كيف لرشفة قهوةٍ، أو قضمة طعامٍ، أو بسمةٍ عابرة، أو حتى أقل من ذلك في سبيل الأفعال الإنسانية، والرغبات الغريزية؛ كشرود الذهن مثلًا، أن تمثل ضربًا من الخيانة، وإحساسًا بالذنب - لا يحتمل أحيانًا - تجاه أولئك الذين تأبى الحياة إلا وتمنعهم مثل هذه *الفرص* ؟
أنحزن على الراحلين ( ممن مضوا وتركونا نعاني الحياة)، أم نعيد توجيه الحزن نحو ذواتنا - الناجية - لأنها لا زالت تعاني الحياة؟ لا شك أن طرقنا تختلف في التعاطي مع الشعور بالألم وتتباين، فمنا من يغلب يقينُه حالة الجزع الشعوري، ومنا من ينصاع لها، ولا يطيق صبرًا على معالجتها أو ردّها لسُبلها المنطقية، ومجاريها الطبيعية، ليس ذلك فحسب! بل هنالك من يلتذُّ بديمومة تلك الحال من الجزع واعتصار القلب بالأسى، سواءً وعى ذلك أم لم يعِه.
دعونا نفصّل القول ونحلل غامضه ونفكك ملتبسَه. ولنفعلَ؛ فسيكون علينا لزامًا أن نسأل: كيف نبدأ؟ وهنا سنلتجئ إلى تسلسل أشبه بما يُتناول في الدرس المنطقي، أملًا في وصولنا - بنهاية المقالة - إلى طريقة نفسر بها التداخل الشعوري للأوضاع السائرة، أو على الأقل نوفر فهمًا لها.
يرد الذنب بمعانٍ متعددة، تختلف باختلاف السياق والمآل، وما يحتف به من ظروف، إلا أننا لسنا بصدد بحث لغوي أو لساني، لذا سنكتفي بذكر معنى الذنب في الدرس النفسي والسريري، وربما اندرج معنا السلوكي: يمثل الذنب بحسب تعريف (Tangney and Dearing, 2003: Tangney et al) "تأثيرًا نابعًا عن وعي ذاتي، وشعور أخلاقي، متمثل في تقييم سلبي للذات، بالإضافة إلى كونه تجربة شعورية تابعة لحدوث صدمة أو كرب في الأغلب".[1] وبالتالي فالشعور بالذنب ليس مجرد وليد للتفكير أو الجلوس وحيدًا، أو الرغبة المجردة فيه، بل هو تابعٌ على حدث صادمٍ، أو مهول، ولربما أسعفنا أن نقول مصيبة بالمعنى الدارج على ألسنتنا، نزلت بقومٍ - سيما إذا كانوا منّا، بالمعنى القومي أو العرقي أو الديني أو الطائفي أو الأسري. وبكل الأحوال، فإن الشعور بالذنب يقتضي الإحساس بالمسؤولية تجاه حدثٍ ما، أو أزمةٍ ما، أسفرت عن ناتج سلبي أو سيء، ويفترض فرويد Freud أن الشعور بالذنب ينشأ من الخوف المنبعث من عقاب الوالدين عند ارتكاب شيء خاطئ في مراحل الطفولة، وتتعدد التفاسير، وتختلف باختلاف محل التأويل.
وعقدة الناجي بالضرورة أحد أشكال ذلك الذنب، أو قل هي إحدى تبدّياته في حياتنا. يتجلى السؤال هنا في: لماذا تتشكل هذه العقدة من الشعور بالذنب (المستمر ربما) وتسود أذهان الكثيرين منا؟ ولربما خطرت على بالك قارئي العزيز وأنت تتناول هذه الأسطر حالةٌ لك شعرت فيها بالذنب الغير مبرر، فقط لأنك نجوت من حدثٍ راح ضحيته من تحب. أحقًّا؟ لنكمل إذن الحكاية!
تُرى ما المشترك بين المصائب جميعًا؟ وما الذي يجعل معالجيها، أو من عاينوها في كربٍ دائمٍِ أو عرضي؟ كونُها فاجعةً شديدة؟ أم كونها فجائية؟ أم لأنها غير عادلة؟ ربما لأنها تدل على ضعف الإنسان وعجزه؟ وربما كل ذلك مجتمعًا!
أرى كل ذلك ممكن العليّة، إلا أن الأدعى ذكرًا في حديثنا هنا، هو تصيير تلك المصائب لمعاينيها وشاهديها ذواتٍ شاعرة بالأسى والحزن المطبق على نفوسهم، ألمًا وندمًا أن لم يكن بمقدورهم إنقاذ الموقف، أو الرجوع بعقارب الساعة، أو إحاطة من أحبوهم بدروع الحماية والصون.
خضع مفهوم " عقدة الناجي " أو " متلازمة الناجي " للكثير من البحث والاستقراء في الدرس النفسي، وهو ما نحن بصدد تفريد الحديث عنه، ونعاود الكلام هنا عن فرويد Freud الذي وصف شعوره بالذنب و لوم الذات Self-reproach بعد فقد والده، وهو ما ينتشر في الغالب بين الناجين من كربٍ لحق بالمقربين منهم (Freud, 1895/1985). ونجد تفسيرًا مشابهًا لدى نايدرلاند( Niederland (1968 الذي كتب مطولًا عن الشعور بالذنب للناجين من محرقة الهولوكوست، مسميًا ذاك الشعور بـ" متلازمة الناجي ". ويتوفر لدينا هذا السيناريو بشكل مشابه، وموضوع مغاير في بحث ليفتون( Lifton (1967 حول ملاحظاته المفصلة عن الناجين من هجوم هيروشيما.[2]
وأيًا يكن، فإنه باستقراء أغلب تلك الأعمال، سنجد أنفسنا نرتد إلى سلسلة تسلّم بعضها بعضًا: نبدأ بالصدمة أو حدوث الكرب، أو ما يستدعي الجزع - يروح ضحية تلك الأحداث واحدٌ أو أكثر ممن نحبهم، أو نُعجب بهم، أو نشفق عليهم - يبدأ المعلقون والمحللون في تفسير الأوضاع وسرد الأسباب التي ربما تضمنت فرصة نجاة بوجود تدخل بشري - يبدأ اللائمون في إلقاء اللوم على نفوسهم، وجلد ذواتهم (إذا صح لنا التعبير)؛ لينتهي بهم الحال في نهاية المطاف شاعرين بالذنب، لمجرد أنهم لم يكونوا عاملًا في دفع الأذى عمن وقع عليه.
إنها لعقدةٌ حقًّا، وتكرارها دليل استدامتها واتساع رقعتها! ولكنها ربما لم تحظ بذات الاهتمام الذي حظيت به ظواهر أخرى كاضطراب ما بعد الصدمة PTSD، بل ولم يتأتّ للآن تعريفاتٌ على النهج المعرفي السلوكي لـ(إحساس الناجي بالذنب) أو ما يسمى تسمحًا وقصرًا " عقدة الناجي "[3] (e.g. Perloff et al., 2019; Pethania et al., 2018).
وعلى الأغلب، فمتلازمة شعور الناجي بالذنب قد تحضر بشكل أكبر في المواقف التي يعاين أصحابها خيارات مستحيلة، كإدلاء السجين بالمعلومات مقابل القتل أو التعذيب، أو الهروب من مبنى يحترق مقابل البقاء وإنقاذ العالقين، مع ما فيه من تعريض النفس للخطر. وأخيرًا، فنحن نتوقع أن متلازمة شعور الناجي بالذنب، ظنيّة الوقوع أكثر حين يتصور الشخص الذي نجا أن فرصه في اللحاق بالنجاة، عادلت فرص أولئك الذين قضوا ولم يلحقوا بها، أو بمعنىً آخر كانوا على متن سفينةٍ واحدة، كتلك التي أقلّت المفقودين.[4] (Pethania et al., 2018)
وهنا، تستعرض لنا الصحفية الفلسطينية - السورية بيسان زرزر شعورها بعد هجرتها إلى أوروبا، تاركةً وراءها الحرب والدمار، الذي يعاينه أهلها (أسرتها بالمعنى الخاص) و ( بنو شعبها بالمعنى العام) قائلةً: أعاني من "عقدة الناجي" بعد هجرتي البحرية إلى هولندا وترك أهلي في سوريا![5]
ليس غرضنا هاهنا إخضاع القارئ لإحدى جلسات العلاج السلوكي المعرفي CBT التي ينسحب مداها على جوانب أخرى من الحياة، وتتطلب إقامتها الكثير من المعلومات الفردية - بحسب كل عميل - حتى يتسنى لنا الإلمام بتفاصيل شكواه وجوانب شدتها، (والتي يستطيع أن يستزيد عنها إذا ما أراد في المراجع أدناه)[6] بقدر ما نريد أن نخلع تفاصيل تلك العقدة على ما هو حادثٌ بيننا هذه الأيام، والذي بدأ يتنامى منذ السابع من أكتوبر حول شعور الجماهير بالأسى والذنب ربما تجاه الأبرياء من الفلسطينيين!
دعونا نتفق أن القضية الفلسطينية ذات صدىً منذ عديد العقود، تتردد على أسماعنا منذ الصغر، وكذا حال آبائنا، ومن سلفوا من آبائهم، إلا أن مربط الفرس في القضية هو تعاطي الأجيال المتتابعة مع القضية، وتعاطيهم معها، أن إلى أي حدٍ كان تهمّم جيلٍ ما وحمله للقضية أثوب وأفضل من جيلٍ سبقه أو يخلفه! لنصوب النظر على الأحداث الجارية، ونغض الطرف عما عفا ودخل إلى الأرشيف.
إن شعور الجماهير المتنامي بالرغبة في الانتقام، واستعادة ما هو *ملك لهم*، ممسوحٌ مع الأسف بشيء من الضعف والوهن الذي تفرضه الظروف الخارجية ( الأكبر منا بطبيعة الحال )، وهو ما ينتج لنا بالنهاية شعورًا متفاقمًا من الفدائية والنُّصرة، فنجد الآلاف يتها
لنتتبع إذن هذا التسلسل العقلي:
سيجد من يتتبع تلك السلسلة أنها عقدةٌ متكررة ومترابطة حقًا، تسلِم كل حلقة فيها أختها بتتابع شعوري وثيق.
ماذا عسانا نفعل؟
أَرى كُلَّنا يَبغي الحَياةَ لِنَفسِهِ
حَريصاً عَلَيها مُستَهاماً بِها صَبّا
فَحُبُّ الجَبانِ النَفسَ أَورَدَهُ التُقى
وَحُبُّ الشُجاعِ النَفسَ أَورَدَهُ الحَربا
ما الرمزية التي تتضمنها هذه الأبيات في حالتنا هذه؟
حسنًا، لا أقول الرمزية الوحيدة، إذ من الممكن تأويل النص الشعري - كما هو معلوم - بتآويل شتى. أقول إنها حال المقاومة الدائمة، وحال الحرية المستدامة، وكذلك قل: هو الحال باستدامته، وتعقده لدى العدو، فكما تمني المقاومة النفسَ بالموت في سبيل تراب الوطن، يمني العدو النفس باستطالة عمره، اتقاء ذلك المقاوم، ودفعًا بكل ما يمكن من سبل لاجتنابه، كما لو كان وحشًا ضاريًا مخيفًا، وذي عادة الباطل في مقابل الحق، لا أقول مواجهة الحق (لأنه لا يقدر على المواجهة، ولا يعرف لها سبيلًا).
وبدلًا من الاستغراق في الشعور بالذنب المنسحب على أنفسنا من رؤيتنا ووصمنا لحالنا بالعجز، أن نشغل أنفسنا بالقضية حقَّ الشغل، بأن يقف كلٌّ منا في ثغره، ويبرع فيما يعمل، ويتقن صنعته غاية الإتقان، ويبذل نفسَه وفكرَه وقلبَه، مع استغلال ذلك الشعور بالذنب لنكون يدًا أقوى، لا يفكر في مقاومتها معتدٍ، مهما طال الزمان. وإن الدائرة تدور!
المراجع:
Post-Traumatic Stress Disorder (PTSD)
[1] Tangney, J. P., & Dearing, R. L. (2003). Shame and Guilt. Guilford Press.
[2] Lifton, R. J. (1967). Death in Life: Survivors of Hiroshima. University of North Carolina Press.
[3] Perloff, T., King, J. C., Rigney, M., Ostroff, J. S., & Johnson Shen, M. (2019). And Pethania, Y., Murray, H., & Brown, D. (2018).
[4] Pethania, Y., Murray, H., & Brown, D. (2018). Living a life that should not be lived: a qualitative analysis of the experience of
survivor guilt. Journal of Traumatic Stress Disorders and Treatment, 7.
[5] الأمم المتحدة، أخبار الأمم المتحدة: قصص إنسانية، الصحفية بيسان زرزر.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط الخاصة بنا وملفات تعريف الارتباط الخاصة بالجهات الخارجية حتى نتمكن من عرض هذا الموقع وفهم كيفية استخدامه بشكل أفضل ، بهدف تحسين الخدمات التي نقدمها. إذا واصلت التصفح ، فإننا نعتبر أنك قبلت ملفات تعريف الارتباط.