ما أتعس الرجل الذي يحب صبية من بين الصبايا ويتخذها رفيقة لحياته ، ويهرق على قدميها عرق جبينه ودم قلبه ، ويضع بين كفيها ثمار أتعابه وغلة اجتهاده ، ثم ينتبه فجأة فيجد قلبها الذي حاول إبتياعه بمجاهدة الأيام وسهر الليالي قد أعطى مجانا لرجل آخر ليتمتع بمكنوناته ويسعد بسرائر محبته .
وما أتعس المرأة التي تستيقظ من غفلة الشبيبة فتجد ذاتها في منزل رجل يغمرها بأمواله وعطاياه ، ويسربلها بالتكريم والمؤانسة ، لكنه لا يقدر أن يلامس قلبها بشعلة الحب المحيية ، ولا يستطيع أن يشبع روحها من الخمرة السماوية التي يسكبها الله من عيني الرجل في قلب المرأة .
*****
عرفت رشيد بك نعمان منذ حداثتي . وهو رجل لبناني الأصل ، بيروتي المولد والدار ، منحدر من أسرة قديمة غنية موصوفة بالمحافظة على ذكر الامجاد الغابرة ، فكان مولعـا بسرد الحـوادث التي تبين نبــالة آبائه وجدوده ، متبعا بمعيشته عقائدهم وتقاليدهم منصرفا الى تقليدهم في العادات والأزياء الغربية المرفرفة كأسراب الطيور في فضاء الشرق.
وكان رشيد بك طيب القلب كريم الأخلاق ، لكنه كالكثيرين من سكان سوريا ، لا ينظر الى ما وراء الأشياء، بل إلى الظاهر منها. ولا يصفى الى نغمة نفسه بل يشغل عواطفه باستماع الأصوات التي يحدثها محيطه . ويلهي أمياله ببهرجة المرئيات التي تعمى البصيرة عن أسرار الحياة وتحول النفس عن إدراك خفايا الكيان الى ملاحظة الملذات الوقتية . وكان من أولئك الرجال الذين يتسرعون بإظهار محبتهم أو مقتهم للناس وللأشياء ، ثم يندمون على تسرعهم بعد فوات الوقت ، عندما تصير النـدامة مجلبة للسخرية والاستهزاء بدلا من العفو والغفران.
هذه هي الصفات والأخلاق التي جعلت رشيد بك نعمان يقترن بالسيدة « وردة الهاني » ، قبل أن تضم نفسها نفسه في ظل المحبة الحقيقية التي تجعل الحياة الزوجية نعيما.
******
غبت عن بيروت بضعة أعوام ، ولما رجعت اليها ، ذهبت لزيارة رشيد فوجدته ضعيف الجسد ، مكمد اللون ، تتمايل على سحنته المنقبضة أشباح الأحزان ، الحـزينتين نظرات موجعة تتكلم وتنبعث من عينيه بالسكينة عن انسحاق قلبه وظلمة صدره . وبعد ان بحثت في محيطه ولم أجد أسباب نحوله وانقباضه ، سألته قائلا :
ـ ماذا أصابك أيها الرجل ، وأين تلك البشاشة التي كانت تنبعث كالشعاع من وجهك ؟ وأين ذهب ذاك السرور الذي كان ملاصقا شبيبتك ؟ هل فصل الموت بينك وبين صديق عزیز ؟ أم سلبتك الليالي السوداء مالا جمعته في الأيام البيضاء ؟ قل لي بحق الصـداقة ما هـذه الكآبة المعانقة نفسك ، وهذا النحول المالك جسدك ؟ فنظر الى نظرة متأسف ارته الذكرى رسوم ايام جميلة ثم حجبتها ، وبصوت تتموج في مقاطعة معـاني اليأس والقنوط قال :
ـ اذا فقد المرء صديقا عزيزا والتفت حوله يجـد الأصدقاء الكثيرين يتصبر ويتعزى ، واذا خسر الانسان مالا وفكر قليلا رأى النشاط الذي أتى بالمـال سيأتي بمثله فينسى ويسلو . ولكن اذا أضاع الرجل راحة قلبه فأين يجدها وبم يستعيض عنها ؟ يمد الموت يده ويصفعك بشدة فتتوجع ، ولكن لا يمر يوم وليلة حتى تشـعر بملامس أصابع الحياة فتبتسم وتفرح يجيئك الدهر على حين غفلة ، ويحـدق بك بأعين مستديرة مخيفة ، ويقبض على عنقك بأظفار محددة ، يطرحك بقساوة على التراب ويدوسك بأقدامه الحديدية ويذهب ضاحكا ، ثم لا يلبث أن يعود اليك نادما مسته مرا فينتشلك بأكفه الحريرية ويفنى لك نشيد الأول فيطربك . مصائب كثيرة ومتاعب أليمة تأتيك مع خيالات الليل تضمحل أمامك بمجيء الصباح ، وأنت شـاعر بعزيمتك متمسك بآمالك . ولكن اذا كان نصيبك من الوجود طائرا تحبه وتطعمه حبات قلبك نسقيه نور أحداقك ، وتجعل ضلوعك له قفصا و مجتك عشا ، وبينما أنت تنظر الى طائرك وتغمر ريشه بشعاع نفسك ، اذا به قد فر من بين يديك وطار حتى حلق فوق السحاب ، ثم هبط نحو قفص آخر وما من سبيل الى رجوعه ..فماذا تفعل اذ ذاك ايها الرجل ؟ قل لي ماذا تفعل واين تجد الصبر والسلوان ، وكيف تحيى الأمال والأماني .
لفظ رشيد بك الكلمات الأخيرة بصوت مخنوف متوجع ووقف على قدميه مرتجفا كقصبة في مهب الريح ، ومد يديه إلى الأمام كانه يريد أن يقبض باصابعه المعوجة على شيء ليعرفه اربا اربا ، وقد تصاعد الدم الى وجهه وصبع بشرته المتجمدة بلون قائم ، وكبرت عيناه وجمدت اجفانه وحدق دقيقة كأنه رای امامه عفريتا قد انبثق من العدم وجاء ليميته ، ثم نظـر الى وقد تغيرت ملامحه بسرعه وتحول الغضب والحنق في جسده المهزول الى التوجع والألم ، وقال باكيا :
ـ هي المرأة .. المرأة التي انقذتها من عبودية الفقر ، وفتحت أمامها خزائني وجعلتها محسودة بين النساء على الملابس الجميلة والحلى الثمينة ، والمركبات الفخمة والخيول المطهمة . المرأة التي أحبها قلبي وسكب على قدميها عواطفه ، ومالت اليهـا نفسی فغمرنهـا بالمواهب والعطايا .. المرأة التي كنت لها صديقا ودودا ، ورفيقا مخلصا ، وزوجا أمينا . قد خانتني وغادرتني ، وذهبت الى بيت رجل آخر لتعيش معه في ظلال الفقر ، وتشاركه بأكل الخبز المعجون بالعار ، وشرب الماء الممزوج بالذل والعيب المرأة التي أحببتها الطائر الجميل الذي أطعمته حبات قلبي وسـقيته نور حدقتي ، وجعلت ضلوعي له قفصا ومهجتي عشا ، قد فر من بين يدى وطار الى قفص آخر محبوك من قضبان العوسج ليأكل فيه الحسك والديدان ، ويشرب من جوانبه السم والعلقم .. الملاك الطاهر الذي اسكنته فردوس محبتي وانعطافي، قد انقلب شيطانا مخيفا وهبط الى الظلمة ليتعذب باثامه ويعذبني بجريمته. وسكت الرجل وقد حجب وجهه بكفيه ، كأنه يريد أن يحمي نفسه من نفسه ، ثم تنهد قائلا:
- هذا كل ما اقدر ان اقوله فلا تسألني أكثر من ذلك ، ولا تجعل لمصيبتي صوتا صارخا ، بل دعها مصيبة خرساء لعلها تنمو بالسكينة فتميتني وتريحني .
فقمت مکاني والدموع تراود اجفـاني والشفقة تسحق قلبي . ثم ودعته ساكتا ، لأنني لم اجد في الكلام معنى يعزى قلبــه الجريح ، ولا في الحكمة شعلة تنير نفسه المظلمة !
2
بعد أيام التقيت لأول مرة بالسيدة « وردة الهاني » في بيت حقير محاط بالزهور والأشجار . وكانت قد سمعت لفظ أسمي في منزل رشيد بك نعمان الرجل الذي داست قلبه وتركته ميتا بين حوافر الحياة . ولما رأيت عينيها المنيرتين وسمعت نغمة صوتها الرخيمة، قلت في ذاتي : « أتقدر هذه المرأة أن تكون شريرة ؟ وهل بإمكان هذا الوجه الشفاف أن يستر نفسا شنيعة وقلبا مجرما ؟ أهذه هي الزوجة الخائنة ؟ أهذه هي المرأة التي جنيت عليها مرات عديدة بتصويرها لفكری کثعبان مخيف مختبىء في جسم طائر بديع الشكل ؟ ولكنى رجعت وهمست في سرى قائلا : « اذن أي شيء جعـل ذلك الرجل تعسا اذا لم يكن هذا الوجه الجميل ؟ أو لم نسمع ونر أن المحاسن الظاهرة كانت سببا لمصائب خفية هائلة واحزان عميقة أليمة ؟ أو ليس القمر الذي يسكب في قرائح الشعراء شعاعا ، هو القمر الذي يهيج سكينة البحار بالمد والجزر ؟.
جلست وجلست السيدة وردة وكأنهـا قد سمعتنى مفكرا فلم ترد أن يطـول الصراع بين حيرتي وظنوني ، فأسندت رأسها الجميل بيدها البيضاء ، وصوت يحاكي نغمة الناي رقة قالت :
ـ لم ألتق بك قبل الآن أيها الرجل ، ولكني سمعت صدى أفكارك وأحلامك من أفواه الناس فعرفتك شفوقا على المرأة المظلومة ، رءوفا بضعفها خبيرا بعواطفهـا وميولها من أجل ذلك أريد أن أبسط لك قلبي وأفتح أمامك صدري ، لترى مخباته وتخبر الناس ان شئت بأن « وردة الهاني » لم تكن قط امرأة خائنة شريرة .
« كنت في الثامنة عشرة من عمري عندما قادني القدر الى رشيد بك نعمان ، وكان هو اذ ذاك قريبا من الأربعين، فشفف بي ومال الى ميلا شريفا كما يقول الناس ، ثم جعلني زوجة له وسيدة في منزله الفخم بين خـدامه الكثيرين بالجواهر والحجارة الكريمة ، وكان يعرضنى كتحفة ، فألبسني الحرير وزين رأسي وعنقى ومعصمي غربية في منازل أصدقائه ومعارفه ، ويبتسم ابتسامة الفوز والانتصار عندما يرى عيون أترابه ناظرة الى باعجاب واستحسان ، ويرفع رأسه تيهـا وافتخارا اذ يسمع نساء أصحابه يتكلمن عنى بالاطراء والمودة . ولكنه لم يكن يسمع قول السائل : « أهذه زوجة رشيد بك أم هي صبية تبناها ؟ » وقول الآخر : « لو نزوج رشيد بك في زمن الشباب لكان بكره أكبر سنا من وردة الهاني ! »
« جرى كل ذلك قبل أن تستيقظ حياتي من سبات الحداثة العميق ، وقبل أن توقد الآلهة شعلة المحبة في قلبي، وقبل أن تنبت بذور العواطف والأميال في صدري . نعم جرى كل ذلك عندما كنت أحسب منتهى السعادة في ثوب جميل يزين قامتي ، ومركبة فخمة تجرني ، ورياش ثمينة تحيط بي . ولكن عندما استيقظت . عندما استيقظت وفتح النور أجفاني ، وشعرت بالسنة النار المقدسة تلسع أضلعي وتحرقها ، وبالمجاعة الروحيـة تقبض على نفسى فتوجعها عندما استيقظت ورأيت أجنحتي تتحرك يمينا وشمالا وتريد النهوض بي الى سماء المحبة ،ثم ترتجف وترتخي عجزا بجانب سلاسل الشريعة التي قيدت جسدي قبل أن أعرف كنه تلك القيود ومفاد تلك الشريعة عندما استيقظت وشعرت بهذه الأشياء ، عرفت ان سعادة المرأة ليست بمجد الرجل وسؤدده ، ولا بكرمه وحلمه ، بل بالحب الذي يضم روحها الى روحه ، ويسكب عواطفها في كبده ، ويجعلها ويجعله عضوا واحدا من جسم الحياه وكلمة واحدة على شفتي الله عندما بانت هذه الحقيقة الجارحة لبصيرتي ، رايتني في منزل رشید نعمان مثل لص سارق يأكل خبزه ثم يستتر بظلام الليل . وعرفت ان كل يوم أصرفه بقربه هو كذبة هائلة يخطها الرياء بأحرف نارية ظاهرة على جبهتي امام الأرض والسماء ، لأنني لم اقدر أن اهبه محبة قلبي لقاء كرمه ، ولا أن أمنحه انعطاف نفسی ثمنا لاخلاصه وصلاحه . وقد حاولت ـ وباطلا حاولت ـ أن أتعلم محبته فلم اتعلم ، لأن المحبة قوة تبتدع قلوبنا ، و قلوبنا لا تقدر أن تبتدعها . ثم وتضرعت وباطلا تضرعت وصليت ـ في سكينة الليالي أمام السماء ، لتولد في أعماقي عاطفة روحية تقربني من الرجل الذي اختارته رفيقا لي ، فلم تفعل السماء ، لأن المحبة تهبط على أرواحنا بإيعاز من الله لا البشر ، وهكذا بقيتعامين كاملين في منزل ذلك الرجل أحسد عصافير الحقل على حريتها ، وبنات جنسي یحسدنني علی سجني وكالثكلى الفاقدة وحيدها ، كنت اندب قلبي الذي ولد بالمعرفة واعتـل بالشريعة ، وكان يموت في كل يوم جوعا وعطشا ! .
« ففي يوم من تلك الأيام السوداء نظـرت من وراء الظلمة ، فرأيت شعاعا لطيفا ينسكب من عيني فتى يسير وحده على سبل الحيـاة ، ويعيش منفرداً بين أوراقه وكتبه في هذا البيت الحقير فأغمضت عيني كيلا أرى ذلك الشعاع ، وقلت لنفسي : «نصيبك يا نفس ظلمة القبر ، فلا تطمعي في النور » . ثم أصعيت فسمعت نغمة علوية تهز جوارحي بعذوبتها ، وتمتلك كليتي بطهرها فأغلقت أذني وقلت : « نصيبك يا نفس صراخ الهادية ، فلا تطمعي في الأغاني » . أغمضت أجفاني كيلا أرى ، وأغلقت أذنى كيلا اسمع . لكن عيني ظلتـا تريان ذلك الشعاع وهما منطبقتان ، وأذنى تسمعان تلك النعمة وهما مغلقتان ، فخفت لأول وهلة خوف فقير وجد جوهرة بقرب قصر الأمير فلم يجسر أن يلتقطها لخوفه ، ولم يقدر أن يتركها لفـاقته . وبكيت بكاء ظامیء رأى الينبوع العذب محاطا بكواسر الفاب ، فارتمى على الأرض مترقبا جازعا »
وسكتت السيدة وردة دقيقة ، وقد اغمضت عينيها الكبيرتين كأن ذلك الماضي قد انتصب أمامها فلم تجسر ان تحدق بي وجها لوجه . ثم عادت وقالت :
هؤلاء البشر الذين يجيئون من الأبدية ويعودون اليها قبل أن يذوقوا طعم الحيـاة الحقيقية ، لا يمكنهم ان يدركوا كنه أوجاع المرأة عندما تقف نفسها بين رجل بارادة السماء ، ورجل تلتصق به بشريعة الأرض هي مأسـاة أليمة مكتوبة بدماء الأنثى ودموعها يقرأها الرجل ضاحكا لأنه لا يفهمها ، وان فهمها انقلب ضحكه فجورا وقساوة وانزل على رأس المرأة من غضبه نارا وكبريتا ، وملأ أذنيها لعنا وتجديفا.
« هي رواية موجعة تمثلها الليالي السوداء بين ضلوع کل امراة تجد جسدها مقيدا بمضجع رجل عرفته زوجا قبل أن تعرف ما هو الزواج وترى روحها مرفرفة حول آخر تحبه بكل ما في الروح من المحبة وبكل ما في المحبة من الطهر والجمال . هو نزاع مخيف قد ابتدأ منذ ظهور الضعف في المرأة والقوة في الرجل ، ولا ينتهى حتى تنقضى أيام عبودية الضعف للقوة . هي حرب هائلة بين شرائع الناس الفاسدة وعواطف القلب المقدسة . قد طرحت بالأمس في ساحتها وكدت أموت جزعا واذوب دموعا ، لكني وقفت ونزعت عنى جبـانة بنات جنسي وحللت جناحي من ربط الضعف والاستسلام وطرت في فضاء الحب والحرية ، وانا سعيدة الآن بقرب الرجل الذي خرج وخرجت شعلة واحدة من يد الله قبيل ابتداء الدهور ، ولا توجد قوة في هذا العالم تستطيع ان تسلبني سعادتي ، لأنها منبثقة من عناق روحين يضمهما التفاهم ويظللهما الحب »
ونظرت الى السيدة وردة نظرة معنوية ، كأنها تريد ان تخترق صدري بعينيها لترى تأثير كلامها في عواطفي وتسمع صدى صوتها من بين ضلوعي. لكني بقيت صامتا کیلا اوقفها عن الكلام فقالت وقد قارن صوتها بين مرارة الذكرى وحلاوة الخلاص والحرية :
ـ يقول لك الناس ان وردة الهاني امرأة خائنة جحود قد اتبعت شهوة قلبها وهجرت الرجل الذي رفعها اليه وجعلها سيدة في منزله . ويقولون لك هي زانية عاهرة قد أتلفت بمقابضها القذرة أكليل الزواج المقدس الذي ضفرته الديانة ، واتخذت عوضا عنه أكليلا وسخا محبوكا من أشواك الجحيم ، وألقت من جسدها ثوب الفضيلة وارتدت لباس الالم والمار ويقولون لك أكثر من ذلك لأن اشباح جدودهم ما زالت حية في اجسادهم . فهم مثل كهوف الأودية الخالية يرجعون صدی اصوات ولا يفهمون معناها . هم لا يعرفون شريعة الله في مخلوقاته ، ولا يفقهون مفاد الدين الحقيقي ، ولا يعلمون متى يكون الانسان خاطئا أو بارا ، بل ينظرون بأعينهم الضئيلة الى ظواهر الأعمال ولا يرون أسرارها ، فيقضون بالجهل ويدينون بالعمارة ، ويستوى أمامهم المجرم والبرىء والصالح و والشرير .
« فويل لمن يقضى وويل لمن يدين .. أنا كنت زانية وخائنة في منزل رشيد نعمان ، لأنه جعلني رفيقة مضجعه بحكم العادات والتقاليد قبل أن تصيرني السماء قرينة له بشريعة الروح والعواطف . وكنت دنسة ودنيئة أمام نفسي وأمام الله ، عندما كنت أشبع جوفي من خيراته ليشبع أمياله من جسدى . أما الآن فصرت طاهرة نقية لأن ناموس الحب قد حررني . وصرت شريفة وأمينة لأنني أبطلت بيع جسدى بالخبز وأيامي بالملابس . نعم ، كنت زانية ومجرمة عندما كان الناس يحسبونني زوجة فاضلة! واليوم صرت طاهرة وشريفة ، وهم يحسبونني عاهرة دنسة ! لأنهم يحكمون على النفوس من مآتى الأجساد ، ويقيسون الروح بمقاييس المادة .. » .
والتفتت السيدة وردة نحو النافذة وأشارت بيمينها نحو المدينة . ورفعت صوتها عن ذي قبل ، وقالت بلهجة الاحتقار والاشمئزاز ، كأنهـا رأت بين الأزقة وعلى السطوح وفي الأروقة أشباح المفاسد وخيالات الانحطاط:
- أنظر الى هذه المنازل الجميلة والقصور الفخمة العالية حيث يسكن الأغنياء والأقوياء من البشر ، فبين جدرانها المكسوة بالحرير المنسوج تقطن الخيانة بجانب الرياء ، وتحت سقوفهـا المطلية بالذهب المذوب يقيم الكذب بقرب التصنع . انظر وتأمل جيدا في هـذه البنايات التي تمثل لك المجد والسؤدد والسعادة ، فهي ليست سوى مفــاور يختبيء فيها الذل والشقاء والتعاسة . هي قبور مكلسة يتوارى فيها مكر المرأة الضعيفة وراء كحل العيون واحمرار الشفاه ، وتنحجب في زواياها أنانية الرجل وحيوانيته بلمعـان الفضة والذهب . هي قصور تتشامخ جدرانها تيها وافتخارا نحو العلاء ، ولو كانت تشعر بأنفـاس المكاره والفش السائلة عليها لتشققت وتبعثرت وهبطت الى الحضيض. هي منازل ينظر اليها القروي الفقير بعينين دامعتين ، ولو علم أنه لا يوجد في قلوب سكانها ذرة من تلك المحبة العذبة التي تملأ صدر رفيقته لابتسم مستهزئا وعاد الى حقله مشفقا.
وأمسكت السيدة وردة بيدي وقـادتني الى جانب النافذة التي كانت تنظر منها نحو تلك المنازل والقصور وقالت :
- تعال لأريك خفايا هؤلاء الناس الذين لم أرض أن أكون مثلهم . انظر الى ذلك القصر ذي الأعمدة الرخامية والجوانح النحاسية والنوافذ البلورية ، ففيه يسكن رجل غنى ورث ماله عن والده البخيل واكتسب أخلاقه من جوانب الأزقة المفعمة بالمفاسد وقد تزوج منذ عامين بامرأة لم يعرف عنها شيئا سوى أن لوالدها شرفا موروثا ومنزلة رفيعة بين نبلاء البلاد . ولم ينقض شهر العسل حتى ملها متضجرا وعاد الى مسامرة بنات الهـوى ، وتركها في هذا القصر مثلمـا يترك السكير جرة خمر فارغة ، فبكت وتوجعت لأول وهلة ، ثم تصبرت وسلت سلو من عرف خطأه ، وعلمت أن دموعها هي أثمن من ان تهرق على خسارة رجل مثل زوجهـا . وهي مشغولة عن كل شيء عشـق فتى جميل الوجه حلو الحديث ، تسكب في راحتيه عواطف قلبها وتملأ جيوبه ذهب بعلها الذي يفض الطرف عنها لأنها تغض الطرف عنه .. ثم أنظر الى ذلك البيت المحاط بالحديقة الفناء ، فهو مسكن رجل ينتمى الى أسرة شريفة حكمت البـلاد مدة طويلة ، وقد انخفض مقامها اليوم بتوزيع ثروتهـا وانصراف أبنائها إلى التواني والكسل . وقد اقترن هذا الرجل منذ أعوام بفتاة قبيحة الصورة لكنها غنية جدا ، وبعد استيلائه على ثروتها الطائلة نسى وجودها واتخذ له خليلة حسناء وغادرها تنهش أصابعها ندما وتذوب شوقا وحنينا . وهي الآن تصرف الساعات في تجميد شعرها ، وتكحيل عينيها ، وتلوين وجهها بالمساحيق والعقاقير ، وتزين قامتها بالأطالس والحرير ، لعلها تحظى بنظرة من احد زائريها ، لكنها لا تحصل الا على نظرات شبحها في المرآة .. ثم أنظر الى ذلك المنزل الكبير المزين بالنقوش والتماثيل ، فهو منزل امرأة جميلة الوجه ، خبيثة النفس ، قد مات زوجها الأول فاستأثرت بأمواله وأملاكه ، ثم اختارت من بين الرجال رجلا ضعيف الجسم والارادة واتخذته بعلا لتحتمى باسمه من السنة الناس وتدافع بوجوده عن منكراتها . وهي الآن بين مريديها كالنحلة تمتص من الزهور ما كان حلوا ولذيذا . وانظر الى تلك الدار ذات الأروقة الوسيعة والقناطر البديعة ، فهي مسكن رجل مادى الأميال ، كثير المشاغل والمطامع وله زوجة كل ما في جسدها جميل وحسن ، وكل ما في روحها حلو ولطيف ، وقد تمازجت في شخصها عناصر النفس بدقائق الجسد مثلما تتآلف في الشعر نغمة الوزن برقة المعاني ، فهي قد كونت لتعيش بالحب وتموت به . لكنها ـ كالكثيرات من بنات جنسها قد جنى عليها والدها قبل بلوغها الثامنة عشرة من عمرها ووضع عنقها تحت نير الزوج الفاسد ، وهي الآن سقيمة الجسم تذوب كالشمع بحرارة عواطفها المقيدة ، وتضمحل على مهل كالرائحة الزكية أمام العاصفة ، وتفنى حيا بشيء جميل تشـعر به ولا تراه ، وتصبو حنينا الى معانقة الموت لتتخلص من حياتها الجامدة ، وتتحرر من عبودية رجل يصرف الأيام في جمع الدنانير والليالي في عدها ويصر أسنانه لاعنا الساعة التي تزوج فيها بامرأة عاقر لا تلد له ابنا ليحيى اسمه ويرث ماله وخيراته .. ثم انظر الى ذلك البيت المنفرد بين البساتين ، فهو مسكن شاعر خیالی سامي الأفكار ، روحي المذهب ، له زوجة غليظة العقل ، خشنة الطباع ، تسخر بأشعاره لأنهـا لا تفهمها ، وتستهزى بأعماله لأنهـا غربة ، وهو الآن مشغول عنها بمحبة امرأة أخرى متزوجة تتوقد ذكاء وتسيل رقة وتولد في قلبه النور بانعطافها وتوحى اليه الأقوال الخالدة بابتساماتها ونظراتها وسكتت السيدة وردة هنيهة وقد حلست على مقعد بجانب النافذة كأن نفسها قد تعبت من التجول في مخادع تلك المنازل الخفية ، ثم عادت تقول بهدوء :
ـ هذه هي القصـور التي لم أرض أن أكون من سكانها . هذه هي القبور التي لم أرد أن أدفن حية طى لحودها هؤلاء هم الناس الذين تخلصت من عوائده وخلعت عنى نير جامعتهم . هؤلاء هم المتزوجون الذي يقترنون بالاجساد ويتنافرون بالروح ، ولا شفيع بهم أمام الله سوى جهلهم ناموس الله . أنا لا ادينهم الآن بل اشفق عليهم ، ولا اكرههم بل اكره استسلامهم عفوا الى الرياء والكذب والخباثة . ولم اكشف أمامك خفايا قلوبهم وأسرار معيشتهم لأننى أحب الاغتياب والنميمة بل فعلت ذلك لأريك حقيقة قـوم كنت بالأمس مثلهم فنجوت ، وأبين لك معيشة بشر يقولون عني كل كلمة شريرة ، لأنني خسرت صداقتهم لأربح نفسي وخرجت عن سبل خداعهم المظلمة وحولت عيني نحو النور حيث الاخلاص والحق والعدل . وقد نفونى الآن من جامعتهم وأنا راضية ، لأن البشر لا ينفون الا من تمردت روحه الكبيرة على الظلم والجور ومن لا يؤثر النفى على الاستعباد لا يكون حرا بما في الحرية من الحق والواجب . أنا كنت بالأمس مثل مائدة شهية ، وكان رشيد بك يقترب مني عندما يشعر بحاجة الى الطعام ، أما نفسانا فتظلان بعيدتين كخادمين ذليلين . ولما رأيت المعرفة كرهت الاستخدام ، وقد حاولت الخضوع لما يدعونه نصيبا فلم اقدر ، لأن روحي أبت أن أصرف العمر كله راكعة أمام صنم مخيف أقامته الأجيال المظلمة ودعته «الشريعة ».
.. فكسرت قيودی ، لكنني لم القها عنى حتى سمعت الحب مناديا ورأيت النفس متأهبة للمسير .
« خرجت من منزل رشید نعمان خروج الأسير من سجنه ، تاركا خلفى الحلى والحلل والخدم والمركبات وجئت بيت حبيبي الخالي من الرياش المملوءة من الروح، وانا عالمة بأنني لم أفعل غير الحق والواجب ، لأن مشيئة السماء ليست بأن أقطع جنـاحي بيدي وأرتمى على الرماد حاجبة رأسي بساعدی ، ساكية حشاشتي من اجفانی قائلة : « هذا نصيبي من الحياة ! » . ان السماء لا تريد ان أصرف العمر صارخة متوجعة في الليالي قائلة : « متى يجيء الفجر ؟ » ، وعندما يجيء الفجر أقول : «متى ينقضى هذا النهار ؟ » . ان السماء لا تريد ان يكون الانسان تعسا ، لأنها وضعت في أعماقه الميل الى السعادة ، لأنه بسعادة الانسان يتمجد الله..
« هذه هي حكايتي ايها الرجل ، وهذا احتجاجی امام السماء والأرض ، وأنا أردده وأترنم به والناس يفلقون آذانهم ولا يسمعون لأنهم يخشون ثورة أرواحهم ، ويخافون أن تتزعزع أسس جامعتهم وتهبط على رؤوسهم.
« هذه هي العقبة التي سرت عليها حتى بلغت قمة سعادتي ، ولو جاء الموت واختطفنى الآن لوقفت روحي اما العرش الأعلى بلا خوف ولا وجل ، بل بفرح وامل ، وانحلت لفائف ضميري أمام الديان الأعظم وبانت نقية كالثلج ، لأننى لم أفعل غير مشيئة النفس التي فصلها الله عن ذاته ، ولم أتبع غير نداء القلب وصدى أغاني الملائكة» .
« هذه هي روايتي التي يحسبها سكان بيروت لعنة في سوف يندمون عندما تنبه فم الحياة وعلة في جسم الهيئة الاجتماعية . ولكنهم الأيام محبة المحبة في قلوبهم المظلمة ، مثلما تستنبت الشمس الزهور من بطن الأرض المملوء من بقايا الأموات ، فيقف اذ ذاك عابر الطريق بجانب قبري ويلقى عليه السلام قائلا : « ههنا رقدت وردة الهاني التي حررت عواطفها من عبودية الشرائع البشرية الفاسدة لتحيا بناموس المحبة الشريفة ، وحولت وجهها نحو الشمس كيلا ترى ظل جسدها بين الجماجم والأشواك ! »
ولم تنته السيدة وردة من كلامهـا حتى فتح الباب ودخل علينا فتى نحيل القوام ، جميل الوجه ، تنسكب من عينيه أشعة سحرية وتسيل على شفتيه ابتسامة لطيفة فوقفت السيدة وردة وأمسكت بذراعه بانعطاف كلى ، وقدمته الى بعد أن لفظت اسمي مذيلا بكلمة لطيفة واسمه مشفوعا بنظرة معنوية ، فعرفت انه ذلك الشاب الذي أنكرت العالم وخالفت الشرائع والتقاليد من اجله.
ثم جلسنا جميعا صامتين لانشغال كل منا بمعرفة رأى الآخـر فيه حتى اذا مرت دقيقـة مملوءة من السكينة التي تستميل النفوس الى الملأ الأعلى ، نظرت اليهما وقد جلسا أحدهما بجانب الآخر فرأيت ما لم أره قط ، وعرفت بلحظة معنى حكاية السيدة وردة وأدركت سر احتجاجها على الهيئة الاجتماعية التي تضطهد الأفراد المتمردين على شرائعها قبل ان تستفحص دواعي تمردهم .
رایت روحا واحدة سماوية متمثلة أمامي بجسدين يحملهما الشباب ويسربلهما الاتحاد ، وقد وقف بينهما اله الحب باسطا جنـاحيه ليحميهما من لوم الناس وجدت التفاهم الكلى منعنا من وجهين وتعنيفهم وجدت شفافين نيرهما الاخلاص ويحيط بهما الطهر لأول مرة في حياتي طيف السعادة منتصبا بين رجل وامراة يرذلهما الدين وتنبذهما الشريعة !
وبعد هنيهة وقفت وردة وودعتهما مظهرا بغير الكلام تأثيرات نفسى ، وخرجت من ذلك المنزل الحقير الذي جعلته العواطف هيكلا للحب والوفاق ، وسرت بين تلك القصور والمنازل التي أظهرت لي خفاياها السيدة وردة متفكرا في حديثها وفي كل ما ينطوي تحته من المبـادىء والنتائج ، لكنني ثم أبلغ أطراف ذلك الحي حتى تذكرت رشيد بك نعمان فتذكرت لوعة قنوطه وشقائه فقلت :
ـ هو تعس مظلوم ، ولكن هل تسمعه السماء اذا وقف امامها متظلما شاكيا وردة الهاني ؟ هل جنت عليه تلك المرأة عندما تركته واتبعت حرية نفسها ، أم هو اللي جنى عليها عندما اخضع جسدها بالزواج قبل أن يستميل روحها بالمحبة ؟ فمن هو الظـالم من الاثنين ومن هو المظلوم ، ومن هو المجرم ومن هو البرىء يا ترى ؟
ثم عدت قائلا ، مستفتيا اخبار الايام مستقصيا حوادثها:
ـ كثيرا ما أباح الفرور للنسـاء أن يتركن رجالهن الفقراء ويتعلقن بالرجال الأغنياء ، لأن شفف المراد بهرجة الملابس ونعومة العيش يعمى بصيرتها ويقـودها الى العار والانحطاط . فهل كانت وردة الهاني مغرورة وطامعة عندما خرجت من قصر رجل غنى مفعم بالحلى والحال والرياش والخدم ، وذهبت الى كوخ رجل فقي لا يوجد فيه سوى صف من الكتب القديمة ؟ وكثيرا ما يميت الجهـل شرف المرأة ويحبي شهواتها فتترك بعلها مللا وتضحرا وتطلب ملذات حسـدها بقرب رجل آخر أكثر منها انحطاطا وأقل شرفا .فهل كانت وردة الهاني جاهلة راغبة في الملذات الجسدية عندما أعلنت استقلالها على رءوس الأشهاد وانضمت الى فتی روحی الأميال ، وقد كان بامكانها أن تشيع حواسها سرا في منزل زوجها من هيام الفتيان الذين يستميتون ليكونوا عبيد جمالها وشهداء غرامها ؟ .. وردة الهـاني كانت امرأة تعسة فطلبت السعادة فوجدتها وعانقتها ، وهذه هي الحقيقة التي تحتقرها الجامعة الانسانية وتنكرها الشريعة.
همست تلك الكلمات في مسامع الأثير ، ثم قلت مستدركا : « ولكن ، ايسوغ للمرأة ان تشترى سعادتها بتعاسة بعلها ؟ »
. فاجابتني نفسي قائلة : « وهل يجوز للرجل أن يستعيد عواطف زوجته ليبقى سعيدا ؟ » .
وظللت سـائرا وصوت السيدة وردة يتموج في مسامعي ، حتى بلغت اطراف المدينة والشمس قد مالت الى الغروب وابتدات الحقول والبساتين تنشج بنقـاب السكينة والراحة ، والطيور تنشد صلاة المساء ، فوقفت متأملا ثم تنهدت قائلا :
ـ امام عرش الحرية تفرح هذه الأشجار بمداعبة النسيم ، وأمام هيبتها تبتهج بشعاع الشمس والقمر . على مسامع الحرية تتناجي هذه العصافير ، وحول أذيالها ترفرف بقرب السواقي . في فضاء الحرية تسكب هذه الزهور عطر أنفاسها ، وأمام عينيها تبتسم لمجيء الصباح، كل ما في الأرض يحيـا بناموس طبيعته ، ومن طبيعة ناموسه يستمد مجد الحرية وافراحها .
« اما البشر فمحرومون من هذه النعمة ، لأنهم وضعوا لأرواحهم الالهية شريعة أرضية محدودة ، وسنوا لأجسـادهم ونفوسهم قانونا واحدا قاسية ، وأقاموا لميولهم وعواطفهم سجنا ضيقا مخيفا ، وحفروا لقلوبهم وعقولهم قبرا عميقا مظلما . فاذا ما قام واحد من بينهم وانفرد عن جامعتهم وشرائعهم ، قالوا : « هذا متمرد شرير خليق بالنفي ، وساقط دنس يستحق الموت !»
« ولكن ، هل يظل الانسان عبدا لشرائعه الفاسدة الى انقضاء الدهر ، ام تحرره الأيام ليحيا بالروح وللروح ؟ ايبقى الانسان محدقا بالتراب ، أم يحول عينيه نحو الشمس كیلا پری ظل جسده بين الأشواك والجماجم ؟» .
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط الخاصة بنا وملفات تعريف الارتباط الخاصة بالجهات الخارجية حتى نتمكن من عرض هذا الموقع وفهم كيفية استخدامه بشكل أفضل ، بهدف تحسين الخدمات التي نقدمها. إذا واصلت التصفح ، فإننا نعتبر أنك قبلت ملفات تعريف الارتباط.