[1] [2] :ماذا لو كان سِر محاورة المائدة[3] أنها تدور حول الفراق أكثر مما تدور حول الحب؟ بالطبع تستعرض هذه المحاورة الأفلاطونية عددًا من الآراء المختلفة عن الحب؛ ففيها نجد خطبًا عن الحب على لسان كلٍّ من أرستقراطي، وفقيه قانوني، وطبيب، وشاعر كوميدي (يتكلم على نحو تراجيدي)، وشاعر تراجيدي (يتألق ببلاغة فارغة)، وفيلسوف، وأخيرًا وليس آخرًا، جنرال عسكري مرموق، معروف بمُجونه. ففي وليمة منعقدة على شرف الشاعر أجاثون، صاحب الضيافة، الذي فاز -من فوره- بالجائزة الأولى في منافسة مسرحية، توافَق الحاضرون على أن يُلقي كل ضيفٍ جالس على المائدة- تباعًا- خطبةً في مديح إيروس؛ في مديح الحب[4]. لكن، بالإضافة إلى الحب، ثمة خيط فكري آخر يمر خلال المحاورة بأكملها، وهو نظرية الفراق، القطيعة، الهَجر (break up).
نجد أول تلميح إلى ذلك في خطبة أريسطوفان (الشاعر الكوميدي)، التي تُبيِّن- على نحو أسطوري- أن الفراق سابقٌ على الحب: عاقب زيوس البشر الأولين- ذوي الشكل الدائري- على عجبهم بأنفسهم وتمرُّدهم على الآلهة، بشطر كل واحد منهم إلى نصفين. وهذا الانشطار الابتدائي هو ما يكمن في أصل الحب، باعتباره بحث كل نصفٍ عن نصفه المفقود؛ فوحدَه كائن مشطور ومقطوع يُمكِنه أن يُحِبَّ. ومن الآسر للانتباه أن أريسطوفان نفسه، راوي الأسطورة، لم يكُن تامًّا في تلك الليلة؛ ففي البداية، انقطعت خطبته بسبب نوبة الفَواق (زغطَّة) التي ألمَّت به، والتي اقتضت إعادة ترتيب أدوار المتكلمين. ولاحقًا، عندما أراد أن يردَّ على خطبة سقراط، التي انتقد فيها نظريته عن الأنصاف المشطورة نقدًا لاذعًا، حيل بينه وبين ذلك بسبب الضجة التي أحدثها وصول ألسيبَياديس (الجنرال الماجن) وحاشيته. لكن أي ردٍّ كان من المُمكِن لأريسطوفان أن يردَّ به على رؤية سقراط المتعالية عن سُلَّم الحب- فكرة أن الحب يتدرَّج من حب الأجساد الجميلة إلى حب الأرواح الجميلة، ثم إلى حب الأعراف والقوانين الجميلة، ثم إلى حب شتى المعارف والحكمة، ثم إلى حب الجمال نفسه- التي تعلَّمها من الكاهنة دَيوتيما؟ هل يُمكِن اعتبار اقتحام ألسيبَياديس المخمور للمجلس ضربًا من الانتقام من أريسطوفان؟
لكن إذا كانت خُطب المحاورة قد تغنَّت بمديح الحب، فمن الكاشف حقًّا أن يكون جزؤها الأخير مُكرَّسًا لغرام عكِر، لعلاقة حب فاشلة؛ بين سقراط وألسيبَياديس. وعليه، كما أننا نتحدث عن الحب الأفلاطوني، ينبغي علينا أن نتحدث كذلك عن الفراق الأفلاطوني. وكما أن الحب الأفلاطوني هو الشكل المثالي للحب، فالفراق الأفلاطوني هو الشكل المثالي للفراق. وتتألَّف صيغته، التي ابتكرها سقراط، من جزئين:
(1) أنا لستُ بشيء.
(2) ستكون أسعد مع شخص آخر غيري.
سأُقدِّم في ما يلي تاريخًا مُوجَزًا للفراق، أتعقَّب فيه تطورات صيغة الفراق الأفلاطوني الخلَّاقة هذه وتحوُّلاتها، بدايةً من سقراط وصولًا إلى تلك المغامرة الغرامية الغريبة المُسمَّاة بالتحليل النفسي. فعلى وجه العموم، الفراق موضوع مُهمَل في الدرس الفلسفي، بينما الحب أحد أنفس موضوعات الفلسفة. وأنا أقترح أن نقلب هذا التراتب، وذلك على النحو التالي: عوضًا عن اعتبار الفراق مجرد إخفاق للحب، خيبته، موته، سأسعى إلى فهم الحب من منظور الفراق، أي إلى اعتبار الافتراق، الانفصال، القطيعة، الهَجر- أي نهاية الحب- ظاهرةً مستقلة بذاتها، لا يُمكِن فهم الحب من دونها. ولنبدأ بسقراط وشكل الفراق الذي ابتكره.
ثمة تاريخ طويل بين سقراط وألسيبَياديس، وحب الفيلسوف للجنرال ليس بسر؛ فلقد اعترف سقراط قائلًا: «أنا واقع في حب ألسيبَياديس بن كِلِنياس وفي حب الفلسفة»[5]، ووصف نفسه بأنه أول حبيب (protos erastes)[6] في حياة ألسيبَياديس[7]. وإذا كان سقراط هو مَن بادَر ألسيبَياديس بالحب، فإنه سرعان ما افتُتِن ألسيبَياديس بالفيلسوف وشغف به. وببساطة شديدة، لقد كان هذان الشخصان الاستثنائيان أكثر الرجال حكمةً وأكثرهم اختيالًا وإقدامًا، أحد أعظم الأزواج في عصر أثينا الذهبي (تخيَّلوا أن هيجل ونابليون كانا عاشقين، أو على نحو أكثر غرابة، أن كانط وسان جُست[8] كانا عاشقين). ولقد عرض أفلاطون مسار العلاقة بأكمله، بدايةً من مبادرة سقراط للجنرال بالحب في محاورة ألسيبَياديس الأولى وصوًلا إلى لقائهما العاصف في محاورة المائدة؛ إذ شهدت السنوات التالية على محاورة المائدة (سنة 416 ق. م.) قيادة ألسيبَياديس للحملة العسكرية الكارثية على صقلية، ثم عودته إلى أثينا، بعد إدانته في فضيحة تدنيس تمثال هرمس، ومن ثم فراره إلى إسبرطة[9]. لقد كانت محاورة المائدة آخر لقاء بينهما؛ نهاية علاقتهما الغرامية.
عندما اقتحم ألسيبَياديس مجلس الشراب، اندهش من وجود حبيبه، وعلى الفور انخرطا في التناوش والتحرُّش اللفظي، فاتهم كلٌّ منهما الآخر بأنه مخاتل وغيور على نحو جنوني. ثم شرع ألسيبَياديس في إلقاء خطبة عن سقراط، بعدما قطع عهدًا على نفسه بأن يكشف فيها عن حقيقة الفيلسوف الصادمة، وبألا يقول فيها إلا الحق. وما فعله ألسيبَياديس في خطبته، في حقيقة الأمر، هو أنه عقد محاكمة لسقراط، بتهمة أنه -ويا للمفارقة!- لم "يُفسِده" بالقدر الكافي. فهذه هي محاكمة سقراط الأولى، التي تُنذِر بمحاكمته الأخرى الأشهَر، وتُبرِّئه مُقدَّمًا من تهمتها: "إفساد الشباب" (هذا هو مقصد أفلاطون من هذه الخطبة على ما يبدو). لقد استفرغ ألسيبَياديس وسعه في الحجاج عن دعواه، وأصرَّ على فضح سلوكيات سقراط الغريبة، حتى ولو كان الثمن هو إراقة ماء وجهه؛ بأن يُفصِح مثلًا عن رفض سقراط لمضاجعته:
لقد اندسستُ تحت الرداء واحتضنت هذا الرجل- هذا الرجل الغريب تمامًا والعجيب حقًّا- بذراعيَّ، وقضيتُ الليل بأكمله إلى جواره. ولا يسعك أن تُنكِر كلمة واحدة مما أقول يا سقراط. لكن، على الرغم من كل ما بذلته من مساعٍ، هذا الرجل المتغطرس على نحو ميؤوس منه، هذا الرجل الوقح بدرجة لا تُصدَّق قد أعرض عني! لقد ازدرى جمالي، الذي أفخر به أشد الفخر. يا أعضاء هيئة التحكيم! أجل، أنا أدعوكم مُحكِّمين لأنكم كذلك حقًّا؛ فأنتم هنا لكي تُصدِروا حكمًا على غطرسة سقراط وغروره المذهل. ولتتيَّقنوا -وأنا أقسم لكم على ذلك بكل الأرباب والربات أن ليلتي مع سقراط لم تمضِ إلى أبعد مما كان لها أن تمضي إليه حال قضيتها مع أبي أو أخي الأكبر! فما ظنكم عن شعوري بعدما انقضت؟ لقد شعرت بإهانة بالغة بالطبع.[10]
إن سقراط متهم بأنه حبيب سيئ، أو على نحو أدق: سقراط متهم بأنه يُمنِّي حبيبه ليحرمه؛ يغويه لكي يُقبِل عليه، ثم يتمنَّع عليه ويصدُّه.
فما ردُّ الفيلسوف على هذه التهمة؟ لم يصدَّ سقراط ألسيبَياديس صراحةً، ولم يُلمِّح قط إلى أن تصريحه السابق بحبه كان زائفًا، أو إلى أن هذا الحب قد زال. إن سقراط لم يقل لألسيبَياديس إنه لا يحبه، فهذا شكل للافتراق خليقٌ بالمبتدئين الهواة؛ وإنما أخبر ألسيبَياديس أنه هو المخطئ، أن حبه لسقراط مجرد خدعة، مجرد وهم. سقراط مشهور بتصريحه الساخر بأنه لا يعرف أي شيء سوى معرفته بإيروس وطرائقه. وما يعرفه تحديدًا عن إيروس هو مَكره، تنكُّره الخادع. وعلى ذلك لا تكون هذه المعرفة استثناءً من كونه لا يعرف أي شيء؛ لأن ما يعرفه عن إيروس هو تحديدًا عدمه (الماكر والمخادع). إن سقراط يعرف أن الحب- وتحديدًا الشغف المحموم، المُفصَح عنه على لسان ألسيبَياديس بلا خجل- وهم، ضرب من السحر، ولذلك مازح ألسيبَياديس قائلًا له: لو كنتُ رائعًا حقًّا كما تزعم، فنزولي على رغبتك يعني أن أستبدل ذهبي ببرونزك. لكن أينما يرى ألسيبَياديس ذهبًا، لا يوجد شيء في حقيقة الأمر: انظر عن كثب يا عزيزي، فلعلَّك لم تتبيَّن بعدُ «أنني بلا قيمة في حقيقة الأمر»[11]. وآنفًا، في حوار مع أجاثون، شبَّه سقراط نفسه بوعاء فارغ، يرجو أن يمتلئ بالحكمة عن طريق مجرد القرب من الشاعر. إن سقراط يعرف أنه خاوٍ، أنه بلا قيمة حقيقية؛ ففي الموضع الذي يرى ألسيبَياديس فيه كنزًا ثمينًا- ذهبًا- لا يوجد سوى إسقاطاته المُتخيَّلة. هذا هو الجزء الأول من صيغة الفراق الأفلاطوني: أنا لستُ بشيء.
على أي وجه ينبغي علينا أن نفهم الجزء الثاني من هذه الصيغة: ستكون أسعد مع شخص آخر غيري؟ من دون هذه الإضافة، لا يكتمل الفراق؛ ففي العموم، لا يكفي الجزء الأول لكي تقطع علاقتك بالحبيب، إذا ما ظل مُتعلِّقًا بك، مفتونًا ومُولَعًا بك، إذا ما ظل ينظر إليك- حتى نستعمل استعارة ألسيبَياديس المدهشة- كدمية جوفاء تحتوي على كنز ثمين، «على تماثيل دقيقة للآلهة» (أو كبيضة شوكولاتة كيندر؛ حتى نستعمل استعارة معاصرة)[12]. ففي الشكل المثالي للفراق، ينبغي أيضًا تبديد سحر رغبة الحبيب فيك، وأمثل طريقة لفعل ذلك ليست قتل رغبته مباشرةً، وإنما توجيهها صوب موضوع آخر، وهذا عين ما فعله سقراط؛ إذ صرف رغبة ألسيبَياديس عنه ووجَّهها نحو شخص آخر، وهو أجاثون. فمعتمدًا على قول هامشي عابر لألسيبَياديس- قوله لأجاثون مُحذِّرًا في نهاية الخطبة: «لا تدعه يخدعك.»- نجح سقراط في إعادة تأطير خطبة ألسيبَياديس برُمَّتها، زاعمًا أن المقصد الحقيقي من ورائها هو الوقيعة بين سقراط وأجاثون، حتى يتسنَّى لألسيبَياديس الاستئثار بالشاعر الوسيم لنفسه دون سقراط. أنا لستُ بشيء، وستكون أسعد مع أجاثون. فطوال فضحه المشين و"محاكمته" لسقراط، كان ألسيبَياديس يخاطب أجاثون خُفيةً؛ إن أجاثون (وليس سقراط) هو من يرغب ألسيبَياديس فيه حقًّا.
لكن سقراط (وليس أجاثون) هو الذي لن يُخدَع هنا؛ إذ يقول: «لقد أبصرتُ المقصد الخفي من مسرحيتك الهزلية، لقد انفضحت غايتها.»[13] ثم قرَّب سقراط أجاثون منه، وأعلن أنه سيُلقي خطبة في مديح الشاعر، الذي سرَّه اهتمام الفيلسوف به. والآن بعدما انكشف المستور، هل سيشمت سقراط في ألسيبَياديس المُحبَط والغضبان، ليُثبِت صحة زعمه القائل: «عندما يكون سقراط حاضرًا، لا يُمكِن لأي أحد آخر أن يقترب من أي رجل جميل»؟[14] أهذا هو النحو الذي ستنتهي عليه علاقتهما: مثلث غرام، لعبة سلطة، يُثبِت فيها سقراط أنه الذكر صاحب السطوة والسيطرة؟[15] الحق أن ثمة شيئًا أكثر فلسفيةً من ذلك على المحك هنا، ولبيانه علينا أن نُيمِّم شطر تعليق جاك لاكان على محاورة المائدة. يعُدُّ لاكان أن سقراط هنا أشبه بمُحلِّل نفسي بدائي، ويربط "تأويله" هذا لخطبة ألسيبَياديس بخطبته، التي طرح فيها نظرية سُلَّم الحب. وإليكم إعادة صياغته لفحوى رد سقراط على عاشقه الغضبان: «يُمكِنك أن تحب ذاك الذي سأمتدحه، لأنني بمدحه أريك صورتك مُحبًّا [لغيري]، صورتك مُحبًّا بحد ذاتها. وبذلك سيُمكِنك- انطلاقًا من سبيل الجمال- أن تخطو إلى السبيل المُوصِلة إلى محابَّ أسمى.»[16]
سِر الفراق الأفلاطوني أنه في خدمة التعليم الفلسفي؛ فبمديح أجاثون، ومن ثم إثارة غيرة ألسيبَياديس، يريد سقراط أن يُلقِّن ألسيبَياديس درسًا في الرغبة: موضوع الحب قابل للاستبدال. إنه لا يرمي إلى إحباط رغبة ألسيبَياديس، وإنما إلى تهييجها؛ إلى إعطائها دفعة في الاتجاه الصحيح؛ اتجاه درجة أسمى من الكمال. فعلى الرغم من كل فتنته وإغرائه، ليس سقراط سوى حجر عثرة. لا تُثبِّت رغبتك عليَّ، هذا ما يريد سقراط أن يقوله له. يُمكِن لحب ألسيبَياديس أن يتحوَّل من سقراط إلى أجاثون، ومن أجاثون إلى .. ماذا بالتحديد؟ تعني كلمة أجاثون في اليونانية القديمة "خير"، وبمديحه، يرمي سقراط إلى إغواء ألسيبَياديس بالسير في سبيل الخير. ينبغي لإعراض سقراط عن ألسيبَياديس أن يلهمه السعي إلى الحكمة والكمال الأخلاقي.
لكن ثمة انعطافة أخرى في هذه القصة: لو اتبعنا الفرضية الفاتنة التي طرحها أستاذ الأدب الكلاسيكي أرماند دُ أنجور، سنتبيَّن أن هناك فراقًا آخر يكمُن وراء نظرية سُلَّم الحب. فمقتفيًا لأحد الآراء التأويلية، يقول دُ أنجور أن الكاهنة دَيوتيما هي أسبازيا الميليتسية، التي هاجرت من ميليتس بإيونية إلى أثينا، واشتُهِرت بكونها عشيقة السياسي والخطيب المرموق بريكليس (ت. 429 ق. م.)، والتي كانت لها صلة قرابة من ألسيبَياديس، من ناحية أبيها. وعلى الرغم من شُحِّ المعلومات التاريخية المتوافرة عنها، كانت أسبازيا معروفة بجرأتها الفكرية وبراعتها الخطابية؛ ففي محاورة مِنيكسينوس لأفلاطون، زعم سقراط أن أسبازيا هي من علَّمت بريكليس كل ما يعرفه عن الخطابة، وأنه (سقراط) قد تعلَّم فن الخطابة على يديها، ثم تلا سقراط خطبة تأبين من تأليفها. وبكلمات دُ أنجور: لقد كانت أسبازيا «واحدة من أكثر نساء عصرها إدهاشًا وبلاغةً وإثارةً للجدل، بل لعلَّها كانت المرأة الأشد فرادةً في العالم الكلاسيكي القديم برُمَّته.»[17] وفرضية دُ أنجور هي التالية: لقد كان سقراط الشاب مُغرَمًا بأسبازيا، لكنها صدَّته وآثرت بريكليس عليه. لكن تطييبًا لخاطره؛ وهبته هدية ثمينة: نظرية سُلَّم الحب. فكما كانت الخطبة التأبينية التي ألقاها سقراط في محاورة مِنيكسينوس من تأليف أسبازيا، كانت الخطبة التي ألقاها على لسان دَيوتيما في محاورة المائدة من تأليف أسبازيا أيضًا. يقول دُ أنجور مُخمِّنًا: «في معرض تطييبها لخاطر سقراط، ضغطت عليه أسبازيا حتى يقول رأيه في معنى الحب، لا لشيء إلا لكي تُقدِّم له مذهبها في الحب والرغبة.»[18] إن فراق أسبازيا لسقراط يكمن وراء فراق سقراط لألسيبَياديس. وتقديم سقراط الفلسفة لألسيبَياديس كعوض عن الحب الجنسي ليس سوى تكرار لما فعلته أسبازيا معه، لإيماءتها الإسمائية. لقد ضنَّت أسبازيا على سقراط بمحبتها، لكنها- وعلى سبيل العوض- وهبته ما هو أقيم: حب الفلسفة. ولو صحَّ ذلك، نكون مدينين بالفلسفة نفسها لأسبازيا وفجعها لقلب الفيلسوف المُرتقَب. ففي تاريخ بديل، يُمكِن لنا أن نتخيَّل أن سقراط قد تزوج فرحًا بأسبازيا، ويعيش معها حياة زاخرة بالمتعة الزوجية وتبادل الأفكار[19]؛ مواطن أثيني محترم، وإن كان فيه شيء من الغرابة، يقتات على تجارة زوجته المزدهرة في الجواري (يُقال إن أسبازيا كانت قوادة، تدير مبغى). ومن ثم لا وجود لسقراط "النُّعرة" المزعجة، لا وجود لسقراط مغوي الشباب (ومنهم ألسيبَياديس)، لا وجود لسُلَّم الحب، ولا نظرية المُثُل، ومن ثم لا وجود لأفلاطون، ولا للفلسفة الغربية تبعًا لذلك[20]. لقد وُلِدت الفلسفة من روح الصدِّ الجنسي والإعراض الغرامي[21].
وهكذا نجد في محاورة المائدة نصًّا مُبكِّرًا جدًّا —لعلَّه الأول في تاريخ الفسلفة الغربية— على معضلة العمل-الحب؛ فألسيبَياديس يحب سقراط، لكن سقراط يحب شيئًا واحدًا حقًّا: عمله، أي الفلسفة. سأتتبَّع في ما يلي التطور التاريخي لهذه المعضلة.
دعونا نقفز إلى مَن يُمكِن اعتباره أعظم فنان فراق في تاريخ الفلسفة برُمَّته: سورين كيركيجارد[22]. التجديد الذي أحدثه كيركيجارد على صيغة الفراق الأفلاطوني هو تحويل أنا لست بشيء السقراطية إلى اعتراف بالحقارة: أنا نذل. وهذه هي الرسالة التي أبلغها خطيبته ريجينا أولسن: أنا زير نساء، أناني، وضيع تمامًا، ليس لديَّ أي نية في الزواج بكِ، أنا غير جدير أبدًا بحبكِ. يقول: «لقد سألتني: ألن تتزوج أبدًا؟ فأجبتها قائلًا: حسنًا، بلى سأتزوج، بعد عشر سنين، عندما تبدأ جذوة شهوتي في الانطفاء وأغدو في حاجة إلى آنسة شبقة لتعيد إضرامها.»[23] لكن توجد انعطافة هنا: ليست الحقارة عند كيركيجارد سوى قناع، استراتيجية محسوبة لإنقاذ ريجينا: «لقد كان الخروج من العلاقة كنذل- كأنذل الأنذال إن أمكن- هو الشيء الوحيد المُمكِن فعله لإنقاذها، لدفعها إلى الزواج من غيري دفعًا، لكن ذلك كان ضربًا نادرًا من الشهامة أيضًا.»[24] إن قسوته عليها هي طريقته للحنو عليها؛ فهو يتظاهر بأنه نذل لكي يصرف رغبتها عنه، ويُوجِّهها نحو سبيل آخر، ليس سبيل الفلسفة (كسقراط)، وإنما إلى سبيل تحقيق الذات والسعادة بالزواج. أنا نذل، وستكونين أسعد مع شخص آخر غيري. وعندما هدَّده أخوه الأكبر بأن يكشف عن حيلته لأهل ريجينا، وأن يقنعهم بطيبة أخيه وصلاحه، رد عليه ردًّا عنيفًا: «لقد أخبرني أخي أنه سيذهب إلى أهلها ويُثبِت لهم أنني لستُ بنذل. فقلت له: افعل ذلك وسأطلق الرصاص على رأسك. وفي هذا برهان لا يُدحَض على شدة انشغالي بهذا الشأن.»[25]
أجل، لقد كان انشغاله بهذا الشأن- أي بافتراقه عن ريجينا- شديدًا لدرجة أن المرء يُسوَّغ له أن يقول إنه قد كان أهم حدث في حياته برُمَّتها. وبكلمة؛ لقد كان هذا الفراق هو "حاجة" كيركيجارد (بكل الثقل الذي ألقاه لاكان على كاهل هذا اللفظ: “thing”)؛ أي موضوع رغبته وانشغاله المُتملِّص البعيد المنال، المسيطر عليه حدَّ الهوس، والذي لا يقدر على تركه- أو بالأحرى- الذي لا يتركه[26]. لقد كان إيماءة حياته، كما يُسمِّيه جورج لوكاتش- التشديد هنا على الشكل الفني، الشعري، الجمالي للفراق- فالإيماءة هي وسيلة "تشعير" الحياة، أي صبغها بصبغة شعرية. لقد أضفى كيركيجارد الطابع الشعري على الفراق، وبواسطة هذه الإيماءة حوَّل حياته إلى شِعر. فالحال أن هذه القطيعة (في سنة 1841) قد دفعت كيركيجارد إلى ذروة إبداعية: لقد فتح الانفصال على مُقترِفه فيضًا من التأملات الفلسفية والكتابات الأدبية (بعد الفراق مباشرةً، غادر كوبنهاجن إلى برلين، وهناك كتب إما/أو، والتكرار، ورهبة ورعدة، في غضون ستة أشهر). ومع أن كيركيجارد قد فارق ريجينا فإنه ظل- إذا جاز القول- متزوجًا إلى الأبد بهذا الطلاق، وفيًّا إلى الأبد لهذا الفسخ، فلقد ظل يعود إلى هذه الخِطبة المفسوخة مرارًا وتكرارًا في كتاباته، ويُكرِّر ذكرها مُتنكِّرةً تحت أقنعة أدبية ومفهومية شتى (خصوصًا في يوميات المغوي)، بل إنها تكمُن في موضع القلب من واحد من مفاهيمه المميزة: مفهوم التكرار (تحت قناع هذا السؤال: هل أستطيع الرجوع إلى ريجينا؟). وحقًّا، يبدو أنه لا يوجد أي منحًى من مناحي حياته وأعماله لم يطُله أثر هذا الفراق. لا عجب إذن أن ينص كيركيجارد في وصيته على أن ريجينا- خطيبته السابقة التي لم يفارقها قط أو بالأحرى التي لم يتوقَّف قط عن مفارقتها- هي الوريث الوحيد لتركته الأدبية.
وبعيدًا عن الكتابات التي أفادت منه واستلهمته، فراق كيركيجارد مرتبط، على نحو مباشر- بقدر أو بآخر- بسلسلة من الفراقات الأدبية والفلسفية التالية، التي اتخذت منه نموذجًا وأسوة لها: لقد تسيَّد فراق كيركيجارد على قصص الحب المجهضة لحداثة عُصابية. ولا يسعني هنا إلا أن أتتبع بإيجاز هذه السلسلة الاستثنائية من القطائع الغرامية.
أشهر ورثة كيركيجاد، في هذا الصدد، هو فرانز كافكا، الذي عدَّ متاعب كيركيجارد محنة عاطفية مماثلة لمحنته: لقد كان كيركيجارد "رفيقًا" لكافكا في تعاسة الحب[27]. التقى كافكا بفليس باور في بيت صديقه ماكس برود ببراغ، فوقع في حبها، فخطبها، وانغمس معها في علاقة رسائلية محمومة، افتتحها برسالة خِطبة كفكاوية تمامًا، عنونها بـ“the treatise”، "الدراسة". ثم فسخ خِطبته منها، ثم خطبها مرة ثانية، ثم فسخ الِخطبة مرة ثانية. واستُدعي في إثر ذلك إلى برلين لكي يمثل أمام خطيبته وأهلها ويُجلَد بسياط تقريعهم الذي لقَّبه بـ"المحاكمة" (يرى إلياس كانيتي أن هذه "المحاكمة" هي التي ألهمته رواية المحاكمة، التي شرع في تأليفها بعد هذه الزيارة مباشرةً. ويُسوَّغ للمرء أيضًا القول بأن النموذج الفلسفي الأولي لهذه المحاكمة الغرامية هو محاكمة ألسيبَياديس لسقراط في محاورة المائدة)[28].
جورج لوكاتش، الذي أتينا على ذكره آنفًا، هو أحد جهابذة مدرسة الفراق الكيركيجارديَّة؛ فمقالته "إخفاق الشكل في مواجهة الحياة: سورين كيركيجارد وريجينا أولسن" هي بلا شك التحليل الأشد فطنةً وبصيرةً لخِطبة كيركيجارد المفسوخة، لكنها أيضًا مقالة مُترَعة بمعاناة لوكاتش نفسه. تحتل هذه المقالة موضع القلب من أول كتبه، الروح والأشكال، الذي صنَّفه في أثناء علاقته الغرامية الوجيزة بالرسامة إيرما سيدلر (هي التي صمَّمت غلاف طبعته الألمانية). ومثل كافكا، «رأى لوكاتش أن كيركيجارد يشبهه.»[29] فلقد كان هو أيضًا منذورًا للتعاسة، لم يتزوج قط، وشعر أنه مضطر للتضحية بحياته في سبيل عمله. وفي خلال علاقتهما الغرامية الوجيزة، لم يكُفَّ لوكاتش عن الجهر بشكوكه في مصير هذه العلاقة، إلى أن تركته إيرما في نهاية المطاف. ولقد كان لهذه القطيعة أثرٌ صادمٌ على كليهما؛ فبعد فترة وجيزة، وعلى إثر علاقة غرامية أخرى، انتحرت إيرما، وأهدى لوكاتش الطبعة الألمانية من الروح والأشكال إلى ذكراها. وبعد مضي بضع سنين، تحوَّل لوكاتش إلى الماركسية وتبنَّى القضية البلشفية. لعلَّه وجد في الماركسية حلًّا لمشكلة الاغتراب التي لم يستطِع حلَّها عن طريق دراساته الرومانسية في مسألة الشكل[30].
والحال أن علاقة كيركيجارد بريجينا تستدعي نموذجًا أدبيًّا سالفًا، الدنماركي المكتئب الأول وحبيبته المزدراة، هَملت وأوفيليا[31]. ومن الآسر للانتباه أن كيركيجارد قد حوَّل الإحالة الشكسبيرية، في قَصِّه الخيالي لعلاقته بريجينا في كتابه يوميات المغوي، من مسرحية هَملت إلى مسرحية الملك لير؛ فالشخصية المُجسِّدة لريجينا في يوميات المغوي تُسمَّى "كورديليا"، وتتميز بصمتها، تمامًا كابنة الملك لير المُفضَّلة («كورديليا! يا له من اسم بديع! اسم ابنة الملك لير الثالثة نفسه، تلك الفتاة الفريدة التي لا يأوي قلبها إلى شفتيها، التي يكون قلبها ممتلئًا عن آخره ومع ذلك لا تنبس ببنت شفة. وهكذا كانت كورديليا خاصتي»[32]).
وستعاود الإحالة على هَملت الظهور لاحقًا مع فيرناندو بيسوا، الذي تُعَدُّ حبيبته، التي تحمل اسم حبيبة هملت نفسه (أوفيليا)، الوريثَ الأكبر لحبيبة كيركيجارد التي نُحِلت اسمًا مغايرًا لاسم حبيبة هملت (كورديليا). لقد كان بيسوا مُولَعًا بشكسبير، وبمسرحية هَملت تحديدًا. ولقد سُمِّيت حبيبته أوفيليا كويروز على اسم البطلة الشكسبيرية (لأن أختها الكبرى، جواكينا، كانت تقرأ هَملت ساعة ولادتها). وعندما استدعت أوفيليا ذكرى قُبلتهما الأولى، وصفت مشهد التقبيل بأنه «تمثيلهما لمسرحية هَملت»، تقول: «أتذكَّر أنني كنت أهمُّ بالوقوف، وأرتدي معطفي، عندما دخل عليَّ في مكتبي. لقد جلس على كرسيي، ووضع المصباح الذي كان يحمله عن يديه، ثم التفت إليَّ وشرع فجأةً في البوح بما يُكِنُّه لي من مشاعر، ناطقًا بالكلمات نفسها التي كتبها هَملت لأوفيليا [في الفصل الثاني، المشهد الثاني]: " آه يا عزيزتي أوفيليا، أنا لا أجيد عدَّ التفاعيل ولا أجيد عدَّ تنهُّداتي، لكني أحبك حبًّا جمًّا، آه يا أحسن الخلق، صدقيني".»[33] وعندما هجرها بيسوا، فعل ذلك بالوكالة، مضيفًا بذلك طبقة أخرى من الخيال إلى العلاقة. لقد وقَّع رسالة الفراق، التي كتبها إليها، بواحد من أساميه الأدبية، ألفارو دِ كامبوس. وفي هذه الرسالة، قدَّم لنا الشاعر نسخة خرائية من "أنا لستُ بشيء" السقراطية:
عزيزتي الآنسة أوفيليا كويروز،
لقد طلب مني شخص بائس ومثير للأسى يُدعى فيرناندو بيسوا، وهو صديق مُقرَّب وعزيز، أن أبلغكِ بالنيابة عنه- لأنه في حالة نفسية لا تسمح له بتبليغ أي شيء ولو حتى إلى حبة بازلاء جافة (وهي مثال بارز على الطاعة والانضباط)- بأنكِ بموجب هذه الرسالة محظورة من:
وبصفتي الصديق المُقرَّب والمخلص لهذا الشخص التافه العديم النفع، الذي قبلتُ (على مضض) أن أبلغكِ رسالته، أنصحكِ بأن تأخذي الصورة العقلية، أيما كانت، التي كوَّنتِها عن هذا الشخص - الذي يُدنِّس ذكر اسمه هذه الورقة البيضاء بقدر مقبول- وتلقيها في المرحاض، بما أنه يستحيل ماديًّا فعل ذلك بهذا الكائن شبه البشري، مع أنه يستحق هذا المصير عن جدارة، لو أن هناك عدلًا في هذا العالم.
خالص احترامي
ألفارو دِ كامبوس[34]
إن هَملت وأوفيليا زوج (couple) نموذجي للأدب تمامًا كما أن سقراط وألسيبَياديس زوج نموذجي للفلسفة؛ إذ يُمثِّل الزوج الأول مخاطر الاختلاق والخيال، بينما يُمثِّل الثاني مخاطر التعلُّم ومُشاقَّاته. وما تفرَّد به كيركيجارد هو أنه جمع بين الاثنين؛ بين كآبة هَملت وبراعته في التظاهر وقسوته (فهو أيضًا يعرف كيف يتكلم بكلمات كالخناجر[35])، ومعرفة سقراط المُتهكِّمة بإيروس (وصف لوكاتش كيركيجارد بأنه "سقراط عاطفي"[36]). هل كيركيجارد = سقراط + هَملت؟ هل هذه هي الصيغة الرياضية للعبور من الزمن القديم إلى الزمن الحديث تحت لافتة الِخطبة المفسوخة؟
الثيمة- التي تربط بين فنَّاني الفراق هؤلاء- هي التعارض الجذري بين الفن والزواج، بين الأدب والحب؛ فكيركيجارد وكافكا ولوكاتش وبيسوا يُكرِّرون جميعًا الفكرة نفسها: الإخلاص للأدب لا يجتمع مع الإخلاص العاطفي لامرأة. على المرء أن يختار: إما الكتابة وإما المرأة. وهذا الانقسام هو مرض "فني" ذكروي في العادة، اقترن بالمذهب الرومانسي ثم انتقل إلى الحداثة، ويُعبِّر عن نفسه في شكل آخر من أشكال معضلة الحب-العمل. لقد أحبَّت ريجينا كيركيجارد، لكن كيركيجارد أحب شيئًا واحدًا: قلمه. يقول: «والحق أنني مُغرَم، في واقع الأمر، بقلمي.» ويقول: «ليس بمقدوري أن أفترق عن قلمي؛ إنه يحول، حقًّا، بيني وبين مرافقة مَن سواه.»[37] إن الكتابة إله غيور لا يقبل أن يُشرَك به أحد، خصوصًا لو كان هذا الشريك يقطن البيت نفسه [الزوجة؛ "الشريك" حرفيًّا].
لكن إذا كانت الكتابة تنفي السعادة الشخصية وتتطلَّب التضحية بالحب، فإنها تُعوِّض صاحبها عن هذا الفقد، وذلك عن طريق تبديل هيئة ما فقده (تعطيه سعادة مفارقة؛ سعادة في التعاسة)؛ فالحب الضائع يُفتدى من خلال تبدُّله إلى شِعر، وهذه هي مهمة الكاتب الأسمى. يقول كيركيجارد: «الغرض من وجودي هو التوكيد المُطلَق على حياتها، ويُمكِن اعتبار مُؤلَّفاتي نُصبًا لمدحها وتشريفها. لقد أخذتها معي لتخلد في التاريخ.»[38] لقد نبذ كيركيجارد ريجينا، لكنها افتُدِيَت بتحوُّلها إلى فكرة، إلى رمز: لقد أخذها إلى السماوات الأفلاطونية، حيث يُمكِنه وحده أن يهيم بها. وتستدعي هذه الرغبة في التخليد الأدبي هذه المقولة من مسرحية الشُّرفة لجان جينيه: «إن التاريخ يُعاش لكي تُكتَب عنه صفحة مجيدة، لتُقرأ في ما بعد؛ فالقراءة عمَّا وقع (وليس ما وقع) هو ما يهم حقًّا.»[39] وهذا هو مذهب الفنان: العالم موجود لكي يتحول إلى عمل فني. وهو أيضًا مذهب المُنظِّر: العالم موجود لكي يُنظَّر حوله، لكي يتحول إلى فلسفة[40]. وفي حالة فنان الفراق، يُمكِن صياغة هذه المقولة كالتالي: "إن الخِطبة فُسِخت لكي تُكتَب عنها صفحة مجيدة، لتُقرأ في ما بعد؛ فالقراءة عنها (وليس هي) هو ما يهم حقًّا." وما الذي نفعله نحن الآن تحديدًا؟ ألسنا نقرأ تلك الصفحة المجيدة التي كتبها كيركيجارد عن حبه الخائب؟ إن المُسوِّغ الأساسي للفراق عند كيركيجارد هو أن يتمكَّن من التفلسف فيه[41].
لكن لماذا، على وجه التحديد، فارق كيركيجارد ريجينا؟ أي شيء آخر يكمُن وراء لغز انفصالهما؟ إن كيركيجارد هو فيلسوف السري والغامض، فيلسوف البواطن المُبهَمة، ولذلك كان لزامًا أن تظل أسباب القطيعة مُلغِزة. لكن على الرغم من ذلك، التفسير الوحيد الذي لا ينفك يُردِّده هو كآبته. إن ما حال بينه وبين ريجينا هو كآبته التي لا علاج لها، المقترنة بشعوره اللازب بالذنب، تلك "الشوكة في اللحم" التي عذَّبته[42]، والتي كانت ذات صلة بتاريخه العائلي[43]. إن الفيلسوف مفرط في حزنه ولوعته ووحدته بحيث لا يُمكِنه أبدًا أن يجد السعادة في الزواج. ولقد كانت هذه الكآبة مقترنة على نحو وثيق بالكتابة عند كيركيجارد، يقول: «كنت مُقيَّدًا، كما لو كنت في خدمة قوة عليا، بكآبة فطرية، بشوكة مُمِضَّة في اللحم، وبكوني شخصًا توَّابًا أوَّابًا.» ويقول: «لقد كانت الكتابة هي حياتي، لقد كنت أقدر على قهر عِللي جميعها- كآبتي الجبارة، ومعاناتي الجوانية- عندما أكتب.»[44] لقد احتاج كيركيجارد إلى بؤسه لكي يُبدِع، وأعطى إبداعه شكلًا فنيًّا لكآبته وإثمه، ومكَّنه من تحمُّلهما.
وهنا طرح لوكاتش تأويلًا فاتنًا لسبب افتراق كيركيجارد عن ريجينا: «لعلَّه كان يخشى أن تكون السعادة مُمكِنة في نهاية المطاف، أن يُبدِّد ضياءُ ريجينا ظلمةَ كآبته، وأن ينعم كلاهما بالسعادة. لكن أي شخص سيكون كيركيجارد من دون كآبته؟»[45] فمن ناحية، تتبع كآبة كيركيجارد منطق الرغبة المُحبَطة: ليست السعادة في متناول يديه، ومن ثم لا بد له أن ينبذ المرأة، لمصلحتها بالطبع؛ إنه إيثار لكن قاسٍ. لكن ماذا إذا كان ذلك مجرد قناع لإخفاء نقيضه؟ ليست المشكلة أن السعادة مستحيلة، وإنما أنها مُمكِنة تمامًا، وهذا تحديدًا ما يُروِّعه[46]. يقول كيركيجارد:
بالإضافة إلى بقية معارفي الكثر، الذين تجمعني بهم عامةً علاقة سطحية إلى حد ما، لديَّ خليلة حميمة: كآبتي؛ التي تراني منغمسًا في فرحي، منغمسًا في عملي، فتُلوِّح لي وتنادي عليَّ بالرغم من كوني حاضرًا معها بجسدي. إنها أوفى حبيب عرفته على الإطلاق، ومن ثم فلا عجب أنني أُلبِّي نداءها على الفور.[47]
لقد هجر كيركيجارد ريجينا لا لكي يحميها وإنما لكي يحمي خليلته الحقيقية؛ كآبته الجميلة.
لكن إذا نظرنا إلى خِطبة كيركيجارد المفسوخة من زاوية أخرى، فسنجد أن مفارقتها الكبرى هي التالية: على النقيض من دور المغوي الدون خواني الذي لعبه لـ"مصلحة" ريجينا، لم يكُن كيركيجارد نصيرًا قط للفراق، بل كان يرى أنه لا يوجد فراق أصلًا؛ فأن تتوقَّف عن حب شخص تحبه هو استحالة أنطلوجية، لأن الحب لا ينتهي أبدًا في حقيقة الأمر. أو بعبارة أخرى؛ إن حبًّا ينتهي ليس بحب؛ فانتهاء الحب ينفي وجوده السابق؛ بمفارقة المرء لمحبوبه يُثبِت له أنه لم يحبه مطلقًا. يقول: «لا يُمكِن للمرء أن يتوقَّف عن أن يكون مُحبًّا؛ فلو كان المرء مُحبًّا حقًّا فسيظل كذلك إلى الأبد، ولو توقَّف عن أن يكون مُحبًّا فإن ذلك يعني أنه لم يكُن مُحبًّا قط. إن التوقُّف عن الحب ينفي الحب بأثر رجعي.»[48] هذا هو الموقف المسيحي الراديكالي الذي يتبنَّاه كيركيجارد، والذي يقتضي- في ما يخص الفراق- ضربًا من الزمنية الدورانية أو الرجوعية: لا يُؤثِّر الفراق على المستقبل فحسب (لن أكون معها بعد اليوم)، وإنما يُؤثِّر على الماضي أيضًا، وعلى نحو أعمق حتى، إنه يُبطِله (لم نكُن قط معًا حقًّا قبل اليوم، لقد تبيَّن أن "حبي" لها لم يكُن سوى زيف، وهم، كذبة). وبذلك ينطوي الفراق على فقد مزدوج. وللمرء أن يستحضر هنا فيلم "Vertigo" (ألفريد هيتشكوك، 1958): عندما يكتشف سكوتي (جيمس ستيوارت) أن حبه السابق، مادلين (كيم نوفاك) الرقيقة، لم تخدعه أو تغشه فحسب، وإنما هي لم توجد قط حتى؛ فوجودها بأكمله لم يكُن سوى زيف محبوك للغاية، فإن ذلك يسلب منه ماضيه، ولحظة فقدانه لماضيه هذه هي لحظة الصدمة الكبرى في الفيلم؛ لأن فقد الماضي يزلزل الأرض من تحت القدمين، يجعل المرء على شفا هاوية (ومن هنا الدوار عنوان الفيلم)[49]. والحال أن كيركيجارد ليُعمِّم هذا السيناريو الهيتشكوكي: كل فراق ليس مأساويًّا فحسب، وإنما كارثيًّا أيضًا؛ فهو لا ينهي العلاقة فقط، وإنما يمحوها بأثر رجعي أيضًا.
هذه فكرة استثنائية حقًّا وتتطلَّب المزيد من الشرح. أنَّى للفراق أن يلغي الماضي؟ هل الماضي قابل للمحو أصلًا؟ ولماذا لا يُمكِن للحب أن ينتهي؟ وفقًا للرأي الأكثر اعتياديةً؛ كون الحب حقيقيًّا لا يقتضي كونه بلا أجل محدود؛ خمود عواطف المرء لا يقتضي أنها لم تكُن حقيقية أو صادقة وقت اندلاعها؛ فشل العلاقة لا يُبطِل وجودها السابق. تُعبِّر الكاتبة الأمريكية ليزلي جيمسون عن هذا الرأي بقولها: «إن شأن العلاقة المقطوعة أكبر على الدوام من مجرد قطعها؛ فانتهاؤها لا يُبطِل كل ما جرى فيها من ذي قبل. إن ذكريات العلاقة- مسرَّاتها ونزاعاتها، ما كانت عليه الذات بفضلها- لا تختفي بعد قطعها، لكن العالم يضن عليها بمكان في أغلب الأحيان.»[50] ويبدو أن هذه هي الطريقة الصائبة لفهم الآثار المتناقضة والدائمة التي تتركها فينا علاقات الحب السابقة، وأيضًا تبدو متفقة مع حدوسنا الفرويدية؛ فعلاقات الحب المقطوعة لا تُمحى، وإنما تلبث معنا وتدوم، وفي بعض الأحيان تُحدِث فينا آثارًا آجلة. بل يُسوَّغ للمرء القول بأن الذات ليست سوى «ركام علاقات الحب التي خاضتها، كما لو كانت دمية تعشيش روسية تحوي في داخلها جميع هذه العلاقات»[51]. وبذلك نجد أنفسنا أمام المشكلة العكسية: إن مأساة الحب الحقيقية ليست انتهاءه، وإنما كونه لا ينتهي. فهل بمقدور المرء أن يتخلَّص حقًّا من شخص أحبَّه يومًا ما؟ هل بمقدوره أن يُفلِت من سطوته عليه؟ أنَّى للمرء أن يخرج سالمًا نظيفًا من حياة شخص آخر كما دخلها؟ الميزة الكبرى لمنظور كيركيجارد هو أنه يقتضي التالي: كل قطيعة هي قطيعة نظيفة. فبعد القطيعة، لا يجد المرء نفسه أمام ماضٍ لُجِّيٍّ يتعيَّن عليه التصارع معه، لأنه لم يكُن ثمة ماضٍ على الإطلاق. أو- حتى نتوخَّى الدقة- كل ما جرى في الماضي لم يكُن له شأن بـالحب. فالحب يظل نقيًّا، لا تشوبه القطيعة بشائبة. والحال أننا لنجد صدى تصوُّر كيركيجارد الصارم ("التقوي") عن الفراق في حالة ليست بالنادرة: تشكُّك المرء في علاقته بحبيبه بعد انقطاعها؛ عندما يزول الحب، يغدو بمقدور المرء أن يتساءل: هل كان هذا الحب، الذي زال، موجودًا حقًّا؟ فعندما ينفك سحر الحب، يتبدَّى الماضي على نحو مختلف، تتبدَّل تجربته نفسها، والأهم: تنكشف حقيقته للمرة الأولى، ويصير المرء كما لو أنه قد وُلِد من جديد. هل يُمكِن لهذا الإفراغ للماضي، بأثر رجعي، أن يكون تجربة سعيدة على الرغم من كل شدَّته وإيلامه، أم إن فكرة الولادة من جديد هذه ليست سوى وهم آخر؛ مجرد إنكار لارتباط المرء الحتمي بركام علاقات حبه السالفة؟
يكمُن مفتاح فهم نظرية كيركيجارد عن الفراق في أُطروحته القائلة بأن بنية الحب ثلاثية. فالحب في أساسه "ménage à trois"، علاقة ثلاثية، ولا يكون علاقة ثنائية أبدًا. إنه يتطلَّب ثلاثة عناصر، وهي: المحب + المحبوب + الحب. فمع أن الحب هو اسم هذه العلاقة، فإنه يُعَدُّ أيضًا واحدًا من عناصرها؛ فكلٌّ من المُتحابَّين لا يُعلِّق نفسه بالطرف الآخر فحسب، وإنما بالعلاقة نفسها كذلك، وهذه العلاقة-بـ-العلاقة هي ما يهم حقًّا. كيف للمرء أن يتعلَّق، في تعلُّقه بمحبوبه، بالحب نفسه؟ هذه هي معضلة كيركيجارد. ومكمن الخطر عنده هو التالي: عندما يفارق المرء فإنه لا يهجر محبوبه فحسب، وإنما يهجر الحب نفسه أيضًا، يخرج منه؛ وهذا الخروج من الحب، فقدان الإيمان به، هو كارثة الكوارث. لكن من غير المُمكِن فقدان الإيمان بالحب؛ لأن- من منظور كيركيجارد المسيحي- الحب أبدي ولا يُمكِن له أن يكون إلا أبديًّا. فـ«الحب يدوم»، كما يقول؛ إنه لا يعرف الانتهاء ولا الهجر ولا القطيعة ولا الخيانة ولا الانفصال ولا الفسخ. والمشكلة أن هذا الوصف لا ينطبق حقًّا إلا على حب واحد، حب خليق باسمه: حب الله. وعلى ذلك يكون الله مُقحَمًا في كل علاقة حب؛ يكون حب الله الأبدي مُقحَمًا في كل تجربة حب يقع فيها المرء؛ إنه العنصر الثالث الضروري لإقامة علاقة حب. ولا يتردَّد كيركيجارد في الخلوص إلى هذا الاستنتاج المرير: لا يُمكِن للحب الجنسي، ومهما بلغت شدَّته، أن يكون حبًّا حقيقيًّا لأنه لا يُمكِن له أن يكون أبديًّا.
ولبيان ذلك، يحكي لنا قصة فتاة هجرها حبيبها (فهذا هو الاختبار الحاسم للحب: هل يُمكِن له أن يدوم بعد الهجران؟). تظل الفتاة الوحيدة وفيَّة لحبيبها، أو بالأحرى وفيَّة لحبها له؛ إنها تنتظر عودته، ولا تتخلَّى عن الأمل فيها أبدًا، إنها تُضحِّي بنفسها في سبيل الحب. وثمة وجه شبه بين محنة هذه الفتاة المهجورة ومحنة رهبان الصحراء الغارقة أرواحهم في ظلمة الليالي التي يشعرون فيها بالخواء والغم لأن الله قد هجرهم في ما يبدو. تمر السنون ولا يعود الرجل أبدًا إلى الفتاة، التي تموت وحيدة في نهاية المطاف. إن هذه الفتاة فارسة حقيقية من "فرسان الإيمان"، ومع ذلك يرى كيركيجارد أن حبَّها- وبالرغم من تفانيها المذهل- لم يسلم من التأثُّر بمرور الزمن؛ فهو يُفرِّق هنا بين "الخروج" من الحب و"وهن" الحب. إن الفتاة لم تخرج من الحب، لكن حبها قد وهن وبهت لا محالة، لأنه حب مصروف إلى موضوع زمني، ومن ثم مُتقلِّب، يقول: «الحب الجنسي ابتداع للزمنية، أجملُ إبداعاتها لكن أوهنها. ولذلك يوجد تناقض أشد عمقًا هنا. لا يوجد أي عيب في الفتاة؛ فلقد كانت مخلصة لحبها وظلت كذلك. لكنه قد تغير، بقدر ما، مع انقضاء السنين. لأن هذه هي طبيعة الحب الجنسي.»[52] إن هذا التغير ليس جريرة الفتاة؛ فلا يوجد أي عيب ولا تردُّد ولا نقص في إخلاصها، لكن يوجد شيء معيوب في نوع الحب الذي أخلصت له. فعلى الرغم من تفانيها التام، تغيَّر شيء ما في حبها ووهن، بسبب طبيعة موضوع هذا الحب. وعليه، ثمة تناقض لا حل له في الحب الجنسي: على الرغم من نوايا المحبين المخلصة، لا بد أن تُوهِن تقلُّبات الزمن حبهما، ومن ثم لا يُمكِن له أن "يدوم" حقًّا.
لكن إذا كان ترك المحبوب استحالة أنطلوجية، فكيف تسنَّى لكيركيجارد أن يترك خطيبته؟ يقول لنا: «لو كنت مخلصًا (مؤمنًا) لبقيت مع ريجينا.»[53] وواقع الأمر أنه كان مخلصًا، ولم يكُن مخلصًا. إنه لم يقدر على الخضوع لأخلاقيات الزواج، أي للسعادة الزوجية، وقطَع علاقته بها تحت ذريعة كونه زير نساء، لا شاغل له سوى الملذات الحسية العابرة. لكن ما لم يكُن بوسع أي أحد أن يعرفه- حاشا كيركيجارد نفسه- هو أن خيانته هذه كانت ضربًا سريًّا من الإخلاص، قفزة إلى نطاق الدين؛ فبتضحيته بريجينا أضحى مخلصًا لها حقًّا، مؤمنًا به حقًّا. إن ريجينيا المخطوبة هي امرأة أرادت أن تزُجَّ به في علاقة (زواج) مستحيلة لا طاقة له بها، أما ريجينا المهجورة فهي رفيقته الأبدية، زوجته الروحية. لقد تزوجت ريجينا برجل آخر (يوهان فريدريك شليجل) في نهاية المطاف، لكن ذلك لم يشغل بال كيركيجارد، الذي سيقول لاحقًا: «لا يُمكِن لأي زوج أن يكون مخلصًا لزوجته أشد من إخلاصي لريجينا.»[54] وتكمُن المفارقة هنا في أنه قد دخل في علاقة حب لا يُمكِن قطعها مع ريجينا، تحديدًا عن طريق قطع علاقته بها. أو بعبارة متوافقة مع أطوار كيركيجارد الثلاثة: ليس الحسي (ملذَّات زير النساء الأناني) سوى قناع للديني (الإخلاص للحب) الذي يُمكِّنه من إنجاز غاية الأخلاقي (الزواج، أو في حالته، ضرب من الزواج الروحي الخفي). بحسب لوكاتش: «لم تكُن ريجينا أولسن عند كيركيجارد سوى خطوة على السبيل المفضية إلى معبد "لاشيء-سوى-حب-الله" الجليدي.»[55] لكن ثمة ما هو أشد دقةً وخفاءً من ذلك على المحك هنا؛ فتبعًا لانعطافات منطق كيركيجارد الديالكتيكي، ليست ريجينا مجرد خطوة نحو حب أسمى، حب الله، وإنما هي موضوعة في موضع الله نفسه. لقد ألَّه كيركيجارد ريجينا، وليس الله سوى قناع لها، وبذلك غدت "مليكته"، "ربَّته"، حقًّا. وعلى هذا النحو تمكَّن كيركيجارد من حل التناقض بين الزمنية والأبدية الثاوي في قلب الحب الجنسي؛ فمن خلال محنة تطهُّر وتجرُّد جنسي، محنة يصفها بأنها «رهبته ورعدته»[56]، أضحى بمقدور كيركيجارد أن يحب بشريًّا فانيًا بحب إلهي سرمدي.
وموجز القول: فراق كيركيجارد شأن مُعقَّد، ينطوي على العديد من الدوافع والمعاني؛ فهو يجمع بين طيَّاته العناية بالآخر، والإخلاص لصنعة فنية سامية، والتعلُّق العُصابي بالبؤس، والبحث عن حب مُحصَّن ضد الفراق. وتُؤلِّف هذه الدوافع أربع شخصيات مختلفة لكلٍّ منها تعليله الخاص لهجر ريجينا، وهي:
الغيري. لقد هجرها لا لمصلحته وإنما لمصلحتها. فهو يريد أن يقيها الغرق في وحل عواطفه، في وحل حزنه وإثمه وروحه المُعذَّبة. ولذلك يتظاهر بأنه نذل حقير حتى تفقد كل أمل في عودته إليها، ومن ثم تتحرَّر منه ويتسنَّى لها الزواج بغيره. والمعاناة التي تسبَّب فيها هذا الاحتيال مُبرَّرة بكونها ترمي إلى نفعها. ويصف كيركيجارد فعلته هذه بأنها «شهامة نادرة». لكن هذا المعروف- هذا الإحسان- لم يكُن محضًا، وإنما كان مصحوبًا بضرب دقيق ونقي من القسوة. لكن ألا ينطوي كل إيثار على شيء من العنف؟ إكراه الآخر- المُحسَن إليه- على تقبُّل ما يُعيِّنه الغيري- المُحسِن- على أنه هو النفع والخير؟[57] إن كيركيجارد يحب ريجينا، ولا يريد لها إلا الأصلح.
الفنان. القطيعة هي موضوع للتأمل الفلسفي والإسماء الشعري. هذا ما نعرفه نحن قرَّاء كيركيجارد. فمن خلال صبغ الهجر بصبغة شعرية، حوَّل ريجينا إلى رمز، وأخذها معه للخلود في التاريخ الفلسفي والأدبي. وكإعادة صياغة لعبارة جان جينيه- آنفة الذكر- نقول: إن الهجر قد وقع لكي تُكتَب عنه صفحة مجيدة وتُقرأ لاحقًا. هذه هي برودة المنظور الفني (والنظري بالمثل): الواقع موجود لقرض الشعر عنه (أو للتنظير عنه). وبكلمات لوكاتش؛ الفراق هو إيماءة كيركيجارد الفنية. إن كيركيجارد يحب قلمه، وهجْر ريجينا هو الحافز على الإبداع.
العُصابي. بالرغم من زعمه أنه يتركها خشية إعدائها بصدماته وأعصبته، بتعاسته الفطرية، فإن ما يخشاه حقًّا هو أن تستقيم حالهما ويسعدا معًا. فالسعادة (وليس التعاسة) الفطرية هي الخطر الحقيقي؛ لأنها تُهدِّده بحرمانه من كآبته العزيزة؛ خليلته الحقيقية. إن حكمة العُصابي هي: "أحِبَّ عَرَضَك كما تُحب نفسك"[58]. إن كيركيجارد يحب كآبته؛ «أوفى حبيب» عرفه.
المتصوف. الفراق لا يفيد نهاية العلاقة، وإنما هو السبيل الديالكتيكية الموصلة إلى علاقة تدوم حقًّا. فالحب الإلهي هو الحب الوحيد الذي يدوم. ولا بد من التخلي عن الحب الجنسي حتى يتسنَّى رفع المحبوب إلى مقام روحي أعلى. وبذلك تتجلَّى القفزة الإيمانية في هيئة مخاتلة كفعل خروج من الإيمان (بالحب، بالمحبوب). فبهجْر ريجينا أضحى مقترنًا (متزوجًا) بها إلى الأبد. لقد وضعها في موضع الله. إن كيركيجارد يحب الله، ويحب ريجينا المهجورة بحب إلهي أبدي.
لكن ثمة احتمال آخر وثيق الصلة بالأخير (مجرد تعديل عليه في واقع الأمر). ولكي نفهمه، يتعيَّن علينا مقارنة حب كيركيجارد الأبدي لريجينا بضرب آخر من ضروب الفراق، يتخذ فيه الحب شكل هجر فاشل مُتكرِّر بلا نهاية. أتحدَّث هنا عن رواية أودلف لبنجامين كونستانت، التي نُشِرت لأول مرة في سنة 1816، والتي أُشيع أنها مبنية على غرامياته المائجة، وتحديدًا على علاقته بمدام دِ ستال. فالحال أن أي تأريخ للفراق سيظل ناقصًا من دون ذكر هذا النص الأساسي. يحتل تردُّد البطل وتأرجحه- فهو "constant dans l’inconstance"، مداوم على التقلُّب، على حد عبارة أغنية سيرج جَنيسبور- موضعَ القلب من القصة. أغوى أودلف إلينور وأفلح في فتنتها، فتركت عشيقها وكفيلها القديم من أجله. لكن بعدما قضى وطره منها، تبيَّن له- بمقتضى منطق الرغبة الحزين المُعبَّر عنه في تقليد فلسفي طويل يمتد من أفلاطون إلى جياكومو ليوباردي وآرثر شوبنهاور- أنه لم يعُد يرغب فيها[59]. وهكذا تبدأ الدراما: يعود حبه لها كلما ظهر عائق يُهدِّد علاقتهما، بيد أنه يظن أن العائق الحقيقي الذي يقف في طريق سعادته هو إلينور نفسها[60]. ولذلك يتأرجح إقبالًا عليها وإدبارًا عنها، يعزم عزمًا باتًّا على تركها في لحظة، ثم يُصرِّح لها بعزمه على البقاء معها إلى الأبد في اللحظة التي تليها. ثمة شيء من هَملت في تحيُّر أودلف وتردُّده: أفارق أو لا أفارق، تلك هي المسألة. لكن ما هو على المحك هنا ليس أن مشاعر أودلف تتبدَّل وتتأرجح، ولا أنه عاجز عن عقد العزم، وإنما أن هذا التأرجح نفسه هو عين رغبته، رغمًا عنه[61]. إنه يزدهر في بؤس هذا التردُّد والتناقض العاطفي (وعندما زال هذا التوتُّر، بعدما ماتت إلينور بسبب كسره لقلبها، لم يتحرَّر، ولم يتمتَّع بحياته، ولم يُنجِز أي شيء ذي بال، وإنما عاش حياة عادية بلا شغف ولا حماسة). إن أودلف لا يستطيع ترك إلينور لأنه لا يستطيع ترك تركها، لا يستطيع التوقُّف عن تركها؛ إنه لا يقدر على فراقها، ومن ثم لم يتوقَّف عن مفارقتها[62].
ويُسوَّغ لنا أن نعُدَّ استراتيجية الفراق "الإلهية"، التي يتبعها كيركيجارد، إسماءً لاستراتيجية الـلافراق "العُصابية" التي يتبعها أودلف، مع الاحتفاظ بشيء من صداها: على خلاف بطل كونستانت المُتردِّد، يُفارق سورين ريجينا فعلًا، لكنه فراق لن يستطيع أن يتجاوزه أبدًا، لن يستطيع أن "يُفارقه" أبدًا. وبذلك يتصالح الضدان، الحب السرمدي والهجر السرمدي، علاقة لا يُمكِن قطعها، وقطيعة لا يُمكِن التوقُّف عنها: إن ريجينا هي مهجورة كيركيجارد الأبدية. في يومياته، ألمح كيركيجارد إلى أنه لولا حيلة لعبه لدور النذل زير النساء لأضحت علاقته بريجينا كعلاقة أودلف بإلينور؛ عالقةً في برزخ قطيعة لا تنتهي. يقول: «وبالمناسبة، لو أنني لم أسلك هذا المسلك، لظللنا على الأرجح ماكثَين في عملية الافتراق. ولذلك من الصائب عزو القطيعة إلى هذا "المسلك"؛ إذ لم يكُن لها أن تتمَّ لو سلكت أي مسلك سواه.»[63]
نقيض فراق كيركيجارد- الذي يعمل بأثر رجعي- هو الفراق الاستباقي أو الترقُّبي، الذي يعمل مُقدَّمًا. نجد تصويرًا مرحًا لهذا الضرب من الفراق في فيلم "Swingers" (دوج ليمان، 1996). مايكي، كوميديان (مكتئب) عاطل عن العمل، يقضي أغلب الفيلم في الأنين والنواح على هجر خليلته له بعد علاقة دامت لست سنوات. ينجح أخيرًا، بتحفيز من رفاقه المُحنَّكين في شؤون النساء، في أخذ رقم هاتف (منزل) فتاة تكلَّم معها في حانة، تُدعى نِكي. وفي وقت متأخر من الليلة نفسها، لم يقوَ على منع نفسه من الاتصال بها، ضاربًا بذلك عرض الحائط بالقاعدة الغرامية المعروفة التي تنص على أن المرء يتعيَّن عليه (أن) ينتظر يومين أو ثلاثة (أو ستة) أيام قبل أن يتصل. وفي خلال سلسلة من الرسائل الصوتية، المتصاعدة الحدَّة، عرض مايكي مسار علاقتهما (المُتخيَّلة) بأكمله، إلى أن أعلن أخيرًا انتهاءها: «آآ، نِكي؟ أنا مايك، هذا الأمر لا يمضي على ما يُرام. أرى أنكِ فتاة عظيمة، لكن لعلَّه يجدر بنا أن نبتعد بعضنا عن بعض لفترة من الوقت. ليست غلطتكِ وإنما أنا السبب.» وقبل أن يشرع في ذكر التفاصيل، رفعت نِكي سماعة الهاتف بغتةً وقالت له: «لا تتصل بي أبدًا مرة أخرى.» والقفشة (punchline) هنا هي أن النهاية تسبق البداية. يفارق المرء قبل الدخول في العلاقة، يستبق فشلها المستقبلي، ويقطعها قبل أن تبدأ.
«نحن لا نحب أي شخص آخر أبدًا»، يقول بيسوا؛ لأنه «في الحب الجنسي، نحن نبتغي متعتنا الخاصة من خلال جسد الآخر. وفي الحب غير الجنسي، نحن نبتغي متعتنا الخاصة من خلال مِثالنا، فكرتنا عن الآخر. قد يكون المستمني شخصًا بائسًا، لكنه- إن شئنا الحق- التجسيد المنطقي الأكمل للمُحب. إنه الشخص الوحيد الذي لا يتظاهر بما لا وجود له، الشخص الوحيد الذي لا يخدع نفسه.»[64] قد يصح ذلك أو لا يصح، لكن لو قبلنا تعريف الحب بأنه استمناء مع رفيق، فما القول في الفراق الاستمنائي؟ كما أننا لا نحب أي شخص آخر أبدًا، نحن لا نفارق أي شخص آخر أبدًا. نحن لا نفارق إلا فكرتنا الخاصة عنه. عوضًا عن محو الماضي بأثر رجعي، كما هو شأن الفراق الكيركيجاردي، يمحو الفراقُ الاستباقي المستقبلَ (المُتخيَّل) مُقدَّمًا.
"لا بد أن يُعاد اختراع الحب"، قال أرتُر رامبو مُتنبِّئًا[65]. فهل من المُمكِن أن يكون قد خمَّن أن هذا الحب الجديد هو التحليل النفسي؟ بما أن التحليل النفسي هو الذي أعاد اختراع الحب للقرن العشرين، وأطلق على هذا الحب الجديد اسمًا غريبًا: التحويل أو النقل العاطفي (transference). يقينًا، قد يبدو هذا الحب بعيدًا كل البعد عن الحب الجريء والانتهاكي الذي أراده الشاعر. تذهب امرأة (أو يذهب رجل) إلى العيادة، وتستلقي على الأريكة، وتقص مشكلاتها الحميمة وشكاواها وخواطرها وأحلامها على مسامع المُحلِّل النفسي الذي يظل صامتًا بلا رد في العموم، وتُكرِّر ذلك لسنوات ربما بلا انقطاع؛ في علاقة تتألَّف حصرًا من الكلام (ودفع المال) من دون أي تواصل جسدي. ومع ذلك، يُعَدُّ ذلك- وفقًا لفرويد- حبًّا حقيقيًّا، مغامرةً غراميةً. أحد الأمور التي تُميِّز التحليل النفسي عن العلاجات النفسية الأخرى أنه لا يعالج عِلة (عُصاب) المريض على نحو مباشر، وإنما يعمل عن طريق خلق نسخة مُصطنَعة من هذه العِلة ضمن حدود عيادة المُحلِّل النفسي. وبذلك يتجلَّى عُصاب المريض كنسخة من نفسه أو تكرار لنفسه، نسخة متمحورة هذه المرة حول شخص المُحلِّل، الذي يصير مركز جاذبية أعراض المريض واستيهاماته ورغباته [عوضًا عن الشخص الآخر - الأب، الأم، الزوج، إلخ- الذي يتمحور حوله العصاب الأصلي. ولذلك يُسمَّى بالتحويل أو النقل؛ لأن عواطف المريض- حبه- قد حُوِّلت أو نُقِلت من موضوعها الأصلي إلى موضوع جديد، وهو شخص المُحلِّل النفسي]. الحب التحويلي إذن حب مُصطنَع، لكن فرويد يُشدِّد على أن ذلك لا يجعله أقل حقيقيةً من أي حب آخر. بل ثمة انعطافة هنا: ليس الحب التحويلي هوى حقيقيًّا وصادقًا فحسب، وإنما هو يدفعنا إلى التدقيق في طبيعة علاقات الحب العادية التي تقع خارج عيادة المُحلِّل؛ إذ يجعلها تبدو مسرحية وتنكُّرية، يجعلها تبدو كبدائل وتكرارات "منقولة أو مُحوَّلة" من مكان آخر. لكن هذه الفكرة- على خطورتها- ليست أشد ما يأسر الانتباه في هذا الصدد؛ فما يُميِّز التحليل النفسي حقًّا هو أنه أول علاقة حب في التاريخ يكون قطعها هو علامة نجاحها. فكما أن التحليل النفسي قد اخترع انحرافًا جديدًا، وهو التمتُّع بضرب غريب جدًّا من الكلام (التداعي الحر)، فقد اخترع أيضًا علاقة حب جديدة، وهي الحب التحويلي بين المريض والمُحلِّل النفسي، علاقة حب لكي تتم بنجاح لا بد من قطعها، إنهائها.
«ماذا لو كان التحليل النفسي مدرسة لتعليم الافتراق؟» تتساءل المُحلِّلة النفسية الفرنسية آنَّا دوفورمانتيل[66]. وهنا تُسوِّغ لنا العودة إلى مدرسة الافتراق الأخرى، أكاديمية أفلاطون. فلو كان الفراق الأفلاطوني هو الوجه الآخر للحب الأفلاطوني، فالفراق الفرويدي هو الوجه الآخر للحب الفرويدي، أي التحويل العاطفي. ويتبع هذا الفراق الفرويدي صيغة الفراق الأفلاطوني نفسها التي وضعها سقراط، مع إدخال تعديل مُعتبَر عليها. ففي ردِّه على حب المريض، يتَّخذ المُحلِّل النفسي موقفَ أنا لست بشيء؛ إذ يجعل من نفسه مجرد لوحة قماشية بيضاء، يُمكِن رسم عُصاب المريض عليها، دعامة لِبيديَّة (libidinal) لعرض رغبات المريض واستيهاماته[67]. لكن على المُحلِّل أيضًا أن ينتزع نفسه من فوضى أهواء المريض، وأن يُوجِّه حب المريض صوب اتجاه آخر، وبذلك يقول له- بطريقته- ستكون أسعد مع شخص آخر غيري. وهنا نجد التعديل الذي يُدخِله الفراق الفرويدي على صيغة الفراق الأفلاطوني: "الشخص الآخر" الذي أراد سقراط أن يُوجِّه حب ألسيبَياديس إليه ليس سوى فكرة مجردة في نهاية المطاف، فكرة الجمال نفسها (وفقًا لنظرية سُلَّم الحب)، بينما لا ينتمي "الشخص الآخر"، الذي يريد المُحلِّل النفسي أن يُوجِّه إليه حب المريض، إلى هذا النطاق الميتافيزيقي (ألسيبَياديس، وليس سقراط، هو مَن يُقدِّم صورة أصدق وأوقع للرغبة. أو بكلمات لاكان، إنه مُغوًى إغواءً أشد "أصالةً")[68]. فإذا كان المُحلِّل النفسي يعيد توجيه حب المريض صوب موضوع آخر غيره، فإنه لا يفعل ذلك لكي يجعله يتجاوز أوهام إيروس ويتعالى عليها، وإنما لكي يجعله يتَّخذ موقفًا جديدًا حيال هذا الوهم نفسه؛ لأن التحليل النفسي يبحث عن الحقيقة في نطاق الأوهام، في فجواتها وتناقضاتها وتكراراتها وزلَّاتها. وهو يفعل ذلك عن طريق صرف حب المريض عن شخص المُحلِّل لتوجيهه صوب ما يفعله المُحلِّل، عملية التحليل النفسي عينها؛ سبر اللاوعي. فلو أن الفلسفة تستبدل الحب الجنسي بالفلسفة (أفلاطون)، والأدب يستبدل الحب الزواجي بالأدب (كيركيجارد وورثته)، فإن التحليل النفسي يستبدل الحب التحويلي بالتحليل النفسي (فرويد). وتمامًا كالزوج الفلسفي (سقراط وألسيبَياديس)، الزوج التحليلي (المريض والمُحلِّل النفسي) مبني على عدم تناغُم أو عدم اتفاق جذري. فالمريض يحب المُحلِّل، لكن المُحلِّل يحب شيئًا واحدًا: التحليل النفسي. ما الذي يريده المُحلِّل حقًّا؟ أن يحل ألغاز النفس البشرية، أن يغدو مُحلِّلًا نفسيًّا شهيًرا[69]، أن يشفي المريض، أن يتخلَّص منه (يُمكِن إثراء نظرية الفراق بدراسة الحالات التي تخلَّص فيها المُحلِّلون من مرضاهم[70])؟ ربما يريد كل ما سبق أو بعضه أو لا شيء منه. لكن- في الأساس- رغبة المُحلِّل هي رغبة في التحليل النفسي. فبمعزل عن أي مشاعر شخصية قد تُثيرها عملية التحليل في نفس المُحلِّل، رغبة المُحلِّل هي رغبة غير شخصية في عمل التحليل نفسه: التعامل مع الصدمات والفقد، إعادة بناء آثار الذكريات، فك مسارات التداعي الحر المتشابكة، إلخ.
على هذا النحو، يُقدِّم التحليل النفسي معضلة الحب-العمل في شكل جديد. فعلى وجه العموم، طرح القرن العشرون ثلاث طرق لفهم العلاقة بين الحب والعمل: الحب شيء يتعيَّن عليك أن تعمل عليه (الرأسمالية)؛ أن نحب يعني أن نعمل معًا (الشيوعية)؛ ينبغي تفكيك الحب من خلال تحليله (التحليل النفسي). وحدة الحب الأساسية في الرأسمالية هي الزوج البرجوازي، ومع أنه لا توجد في الرأسمالية أخلاقيات أساسية لعلاقات الحب، يوجد فيها مذهب أخلاقي مُتعلِّق بالعمل: الموازنة بين الحب والعمل، بين الأسرة والمسار المهني، هي أحد المشاغل الكبرى للمجتمع الرأسمالي، لكن لا بد لأحد طرفَي هذه المعادلة (العمل) أن يطغى على الآخر (الحب) ويُحدِّده: الحب هو شيء يتعيَّن عليك أن تعمل عليه، الحب مسألة استثمار، أداء، إدارة للوقت، نجاح عاطفي، مع تجارة للسعادة على استعداد للتربُّح منه. وتنتقد الشيوعية الزوج البرجوازي على انشغاله بنفسه وبعُزلته عن المجتمع؛ ففي حين تُحوِّل الرأسمالية الحب إلى شأن فردي خاص، تسعى الشيوعية إلى جعل الحب قوة تخدم الجماعة. الحب الشيوعي النموذجي هو حب الرفاق بعضهم لبعض، حيث الإخلاص للقضية العامة هو ما يجمع شمل المتحابين ويُؤلِّف بينهم[71].
ويطرح التحليل النفسي نهجًا مغايرًا لهذين النهجين، نهجًا يتألَّف من تفكيك الحب، بالكشف عن الآليات النفسية الكامنة خلفه، عن الذكريات والتداعيات والتماهيات والاستيهامات التي تجعله مُمكِنًا أو مستحيلًا. أي إن التحليل النفسي يستبدل الحب بتحليل الحب. وسر هذه العملية هو أن الشخص، الذي يختار أن يخوضها، يعارضها في واقع الأمر. فمع أن المريض هو الذي ينشئ علاقة الحب هذه برُمَّتها بذهابه إلى المُحلِّل النفسي، فإنه يقاومها (بلا وعي منه)؛ فرغبته هي رغبة في عدم التحليل، أو على الأقل، هي رغبة متضاربة، تتَّسم بالمقاومة (للعمل التحليلي) والجمود (لزوب الأعراض ورسوخها). إن أحد مقتضيات التحويل العاطفي أن المريض يُؤثِر الحب على العمل التحليلي، أي يُؤثِر تأدية دراما حياته اللِّبيديَّة حول شخص المُحلِّل النفسي عوضًا عن العمل معه على تحليل تناقضات ومآزق دوافعه ورغباته واستيهاماته التي تتألَّف منها هذه الدراما. وعليه، فالمُحلِّل، وليس المريض، هو من يُمثِّل الرغبة في التحليل النفسي ويُجسِّدها. لكن هل يعني هذا أن المُحلِّل هو وحده من يعمل؟ هو المسؤول عن تحليل المريض الذي يقاوم عملية التحليل أو على الأقل لا يساعد فيها؟ الوضع أكثر تعقيدًا من ذلك؛ فليس من الصائب القول بأن أحد طرفي العلاقة يقوم بالعمل التحليلي وحده، وليس من الصائب أيضًا القول بأنهما يقومان به معًا، كشركاء. وإنما القول الصائب هو أن المريض هو الذي يُحلِّل نفسه- رغمًا عن نفسه- من خلال المُحلِّل النفسي كوسيط[72]. إن الذات التحليلية ذاتٌ منشطرة على نفسها (تريد التحليل وتقاومه)، ورغبة المُحلِّل النفسي (غير الشخصية) في التحليل نفسه هي التي تُرسِّخ هذا الانشطار وتحفظه. وبعبارة أخرى؛ تُجابهنا هذه المشكلة نفسها عندما نطرح السؤال التالي: هل التكلُّم (التداعي الحر) في أثناء التحليل النفسي حوار ذاتي (مونولوج) أم حوار ثنائي (دَيالوج)؟ والجواب هو: لا هذا ولا ذاك، أو بالأحرى، هو خليط منهما. إنه مونولوج لاثنين يرمي إلى سبر ذات أحدهما[73]. وعليه، فالزوج التحليلي ليس زوجًا منطويًا على نفسه وقائمًا بها (وحدة، بمصطلح ميتافيزيقي) كالزوج البرجوازي الرأسمالي، وليس زوجًا منخرطًا في مشروع جماعي (تعدُّد، كثرة) كالزوج الشيوعي، وإنما هو زوج مُخترَق بشرخ داخلي (انقسام). وعودةً إلى كيركيجارد؛ علاقة الحب التحويلي هي أيضًا "ménage à trois"، علاقة ثلاثية؛ فهي تتألَّف من: المريض، والمُحلِّل النفسي، والآخر الكبير، المُتجسِّد في حب المُحلِّل لعملية التحليل (وهذا الآخر ليس سوى الشرخ الداخلي في ذات المريض، الآخرية الثاوية فيها). وعودةً إلى كيركيجارد أيضًا؛ السؤال الأساسي هنا هو التالي: كيف يُمكِن الإخلاص لهذا الضرب من الحب؟
يقودنا هذا إلى مسألة ثانية. فبالإضافة إلى مسألة مَن الذي يقوم بالضبط بعمل التحليل، توجد مسألة أخرى وهي طبيعة العمل التحليلي نفسه. فالحال أن عمل التحليل النفسي ليس عملًا بمعنى كَدٍّ، كدحٍ، شُغلٍ، إنتاجٍ، ومن ثم لا يُسوَّغ وصفه وفقاً لمنطق الوسائل-الغايات. وإنما ما يجري في التحليل النفسي عندما "يعمل" (بنجاح)، ينتمي إلى مستوى الحدث. ما يجري ليس عمل شيء ما، وإنما السماح لشيء ما أن يحدث، ليس توكيدًا على الإرادة، وإنما تعطيلها وتحريرها. وهذا هو ما على المحك في هذا الضرب الغريب من الكلام الذي ابتدعه فرويد، والذي يُمثِّل التقنية الأساسية للتحليل النفسي؛ فالتحليل يقتضي من المريض تغيير عادة كلامه: من التعبير عن النفس إلى التداعي الحر، من التكلُّم بما يراه عقله (الواعي) إلى ترك عقله (اللاوعي) يتكلم، من التعبير عن أفكاره إلى تبيُّن ما لم يكُن يعلم أنه يُفكِّر فيه خلال تعبيره عنها. إن هدف التحليل النفسي ليس إحداث شيء ما وإنما تهيئة الأوضاع اللازمة لـحدوث شيء ما[74].
طرَح فرويد مسألة نهاية التحليل قرب نهاية مساره المهني[75]. ما معنى بلوغ تحليل نفسي ما تمامه؟ ما معنى إكماله حتى نهايته؟ هل يُمكِن لأي تحليل نفسي أن ينتهي، أم إنه ينطبق عليه ما قاله بول فاليري عن الفن: «لا يُنهى أي عمل فني أبدًا وإنما يُهجَر فحسب.»[76]؟ لا يُمكِن لأي تحليل نفسي أن يبلغ نهايته، وإنما هو يُهجَر، يُقطَع، يُوقَف، يُترَك فحسب، سواء كان ذلك بسبب إنهاك عملية التحليل أو نقص المال أو تغيير محل السكن أو عدم الشعور بالتحسُّن أو الموت، فقط يتوقَّف المريض عن الحضور إلى الجلسات ببساطة. وهذا ما يتفق مع فلسفة فاليري الجمالية القائلة بأن الفن ليس له نقطة نهاية أو توقُّف مُتأصِّلة فيه؛ لأنه ذو حظ من اللانهائي، وإنما يُمكِن قطعه ووقفه من خارجه فقط. إن التحليل النفسي قد يتوقَّف «كما يتوقَّف حلم كان من المُمكِن له أن يستمر بلا نهاية؛ إنه لا يتوقَّف لأن مهمته قد أُنجِزت، ولا لأنه لم يعُد ثمة مسعى ينبغي إتمامه، وإنما يتوقَّف لأن شيئًا خارجه قد نضب».[77] أو لعلَّه يُسوَّغ للمرء أن يقول -بلسان مارسيل دوشو- إن التحليل النفسي الناجح لا ينتهي، وإنما هو "غير مُنتهٍ أبدًا"، كما قال عن عمله الفني "the large glass"، لوح الزجاج الكبير[78]، بعدما انشرخ في أثناء نقله. لا يبلغ التحليل النفسي أبدًا تمامه، وإنما ينبغي قطعه على نحو سديد، بتحيُّن اللحظة الصائبة لفعل ذلك [تمامًا كما قطعت حادثة شرخ لوح الزجاج عمل دوشو في اللحظة الصائبة وأنهته على نحو سديد]. وحتى إذا كان الفن غير الحياة- لكن على أي وجه ينبغي فهم العلاقة بينهما؟ وهل التحليل النفسي أشبه بالفن أم أشبه بالحياة؟-، فإن مشكلة إنهاء التحليل النفسي تشبه بشدة مشكلة إنهاء العمل الفني. في قصة بلزاك القصيرة "التحفة المجهولة"، ظل الرسام فرينهوفر يعمل على أجلِّ إبداعاته لمدة عشر سنين، إلى أن التقى مصادفةً ذات يوم بامرأة ألهمته إكمال تحفته، وما أبدعه- في نهاية المطاف- ليس بورتريهًا جليلًا لم يكُن ليحلم به، وإنما فوضى مأساوية، خلطة مستحيلة من الخطوط واللطخات، طبقات بعضها فوق بعض، ومن قلب ذلك كله يبرز عضو جسدي واحد: قدم ضالَّة. وهكذا يبدأ المرء مسعاه برغبة في رسم المُطلَق الجليل، وينتهي به الحال راسمًا لنقيض-بورتريه، فظيع، موسوم بعضو جسدي مجدوع. لكن أليست هذه قصة نجاح، على الرغم من أن فرينهوفر قد أحرق لوحاته ثم انتحر في نهايتها؟ فمن دون أن يعلم، اجتاز فرينهوفر بنجاح الرغبة (المُتخيَّلة) في الكمال، ووصل إلى الضفة الأخرى؛ فهذه القدم المجدوعة تُجسِّد المُطلَق أكثر من أي جسد كامل بديع. وبالمثل، بعدما يُمضي المرء سنواتٍ في تحليل نفسه، لا ينتهي إلى بورتريه مُنضَّد على أتمِّ وجه لحياة كاملة، وإنما إلى نقيض-بورتريه مُتفكِّك، لوحة متشظية لأجزاء حياة مجدوعة. فلأن التحليل يُقوِّض مطلب الأنا في اتساق وكمال مُتخيَّلَين، تحُول نهايته دون الشعور بإشباع الخواتيم السعيدة.
يُمكِن اعتبار التحليل النفسي غير قابل للانتهاء من وجهين. الأول: من المستحيل الإتيان على ثراء نفس الفرد واستنزافها؛ فليس بمقدور أي تحليل أن يكشف عن جميع تعقيدات النفس وخباياها، فثمة- على الدوام- حلقة أخرى في سلسلة التداعيات ينبغي سبرها، حلم آخر ينبغي تأويله، ذكرى أخرى ينبغي إعادة بنائها. والثاني: وهو وجه سلبي (وأكثر فرويدية)، ثمة عوائق لا يُمكِن تجاوزها، تعترض طريق التحليل وتمنعه من التقدُّم، وهي الجروح (الصدمات) النفسية التي لا يُمكِن شفاؤها أبدًا أو حتى تقبُّلها. إن التحليل يتعثَّر في عراقيل لا قِبل له بها، بُقعٍ مظلمة لا يقدر على الخوض فيها. وعلى الوجهين، يُمكِن القول بأن التحليل النفسي يسعى نحو هدف لا يُمكِن بلوغه. إنه يعمل وفقًا لمنطق مهمة أبدية، رغبة مستحيلة، وعد يظل غير مُتحقِّق إلى الأبد. فلا يُمكِن للمرء أن يُشفى شفاءً تامًّا أبدًا، ولا أن يعرف نفسه حق المعرفة أبدًا، ولا أن ينطق بالحقيقة كاملةً أبدًا. لكن يُمكِن، من خلال تحليل النفس، الاقتراب من هذه الأهداف، بل لمحها في بعض الأحيان. لكن ماذا لو كان هذا التصوُّر عن التحليل النفسي خاطئًا تمامًا؟ فعوضًا عن السعي نحو هدف مُعيَّن، تتألَّف خصوصية التحليل النفسي من كونه يعمل تحديدًا عن طريق تعطيل العمل، من كونه ينجح في عمله تحديدًا عن طريق إخفاقه فيه، عن طريق تعطيله، تخليله بالثقوب والفرجات والانقطاعات. لكن هذه الصدوع ليست انعطافات جانبية تساعد التحليل على الوصول إلى غايته في نهاية المطاف، وإنما هي الغاية بحد ذاتها، هي الفرجة التي تنكشف فيها الحقيقة وتتجلَّى. ثم، أليست ذروة تعطيل التحليل لنفسه هي إنهاءه؟ إن التحليل ليس قابلًا للانتهاء فحسب، وإنما الانتهاء هو نموذج (باراديم) الحدث التحليلي، هو "حدث الأحداث"؛ إنه محايث لعملية التحليل نفسها، مُضمَّن في منطقها نفسه، وليس مجرد حادث عارض يقع عليها من خارجها. ويعود هذا بنا كرَّةً أخرى إلى مسألة الفراق والقطيعة؛ فمفارقة الحب التحليلي هي التالية: السبيل الوحيد للإخلاص للحب التحويلي هي التخلي عنه؛ فأن يظل المريض شغوفًا بشخص المُحلِّل النفسي يعني أنه قد فاته المقصد من تحليل نفسه فوتًا تامًّا. لكن من يُقرِّر الفراق؟ ليس المريض هو من يُقرِّر ترك المُحلِّل، أو بالأحرى، عندما يحدث ذلك، نكون أمام خاتمة "مُفرِطة في إنسانيتها". وإنما عملية التحليل نفسها هي ما يُحدِث الفراق، هي ما يُقرِّر إنهاء العلاقة. وهنا نجد شبهًا آخر بين التحليل النفسي والفن. عندما سُئِل الرسام الإنجليزي هاورد هودجكن: «هل لحظة اكتمال اللوحة تكون واضحة لك على الدوام؟» ردَّ قائلًا: «مطلقًا، إن اللوحات هي التي تنهي نفسها في نهاية المطاف. ولقد قلتُ ذات مرة، جوابًا على هذا السؤال، إن إنهاء لوحة هو خضوع للمحتوم».[79] وفي التحليل النفسي، الافتراق قدر محتوم، والقدر، كما نعلم، هو اسم آخر للاوعي[80].
من الطريف أن نُعبِّر عن مذهب المُحلِّل، كما عبَّرنا (عن) مذهب الفنان والفيلسوف، بعبارة جان جينيه: إن الحياة تُعاش لكي يُتكلَّم عنها في جلسات التحليل النفسي (أو لكي تُوفِّر المادة الخام اللازمة لعملية التحليل). تبدو هذه العبارة سخرية ممتازة من التحليل النفسي، على طريقة الأديب النمساوي كارل كراوس (ت. 1936)، لكنها تثير مسألة عدم قابلية التحليل للانتهاء، التي أرَّقت فرويد، وتنطوي على شيء من الحقيقة؛ لأن التحليل النفسي- وكما أسلفنا- يُعطِّل منطق الوسائل والغايات. فليس التحليل وسيلة لتحقيق غاية مُعيَّنة سلفًا (كالصحة أو السعادة أو النجاح)، ولا هو مقصود لنفسه، غاية بحد ذاته (وإلا لصار تحليًلا منحرفًا).
يُعَدُّ الزوج التحليلي، المُتألِّف من المُحلِّل والعُصابي، رمزًا ثقافيًّا كبيرًا، زوجًا نموذجيًّا للقرن المنصرم، ينبغي وضعه إلى جانب الأزواج التاريخية الأخرى الشهيرة، كالفيلسوف والطاغية، الكاتب والخطيبة، الشاعر العذري والسيدة. لكن ما يتفرَّد به الزوج التحليلي عن غيره هو أن مغزى إقامة العلاقة بينهما هو فسخها، إنهاؤها. وكما أن الفراق الفرويدي فيه شيء من الفراق الأفلاطوني (أنا لستُ بشيء وستكون أسعد مع تحليل نفسك، اكتشاف لاوعيك) ففيه أيضًا شيء من خطبة كيركيجارد المفسوخة؛ فالحب التحويلي هو حب مفسوخ أيضًا. وكما هو شأن فراق كيركيجارد (لكن من دون إطار الحب الإلهي الأبدي)، يكمُن التحدي في كيفية تحويل نهاية العلاقة من علامة على الفشل والتأزُّم والإنهاك إلى علامة على النجاح، على ضرب أشد عمقًا ومكرًا من الإخلاص للعلاقة. وهنا تكمُن مفارقة التحليل النفسي: افتراق المريض عن المُحلِّل هو السبيل الوحيد للإخلاص لحب مُكرَّس لا لشخص المُحلِّل وإنما لسبر اللاوعي، ذلك الصدع الذي يشطر ذات المريض على نفسها.
مع فرويد، تُكمل مسألة الفراق دورتها وتعود إلى نقطة البداية. فإذا كان الخطاب الفلسفي عن الحب (أو الفلسفة بحد ذاتها) قد وُلِد من رحم الصدِّ الغرامي- صدِّ أسبازيا لسقراط ثم صدِّ سقراط لألسيبَياديس- فالتحليل النفسي يجعل من القطيعة هدفه، ومن الفراق ذروته وغايته. لنقلب صيحة رامبو الشعرية إذن: ليس الحب، وإنما الفراق هو ما ينبغي إعادة اختراعه — حب جديد، فراق جديد.
[1]* Aaron Schuster, “theory of the breakup: A philosophical guide to love and rupture,” Cabinet magazine, issue 68, winter 2021–spring 2022; with additions from an earlier draft of this published text.
[2]** فيلسوف أمريكي معاصر، أهم أعماله كتاب "The trouble with pleasure"، الذي سعى فيه إلى الصلح بين فكرَي جِل دولوز وجاك لاكان.
[3] أو محاورة المأدبة، الوليمة، أو محاورة مجلس الشراب، حرفيًّا. ففي اليونانية، تعني كلمة "symposium" "شرب الخمر معًا". والـ"symposium" هو مجلس شراب يعقب الولائم، يسكر فيه الندماء، ويتسامرون بشأن شتى الموضوعات. لكن كلما مرَّ الزمن غدت دلالة هذه الكلمة أكثر صرامةً ورصانةً، في ضرب من "الإفاقة" الدلالية أو "الصحو" الدلالي، إذا جاز القول. فمع مرور الزمن، تتضاءل المساحة التي يشغلها شرب الخمر في حقلها الدلالي، بينما تتزايد المساحة التي يشغلها النقاش الفكري. إلى أن اختفى شرب الخمر تمامًا من دلالة الكلمة وصارت تعني في زمننا، وعلى نحو حصري تقريبًا، الندوات والمؤتمرات العلمية والحلقات الدراسية البالغة الرصانة والصرامة. [المترجم]
[4] إيروس، إله الحب الشهواني، الجنسي، وتجسيده في الميثولوجيا الإغريقية (ابن أفروديت، ربة الجمال). وفي أصلها اليوناني، تعني كلمة "eros" أن ترغب، تهوى، تشتهي جنسيًّا. وتُميِّز اللغة اليونانية القديمة بين أربعة أشكال للحب: erao: أن تهوى وتشتهي جنسيًّا؛ phileo: أن تميل وتنزع إلى (كما في كلمة philosophy، فلسفة)؛ agapao: التقدير والاحترام (كما في كلمة Agape، المحبة المسيحية)؛ stergo: حب الوالدين والأبناء، وحب الحاكم لرعيته. وسيستعمل فرويد لاحقًا كلمة "إيروس" للإشارة إلى دافع الجنس وحفظ النفس في مقابل دافع تقويضها، دافع الموت. [المترجم]
[5] Plato, Gorgias , trans. Walter Hamilton and Chris Emlyn-Jones (London: Penguin, 2004), p. 65 (481d).
[6] لا تعني كلمة "erastes" اليوناية "حبيب" بإطلاق، وإنما حبيب "مِثلي"، وتحديدًا، الطرف الأكبر سنًّا في علاقة بين رجلين، ولذلك تشير هنا إلى سقراط وليس إلى ألسيبَياديس. [المترجم]
[7] Plato, Alcibiades I, trans. W. R. M. Lamb, in Plato, The Loeb Classical Library 8 (London: William Heineman, 1927), p. 99 (103a).
[8] لوي أنطوان دِ سان جُست (ت. 1794)، أحد رموز الثورة الفرنسية، زعيم اليعاقبة الشهير، حليف مَكسميليان روبيسبير وصديقه المُقرَّب. [المترجم]
[9] وقعت واقعة تدنيس تمثال هرمس المركزي في أثينا (بقطع قضيبه المنتصب وجدع وجهه)، في ربيع سنة 415 قبل الميلاد، عشية الإعداد للحملة على صقلية (في خضم الحرب البيلوبونيزية). واستدعت هذه الواقعة تحقيقات جادة، قُتِل على إثرها بعض الناس وهُجِّر آخرون من أثينا. اتُّهِم ألسيبَياديس فيها (لقربه من سقراط، واشتهاره بالفسق والمجون، ولأنه مَن تولَّى كِبر الدعوة إلى الحملة الصقلية التي لم تكُن محل ترحيب أثيني). وطلب أن يُحاكَم لكي يُبرِّئ ساحته قبل الخروج إلى صقلية، لكن رُفِض طلبه. وفي أثناء غيابه بصقلية، عُقِدت له محاكمة؛ أُدين فيها، وحُكِم عليه غيابيًّا بالموت، وبعدما عاد مدحورًا، أفلت من الإعدام بفراره إلى إسبرطة (خصم أثينا الأساسي في الحرب البيلوبونيزية) إلى أن اغتيل فيها بتحريض من الإسبارطيين. [المترجم]
[10] Plato, Symposium , trans. Alexander Nehamas and Paul Woodruff, in Complete Works, ed. John M. Cooper (Indianapolis: Hackett, 1997), p. 501 (219b–d); والتشديد مني.
[11] المصدر نفسه، ص 500 (219a).
[12] المصدر نفسه، ص 497 (215b).
[13] المصدر نفسه، ص 504 (222d).
[14] المصدر نفسه، ص 504 (223b).
[15] هذا هو رأي جوناثان لير، على سبيل المثال؛ إذ يقول: «يبدو أن سقراط أراد أن يقول التالي: لو أن اللعبة لعبة تنافس وغيرة فأنا قادر على الفوز فيها.» انظر كتابه:
Open Minded: Working Out the Logic of the Soul (Cambridge, MA: Harvard University Press, 1998), pp. 161–162.
[16] Jacques Lacan, The Seminar of Jacques Lacan, Book VIII. Transference, 1960–1961, ed. Jacques-Alain Miller, trans. Bruce Fink (Cambridge: Polity, 2015), 159.
[17] Armand D’Angour, Socrates in Love: The Making of a Philosopher (London: Bloomsbury, 2019), p. 191.
[18] المرجع نفسه، ص 212.
[19] أو زاخرة بـ"تبادُل السوائل والأفكار" حتى نستعمل عبارة من نكتة فاتنة لوودي ألان من فيلم (Crimes and Misdemeanors 1989). [المترجم]
[20] كما أننا مدينون بالفلسفة لحرمان سقراط من نعمة الزواج السعيد من أسبازيا، نحن مدينون بالفلسفة أيضا لبليَّة زواجه التعيس من زانثيبي، يقول نيتشه: «لقد وجد سقراط المرأة المناسبة لما كان يحتاج إليه —بالرغم من أنه لم يكُن ليسعى إليها لو تسنَّى له معرفتها حق المعرفة؛ فحتى بطولية هذا العقل الحر لم يكُن لها أن تمضي إلى هذا الحد، إذ كانت زانثيبي تدفع به إلى الانغماس أكثر فأكثر في عمله الحقيقي، وذلك بأن جعلت بيته جحيما لا يُركَن إليه ومقامةً غير قابلة للإقامة. لقد علَّمته بذلك كيف يقيم في الشوارع، وفي كل الأمكنة التي يُمكِن للمرء أن يُثرثر فيها، ويقضي حياة كسولة. لقد جعلت منه بذلك أكبر مجادل شوارع في مدينة أثينا، الأمر الذي دفع به، في نهاية المطاف، إلى أن ينعت نفسه بأنه نُعرة مزعجة وضعها إله فوق رقبة ذلك الفرس الجميل، أثينا، ليجعلها لا تعرف الراحة أبدًا.» فريدريش نيتشه، إنساني مفرط في إنسانيته، الكتاب الأول، ترجمة: علي مصباح (بيروت-بغداد: منشورات الجمل، 2014)، ص 304-305. [المترجم]
[21] من المفارقات اللطيفة أن أفلاطون جعل ألسيبَياديس يُفضِّل سقراط على بريكليس: مهارات بريكليس في الخطابة لا تساوي شيئًا أمام مهارات سقراط في الجدل — يا لها من طعنة أريبة في عشيق أسبازيا، انظر: Plato, Symposium , p. 498 (215e).
[22] فنان الفراق الفلسفي العظيم الآخر، في القرن التاسع عشر، هو فريدريك نيتشه، الذي كان لقطيعته مع ريتشارد فاجنر أكبر الأثر على فكره.
[23] Kierkegaard, Journals and Notebooks, Volume III, ed. Bruce E. Kirmmse, et al. (Princeton: Princeton University, 2010), 434.
[24] المصدر نفسه، ص 434-435.
[25] المصدر نفسه، ص 435.
[26] أترجم thing هنا بـ"حاجة"، عوضًا عن شيء أو موضوع، لأن كلمة حاجة تفيد معنيين: شيء غير مُعيَّن، مجهول، مُلغِز، يند على التسمية (خصوصًا في دلالتها العامية)؛ و"رغبة مُلحَّة" (خصوصًا في دلالتها الفصحى). وهذان المعنيان مُتضمَّنان في مصطلح "Das Ding"، "The Thing"، كما استعمله فرويد. ففرويد يقصد به: الجانب المجهول من الآخر —والأم تحديدا وفقًا للاكان، (mother)— ما لا أستطيع تبيُّنه وتعيينه وتسميته في الآخر عمومًا، وفي رغبته تحديدًا. وعلاقتي الوجدانية بهذا الجانب متناقضة؛ فهو يثير حيرتي وقلقي وشكي وسؤالي (ماذا يريد الآخر بالضبط؟ ما هو مقامي عنده؟ ماذا يريد مني تحديدا؟ — الـ"Che vuoi؟" الشهيرة) لكنه هو الذي يثير أيضًا رغبتي في الآخر. إنه ما لا أقدر على الاقتراب منه في الآخر وما لا أقدر على الابتعاد عنه فيه، ما يصرفني عنه وما يصرفني إليه، ما يُرغِّبني فيه وما يُرهِّبني منه. ولقد احتل مفهوم الـ"Das Ding" مقامًا عاليًا في فكر لاكان المُبكِّر، لكنه تخلَّى عنه لاحقًا، لسبب أو لآخر (للنأي بنفسه عن هايدجر ربما، كما يرى ريك بوثبي)، واستبدله بمفهوم الـ"objet a"، الذي يعُدُّه أهم اكتشافاته التحليلية النفسية (للمزيد عن الـ"objet a" انظر الحاشية رقم 58 في ما يلي). [المترجم]
[27] كتب كافكا في يومياته، في يوم 21 من شهر أغسطس من سنة 1913، قائلًا: «وضعت يدي اليوم على يوميات كيركيجارد. وكما توقَّعت، بالرغم من الاختلافات الجوهرية بيننا، فإن وضعه مشابه جدًّا لوضعي، أو على أقل تقدير، هو موجود معي على الجهة نفسها من العالم. إنه يدعمني كصديق.» انظر:
Franz Kafka, Diaries, 1910-1923, ed. Max Brod, trans. Joseph Kresh (New York: Schocken, 1976), 230.
[28] Elias Canetti, Kafka’s Other Trial, trans. Christopher Middleton (London: Penguin, 2012).
[29] Lee Congdon, The Young Lukács (Chapel Hill: University of North Carolina, 1983), 50.
[30] كتبت الفيلسوفة المجرية أنييس هيلر مقالة عن هذه العلاقة، انظر:
Agnes Heller, “Georg Lukács and Irma Seidler,” trans. Etti de Laczay, New German Critique no. 18 (Autumn 1979), 74-106.
[31] يقول هارولد بلوم: «لقد تبيَّن أيضًا لكيركيجارد أنه من المحال عليه ألَّا يكون ما بعد-شكسبيريًّا، لقد كان مشغولًا بسلفه الفذ، الدنماركي المكتئب، هَملت، الذي تتنبَّأ علاقته بأوفيليا بعلاقة كيركيجارد بريجينا.»، انظر:
Harold Bloom, The Western Canon (New York: Harcourt Brace & Co., 1994), 56.
[32] Kierkegaard, Either/Or Part I, ed. and trans. Howard V. Hong and Edna H. Hong (Princeton: Princeton University Press, 1987), 336.
[33] مستشهد به مُترجَمًا إلى الإنجليزية في:
Anna M. Klobucka, “Together at Last: Reading the Love Letters of Ophelia Queiroz and Fernando Pessoa,” in Embodying Pessoa: Corporeality, Gender, Sexuality, ed. Anna M. Klobucka and Mark Sabine (Toronto: University of Toronto, 2007), 229-230.
[34] Fernando Pessoa, The Selected Prose of Fernando Pessoa , ed. and trans. Richard Zenith (New York: Grove Press, 2001), p. 142.
[35] الإحالة هنا على قول هَملت (في الفصل الثالث، المشهد الثاني) عن أمه: «لن أطعنها بخنجر، لكني سأكلمها بكلمات كالخناجر.» [المترجم]
[36] Lukács, Soul and Form, trans. Anna Bostock (Cambridge, MA: MIT, 1971), 33.
[37] Kierkegaard, Letters and Documents, trans. Henrik Rosenmeier (Princeton: Princeton University, 1978), 209.
وللمرء أن يستحضر هنا وصية جوستاف فولبير الأشد شهوانيةً: «ادخر قضيبك المنتصب أبدًا للتصنيف؛ انكح محبرتك.»
[38] Kierkegaard, Journals III, 439.
[39] Jean Genet, The Balcony, trans. Bernard Frechtman (New York: Grove, 1966), 75.
[40] يُردِّد سلافوي جيجك المذهب نفسه، استنادًا إلى ما قاله هيجل عن المؤرخ اليوناني توثيديديز (ت. 400 ق. م.): «لقد كان هيجل على دراية تامة بأن الثقل، الذي يُعطى لحدث ما عن طريق تدوينه، يُبدِّل الواقع المباشر لهذا الحدث. في كتابه فلسفة التاريخ، قدَّم هيجل توصيفًا رائعًا لتأريخ توثيديديز للحرب البيلوبونيزية: "لقد كان الصراع، في الحرب البيلوبونيزية، بين أثينا وإسبرطة في الأساس. ولقد ترك لنا توثيديديز تأريخًا لمعظمها، وكتابه الخالد عن هذه الحرب هو المكسب المطلق الذي جنته البشرية من هذا الصراع." علينا أن نحمل هذا الحكم على أبسط وجه: من منظور التاريخ العالمي، وقعت الحرب البيلوبونيزية لكي يكتب توثيديديز كتابًا عنها. وعلينا أن نحمل كلمة "مُطلَق" هنا على أثقل وجه: من المنظور النسبي لمنافعنا البشرية المتناهية، المآسي الفعلية العديدة للحرب البيلوبونيزية أهم بالطبع من الكتاب الذي كُتِب عنها، لكن من منظور المُطلَق، الكتاب، وليس الحرب، هو ما يهم حقًّا.» انظر كتابه:
Less Than Nothing: Hegel and the Shadow of Dialectical Materialism (London: Verso, 2012), pp. 468–469.
[41] لنتذكر هنا قول إميل سيوران: «إن حبًّا يخيب لهو محنة فلسفية تملك من الثراء ما يتيح لها أن تخلق من حلاق نظيرًا لسقراط.» سيوران، المياه كلها بلون الغرق [مقايسات المرارة]، ترجمة: آدم فتحي (بغداد-بيروت: منشورات الجمل، 2013)، ص 131. [المترجم]
[42] "الشوكة في اللحم"، تعبير شهير لبولس الرسول. انظر مثلًا: الرسالة الثانية إلى أهل كورنثوس 12: 7. [المترجم]
[43] لقد كان والد كيركيجارد شخصًا كئيبًا أيضًا، كان يشعر بأن الله قد لعنه إما بسبب عقد أبرمه مع الشيطان لكي تزدهر تجارته أو بسبب انتهاكاته الجنسية. ولقد كان على يقين من أن أيًّا من أبنائه لن يعيش أطول مما عاش المسيح ابن مريم. وبالفعل، خمسة من أبنائه السبعة ماتوا في حياته، ووحدهما سورين وأخوه الأكبر، بيتر —الذي هدَّده بإطلاق الرصاص على رأسه حال كشف مُخطَّطه لأهل ريجينا— عاشا بعده. الأب والخطيبة، هذان هما أجلُّ شخصين في حياة كيركيجارد وأعماله.
[44] Kierkegaard, Journals VI, 19, 79.
[45] Georg Lukács, Soul and Form, 33.
الحق أن هذا هو عين ما كان يخشاه لوكاتش نفسه: «في الأول من يوليو، غادرت إيرما بودابيست إلى بايا ماري، حيث ستكمل تعليمها. وفي إبان ذلك (1-3 يوليو)، كتب لوكاتش بعض الخواطر: "توجُّسات: طبيعة الزواج المستحيلة ... الخشية من الأثر المُدمِّر للسعادة، الخشية من أنه ليس بمقدوري أن أجد لنفسي موطأ قدم في حياة مزدحمة بآخرين." إن ما أنهى علاقته بإيرما هو هذه الخشية من أن السعادة- دخول "الحياة"- ستجعل الإبداع مستحيلًا. هو الخشية من أنه سيفقد قوته، تمامًا كشمشون، إذا ما سمح لنفسه بالاستسلام لإغواء امرأة.» انظر: Congdon, The Young Lukács, 43.. [وللمزيد عن شمشون وما جرى له بسبب استسلامه لغواية دليلة، راجع الكتاب المُقدَّس العبراني، سفر القضاة، الإصحاح 16 كاملًا].
[46] أولسنا نجد هذه الخشية نفسها من التحليل النفسي؟ فتحت قناع انتقاد التحليل النفسي بأنه عديم الجدوى ومضيعة للوقت، تكمُن الخشية من إمكانية أشد سوءًا: أن يكون مفرطًا في نجاعته، أن يسلب المرء أعراضه المرضية الثمينة التي يحبها أكثر من السعادة نفسها [يقول المؤلف في موضع آخر: «اكتشف فرويد أن للشكوى العُصابية بنية مخصوصة: على الرغم من تذمُّرهم واستيائهم، تبيَّن أن مرضاه مُتعلِّقين على نحو عنيد بالعِلل التي يعانون منها، مما دفعه للقول بأنهم متواطئون، بطرق غير معروفة لهم، مع عِللهم هذه على نحو عميق. وهذه واحدة من المناحي الأشد ثوريةً للتحليل النفسي، والتي لم تُكتشَف تبعاتها بالكامل حتى اليوم: أن نُفكِّر في المُبتَلين بالعِلل النفسية لا باعتبارهم مجرد ضحايا خاضعين لتعاستهم، وإنما باعتبارهم، ومن حيث لا يعلمون، مهندسي هذه التعاسة ... وبعبارة أخرى، في مستوى (لا واعٍ) معين، الأعراض المرضية النفسية مرغوبة "وممتعة" بقدر كبير.» انظر: آرون شوستر، "متعة الشكوى"، ترجمة: طارق عثمان، كتب مملة، مايو، 2022.]
[47] Kierkegaard, Journals III, 209 والتشديد مني.
[48] Kierkegaard, Works of Love, ed. and trans. Howard V. Hong and Edna H. Hong (Princeton: Princeton University, 1995), 303.
[49] عين ما حصل لسكوتي في "Vertigo" حصل لفرجيل (جُفري رَش) في "The Best Offer" (جوزيبي تورناتوري، 2013). لا يتعلَّق الأمر هنا باكتشاف المرء أنه قد خُدِع، أن حبيبه لم يكُن يحبه في حقيقة الأمر، وإنما زيَّف حبه لغرض في نفسه، وإنما يتعلَّق بما هو أقسى وأنكى: اكتشاف أن حبيبه لم يُزيِّف حبه له، وإنما أن حبيبه نفسه كان مُزيَّفًا؛ أن الشخص الذي وقع في حبه وعاش معه لم يكُن موجودًا أصلًا: لم تكُن مادلين تلك الزوجة العليلة، المسكونة بامرأة من أسلافها والميَّالة إلى الانتحار؛ ولم تكُن كلير (سيلفا هوكس) تلك الفتاة المسكينة، التي تعاني من الوحدة والرهاب (لنلاحظ التناقض بين المرأتين: الأولى لم تكُن تدخل بيتها تقريبًا، والأخرى لم تكُن تخرج من بيتها تقريبًا). ثمة فرق بين أن تكتشف أن حب حبيبك لك لم يكُن موجودًا وأن تكتشف أن حبيبك نفسه لم يكُن موجودًا. ومن بين هذين الاكتشافين، الثاني هو الكارثي بحق؛ لأنه يمحو الماضي ويجبُّه. ويشهد على ذلك أن الحب نفسه كان موجودًا في الحالتين: جودي التي لعبت دور مادلين أحبَّت سكوتي، وكلير المُزيَّفة أحبَّت فيرجل (أو هكذا ظنَّ على الأقل، فهذا ما دفعه إلى الانتقال إلى براغ في نهاية المطاف)، لكن ذلك لم يُخفِّف من أثر الصدمة على الرجلين قط. [المترجم]
[50] Leslie Jamison, Make It Scream, Make It Burn (London: Granta, 2019), 227.
[51] المرجع نفسه، ص 227.
[52] Kierkegaard, Works of Love, 311.
[53] Kierkegaard, Journals II, 164.
[54] Kierkegaard, Journals III, 228-229.
[55] Lukács, Soul and Form, 36.
[56] Kierkegaard, Journals III, 444-445.
[57] لتحليل مُفصَّل لمفارقة الإحسان، لعُنفه وقهره، لدَينه الذي لا يُرَدُّ، انظر: مِلادن دولار، "إن الرحمة لا تُنتزَع كرهًا (أو دفاعًا عن قضية شايلوك الخاسرة)،" ترجمة: طارق عثمان، كتب مملة، يونيو، 2022. [المترجم]
[58] تنويعًا على الحكمة اليسوعية الشهيرة: «أحِبَّ جارك كما تحب نفسك» (إنجيل متّى 22: 39). [المترجم]
[59] ويُعبِّر التحليل النفسي عن هذا المنطق الحزين بما يُمكِن تسميته بـ"صدمة تحقق الرغبة" كالتالي: الحصول على موضوع الرغبة، أيًّا كان، يعقبه دائمًا شعور بالاستياء وبعدم الإشباع، بل بالصدمة أحيانًا- وذلك لارتباط الرغبة بالفقد- فتحقُّق الرغبة يعني موت الرغبة، ولكي تظل الرغبة حية لا بد أن يظل موضوعها مفقودًا، ومن ثم بمجرد أن يحصل المرء على موضوع رغبته يشعر بالاستياء والخيبة، وللتخلُّص من هذا الشعور لا بد أن يوجد لرغبته موضوع مفقود آخر، ومن هنا تنتقل الرغبة من موضوع إلى الذي يليه. الرغبة إذن هي رغبة في الرغبة نفسها، وليس في موضوع بعينه. موضوع الرغبة بحد ذاته غير مهم في واقع الأمر، ومن ثم يسهل استبداله والقفز من موضوع إلى آخر. إنه مهم فقط بقدر ما هو مفقود، وبتملُّكه يفقد أهميته على الفور. بل قد يغدو تملُّكه صادمًا للغاية، فوق ذلك. ونجد مثالًا براديجميًّا على الصدمة النفسية التي تعقب تحقُّق الرغبة في مشهد اغتصاب البطلة في فيلم "the piano teacher" (ميشائيل هَنَكه، 2001)، فمع أن هذا الاغتصاب لم يكُن سوى رغبتها التي سعت إلى تحقيقها بكل سبيل، كان حصوله صادمًا لها للغاية. [المترجم]
[60] يلعب العائق المُهدِّد للرغبة (بالحيلولة دون نوال موضوعها أو بسلبه) دورًا مُهيِّجًا للرغبة؛ لأنه يُجسِّد الـ"objet a"، أي الموضوع المُسبِّب للرغبة: يُميِّز جاك لاكان بين موضوعين للرغبة: الأول هو الموضوع المادي المرغوب- المحبوب على سبيل المثال-، والثاني هو ما يجعل المرء يرغب أصلًا في موضوع رغبته هذا. أنا أرغب في خليلتي (موضوع الرغبة)، لكن ما الذي يجعلني أرغب فيها؟ ما هو سبب رغبتي فيها؟ هذا السبب الذي يُحرِّك الرغبة هو ما يُسمِّيه لاكان بالـ"objet a". ومن بين الموضوعين، الموضوع المُسبِّب للرغبة هو الأهم؛ فموضوعات الرغبة لا تستمد قيمتها في عين الراغب إلا من ظنه أنها قد تحتوي على الـ"objet a"، يرغب المرء في شيء ما ويسعى لنيله، وعندما يُحقِّق رغبته ويناله يكتشف أنه لا يحتوى على الـ"objet a"، فينتقل إلى موضوع آخر سيكتشف أيضًا أنه لا يحتوي على الـ"objet a"، فيتركه ويذهب إلى ثالث، وهكذا دواليك. لكن لماذا؟ لأن الرغبة (وكما أسلفنا في الحاشية السابقة) هي رغبة في الرغبة نفسها، وليس في موضوع بعينه، ولأنه لا يوجد موضوع، أيًّا كان، يحتوى على الـ"objet a"، أي إنه لا يوجد موضوع من شأنه أن يسدَّ نقص الذات وأن يُحقِّق الإشباع الكامل. لماذا؟ لنجيب على هذا السؤال علينا أن نجيب على سؤال آخر: ما ماهية الـ"objet a" بالضبط؟ الـ"objet a"، وعلى عكس موضوع الرغبة، ليس شيئًا ملموسًا، وإنما هو شيء غير ملموس بالمرة، إنه الشيء المفقود، أو بالأحرى إنه الفقد نفسه مُجسَّدًا. الفقد هو وقود الرغبة، ما يُحرِّك الذات الراغبة هو محض الشعور بالفقد، والـ"objet a" هو اسم لتجسُّد هذا الفقد. ولكونه مُجسِِّدًا للفقد، يتجلَّى الـ"objet a" في شكل عائق أمام تحقيق الرغبة. العائق القائم بين الراغب وموضوع رغبته هو ما يُسبِّب رغبته هذه ويُحرِّكها، أو بالأحرى هو موضوع رغبته الأساسي، الموضوع المُسبِّب لرغبته. [المترجم]
[61] ألا يسع المرء أن يقول شيئًا مماثًلا عن هَملت؟ فما يثوي تحت الاختيار الصارخ إما/أو الذي يطرحه في مناجاته الشهيرة [في الفصل الثالث، المشهد الأول]، والمُتعلِّق بالتعارض الميتافيزيقي الأشد أوَّليةً، بين الوجود وعدم الوجود، هو الشكل الغريب الذي يتخذه "وجود" هَملت: وجوده المُتردِّد الذي يشير- في نهاية المطاف- إلى خيار ميتافيزيقي ثالث غريب: لا الوجود ولا عدم الوجود، وإنما شيء بينهما، ضرب من الوجود وضرب من عدم الوجود، لكن قطعًا ليس هذا ولا ذاك. وبهذا تحديدًا يتمكَّن من تجنُّب الجواب على السؤال الذي طرحه. وفي ضوء ذلك، يُسوَّغ للمرء أن يعيد صياغة السؤال الميتافيزيقي الكلاسيكي: "لماذا يوجد شيء عوضًا عن عدمه؟" على هذا النحو: "لماذا لا يوجد شيء لا هو موجود ولا هو معدوم؟". إن فضيحة العصاب الوسواسي الميتافيزيقية يُسوَّغ تعيينها- وفقًا للاوعي الفرويدي- بهذه الكلمة: unbeing، "لا وجود" [شيء لا هو موجود ولا هو معدوم، وإنما في حال بين الوجود وعدم الوجود؛ تماما كـ"undead"، لا ميِّت، شيء لا هو حي ولا هو ميِّت، وإنما في حال بين الحياة والموت (الزومبي، مثال ثقافي على ذلك). ونعلم أن السؤال الوجودي المهيمن على الموسوس هو: هل أنا حي أم ميت؟ (في مقابل سؤال الهستيري: هل أنا ذكر أم أنثى؟)].
[62] لقد ذاق أودلف متعة النهايات، نهاية علاقته بإلينور، ومن ثم أصبح عالقًا في تكرار هذه النهاية إلى الأبد. في معرض تحليلها لعلاقة النهاية بالتكرار، شرحت لنا ألينكا زوبانجج هذا الاقتصاد العصابي لمتعة تكرار النهاية، وضربت مثالًا عليه بخطة زينو (بطل رواية ضمير زينو) للتوقُّف عن التدخين، تقول: «إن كون سيجارة ما هي "السيجارة الأخيرة" يضيف شيئًا ما إلى مذاقها، يجعلها أحلى سيجارة على الإطلاق، يجعلك تستمتع بها حقَّ المتعة. وبناءً عليه، قد يكون التصرُّف المثالي هو أن تُفكِّر في كل سيجارة باعتبارها السيجارة الأخيرة، وأن تستمتع بها طبقًا لذلك. لكن- وهنا يكمُن العائق- لكي تُفلح هذه الحيلة، يتعيَّن عليك أن تعتقد حقًّا في أنها هي السيجارة الأخيرة، في أن هذه هي النهاية. أو بعبارة أخرى، يتعيَّن عليك أن تكون عُصابيًّا (مثل زينو بطل الرواية الذي كان كذلك يقينًا) ... فمن ناحية اقتصاد المتعة، لن يُمكِنك أن تنفع نفسك هنا بأن تتصرَّف كما لو أن هذه السيجارة هي سيجارتك الأخيرة. لا يُمكِنك أن تقول لنفسك "سأُدخِّن هذه السيجارة كما لو كانت سيجارتي الأخيرة، وبذلك سأستمتع بها بقدر أكبر من المتعة." وإنما لا بد للأمور أن تجري على هذا النحو: أنت تريد حقًّا أن تُقلِع عن التدخين، وتفعل كل ما في وسعك من أجل تحقيق ذلك (وقد مضى زينو هنا إلى بعض الحدود القصوى حقًّا، بما فيها تدبير خطفه وحبسه في مستشفى)؛ لكن ينتهي بك الحال بمراكمة سيجارة أخيرة وراء سيجارة أخيرة، أي ينتهي بك الحال بـتكرار النهاية، على نحو لا نهائي، والاستمتاع بذلك، رغمًا عنك.» انظر: ألينكا زوبانجج، "النهاية"، ترجمة: طارق عثمان، كتب مملة، أكتوبر، 2020. لقد أخذ أودلف يُكرِّر ترك إلينور ويتمتَّع بذلك، كما أخذ زينو يُكرِّر ترك السيجارة ويتمتَّع بذلك. [المترجم]
[63] Kierkegaard, Journals III, 439.
[64] Fernando Pessoa, The Book of Disquiet , trans. Richard Zenith (London: Penguin Books, 2001), p. 104.
[65] “L’amour est à réinventer.” See Arthur Rimbaud, A Season in Hell , in Collected Poems , trans. Martin Sorrell (Oxford: Oxford University Press, 2001), p. 228.
[66] Anne Dufourmantelle, Éloge du risque (Paris: Éditions Payot & Rivages, 2011), 129.
[67] الدور الأساسي للمُحلِّل النفسي، وعلى عكس غيره من المعالجين النفسيين، ليس تقديم التأويلات والنصائح والتوجيهات إلى المريض، وإنما أن يجعل من نفسه مجرد "شاشة" (لوحة بيضاء) يُسقِط، يعرض، عليها المريض لا وعيه (رغباته، استيهاماته، مشاعره، زلَّاته، إلخ). ليس المطلوب من المُحلِّل أن يتكلم وإنما أن يصمت كدمية، بل كميِّت، وبكلمة، أن يكون لا شيء. [المترجم]
[68] Lacan, Seminar VIII, 163.
[69] اشتكى كيركيجارد من إرادة الشهرة ذات مرة قائلًا: «لقد كانوا يحبون الحكمة في ما سلف، أما اليوم فهم يحبون لقب فيلسوف.» انظر:
Kierkegaard, Journals and Notebooks, Volume IV, ed. Bruce E. Kirmmse, et al. (Princeton: Princeton University, 2011), 428.
[70] هذا هو عين ما حصل للأديبة البرازيلية كلاريس لِسبكتور (ت. 1977): لقد وجدها مُحلِّلها النفسي، ديفيد جاكوب أزولاي، شخصًا لا يُحتمَل، ووجد ثمرة تحليله لها ضئيلة جدًّا، فسعى إلى إنهاء علاجها. فنقلها إلى العلاج الجماعي أولًا، لكن ذلك باء بالفشل بسبب شهرتها بين الناس. فعرض عليها أخيرًا أن يقابلها مرة في الأسبوع وأن يعطيها نصيحته كصديق، يقول: «أظن أنني كنت أنفع لها حينها؛ إذ قلتُ لنفسي: لن أكون مُحلِّلها، وإنما سأكون مستشارها وناصحها ومعلمها.» ويبدو ذلك كفشل، بل كخيانة حتى، من جانب المُحلِّل، لكن ماذا لو كان محقًّا في ما فعل؟ فلعلَّ الأدب قد قام بدور التحليل النفسي في حياة لِسبكتور، وكل ما احتاجت إليه من أزولاي هو بعض النصائح الأخوية ببساطة، انظر:
Benjamin Moser, Why This World: A Biography of Clarice Lispector (Oxford: Oxford University Press, 2009), pp. 327–328.
[71] أشير هنا خصوصًا إلى كتابات النسوية البلشفية ألكسندرا كولونتاي.
[72] وهذا تحديدًا هو سبب تسمية لاكان المريض بالـ"analysand"، لأنه هو، وليس المُحلِّل "analyst"، من يقوم بجُلِّ العمل التحليلي. لذلك فترجمة كلمة "analysand" بالمُحلَّل ترجمة غير دقيقة للأسف؛ فصيغة اسم المفعول تنفي فاعلية المريض في العملية التحليلة. [المترجم]
[73] أُكرِّر، المُحلِّل النفسي بحق قلَّما يتكلم، وحده المريض يتكلم. [المترجم]
[74] هكذا أفهم وصف جِل دولوز للتحليل النفسي بأنه "عِلم الأحداث".
[75] في مقالته “Analysis Terminable and Interminable.”، "قابلية التحليل للانتهاء وعدم قابليته لها."
[76] Paul Valéry, “Au sujet du Cimetière marin,” La Nouvelle Revue Française (March 1933), 399.
[77] Paul Valéry, “Philosophy of the Dance” in What is Dance?, ed. Roger Copeland and Marshall Cohen (Oxford: Oxford University Press, 1983), 62.
[78] ويُعرَف أيضا باسم: The Bride Stripped Bare by Her Bachelors, Even، تعرية العروس، بأيدي العزاب، حتى. [المترجم]
[79] Speaking of Art: Four Decades of Art in Conversation, ed. William Furlong (London: Phaidon, 2010), 59.
[80] اللاوعي قدر لأنه محتوم. إنه يتجلَّى لا محالة، إما في شكل زلَّات واستيهامات وأحلام يقظة ومنام، أو في شكل أعراض عُصابية. أو بعبارة أخرى، اللاوعي قدر لأن كل مكبوت حتمًا سيعود. [المترجم]
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط الخاصة بنا وملفات تعريف الارتباط الخاصة بالجهات الخارجية حتى نتمكن من عرض هذا الموقع وفهم كيفية استخدامه بشكل أفضل ، بهدف تحسين الخدمات التي نقدمها. إذا واصلت التصفح ، فإننا نعتبر أنك قبلت ملفات تعريف الارتباط.