لماذا نشيخ؟

2023-09-25

لماذا نشيخ؟

 

في بداية فيلم "برتقالة آلية" لستانلي كوبريك المبني على رواية بنفس الاسم للكاتب "أنتوني برجس"، نرى الشخصية الرئيسية بالفيلم "أليكس" وأتباعه يسيرون في الليل بحثا عن العنف حتى يعثرون على مسنٍ متشرد يرقد بمفرده تحت أحد الكباري ويغني بصوت مرتفع وهو ثمل. يطلب منهم نقودا وبعد حوار سريع بين المتشرد المسن وأليكس يبدأ أليكس وأصدقائه بضربه ضربًا مبرحًا بينما يصرخ الرجل وهو يسبهم ويلعن الزمن الذي يعيشون فيه الآن ويخبرهم أن يقتلوه إذا شاءوا لأنه لا يرغب في أن يعيش في زمن لا يحترم العجائز.

كانت المجتمعات قديما تضع عجائزها في مقام رفيع، فقد كانوا كبار القبيلة وقادتها وشيوخها الذين يتم اللجوء إليهم في المواقف الصعبة التي تتطلب معرفة وخبرة كبيرة بالإضافة إلى فض المنازعات والحكم فيها. ظلت الأوضاع على نفس الحال لفترات طويلة باختلاف المجتمعات والثقافات واللغات. ومع مرور الوقت، تطورت المجتمعات وتغيرت أساليب الحياة ولم تعد الحكمة والمعرفة حكرًا على الكبار والمسنين وذلك بفعل تقنيات التواصل بدءًا من الكتابة وصولًا إلى الإنترنت الذي جعلنا نصل لكل ما نرغب في معرفته في أسرع وقت ممكن، لذلك أصبح المسنون بالتدريج عبئًا على المحيطين بهم نظرًا لقلة الاعتماد عليهم واللجوء إليهم كما كان يحدث في السابق. فعلى عكس الماضي، حين كان كبار السن يتلقون العناية وسط عائلاتهم التي قد تضم عدة أجيال وهم يعيشون في بيت واحد، ولم يكن المسنون يُترَكون ليواجهوا ضعفهم ومرضهم بمفردهم دون مساعدة ذويهم، أما الآن ومع تغير شكل مجتمعاتنا، أصبحت الفردانية والاستقلالية أقوى وأوضح وهي ما دفعتنا إلى النظر لكبار السن كعبء علينا نحتاج إلى الارتياح منه بأي شكل كي نتمكن من الالتفات لحياتنا وأعمالنا بالشكل المطلوب والمتوقع منا.

على الرغم من أن بعض المجتمعات لا تزال تسمح لكبار السن بأن يعيشوا في بيوت أبنائهم المتزوجين، إلا أن البعض الآخر يفضل عدم حمل ذلك العبء وتركه "للمتخصصين" وهو ما ساهم في ظهور فكرة دور المسنين.

يدفعنا هذا للتساؤل حول فكرة رغبتنا في عدم الاعتناء بالمسنين بأنفسنا. بالطبع هي مهمة مرهقة وفي بعض الحالات يتطلب الأمر بالفعل اهتمام المختصين، ولكن بشكل عام أصبح هناك رفض لوجود المسنين أمام أعيننا وكأننا لا نرغب في رؤيتهم كما لو أن وجودهم أمامنا يذكرنا بشكل متواصل بما ينتظرنا في المستقبل من أمراض الشيخوخة ومتاعبها المتعارف عليها.

قد تكون دور المسنين نشأت في البداية من منطلق نية حسنة تجاه كبار السن من أجل الاعتناء بهم بشكل ملائم قد لا يتمكن أهل المسن من تقديمه له، إلا أن مع مرور الوقت وانتشار دور المسنين وكثرة نزلائهم، أصبحت المعاملة بداخلهم كالمستشفيات، ولم يعد الاهتمام بالنزلاء كما كان في السابق حين كانوا لا يزالون يعيشون في منازلهم، فاكتفوا بتلبية احتياجاتهم الجسدية بشكل عملي يكاد يكون آليًا دون الالتفات إلى احتياجاتهم الروحية والنفسية. فاهتمت الممرضات بمساعدة المسنين في ارتداء ملابسهم وتمشيط شعرهم دون اهتمام حقيقي بالطرق التي يفضلها المسنون كما كانوا يفعلون حين كانوا يعيشون في بيوتهم.

إن رغبة الإنسان في الخلود قديمة قدم وجود الإنسان ذاته على الأرض، فمنذ فجر التاريخ يعتبر الإنسان الموت عدوه الأكبر. يعرف البشر أنه صراع خاسر لأن الموت سيأتي لا محالة، ولكن ماذا عن تأجيله بعض الوقت بأي شكل ممكن. لذا مع التقدم العلمي في العديد من المجالات، استغل البشر تطور الطب الملحوظ وصب الأطباء والعلماء قدرا هائلا من اهتمامهم بالشيخوخة وأمراضها رغبة منهم في مساعدة المسنين ومحاولة إطالة عمر البشر قدر الإمكان. ويمكن القول أنهم حققوا نجاحات مذهلة في هذا السياق وبالفعل تمكن البشر بناء على ذلك من أن يعيشوا لفترات أطول من ما اعتاد أسلافهم عليه. ولكن هل الاهتمام بالجانب الجسدي فقط كافيا؟

لا يمكن لأحد أن ينكر الآثار الجسدية للشيخوخة علينا، ولكن ماذا عن الآثار الروحية؟ كيف نشعر ونحن نرى في كل يوم جسدنا وهو يذبل ويضعف ويخذلنا شيئا فشيئا؟ الأشياء البسيطة التي كان بإمكاننا فعلها ببساطة مثل تغيير مصباح السقف، أو نقل قطعة أثاث من مكان إلى آخر، أو حتى أشياء أبسط من ذلك مثل إعداد وجبة طعام لأنفسنا أو لعائلاتنا والتي أصبحت أمورًا شاقة ونحتاج لأحد كي ينجزها من أجلنا منعًا لإيذاء أنفسنا. والأسوأ من هذا، أن نصل لمرحة من الخرف قد تجعلنا غير قادرين على إدراك كل هذه المخاطر التي قد تصيبنا وبهذا الشكل سنكون في حاجة إلى عناية مستمرة على مدار يومنا. ألهذا السبب أرادنا الأطباء والعلماء أن نعيش لأطول فترة ممكنة؟

قطعًا فإن الإجابة على هذا السؤال هي النفي. لا يريد الإنسان أن يموت بنفس قدر رغبته في عدم الإحساس بالألم والمعاناة. ولكن لنمعن النظر في هذا الأمر ونسأل أنفسنا، مَن الذي يتخذ قرارات المسنين؟ هل هم المسنون أنفسهم أم آخرون نيابة عنهم؟ يشبّه الكثيرون التقدم في العمر بأنه عودة للطفولة مرة أخرى، وبناء على ذلك فإن التعامل مع المسنين كالأطفال يُفقدهم جانبًا كبيرًا من أهليتهم واستقلاليتهم في اتخاذ قراراتهم، ونجد أن أبنائهم أو أقربائهم وأحيانا الأطباء هم مَن يأخذون القرارات المتعلقة بالعناية بهم، لا أحد يستمع للمسنين ورغباتهم الحقيقية تماما مثلما كان يحدث مع الكثيرين منا أثناء طفولتنا.

"أنت مسن ومريض بكذا وكذا، فستمكث في هذه الغرفة بالمستشفى حتى تشفى!"

"ولكنني لا أشعر بالارتياح هنا".

"لا تتصرف كالأطفال، إن هذا لصالحك".

الارتياح. من أين يأتي الارتياح؟ وما معناه من الأساس؟ اهتم الفلاسفة القدامى بمفهوم الارتياح ونجد أنهم استخدموا مصطلح "السعادة" كمرادف للارتياح وقد استعمل الفلاسفة مفهوم "السعادة" في نطاق أوسع، فاعتبروا أن السعادة هي ما هو جيد للفرد، وأشاروا إلى الصحة على أنها عنصر من عناصر أخرى مكونة للسعادة وفي هذا الصدد يربطونها بالمصلحة الشخصية للفرد، ويُقصد بالمصلحة الشخصية ما هو مهم للفرد وليس الآخرين. إذن فتحديد مصلحة المسن الشخصية لم تعد في يده بل في يد ذويه وقد يؤدي ذلك في كثير من الأحيان إلى عدم رضى المسنين عنه لكنهم غير قادرين على فعل شيء من أجل تغييره.

يذكرنا ذلك بطرح "برتقالة آلية" حين قرر المسؤولون معالجة أليكس من ميله إلى العنف عن طريق تجربة تجبر "جسده" أن يشعر بالغثيان كلما حاول أن يفكر في ممارسة عنفه تجاه شخص آخر. هكذا فكّر المسؤولون في عالم الفيلم، وهو أن لمصلحتهم الشخصية من أجل الحفاظ على النظام، عليهم أن يجربوا هذا العلاج الجسدي بعيدًا عن أي جوانب روحية، من أجل أن يحولوا المواطنين العنيفين إلى مواطنين ليس لديهم إرادة في اختيار أفعالهم وتحديد مصائرهم.

في كتابه "لأن الإنسان فانٍ: الطب وما له من قيمة في نهاية المطاف"، يحكي مؤلفه الطبيب "أتول غواندي" عن امرأة أمريكية تُدعى "كيرين براون ويلسون" حين تعرضت أمها لأزمة صحية تطلبت منها إدخالها إلى أحد دور المسنين التقليدية والتي لم تشعر فيها أمها "بالارتياح" على الإطلاق ولطالما ظلت تقول لابنتها "خذيني إلى البيت" وتكرر قائلة "أخرجوني من هنا"، حتى فكرت كيرين ويلسون في محاولة إيجاد مكان يلغي تماما الحاجة إلى دور المسنين ويسمح للمسنين أن يعيشوا حياة تتوافر فيها الحرية والتحكم في الذات بصرف النظر عن مقدار القيود التي تقيدهم بسبب وضعهم الصحي. كانت رغبة أمها ببساطة أن تعيش في منزل صغير له مطبخ وحمام ويحتوي على أعز أشيائها، وفي هذا المكان الخيالي بإمكانها أن تغلق بابها متى شاءت وأن تتحكم في الحرارة كما يريحها وأن يكون لها أثاثها الخاص دون أن يتمكن أحد من إيقاظها رغما عنها أو يخفي نوع الصابون الذي تحبه أو يخرب ملابسها. مكان تحظى فيه بخصوصيتها كما كانت تحظى بها في منزلها.

بالفعل بدأت كيرين ويلسون بالعمال على مشروع مبني على تلك الفكرة بمساعدة زوجها وفي عام 1983 افتتحا مركزهما الجديد (مركز المعيشة المدعومة بالمساعدة) وهو مركز خاص بالمسنين في بورتلاند وأطلقا عليه اسم "بارك بليس".

تكوّن "بارك بليس" من 112 وحدة امتلأت كلها تقريبا على الفور. وتم التعامل مع المسنين كمستأجرين وليس مرضى أو نزلاء على الرغم من أن بعضهم كانت لديه إعاقات شديدة. واتخذت التدابير لينالوا كل أنواع المساعدة كالتي ينالها المسنون وهم يعيشون وسط عائلاتهم. كانت الخدمات التي يوفرها المشروع مماثلة تقريبا للخدمات التي تقدمها دور المسنين، ولكن مَن يقدمون الخدمات يعلمون تمام العلم بأنهم حينما يدخلون الشقق فإنهم يدخلون بيوت أشخاص، وهذا المفهوم يغيّر علاقات القوة بشكل جذري، فالساكنون في الشقق هم المتحكمون في البرنامج وقواعد المكان. وإذا كانت أذهانهم قد ضعفت إلى حد أنهم لم يعودوا قادرين على اتخاذ قرارات رشيدة، فبإمكان عائلاتهم أو أي شخص يختارونه أن يفاوضوا على الشروط والأخطار والخيارات المقبولة؛ فالهدف من مشروع (المعيشة المدعومة) هو ألا يبقى أحد على الإطلاق يشعر بأنه تحت حكم المؤسسات.

1015f6a2 Df80 4555 95cf 0a1dec1932d0

بقيت حكومة الولاية تراقب التجربة عن قرب وهم يرونها تتوسع لتضم 142 وحدة، وطلبت الحكومة من كيرين ويلسون وزوجها أن يتابعا صحة المستأجرين لديهم وقدراتهم الذهنية وأداء أجسادهم ورضاهم عن حياتهم. وبالفعل أجريت دراسة لكل ذلك وأظهرت النتائج أن المقيمين في ذلك المشروع لم يخسروا في الحقيقة من صحتهم مقابل حريتهم وأن رضاهم عن حياتهم كان أعلى مما كان قبل هذه الإقامة، كما أن وظائف أجسامهم المادية والعقلية تحسنت وانخفضت نسبة الاكتئاب. أما تكاليف المعيشة كانت أقل بعشرين في المائة مما لو كانوا في دور المسنين المعتادة. وهكذا أثبت المشروع نجاحه.

لكن المؤسف في الأمر أن مؤسسات أخرى استغلت فكرة (بيوت المعيشة المدعومة) وصنعت نسخها الخاصة منها بأسماء مختلفة ولكن مستوى الخدمة تدنى فيها كثيرا إلى أن اضمحلت الفكرة تماما وأصبحت مجرد محطة في الطريق بين العيش المستقل والاستسلام للجوء إلى دور المسنين المعتادة.

توضح لنا هذه التجربة مدى الاهتمام الشديد لدى الإنسان المعاصر بالجسد دون أن يلقى بالا بمتطلبات الروح، وهو ما كانت ترتكز عليه تجربة "كيرين ويلسون" في الأساس. فنجد أننا كلما حاولنا الاعتناء بذاتنا، يكون هذا الاعتناء بالجسد، أي بالخارج دون أي اعتناء بدواخل ذواتنا. فما سبب هذا الأمر؟

إن إجابة هذا السؤال تبدو بسيطة للغاية، وهي أن طبيعة العصر الذي نعيشه تفرض علينا الاهتمام بالأمور المادية الملموسة بدرجة أعلى لأنها هي التي نحصل من خلالها على المكافآت الفورية، وعلى الأغلب فإن معظم تلك المكافآت الفورية متعلقة بالمال. لا يخفى على أحد أننا نعيش عصر الرأسمالية، والرأسمالية لا تعترف بالروحانيات بل ربما تعتبرها أحد ألد أعدائها. فتصور لنا الرأسمالية أن من أجل إمكانية أن يعيش المرء بسعادة حاليا، عليه جمع أكبر قدر من المال وفي أسرع وقت. هكذا يشعر الإنسان المعاصر بحاجته إلى فعل ذلك تحت أي ظرف دون أن يلتفت لأي احتياجات أخرى، وهو الأمر الذي جعل القلق والضغط العصبي والاكتئاب هي أمراض العصر، وكثيرا ما نسمع أو حتى نرى بأعيننا في بعض الأحيان شخصا ينهار تحت كل هذا الكم من الضغط العصبي وهو ما قد يدفعه لأسوأ المصائر التي قد تصل إلى الموت وأحيانا الانتحار. وهي للأسف نتيجة طبيعية حيث إننا أصبحنا ننظر إلى الاعتناء بصحتنا النفسية والراحة كنوع من الرفاهية التي قد تضرنا أكثر من أن تفيدنا، فممارسات مثل الرياضة واليوجا والتأمل والصلاة، هي ممارسات روحانية في الأساس، وعلى الرغم من أن الكثيرين ليسوا ملتفتين لهذا الأمر إلا أن هناك البعض الآخر أدركوا ما لها من قيمة وأصبحوا يدعون للاهتمام بمثل هذا النوع من الممارسات لأنها تساعدنا على أن نعتني بروحنا وهو ما لا يقل أهمية عن الاعتناء بأجسادنا إن لم يكن أهم في ظل ما نعيشه من ضغوط ومصاعب تجبرنا على مواجهتها بأرواح ذابلة منهكة إن لم نوليها الاهتمام الذي تستحقه ونستحقه نحن أيضا.

التعليقات

أضف تعليقك

الكتاب

سيد عمر

سيد عمر

مترجم ومؤلف وسيناريست ومحرر أدبي، مدير وحدة الصياغة الأدبية بمزيج …

أوراق ودراسات ذات صلة

مشاهدة المزيد
دين الرأسمالية (لاهوت النقود)
  • بينيات

دين الرأسمالية (لاهوت النقود)

جسد الَّذين أنعم الله عليهم
  • بينيات

جسد الَّذين أنعم الله عليهم

يا علبة الصبر:  كيف تورث الأغنية حكمة الأيام؟!
  • لا هذا ولا ذاك

يا علبة الصبر: كيف تورث الأغنية حكمة الأيام؟!

فرانسوا توسكييز وثورة الطب النفسي
  • تخصصات

فرانسوا توسكييز وثورة الطب النفسي

ملفات تعريف الارتباط

نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط الخاصة بنا وملفات تعريف الارتباط الخاصة بالجهات الخارجية حتى نتمكن من عرض هذا الموقع وفهم كيفية استخدامه بشكل أفضل ، بهدف تحسين الخدمات التي نقدمها. إذا واصلت التصفح ، فإننا نعتبر أنك قبلت ملفات تعريف الارتباط.