بالحصافةِ والرزانة" (Miller, 2000, p. 20). فعلى الذّات التي تمتلك الفالوس أن تحرص، دائمًا، من أن تتصرّف على نحوٍ يتسبب في خسارتها.
والحال أنّ مشكلة امتلاك الفالوس لا تتأتّى فحسب من التهديد المتواصل بالخسارة، وإنّما تتأتّى أيضًا من استحالة امتلاكه فعليًا. تُوجد الذاتيّة الذكوريّة في علاقةٍ مع مثل أعلى من الحيازة المثاليّة، متمثلًا في انعدام الإخصاء والذي لا يمكن تحقيقه وبلوغه البتة. والحال أنّه في تصوّر لاكان عن الجنسنة الذكوريّة (1994)، فإنّ كلّ الرّجال -ما عدا واحدٍ- خاضعون لتهديد الإخصاء. إن الشخصية، خارج القانون الرمزي، التي ترسي هذا القانون تتمثل في الأب الأولي الأسطوري الذي يحوز الفالوس بصورة آمنة عبر مقدرته على التمتع بالنساء كافة دون قيد (Freud, 1913). يُجسد هذا الأب المثالي الحيازة المثالية للفالوس والتي لا يمكن لمحض ذات ذكورية فانية أخرى أن تكتسبها. إن لدى الذاتية الذكورية حدًا مرسمًا بوضوح من خلالها يمكنها أن تشكل نفسها؛ وذلك لأنها لا توجد إلا في علاقة مع مثل أعلى لا يمكنها البتة بلوغه. وفي الوقت عينه؛ فإن هذا المثال الأعلى هو بمثابة الغاية التي إليها تسعى الذات الذكورية، وهي أيضًا منبع التهديد بالإخصاء الذي يقوض سعي هذه الذات.
لا يمكن لبنية الذاتيّة الذكوريّة أن تكون في غنًى عن القوّة الخارجيّة التي تُهدد بإخصائها، ويصبو العدوّ لأن يشغل هذه المكانة المقتضية. ويستنتخُ كلّ عدوّ نموذج الأبّ المثاليّ الذي يُهدّد امتلاك الذات الذكوريّة للفالوس (ومن ثمّ، فإنّه يُهدّد مُتعته الجنسيّة). لكنّ العدوّ ليس بمجرّد نمط مختلف من الحياة المعادي لدخيلة الذات الذكوريّة؛ الحقيقة أنّه يمثّل تهديدًا قاتلًا لأسلوب مُتعة الذات. بيد أنّ مُتعة الذات الذكوريّة تقوم على تهديد الإخصاء. إذ تتطوّر جنسانيّة الذات الذكوريّة عبر هذا التهديد، وهو الذي يشكّل الفالوس بمكانته النفيسة والعالية هذه. ويُجسّد العدو هذا التهديد على الذات الذكوريّة، مما يُضفي طابعًا إيروتيكيًا على صنيع الحرب. حيث يغدو قتالُ العدوّ سبيلًا لتأسيس معقوليّة التهديد ومحاولةً لقهر هذا التهديد في الآن نفسه.
غير أنّ عَلاقة الذات الذكوريّة بتهديد العدوّ توضّح العقبة الأساسية التي تعوقها عن الاستمتاع والاستلذاذ بنفسها. إنّ الذات الذكوريّة بمثابة ورطة وجوديّة: إذ تحاول الذاتُ الذكوريّة أن تتكبّد مشقّة التهديد الذي يفرضه العدو[2]، وتسعى، في الوقت عينه، إلى أن تزيله عن كاهلها. وبقدر ما يُشكّل التهديد استحقاق وجدارة الفالوس؛ فإنّ الذات الذكوريّة لا يمكنها البتّة أن تظفر بإيقاع الهزيمة بالعدوّ بصورة ناجحة. وسيكون العوزُ الكلّيّ للذات -أي عجزه المكتمل عن الاستمتاع بنفسه- هو مآل ونتيجة الظفر الكلّيّ. وعليه؛ فإنّ الظفر على عدوّ واحد لا يُسفر عن نهاية العدوّ لا محالة، وإنّما سيُسفر عن شكلٍ جديد من العدوّ. وإذا لم يكن العدو موجودًا، فعلى الذّات الذكوريّة أن تخترعَه.
تُوفّر بنية الذاتيّة الأنوثيّة، كما هي عند لاكان (1994)، انفراجة تتجاوز النّمط السائد من تفرقة الهُم-والنحن، حيث لا تنطوي على كبت وإلغاء للعداوة. إنّ هنالك نموذجًا سياسيًا بديلًا كامنًا في صلب هذه البنية، ويقوم هذا النّموذج على تماهي الذاتيّة الأنوثيّة دونما حيازةٍ وامتلاك. إذ إنّ الذاتيّة الأنوثيّة مُبَنْيَنة حول العَوز، وهي تقتضي نمطًا ديناميكيًا مختلفًا عن نمط الذاتيّة الذكوريّة. وما يَظهر على أنّه افتقارٌ في الذاتيّة الأنوثيّة يغدو هو مَيزتها الأساسيّة[3]. فبالنسبة إلى هذه الذات، ليس بالإمكان أن تكون هنالك شخصيّة منعدمة الحيازة والامتلاك بصورة مثاليّة بحيث تكون بمثابة نظيرٍ للأبّ الذكوريّ الأوّليّ. حيث إنّ المثال الأعلى لانعدام الحيازة والتملّك لا يمكن تخيّله أو تصوّره. وهكذا، فإنّ غياب مثال أعلى متطابق للذاتيّة الأنوثيّة إنّما يُحرّر الذات الأنوثيّة من تهديد الإخصاء. فالإخصاء، بالنسبة إلى الذات الأنوثيّة، ليس تهديدًا، بل هو حدّ أساسيّ من دخليلة نمط هذه الذاتيّة بحدّ ذاتها.
ليس الأمر متعلقًا بأنّ الذاتيّة الأنوثيّة تتفادى حَدّ الإخصاء بالكليّة، ومن ثمّ فإنّ لها بنيةً لا محدودة مناقضة للطبيعة المحدودة للذاتيّة الذكوريّة. فكلا الذاتيّتيْن، الذكوريّة والأنوثيّة، تنطوي على حدٍّ ما، وكلاهما ذاتيّتان محدودتان، غير أنّهما يفترقان بصورة أساسيّة في المقاربة التي يتناولان بها الحدّ، وفي الشكل الذي تتّخذه لا محدوديّتهما. حيث تُشكّل الذوات الذكوريّة أنفسها من خلال سعي حثيث لا نهائيّ إلى مِثال اللاإخصاء الذي يمثّله الأبُ الأوّليّ. إنّ مشروع الذوات الذكوريّة هو مشروع لا نهائيّ يُطاردُ موضوعًا يتوارى كلّما أقبل المرء عليه -وهو ما يُسمّيه هيغل (1812–1816) باللانهائيّة الرديئة أو الزائفة. تكمن الإشكاليّة مع هذا الضّرب من اللانهائيّة، كما يراها هيغل، في أنّ سعيها خادع. فهي لا تسعى، البتة، إلى إحراز الهدف الذي تتعقّبه، وإنّما ما تريده، ببساطة، هو إعادة إنتاج فعل السّعي نفسه. وهكذا، فإنّ اللانهائيّ الزائف، كما هو عند لاكان (1994)، يفشلُ في إدراك الضرورة الداخليّة للحَدّ بالنسبة إلى مُتعته ولذّته[4].
أمّا الذاتيّة الأنوثيّة فتنولُ، على النّقيض من ذلك، لانهائيّةً أصيلة. فهي تنشأ على أساس حدّ أصيل -وهو الإخصاء- والذي يتطوّر إلى كونه مبدأ. يمكن، بطبيعة الحال، أن تتبنّى الذوات الأنوثيّة الفرديّة الموقف الذكوريّ وتسعى إلى مِثال اللاإخصاء، مثلما يمكن لأيّ رجل ذلك. والحال أنّ الشّكل الأكثر شيوعًا الذي يتّخذه هذا السعي يتمثّل في اعتناق هويّة الأمّ. بيد أنّ الجنسنة الأنوثيّة لا تُفضي، بحدّ ذاتها، إلى هذا الاتّجاه. حيث تُشكّل الذات الأنوثيّة نفسها من خلال عدم حيازة الفالوس، ومن ثمّ فإنّ الإخصاء يكون بمثابة تأسيس للذاتيّة الأنوثيّة. ولا تقتضي الذاتيّة الأنوثيّة تهديدًا؛ لأنّها تُجسّد التهديد، هي نفسها. وهذا التهديدُ هو تهديد الإخصاء المُستدخل/المُستبطن (internalized)، ويسمح هذا الاستدخال له بأن يتحوّل إلى تفرقة الـهُم-والنّحن.
إنّ السياسة القائمة على مفهوم لاكان للذاتيّة الأنوثيّة لتتجشّم العداوة التي تقتضيها السياسة. إذ يظلّ هناك داخلٌ وخارج، هُم ونحنُ، بيد أنّ مكانة الـهُم والنّحن تخضع إلى منعرج وتحوّل ما. فبدون شخصيّة الاستثناء لتأسيس الدّاخل، فإنّه لا يمكن لأحد أن ينتمي إلى الداخل. إنّ عالَم الذاتيّة الأنوثيّة هو عالمُ الـهُـم دون أيّةِ نحنُ. ولمّا كان تشكّل الذاتيّة الأنوثيّة يقتضي عدم الحيازة والتملّك، فإنّ الذات الأنوثيّة تبزغُ كذاتِ الـهُـم المُجرّدة من أيّةِ نحنُ قد تصارع سعيًا هذه الذات للانتماء إليها.
والحال أنّ نظرَ المرء إلى نفسه بوصفه العدوّ وما من أحد هو الصّديق إنّما يُبدّل ويغيّر فكرة الإقصاء. وإذا كان لا بدّ على المرء أن ينظر حتى إلى نفسه على أنّه عدوّ، فإذن العلاقة الليبراليّة التقليديّة بالإقصاء لا يمكن أن تبقى نافذة المفعول. إنّ الفكر السياسيّ الليبراليّ يبوّئ المسعى إلى احتواء المقصيين والمُستبعدين منزلة الصدارة والامتياز، من أجل توسيع مظلّة حقوق الإنسان أكثر فأكثر لتشمل هؤلاء الذين لم ينتفعوا، تاريخيًا، من حمايتهم. إلّا أنّ احتواء المُستبعدين سرعان ما يرتطمُ بحدّ مستعصٍ. إذ إنّ كلّ احتواء يُفضي بدوره إلى استبعاد متماثل. وحتّى في أوساط القادة السياسيين الأكثر ليبراليّة، فإنّ الدعوة إلى الصفح عن المهاجرين غير الشرعيين في الولايات المتحدة بالفعل هو أمرٌ لا يمكن فصله البتّة عن الدعوة إلى إحكام الأمن على الحدود للحَول دون تدفّق مزيد لمثل هؤلاء المهاجرين. ومن ثمّ، ومواجهةً للمأزق المستحيل الذي توالد على هذا النّحو، فإنّ تصوّر لاكان عن الذاتيّة الأنوثيّة ليضيء لنا مسارًا آخر مختلفًا.
وعوضًا عن السّعي إلى احتواء هؤلاء المُستبعدين، فيجب على صراعنا السياسيّ أن يتمركز، بدلًا من ذلك، على تشجيع الاعتراف بالإقصاء الكونيّ أو بعدم الحيازة الكونيّة. ليس الإخصاء بتهديد علينا أن نتفاديه، وإنّما هو الحقيقة الأساسيّة التي تُحدّد الذاتيّات كافة. فالإقصاء عن حيازة الفالوس الذي يُحدّد الذاتيّة الأنوثيّة يَحدّ الذات الذكوريّة بالقدر نفسه، وذلك رغم أنّ الذاتيّة الذكوريّة تشكّل نفسها على الإفلات من هذا الحدّ. إذ يحصلُ الإخصاء، حتى بالنسبة إلى الذات الذكوريّة، في لحظة بزوغ الذات، بحيث يُحِل محلّ العضو الذكوريّ الحقيقيّ بالفالوس الرمزيّ (symbolic phallus). وكما يلاحظ لاكان قائلًا:
بقدر ما يكونُ العبور إلى النّظام الرمزيّ لا مندوحة عنه، فإنّه من الضروريّ دائمًا -إلى نقطة محددة- أن يُمحَى القضيب ويُبتَر، وأن يُعاد مرّة ثانية. وبالطّبع، فإنّه لا يمكن إعادته على الإطلاق؛ ذلك لأنّ كلّ ما هو رمزيّ هو، بحكم التعريف، عاجزٌ بالكليّة عن استعادته. وههنا تقيمُ دراما عقدة الإخصاء -ففقط بصورة رمزيّة يُبتر القضيب ويُستعاد. (Lacan, 1994, p. 334)
وهكذا، فإنّ دراما تهديد الإخصاء التي تقوم بها الذات الذكوريّة هي ليست سوى مسرح الظلّ. فالفعلُ الحقيقيّ قد حصل وأُنجز بالفعل، والخسارة التي توالدت جرّاءه من المستحيل إصلاحها. ويمكننا أن نعيد تشكيل أرض المعركة السياسيّة فقط من خلال التخلّي عن فكرة الإصلاح هذه، وبأن نخلع عنّا فكرة الحيازة الممكنة.
يَظهر أنّ فكرة التخلّي، جماعيًّا، عن حلم حيازة الفالوس هي فكرة دينكيخوتيّة. فمَن هذا الذي سيتنازل عن الفالوس وملاحقته سوى هؤلاء الذين يعوزهم الوصول إليه بالمقام الأوّل؟ ولمَ سيتخلّى أحدهم عن كونه جزءًا منّا ويتمتّع بالمنافع الماديّة الناجمة عن الانتماء إلى هؤلاء الذين يحوزونه؟ يتعلّق الرّهان الكلّيّ للمشروع التحليل-نفسيّ للاكان على توفير أجوبة على هذه الأسئلة التي لا إجابة لها فيما يبدو. إنّ التحليل النفسيّ، كما ينظر إليه لاكان، يُحدث ضعضعة وتفكيكًا للفالوس ولوهم القدرة الفعليّة له. فوفقًا لألينكا زوبانجج (Alenka Zupančič)، "يحتلّ لاكان مكانة نسويّة معتبرة الشأن فيما يتعلّق بمساهمته إنزال الفالوس عن عرشه" (Zupancˇicˇ, 2008, pp. 204–205). فعوضًا عن أن يكون الفالوس هدفًا لا بدّ من بلوغه، فإنّ الفالوس يمثل عائقًا لا بدّ من تجاوزه والتغلّب عليه. وكما يلاحظ فرويد (1937)، فالفالوس هو العائق الذي يشتبكُ معه التحليلُ النفسيّ، والذي من المحتم أن يُعرقل الشخص الخاضع للتحليل النفسيّ[5].
يمثّل التخلّي عن الفالوس، والسلطة التي يوفّرها، المسار الأوحد إلى الحريّة. إذ لا تُحرِّر السلطة المستمدّة من الفالوس الذات، وإنما تُقيّدها. إنّ السلطة الفالوسيّة هي غياب السلطة، وهي بمثابة النّكران الضمنيّ للذاتيّة. والأمرُ كما يشير سلافوي جيجك (Slavoj Zizek)، حيث يقول:
إذا كان لنا أن نشدّد على السلطة ‘الفالوسيّة‘ (الرمزيّة)، فالثمن الذي لا بدّ من دفعه هو أنّه سيتعيّن علينا أن نتنازل عن مكانة الفاعل المتصرف والقبول بأنّنا لسنا سوى وَسطٍ يتكلم الآخرُ الكبيرُ (big Other) من خلاله ويتصرف. فمقدار ما أنّ الفالوس دالٌّ يعيّن فاعليّة السلطة الرمزيّة، فمن ثمّ تكمن خصيصته الحاسمة في حقيقة أنّه ليس بـ"خاصّتي"، أي عضو الذات الحيّة، وإنّما هو مكان تتدخل فيه القوى الأجنبيّة وتحفرُ نفسها على جسدي، إنّه مكان فيه يتكلم الآخر الكبيرُ من خلالي. (Zˇ izˇek, 2005, p. 259).
إنّ الاضطلاع بالسّلطة الفالوسيّة والتشديد على امتلاك المرء للفالوس إنّما ينطوي على إسلام المرء نفسه إلى العدو. إذ إنّ امتلاك الفالوس يغرسُ المرء، بقوة وإلى الأبد، حتميّة الخسارة والعوز.
وختامًا؛ يتيحُ التخلي عن حلم حيازة الفالوس للذات أن تغيّر علاقتها بتفرقة الـهُم والنحن؛ لأنّها تسمح للذات بأن تدرك ذاتها كمنتميةٍ إلى 'الـهُم' بالضرورة. وفوق ذلك، فإنّ تفرقة الهُم والنحن ما تزال سارية المفعول، وتساهم في تشكيل الأساس للعداوة السياسيّة. بيد أنّ التركيز على الصراع يتغير ويتبدل. فعوضًا عن الاشتغال على إيقاع الهزيمة بالعدو السياسيّ، تحاربُ الذات ضدّ موقف معين -ألا وهو حيازة الفالوس- لا يمكن لأحدهم أن يحتله. ومن ثمّ، ينطوي الصراع السياسيّ على تبنٍّ لموقف 'الـهُم' كمحاربةٍ ضد وهم 'النحنُ'. ولا يعني هذا بالطبع أنّه ما من خصوم سياسيين لا بد من الاشتغال على إيقاع الهزيمة بهم بالنسبة إلى الذات التي تتخلى عن مثال حيازة الفالوس. بيد أنّ الخصم السياسيّ كفّ عن كونه تهديدًا لا مندوحة عنه لذاتيّة الآخر، ويغدو موقعًا كامنًا في صلب هذه الذاتيّة، الأمر الذي يغيّر بصورة راديكاليّة من مقاربة الذات للظفر السياسيّ. وإذا أدركنا العداوة السياسيّة باعتبارها من دخيلة الذات نفسها، فسندرك استحالة التملّص عن العداوة السياسيّة. وبهذا المعنى، فإنّ السياسة المؤمَّنة بعدم حيازة الفالوس تتركنا حتى بصورة أكثر عمقًا في صلب التفرقة بين الـهُم-والنحنُ، وبالتالي نغدو قادرين على اجتراح وتجريب السبيل التي تفرّقنا بها عن أنفسنا.
[1] - في هجومها على السياسة الإجماعيّة، تستهدفُ موف (2005) على وجه الخصوص المنظرين السياسيين الليبراليين من أمثال أنتوني جيدنز ويورغن هابرماس وريتشارد رورتي بالإضافة إلى سياسيين آخرين من منظّري الطريق الثالث كتوني بلير.
[2] - إن الذات الذكورية هي في مكانة السيد في جدلية السيد-العبد عن هيغل، مثلما وصفها ألكسندر كوجيف. يعتمد السيد على اختزال المنافس إلى العبودية، ويكتسب الاعتراف الملائم من المنافس. وهذه بمثابة مهمة مستحيلة؛ وذلك لأن الاعتراف الملائم لا يتأتى إلا من ذات لا يمكن اختزالها إلى موقف العبودية. وهذا هو علة أن كوجيف يصر على أن "موقف السيد … هو بمثابة مأزق وجودي". (Koje`ve, 1980, p. 19).
[3] - يعتقدُ فرويد بأنّ انعدام حيازة الفالوس بأنّه "نقص" (Freud, 1931, p. 233)؛ وذلك لأنّه لا يرى إمكانيّة لجنسانيّة أنوثيّة تؤسّس نفسها على انعدام الحيازة فضلًا عن تقليد الحيازة الذكوريّة.
[4] - يسعى اللانهائيّ الزائف إلى تمرير المناوبة بين قطبين متتعارضين على أنّه تقدم. وكما يشرحُ الأمر هيغل، فـ"ما يُقتضَى من أجل تفحّص اللانهائيّ ليس بالأمر العسير: فالأمر يقتضي الوعي بأنّ التقدّم اللانهائيّ، أي اللانهائيّ المتطور للفهم، هو مشكَّل باعتباره مناوبة لتختيميْن: تحتيم الكليّة والانفصال لكلا اللحظتين، وأيضُا لتحتيم أنّ هذه الكليّة وهذا الانفصال هم نفسهما غير قابلين للانفصال". (Hegel, 1812–1816, p. 151).
[5] - ومثلما هو قول فرويد الشائع في نهاية كتابه "Analysis Terminable and Interminable”: “لربّما لم يعان المرء في أيّ مرحلة من مراحل اشتغاله التحليليّ من شعور غاشمٍ بأنّ الجهود المعادة والمكررة للمرء قد ذهبت جفاء، ومن شكوك تخالط المرء بأنّه إنما كان يخطبُ كمَن "يذهب كلامه أدراج الرياح" من تلك اللحظة التي يسعى فيها المرء إلى حث المرأة إلى التخلّي عن رغبتها في القضيب على أساس أن ذلك أمرٌ لا يمكن تحقيقه وحينما يُقنع الرجل بأنّ الموقف السلبيّ من الرجال لا يدل دائمًا على الإخصاء وأنّه أمرٌ لا مندوحة عنه في علاقات كثيرة في الحياة". (Freud, 1937, p. 252).
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط الخاصة بنا وملفات تعريف الارتباط الخاصة بالجهات الخارجية حتى نتمكن من عرض هذا الموقع وفهم كيفية استخدامه بشكل أفضل ، بهدف تحسين الخدمات التي نقدمها. إذا واصلت التصفح ، فإننا نعتبر أنك قبلت ملفات تعريف الارتباط.