ليسَ أقسى على الموجـودِ الـذي يمـلِكُ الحريةَ ، ويحِنُّ إلى الأبديةِ ، من أن يشعُرَ بأنَّ لحريتِهِ حدودًا ، وأنَّ الزمانَ يُنشِبُ أظفـارَ الفَناءِ في عُنُقِهِ ، وأنَّ التناهيَ هو نسيجُ وجودِهِ! " وَيْحِي أنـا الإنسانَ الشقيَّ ! مَن يُنقِذُني من جسدِ هذا المـوتِ ؟ " :
هكذا صرخَ القديسُ بولسْ حينمـا أدرَكَ ما في الوجـودِ البشريِّ من شرٍّ ، ونقْصٍ ، ونسبيةٍ ، وعـدمِ اكتفاءٍ ، وإحالةٍ مستمرةٍ إلى الآخَرِ ! ألـيسَ الإنسانُ هو ذلك الموجـودُ الزائـلُ الـذي يعيشُ في الزمانِ ، فلا نستطيـعَ أن نقولَ عنهُ إنهُ كائنٌ ، وإنما لا بدَّ من أن نقولَ عنهُ دائمًا إنهُ سيكونُ ! أليسَ الإنسانُ هو تلك الخليقةُ الفانيةُ التي تجِدُ نفسَها دائمًـا فريسةً للصَّيرورةِ المستمرةِ ، فلا تزالَ في دورِ التكـويـنِ حتى يُفاجِئَهـا المـوتُ فتُصبِحَ ماضيًا بحتًا؟ أجـلْ ، ولكنَّ الإنسانَ أيضًا هو ذلك الكائنُ والمُتـوسِّطُ ، الـذي يجِدُ نفسَهُ محصورًا بيـنَ الألفِ والياءِ : بينَ البدايةِ والنهايةِ ، بيـنَ لا وجـودَ قبـلَ الوِلادةِ ولا وجـودَ بعـدَ الموتِ ! إنهُ الكائـنُ المُـدنَّسُ الـذي قد جُعِـلَ للطهارةِ ، الكائنُ المُضطرِبُ الذي قد خُلِقَ للنِّظامِ ، الكائنُ المُتعـدِّدُ الـذي لا يفتَأُ يَنشِدُ الوَحـدةَ ، الكائنُ المتناقضُ الذي يريدُ أن يمزُجَ ما فيـهِ من أخلاطٍ عديدةٍ بنِسَبٍ متكافئةٍ حتى يُركِّبَ منهـا مزيجًـا واحــدًا يُشعِرُهُ بالتكاملِ والتوازنِ والِانسجـامِ والتوافـقِ !
وينظـرُ الفيلسوفُ إلى الإنسانِ ، فيحاولُ أن يُرجِعَ ما فيهِ من تعـدُّدٍ إلى الوَحدةِ ، ويسعى جاهـدًا في سبيلِ ردِّ ما فيهِ من مظاهرَ متباينةٍ إلى حقيقةٍ واحدةٍ أصليـةٍ ؛ ولكنـُه سُرعانَ ما يتحقَّقُ من أنَّ الإنسانَ هو في صميمِهِ كـائـنٌ هجيـنٌ ، خليـطٌ ، مُولَّدٌ ! وربما كانَ أعجَبُ ما في الإنسانِ هو أنهُ موجودٌ مزدوجٌ يُمزِّقُهُ الخلافُ بينَ النفسِ والبدنِ ! إنهما زوجانِ عصبيانِ لا يعرفانِ ماذا يريدانِ : فهُما لا يستطيعانِ أنْ يعيشا معًا ، ولكنهما أيضًا لا يملِكانِ الانفصالَ أحدُهما عنِ الآخرِ ! إنَّ اتحادَ النفسِ بالبدنِ هو كاتحادِ الرجلِ بالمرأةِ : فإنَّ الواحدَ منهما لا يستطيعُ أن يعيشَ مع الآخرَ ، ولكنهُ لا يستطيعُ أن يعيشَ بدونِهِ ! إنَّ كلًّا منهما يريدُ حضورَ الآخرِ ويريدُ غيابَهُ : فهو حينَ يكونُ معهُ ، يُبغِضُهُ ويمقُتُهُ ويتمردُ عليهِ ، وحينَ يكونُ بعيدًا عنهُ يحِنُّ إليهِ ويتحرَّقُ شوقًا إلى الِاجتماعِ بهِ ! أليسَ منَ الواضحِ إذنْ أننا نعيشُ في " تناقضٍ وجدانيٍّ " حادٍّ ، ما دُمنا نجدُ أنفُسَنا عاجزينَ عنْ الِاستغناءِ عمَّا نمقُتُهُ ونحقِدُ عليهِ ؟ .
ولكننا ـ سواءٌ أردْنا أو لم نُرِدْ ــ مضطرونَ إلى أنْ نحيا على هذا التناقضِ نفسِهِ ، فإنَّ وجودَنا في صميمِهِ إنْ هو إلا توترٌ بينَ الزمانِ والأبديةِ ، بينَ الحريةِ والضرورةِ ، بينَ التناهي واللانهائيةِ ، بين التعدُّدِ والوَحدةِ ، بينَ الجسمِ والروحِ ... إلخ . ونحنُ نسعى جاهدينَ في سبيلِ حلِّ ما في تجرِبتِنا منْ ضُروبِ تعارُضٍ عديدةٍ أليمةٍ ، ولكننا نشعرُ بأنَّ الثنائيةَ ضريبةٌ باهظةٌ قد فُرِضتْ علينا بوصفِنا موجوداتٍ هجينةً قد جُبِلَتْ من طينٍ ونورٍ ! وقد نتمردُ على قيودِنا ، وننزِعُ إلى تخطِّي حدودِنا ، ولكننا سُرعانَ ما نتحقَّقُ من أنهُ هيهاتَ للطيرِ أن يضرِبَ بأجنحتِهِ في أجوازِ الفضاءِ ، ما لم تكُنْ هناك جاذبيةٌ أرضيةٌ يستندُ إليها في صعودِهِ نحوَ السماءِ ! وإذن فقدْ يكونُ من الخيرِ لنا أن نتعرَّفَ حدودَنا ، بدلًا من أن نقتصرَ على التحرُّقِ شوقًا إلى ( المُطلَقِ ) ، فإنَّ هذه الحدودَ نفسَها هي الأسوارُ التي نُطِلُّ منها على ما وراءَ الحدودِ ، فنرى ( المُطلَقَ ) من بعيدٍ !
ستقولونَ إنهُ لا حرجَ على الإنسانِ إذا هو تجاهَلَ تلك ( الحدودَ ) ، فما أفادتِ الإنسانيةُ يومًا من كلِّ تلك التأملاتِ الفلسفيةِ العقيمةِ حولَ تناهي الموجودِ البشريِّ ، وبُطلانِ الحياةِ البشريةِ ، وتفاهةِ بني البشرِ ! ألا يشهدُ التاريخُ البشريُّ ـ باعترافِكم أنتم يا معشرَ الفلاسفةِ ـ بأنَّ حدودَ الإنسانِ قد تراجعتْ عصرًا بعدَ عصرٍ ، فما كان يراهُ الأقدمونَ عائقًا منيعًا لا سبيلَ إلى اجتيازِهِ ، أصبحنا نستهينُ به اليومَ بعدَ أن أُتيحتْ لنا الفرصةُ لأنْ نُذلِّلَهُ ونتغلبَ عليهِ ؟ وإذنْ فمـا جـدوى إقامةِ السدودِ والحـدودِ في وجهِ ذلك الموجودِ العاتي الذي يُحطِّمُ شتى القيودِ ؟ أليس الأجدى علينا وعليكم أن ننسى ـ أو نتناسى ـ كلماتِ التناهي والشرِّ والفَناءِ ، لكن نقولُ مع بعضِ مُفكِّري هذا العصرِ إنَّ بطلَ القرنِ العشرينَ لم يعدْ هو الشيطانُ ، ولا هو اللهُ ، ولا هو بروميثيوسْ ، وإنما قد أصبحَ هو الإنسانُ ؟ أليسَ من الأفضلِ لنا ولكُم أن نعملَ على خلقِ الإنسانِ الجديدِ ، بدلًا من أن نَجتزِئَ بالتحسُّرِ على الضَّعفِ البشريِّ ، وإبرازِ مناحي هذا الضعفِ ، وتجسيمِ ما يترتَّبُ عليهِ من نتائجَ ؟
تلك هي الِاعتراضاتُ التي تُثارُ في وجهِ كلِّ مَن تُحدِّثُهُ نفسُهُ بأنْ يُزيحَ النقابَ عن بعضِ حدودِ الإنسانِ ، فإننا نحبُّ أن نوحيَ إلى أنفُسِنا بأنه ليس لإمكانياتِنا حدودٌ ، وأنه ليس في قاموسِ البشريةِ لفظُ " مُستحيلٌ " ! وإذا كانتْ بعضُ المذاهبِ الفكريةِ الحديثةِ قد لقِيَتْ رَواجًا كبيرًا عندَنا ، فذلك لأنها تُمجِّدُ الحريةَ ، وتُعلِي من شأنِ الإنسانِ ، وتُنادي بأننا نحنُ الذينَ نخلُقُ القِيَمَ ونُبدِعُ المعاييرَ ! ولا يقتصِرُ الإنسانُ الحديثُ على القولِ بأنَّ الإنسانيةَ لا تُثيرُ من المُشكلاتِ إلا ما هي قديرةٌ على حلِّهِ . بل إننا نراهُ يُنادي على لسانِ نيتشهْ ( وغيرِهِ منَ الفلاسفةِ الإنسانيِّينَ ) بأننا قدِ اخترعْنا (اللهَ ) لكي نُغطِّيَ كلَّ ما لدينا من ضعفٍ ، ونُفسِّرَ كلَّ ما في تجرِبتِنا من ثغراتٍ !
ولكنَّ مشكلتَنا اليومَ ـ فيما يقولُ البعضُ ــ لم تعُدْ هي ما إذا كانَ في وسعِنا أن نؤمنَ باللهِ ، بل ما إذا كانَ في وسعِنا ( وبأيِّ معنًى من المعاني ) أن نؤمنَ بالإنسانِ .
ويضيفُ إلى ذلك بعضُهم أنَّ معظمَنا اليومَ لم يعُدْ يؤمنُ بإلهٍ متعالٍ تكمُنُ فيه الحقيقةُ الأوليةُ الأبديةُ ، تلك الحقيقةُ التي من شأنِها أن تكونَ حقيقيةً قبلَ الإنسانِ، وحقيقيةً أيضًا بعدَ الإنسانِ ، فلا يكونَ هو منها إلا بمثابةِ المُستأمَنِ على وديعةٍ ؛ وإنما أصبَحَ الإنسانُ في نظرِنا من الآنَ فصاعدًا هو الذي يخلُقُ حقيقتَهُ ويُوجِّهُ مصيرَهُ في صراعٍ عنيفٍ من أجلِ الوصولِ إلى ذاتِهِ !
حسنًا ، ولكنْ هلْ يكونُ معنى هذا أن نُضْرِبَ صَفْحًا عن كلِّ ما تزخَرُ به تجرِبةُ ذلك الموجودِ البشريِّ من ( مواقفَ وجوديةٍ ) هامَّةٍ تُعبِّرُ عن عَلاقاتِهِ بالعالمِ والآخَرينَ والوجودِ العامِّ نفسِهِ ؟ هل نُخرِسُ لسانَ بسكالْ مثلًا حينما يتساءلُ في خطَراتِهِ فيقولُ:
"حينما أتأملُ الأمَدَ القصيرَ الذي كُتِبَ عليَّ أن أحياهُ ؛ ذلك الأمدَ المُستغرِقَ في الأزليةِ السابقةِ والأبديةِ اللاحقةِ ، وحينما أفكرُ في ذلك الحيزِ الصغيرِ الذي أشغَلُهُ ( بل وأشهدُهُ أيضًا ) ؛ ذلك الحيزِ الغارقِ في محيطٍ لا نهائيٍّ من العوالِمِ التي تجهلُني وأجهلُها ، فإنهُ سُرعانَ ما يتملَّكُني عندئذٍ الشعورُ بالرعبِ والدهشةِ ؛ إذْ أراني هنا بدلًا من أن أكونَ هناك ؛ في حينِ أنهُ ليسَ من سببٍ لأن أكونَ هنا ولا هناك ، وليس من مُبرِّرٍ لأن أُوجَدَ الآنَ وليسَ في أيِّ عصرٍ آخَرَ ! فمَنِ الذي وضعَني هنا ، ومَنِ الذي أرادَ ليْ أن أكونَ في هذا المكانِ بالذاتِ ، وفي هذا الزمانِ دونَ سواهُ ؟ هل نُحطِّمُ لوحةَ جوجانْ Gauguin المشهورةَ التي يتساءلُ فيها قائلًا : " مِن أين أتينا ؟ ومَن نكونُ ؟ وإلى أين نَمضي ؟ " . هل نخنُقُ في قلبِ الإنسانِ كلَّ صرخةٍ تنبعِثُ من أعماقِ وجودِهِ ، حاملةً في طيَّاتِها معانيَ التساؤلِ والحَيرةِ والدهشةِ والقلقِ والألمِ والأملِ ؟ هل نكتفي بأن نقولَ للإنسانِ : " عِشْ ولا تسَلْ عن وجودِكَ ، واعملْ ولا تنظرْ إلى حدودِكَ " ؟
ولكنَّ الإنسانَ ـ سواءٌ أرادَ أو لم يُرِدْ ـــ موجودٌ يعيشُ في الزمانِ ، بل موجودٌ يعيشُ الزمانَ ، إن لم نقُلْ بأنهُ هو الزمانُ نفسُهُ ! وإنني لأشعرُ في كثيرٍ من اللحظاتِ بأن الزمانَ هو نسيجُ وجوديْ ، إن لم يكنْ هو قرارةُ نفسي : لأنني حينما أهَبُ شخصًا أو شيئًا جانبًا من وقتي ، فإنني عندئذٍ إنما أمنحُهُ بِضعةً من نفسي ، وحينما أُضَيِّعُ وقتي أو أُبَذِّرُ لحظاتي ، فإنني في الحقيقةِ إنما أُضيِّعُ ذاتي وأفقِدُ حياتي ! وقد يتملَّكُني الشعورُ أحيانًا بأنني أفقِدُ ذاتي خلالَ ما يمرُّ عليَّ من لحظاتٍ متعاقبةٍ لا أستطيعُ أن أملأَها ، فتراني عندئذٍ أعملُ جاهدًا في سبيلِ الإمساكِ بكلِّ لحظةٍ واستبقائِها على حِدةٍ ، حتى يكونَ في وِسعي أن أُحقِّقَ خلالَها بعضَ ما أريدُ ! ولكنَّ كلَّ لحظةٍ من لحظاتِ الزمانِ تأبى إلا أن تلحَقَ بسابقاتِها ، أعني أنها ما تكادُ تطوفُ بي حتى تَفلِتَ من بينِ يديَّ ، دونَ أن يكونَ في وِسعيَ العدوُ وراءَها أو اللِّحاقُ بها !
وهكذا يشعرُ الإنسانُ بأنَّ لحظاتِ الزمانِ هي أشبهُ ما تكونُ بقطراتِ الماءِ ، فهيَ تتساقطُ من بينِ أصابعِنا ، دونَ أن نقوى على استبقائِها أو امتلاكِها أو القبضِ عليها بجمعِ أيدينا ! أليس الزمانُ هو استحالةُ الإعادةِ ، وامتناعُ الرجعةِ ؟ ألا تفُوتُ الفرصُ ويُولِّي الشبابُ ، وتنقضي لحظاتُ السعادةِ ، دونَ أن يكونَ في وسعِ المرءِ يومًا أن يُثبِّتَها أمامَ ناظرَيْهِ ، أو أن يسترجعَها حيةً نابضةً أمامَ شعورِهِ ؟ وا حسرتاهُ أيها الإنسانُ ! فإنَّ الماضيَ لا يعودُ ، والشبابَ المديرَ لا رجعةَ لهُ ، والسعادةَ الهاربةَ لا تُقتنَصُ من جديدٍ ، ونحنُ مجعولونَ لعبادةِ ما لمْ نرَهُ مرتَينِ !
"أيتها الأرضُ قِفي دورانَكِ ! وأنتِ أيتها الساعاتُ قِفي جريانَكِ ! ودعينا نتمتعُ بعاجلِ لذَّاتنا ، وننعمُ بأجملِ أيامِ شبابِنا .. على أنني يا ويلتاهُ كلما لَجَجْتُ في الطلبِ ، لجَّ الزمانُ في الهربِ ، فليسَ لسفينةِ الإنسانِ مرفَأٌ ، ولا لخضمِّ الزمانِ ساحلٌ : إنَّ الزمانَ ليتدفَّقُ ، وإنَّا مع تيارِهِ نمُرُّ ونمضي ... " هكذا صرخَ لامارتينْ في لوعةٍ وحرقةٍ ، حينما وجدَ نفسَهُ صريعًا لأمواجِ الزمانِ تدفعُهُ في ظلامِ الأبدِ من شاطئٍ إلى شاطئٍ ، دونَ أن يملِكَ الرجوعَ إلى ملجأٍ ، أو الرُّسُوَّ ذاتَ يومٍ على مرفأٍ ! والواقعُ أنَّ الذاتَ التي تحيا في الزمانِ لا بدَّ من أن تشعرَ بأنها محصورةٌ في ( الآنْ ) ، بينَ الـ ( قبلْ) ، والـ (بعدْ) ، بينَ الماضي والمستقبلِ ، بينَ يومِ الولادةِ ويومِ الموتِ ، بينَ اللاوجودِ الأصليِّ الذي صدَرَتْ عنهُ واللاوجودِ النهائيِّ الذي لا بدَّ أن تنحدِرَ إليهِ ! ونحنُ نُولَدُ ، لكيلا يلبثَ الزمانُ أنْ يستلِمَنا ، ثم هو ما يكادُ يستلمُنا حتى يلتهمَنا ! وقديمًا تعبَّدَ الإنسانُ للشمسِ ، لا لأنها مبعَثُ الحياةِ فحسبُ ، بل لأنها لسانُ حالِ الزمانِ أيضًا ! أليستِ الشمسُ هي التي تفرضُ علينا إيقاعَ النهارِ والليلِ ، ودوراتِ الفصولِ على مرِّ السنينَ ؟
إنَّ الزمانَ هو قرارةُ ذاتي ، ولكنهُ هو الذي يفصلُني أيضًا عن ذاتي : إنهُ ينخُرُ في قلبي ويحفِرُ في أعماقِ وجودي ، فلا يلبثُ أن يفصِلَني عمَّا كنتُهُ ، وعمَّا أريدُ أن أكونَهُ ، وعمَّا أودُّ أن أفعلَهُ ! وهكذا تصبحُ الذاتُ في كلِّ لحظةٍ مجردَ ناظرٍ أو متفرجٍ يشهدُ الأفعالَ التي حققَها ، والتي لم يعُدْ في وسعِهِ أن يُغيِّرَ من مجراها ... لقد كنتُ شابًّا ، ثم انتزعَ الزمانُ شبابي ، ولكنَّ هذا الشبابَ الضائعَ لم يعُدْ - من أجلِ هذا - شيئًا غريبًا عني وليسَ مِلكي ، وإنما هو مني بمثابةِ شيءٍ أتعرَّفُ فيهِ على ذاتيَ الماضيةِ وكأنَّ ذاتًا أخرى كنتُ أملِكُها تستعرضُ نفسَهـا أمـامَ ذاتـيَ الحـاضرةِ التـي أملِكُها!
فالزمانُ كالذاتِ ـ اتصالٌ وانفصالٌ ، تقاربٌ وتباعدٌ ، حضورٌ وغيابٌ ! ونحنُ نستعملُ الزمانَ أحيانًا للإشارةِ إلى الِاستمرارِ والدوامِ ، ولكننا نستعملُهُ أحيانًا أخرى للإشارةِ إلى الِانفصالِ والِابتعادِ : ألسنا نقولُ مثلًا إنَّ هذه المدينةَ تقعُ على بُعدِ ثلاثِ ساعاتٍ من العاصمةِ ، أو إنَّ هذا العملَ يستغرقُ في تحقيقِهِ ثلاثةَ أيامٍ .. إلخ ؟
إننا نتوهَّمُ في كثيرٍ من الأحيانِ أنَّ الزمانَ هو كالمكانِ ؛ مجردُ حدٍّ من حدودِ الإنسانِ ! ألسنا نقيسُ الزمانَ بالساعاتِ والأيامِ والشهورِ والسنينَ ، كما نقيسُ المكانَ بالأبعادِ والأطوالِ والأحجامِ والمساحاتِ ؟ ألَمْ يحاولْ بعضُ الروائيينَ أن يتصوَّرَ آلةً يتحركُ فيها المرءُ عبرَ الزمانِ ، كما يتحركُ في الطائرةِ أو القطارِ أو الباخرةِ عبرَ المكانِ ؟ ولكننا ننسى أنَّ التحركَ في المكانِ هو مجردُ ابتعادٍ ، وأما التحركُ في الزمانِ فإنهُ ابتعادٌ وليس افتراقًا ! أجلْ ، إنَّ الزمانَ ينأى بنا عن ماضينا ، ولكنهُ لا يفصلُنا تمامًا عن هذا الماضي . ولو لم يكُنِ الماضي حِملًا ثقيلًا يَرِينُ على كاهلِ الإنسانِ ، لَمَا كانَ الزمانُ قيدًا بغيضًا أو حدًّا أليمًا . فنحنُ نضيقُ ذَرعًا بالزمانِ لأننا نشعرُ بأنهُ لا يسيرُ إلا في اتجاهٍ واحدٍ ، ولا يقبلُ الإعادةَ بأيِّ حالٍ من الأحوالِ ، ولا سبيلَ إلى مَحوِهِ أوِ القضاءِ عليهِ ... وربما كانَ أقسى ألمٍ يعانيهِ الإنسانُ هو ذلكَ الألمُ المُنبعِثُ منِ استحالةِ عودةِ الماضي ، وعجزِ الإنسانِ في الوقتِ نفسِهِ عن إيقافِ سَيرِ الزمانِ ! حقًّا إنَّ الزمانَ ينتزِعُ منا رويدًا رويدًا كلَّ ما سبَقَ لهُ أن منحَنا ، ولكنَّ تجرِبةَ الشيخوخةِ الأليمةَ كثيرًا ما تُشعِرُ الذاتَ البشريةَ في حدةٍ وقسوةٍ ومرارةٍ بأنهُ هيهاتَ للمفقودِ أن يعودَ ! وإنَّا لنُحاولُ في حياتِنا العاديةِ أن ننسى الزمانَ أو نتناساهُ بأيِّ ثمنٍ ، ولكنَّ كلَّ ما في التجرِبةِ ينطِقُ باسمِ الزمانِ ، وكلَّ ما في الزمانِ يُذكِّرُنا بالفَناءِ ! أليستِ الحياةُ بالنسبةِ إلينا إنْ هيَ إلا دفنٌ مستمرٌّ لأجزاءٍ من شخصيتِنا وتاريخِنا وتجارِبِنا وحالاتِنا النفسيةِ ؟ ألا يُعفِّي الزمنُ على سعادتِنا الماضيةِ ، حتى ليكادَ يطمِسُ معالِمَها ويجعلُ منها مجردَ ذكرياتٍ باهتةٍ ؟ ومع ذلك ألسْنا نندَمُ على تلك السعادةِ الماضيةِ ، ونُؤنِّبُ أنفسَنا لأننا عِشناها في غفلةٍ ومن دونِ حسابٍ ؟ ألسْنا نتحسَّرُ على ذلك الماضي الذي انقضى سريعًا كعُمرِ الزهورِ ، ونتمنَّى على اللهِ لو أُتيحَتْ لنا الفرصةُ لأنْ نستعيدَهُ ولو في لحظةٍ إلهيةٍ خاطفةٍ؟
بيدَ أننا ـ لحُسنِ الحظِّ أو لسُوئِهِ ـ نعرفُ أنَّ في كلِّ لحظةٍ حاسمةٍ من لحظاتِ حياتِنا شيئًا سحريًّا لا يقبلُ الإعادةَ ، أو عنصرًا فريدًا هيهاتَ أنْ يجوزَ عليهِ التَّكرارُ ! ومن هنا فإننا نشعرُ بجديةِ الزمانِ حينما يكونُ علينا أن نُحقِّقَ فعلًا ما نعلمُ مقدمًا أنهُ لن يكونَ في وسعِنا من بعدِ ذلك أنْ نمحوَ آثارَهُ . وعلى الرغمِ من أننا نعرفُ أننا كائناتٌ متناهيةٌ لا تملِكُ المُطلَقَ ، فإننا نحسُّ في بعضِ اللحظاتِ بأنَّ شخصيتَنا هي نسيجٌ وحدَها ، وأنَّ فيما تُحقِّقُهُ شيئًا منَ : المُطلَقِ ! وربما كانَ أعجبُ ما في الإنسانِ أنهُ قد يستطيعُ أن يسموَ بنفسِهِ فوقَ الطبيعةِ ، أو أن يُحقِّقَ من أفعالِ البطولةِ ما لا طاقةَ لغيرِ الآلهةِ بهِ ، أو أن يُضحِّيَ بذاتِهِ في سبيلِ الآخرينَ ، ولكنَّ هذا كلَّهُ هيهاتَ أن يدومَ أكثرَ من ثانيةٍ ! إنهُ يملِكُ القدرةَ على أن يعلُوَ على الإنسانِ ، ولكنْ في لمحةٍ سريعةٍ خاطفةٍ كالبرقِ ، أو في ومضةٍ عابرةٍ زائلةٍ كطرفةِ عينٍ ! والواقعُ أنَّ الزمانَ واقفٌ لنا بالمرصادِ ؛ فهو يُشعِرُنا بأنهُ هيهاتَ لنا أن نَفلِتَ من طائلةِ الصيرورةِ ، أو أن نخرُجَ على دوامةِ الحياةِ ! ويأبى الإنسانُ إلا أن يُكذِّبَ الزمانَ ، فيُحقِّقَ من أفعالِ التضحيةِ أو المحبةِ أو الإيثارِ أو الشجاعةِ أو الحدسِ ما يحملُهُ على أعناقِ الأبديةِ إلى مصافِّ الآلهةِ ، ولكنَّ هذه الأفعالَ سُرعانَ ما تنطفئُ كالشرارةِ الخاطفةِ التي ما تكادُ تشتعلُ حتى تذرُوَها الرياحُ وتُخمِدَها العاصفةُ ! وهكذا يجيءُ الزمانُ فيُشعِرُنا بأننا لم نُخلَقْ للأبديةِ ، ولم نُجعَلْ للمُطلَقِ ، ولم نُجبَلْ للقداسةِ ! إنَّ الإلهـامَ المبـدعَ قد يُتيحُ للعبقريِّ أن يكتبَ "الكوميديا الإلهيةَ " ، ولكنهُ لن يُحرِّرَهُ من أجلِ ذلك من شتى ضروراتِ الطعامِ والشرابِ ! وقد تعلو بنا أفعالُ البطولةِ والشجاعةِ أو التضحيةِ ـ في لحظةٍ سريعةٍ خاطفةٍ ـ فوقَ الظروفِ الِاجتماعيةِ والدوافعِ الغريزيةِ ، ولكنها لن تُعفِيَنا لهذا السببِ من جَبريةِ القوانينِ ( كالثِّقَلِ مثلًا ) ولا من قضاءِ الموتِ!
الزمانُ إذنْ هو الذي يُشعِرُنا بما فينا مِن ضعفٍ ، ونقصٍ ، وتناهٍ ، ونسبيةٍ ، وعرَضِيةٍ ... إلخ . وعبثًا يحاولُ الإنسانُ أن يُلقيَ في روعِ نفسِهِ أنهُ هو المُطلَقُ ، فإنَّ نظرةً واحدةً يُلقيها على صورتِهِ وقدِ انعكستْ فوقَ غديرِ الزمانِ ، هي الكفيلةُ بأنْ تُبيِّنَ لهُ أنهُ كائنٌ مسيخُ الخلقةِ لا رأسَ لهُ ولا ذنَبَ ! وما أشبهَ الموجودَ البشريَّ بذلكَ المتفرجِ الذي مهما حاولَ أن يشهَدَ العرضَ من أوَّلِهِ ، فإنهُ لا بدَّ من أن يجيءَ إلى المشهدِ ليجدَ أنَّ العرضَ قدِ ابتدَأَ منذُ مدةٍ ؛ ومهما حاولَ أن يُجبِرَ نفسَهُ على أن يشهَدَ الروايةَ حتى النهايةِ ، فإنهُ لا بدَّ من أن يجدَ نفسَهُ خارجَ الصالةِ قبلَ أن يكونَ قد شهِدَ الخاتمةَ !
ومن هنا فقدْ آبَ الإنسانُ من كلِّ هذهِ الجوَلاتِ الميتافيزيقيةِ في رُبوعِ الوجودِ ؛ مهيضَ الجناحَينِ ذليلَ النفسِ خائبَ الأملِ ، وكأنما عزَّ عليهِ أن يظِلَّ أبدَ الدهرِ صريعَ الزمانِ !
وأجالَ الإنسانُ بصرَهُ فيما حولَهُ ، فلم يلبثْ أن تحقَّقَ من أنَّ كلَّ ما في الوجودِ هو مثلُهُ فريسةٌ للتغيُّرِ والصيرورةِ والتناهي والفَناءِ ! حقًّا إنَّ الزمانَ هو الذي يُنضِجُ الثمرةَ ، ولكنهُ هو الذي يُصيبُها بالتلفِ والخَسارةِ ، والزمانَ أيضًا هو الذي يُعتِّقُ الخمرةَ ، ولكنهُ هو الذي يشيعُ فيها طعمَ المرارةِ ! فلسنا نحنُ وحدَنـا صرعى الزمانِ ، وإنما الزمانُ ـ كالموتِ ـ حقٌّ على كلِّ حيٍّ ، فهو يعملُ عملَهُ في كلِّ موجودٍ ، وهو ينخُرُ كالسوسةِ في باطنِ كلِّ كائنٍ محدودٍ ! ولكنَّ غيرَنا منَ الموجوداتِ ـ لحُسنِ الحظِّ ـ أعجزُ من أن يستشعرَ وَخزَ الزمانِ ، فهوَ ينعمُ بسعادةٍ هيهاتَ أن يعرفَها الإنسانُ ، بينما يظِلُّ ابنُ آدمَ طَوالَ مَحياهُ يتحسَّرُ على الماضي ، ويتلهَّفُ على المستقبلِ ، دون أن يكونَ في وسعِهِ يومًا أن يقبِضَ على الحاضرِ بجمعِ يدَيهِ ! حقًّا إنَّ الأيامَ ـ كما يقولونَ ـ تتتابعُ دونَ أن تتشابهَ ، ولكن في تتابعِها نفسِهِ معنى التشابهِ ، لأنها تجلبُ علينا الآليةَ والرتابةَ والسأَمَ والمَلالَ ! وحينما نتحدثُ عنِ " السأَمِ " فإننا لا نتحدثُ عن شيءٍ دخيلٍ على الحياةِ البشريةِ ، بل عن عنصرٍ هامٍّ من مُقوِّماتِ وجودِنا البشريِّ بوصفِهِ وجودًا متناهيًا متناقضًا يتذبذبُ دائمًا : بینَ الِامتلاءِ والخَواءِ ، بينَ السعادةِ والشقاءِ ! وحينَ يسأَمُ الإنسانُ فإنهُ لا بدَّ من أن يشعرَ بالحاجةِ إلى قتلِ الوقتِ ، ومن هنا فقدِ اضطُرَّ الإنسانُ إلى أن يبتدِعَ حِيَلًا ينفُضُ بها عن نفسِهِ غبارَ المللِ بأن يُنفِقَ من وقتِهِ دونَ حسابٍ ! وهكذا تفنَّنَ بنو البشرِ في خلقِ وسائلِ التسليةِ ، ولكنهم سُرعانَ ما تحقَّقوا من أنَّ التسليةَ نفسَها لا بدَّ بدورِها من أن تُولِّدَ السأَمَ ، أعني أنَّ المرءَ لا يسأَمُ فحسبُ ، وإنما هو يسأمُ من التسليةِ أيضًا ! ولعلَّ هذا هو ما عناهُ بولْ فاليري Valery حينما وصفَ السأَمَ في كتابِهِ ( الروحُ والرقصُ ) فقالَ : " هذا المرضُ الذي هو مرضُ الأمراضِ ، وهذا السُّمُّ الذي هو سُمُّ السمومُ ؛ هذا السُّمُّ المضادُّ للطبيعةِ كلِّها ، إنما هو ما نُسمِّيهِ بالسأَمِ من الحياةِ ! إنه ليس بالمَلَلِ العارضِ ، مللِ التعبِ والكَلالِ أو المللِ الذي يمكنُ رؤيةُ أصلِ جرثومتِهِ أو الوقوفِ على حدودِهِ ، بل هو السأَمُ الكاملُ ، السأَمُ الخالصُ ، الذي لا يرجعُ منشؤُهُ إلى سوءِ الحظِّ أو المرضِ أو الضعفِ ، ويرضى بتأملِ أسعدِ ما يمكنُ من الظروفِ ، وأخيرًا هو هذا السأَمُ الذي ليسَ له مادةٌ سوى الحياةِ نفسِها ، وليس له سببٌ بعدَ ذلك سوى وضوحِ بصيرةِ الحيِّ ، هذا السأَمُ المُطلَقُ ليسَ في ذاتِهِ إلا الحياةُ عاريةً تمامًا ، إذا نظرَتْ إلى نفسِها بوضوحٍ .
والواقعُ أننا مهما حاولْنا أن نجعلَ حياتَنا مليئةً خصبةً ، فلا بدَّ من أن تجيءَ علينا لحظاتٌ نستشعرُ فيها العَوَزَ والخَلاءَ ، ومن ثم السأَمَ والمَلالَ . وإذا كانَ من شأنِ الفعلِ الذي يتحقَّقُ في ( الآنْ ) ، L'instant ، أن يُنسِيَنا الزمانَ ، فإنَّ من شأنِ المللِ الذي يقترنُ بالقلقِ أن يزيدَ من حدةِ شعورِنا بالزمـانِ . ومعنى هذا أننـا ـ كـمـا لاحـظَ شوبنهورْ – قلَّما نشعرُ بالزمانِ في لحظاتِ اللهوِ والسرورِ ، وإنما نحنُ نشعرُ بهِ على وجهِ الخصوصِ في لحظاتِ الضجرِ والألمِ والمللِ . وحينما يستبدُّ المللُ بالنفسِ البشريةِ ، فهنالك يشعرُ الإنسانُ بالخلاءِ ، والخَواءِ ، والضجَرِ ، والتبرُّمِ ، وضِيقِ الصدرِ ، وعدمِ الِاكتراثِ ! وليسَ أشَقَّ على الإنسانِ من أن يصارعَ المللَ ، فإنَّ الصراعَ ضدَّ المللِ هو صراعٌ ضدَّ الزمانِ نفسِهِ ، فضلًا عن أنهُ كثيرًا ما يكونُ المللُ غيرَ ذي موضوعٍ ! ألا يشعرُ المرءُ أحيانًا بسأَمٍ غريبٍ لا يعرفُ مصدرَهُ ، ولا يقوى على صدِّهِ ، فلا يجدَ بدًّا من أن يستسلمَ لذلكَ العذابِ النفسيِّ الذي لا موضوعَ لهُ سوى الحياةِ نفسِها ؟ وإذنْ أفلا يحقُّ لنا أن نقولَ إنَّ الزمانَ بما فيهِ من صيرورةٍ ورتابةٍ وتَكرارٍ هو الذي يجعلُ منَ السأَمِ جزءًا لا يتجزَّأُ من صميمِ وجودِنا ؟
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط الخاصة بنا وملفات تعريف الارتباط الخاصة بالجهات الخارجية حتى نتمكن من عرض هذا الموقع وفهم كيفية استخدامه بشكل أفضل ، بهدف تحسين الخدمات التي نقدمها. إذا واصلت التصفح ، فإننا نعتبر أنك قبلت ملفات تعريف الارتباط.