الإنسان والزمان

2023-12-06

الإنسان والزمان

 

ليسَ أقسى على الموجـودِ الـذي يمـلِكُ الحريةَ ، ويحِنُّ إلى الأبديةِ ، من أن يشعُرَ بأنَّ لحريتِهِ حدودًا ، وأنَّ الزمانَ يُنشِبُ أظفـارَ الفَناءِ في عُنُقِهِ ، وأنَّ التناهيَ هو نسيجُ وجودِهِ! " وَيْحِي أنـا الإنسانَ الشقيَّ ! مَن يُنقِذُني من جسدِ هذا المـوتِ ؟ " :

هكذا صرخَ القديسُ بولسْ حينمـا أدرَكَ ما في الوجـودِ البشريِّ من شرٍّ ، ونقْصٍ ، ونسبيةٍ ، وعـدمِ اكتفاءٍ ، وإحالةٍ مستمرةٍ إلى  الآخَرِ  ! ألـيسَ الإنسانُ هو ذلك الموجـودُ الزائـلُ الـذي يعيشُ في الزمانِ ، فلا نستطيـعَ أن نقولَ عنهُ إنهُ كائنٌ ، وإنما لا بدَّ من أن نقولَ عنهُ دائمًا إنهُ سيكونُ ! أليسَ الإنسانُ هو تلك الخليقةُ الفانيةُ التي تجِدُ نفسَها دائمًـا فريسةً للصَّيرورةِ المستمرةِ ، فلا تزالَ في دورِ التكـويـنِ حتى يُفاجِئَهـا المـوتُ فتُصبِحَ ماضيًا بحتًا؟ أجـلْ ، ولكنَّ الإنسانَ أيضًا هو ذلك الكائنُ والمُتـوسِّطُ ، الـذي يجِدُ نفسَهُ محصورًا بيـنَ الألفِ والياءِ : بينَ البدايةِ والنهايةِ ، بيـنَ لا وجـودَ قبـلَ الوِلادةِ ولا وجـودَ بعـدَ الموتِ ! إنهُ الكائـنُ المُـدنَّسُ الـذي قد جُعِـلَ للطهارةِ ، الكائنُ المُضطرِبُ الذي قد خُلِقَ للنِّظامِ ، الكائنُ المُتعـدِّدُ الـذي لا يفتَأُ يَنشِدُ الوَحـدةَ ، الكائنُ المتناقضُ الذي يريدُ أن يمزُجَ ما فيـهِ من أخلاطٍ عديدةٍ بنِسَبٍ متكافئةٍ حتى يُركِّبَ منهـا مزيجًـا واحــدًا يُشعِرُهُ بالتكاملِ والتوازنِ والِانسجـامِ والتوافـقِ !

D1c4c51b Cfd4 458e 8bde Ece9606a2930

وينظـرُ الفيلسوفُ إلى الإنسانِ ، فيحاولُ أن يُرجِعَ ما فيهِ من تعـدُّدٍ إلى الوَحدةِ ، ويسعى جاهـدًا في سبيلِ ردِّ ما فيهِ من مظاهرَ متباينةٍ إلى حقيقةٍ واحدةٍ أصليـةٍ ؛ ولكنـُه سُرعانَ ما يتحقَّقُ من أنَّ الإنسانَ هو في صميمِهِ كـائـنٌ هجيـنٌ ، خليـطٌ ، مُولَّدٌ ! وربما كانَ أعجَبُ ما في الإنسانِ هو أنهُ موجودٌ مزدوجٌ يُمزِّقُهُ الخلافُ بينَ النفسِ والبدنِ ! إنهما زوجانِ عصبيانِ لا يعرفانِ ماذا يريدانِ : فهُما لا يستطيعانِ أنْ يعيشا معًا ، ولكنهما أيضًا لا يملِكانِ الانفصالَ أحدُهما عنِ الآخرِ ! إنَّ اتحادَ النفسِ بالبدنِ هو كاتحادِ الرجلِ بالمرأةِ : فإنَّ الواحدَ منهما لا يستطيعُ أن يعيشَ مع الآخرَ ، ولكنهُ لا يستطيعُ أن يعيشَ بدونِهِ ! إنَّ كلًّا منهما يريدُ حضورَ الآخرِ ويريدُ غيابَهُ : فهو حينَ يكونُ معهُ ، يُبغِضُهُ ويمقُتُهُ ويتمردُ عليهِ ، وحينَ يكونُ بعيدًا عنهُ يحِنُّ إليهِ ويتحرَّقُ شوقًا إلى الِاجتماعِ بهِ ! أليسَ منَ الواضحِ إذنْ أننا نعيشُ في " تناقضٍ وجدانيٍّ " حادٍّ ، ما دُمنا نجدُ أنفُسَنا عاجزينَ عنْ الِاستغناءِ عمَّا نمقُتُهُ ونحقِدُ عليهِ ؟ .

ولكننا ـ سواءٌ أردْنا أو لم نُرِدْ ــ مضطرونَ إلى أنْ نحيا على هذا التناقضِ نفسِهِ ، فإنَّ وجودَنا في صميمِهِ إنْ هو إلا توترٌ بينَ الزمانِ والأبديةِ ، بينَ الحريةِ والضرورةِ ، بينَ التناهي واللانهائيةِ ، بين التعدُّدِ والوَحدةِ ، بينَ الجسمِ والروحِ ... إلخ . ونحنُ نسعى جاهدينَ في سبيلِ حلِّ ما في تجرِبتِنا منْ ضُروبِ تعارُضٍ عديدةٍ أليمةٍ ، ولكننا نشعرُ بأنَّ الثنائيةَ ضريبةٌ باهظةٌ قد فُرِضتْ علينا بوصفِنا موجوداتٍ هجينةً قد جُبِلَتْ من طينٍ ونورٍ ! وقد نتمردُ على قيودِنا ، وننزِعُ إلى تخطِّي حدودِنا ، ولكننا سُرعانَ ما نتحقَّقُ من أنهُ هيهاتَ للطيرِ أن يضرِبَ بأجنحتِهِ في أجوازِ الفضاءِ ، ما لم تكُنْ هناك جاذبيةٌ أرضيةٌ يستندُ إليها في صعودِهِ نحوَ السماءِ ! وإذن فقدْ يكونُ من الخيرِ لنا أن نتعرَّفَ حدودَنا ، بدلًا من أن نقتصرَ على التحرُّقِ شوقًا إلى ( المُطلَقِ ) ، فإنَّ هذه الحدودَ نفسَها هي الأسوارُ التي نُطِلُّ منها على ما وراءَ الحدودِ ، فنرى ( المُطلَقَ ) من بعيدٍ !

ستقولونَ إنهُ لا حرجَ على الإنسانِ إذا هو تجاهَلَ تلك ( الحدودَ ) ، فما أفادتِ الإنسانيةُ يومًا من كلِّ تلك التأملاتِ الفلسفيةِ العقيمةِ حولَ تناهي الموجودِ البشريِّ ، وبُطلانِ الحياةِ البشريةِ ، وتفاهةِ بني البشرِ ! ألا يشهدُ التاريخُ البشريُّ ـ باعترافِكم أنتم يا معشرَ الفلاسفةِ ـ بأنَّ حدودَ الإنسانِ قد تراجعتْ عصرًا بعدَ عصرٍ ، فما كان يراهُ الأقدمونَ عائقًا منيعًا لا سبيلَ إلى اجتيازِهِ ، أصبحنا نستهينُ به اليومَ بعدَ أن أُتيحتْ لنا الفرصةُ لأنْ نُذلِّلَهُ ونتغلبَ عليهِ ؟ وإذنْ فمـا جـدوى إقامةِ السدودِ والحـدودِ في وجهِ ذلك الموجودِ العاتي الذي يُحطِّمُ شتى القيودِ ؟ أليس الأجدى علينا وعليكم أن ننسى ـ أو نتناسى ـ كلماتِ التناهي والشرِّ والفَناءِ ، لكن نقولُ مع بعضِ مُفكِّري هذا العصرِ إنَّ بطلَ القرنِ العشرينَ لم يعدْ هو الشيطانُ ، ولا هو اللهُ ، ولا هو بروميثيوسْ ، وإنما قد أصبحَ هو الإنسانُ ؟ أليسَ من الأفضلِ لنا ولكُم أن نعملَ على خلقِ الإنسانِ الجديدِ  ، بدلًا من أن نَجتزِئَ بالتحسُّرِ على الضَّعفِ البشريِّ ، وإبرازِ مناحي هذا الضعفِ ، وتجسيمِ ما يترتَّبُ عليهِ من نتائجَ ؟

تلك هي الِاعتراضاتُ التي تُثارُ في وجهِ كلِّ مَن تُحدِّثُهُ نفسُهُ بأنْ يُزيحَ النقابَ عن بعضِ حدودِ الإنسانِ  ، فإننا نحبُّ أن نوحيَ إلى أنفُسِنا بأنه ليس لإمكانياتِنا حدودٌ ، وأنه ليس في قاموسِ البشريةِ لفظُ " مُستحيلٌ " ! وإذا كانتْ بعضُ المذاهبِ الفكريةِ الحديثةِ قد لقِيَتْ رَواجًا كبيرًا عندَنا ، فذلك لأنها تُمجِّدُ الحريةَ ، وتُعلِي من شأنِ الإنسانِ ، وتُنادي بأننا نحنُ الذينَ نخلُقُ القِيَمَ ونُبدِعُ المعاييرَ ! ولا يقتصِرُ الإنسانُ الحديثُ على القولِ بأنَّ الإنسانيةَ لا تُثيرُ من المُشكلاتِ إلا ما هي قديرةٌ على حلِّهِ  . بل إننا نراهُ يُنادي على لسانِ نيتشهْ ( وغيرِهِ منَ الفلاسفةِ الإنسانيِّينَ ) بأننا قدِ اخترعْنا (اللهَ ) لكي نُغطِّيَ كلَّ ما لدينا من ضعفٍ ، ونُفسِّرَ كلَّ ما في تجرِبتِنا من ثغراتٍ !

ولكنَّ مشكلتَنا اليومَ ـ فيما يقولُ البعضُ ــ لم تعُدْ هي ما إذا كانَ في وسعِنا أن نؤمنَ باللهِ ، بل ما إذا كانَ في وسعِنا ( وبأيِّ معنًى  من المعاني ) أن نؤمنَ بالإنسانِ .

ويضيفُ إلى ذلك بعضُهم أنَّ معظمَنا اليومَ لم يعُدْ يؤمنُ بإلهٍ متعالٍ تكمُنُ فيه الحقيقةُ الأوليةُ الأبديةُ ، تلك الحقيقةُ التي من شأنِها أن تكونَ حقيقيةً قبلَ الإنسانِ، وحقيقيةً أيضًا بعدَ الإنسانِ ، فلا يكونَ هو منها إلا بمثابةِ المُستأمَنِ على وديعةٍ ؛ وإنما أصبَحَ الإنسانُ في نظرِنا من الآنَ فصاعدًا هو الذي يخلُقُ حقيقتَهُ ويُوجِّهُ مصيرَهُ في صراعٍ عنيفٍ من أجلِ الوصولِ إلى ذاتِهِ  !

حسنًا ، ولكنْ هلْ يكونُ معنى هذا أن نُضْرِبَ صَفْحًا عن كلِّ ما تزخَرُ به تجرِبةُ ذلك الموجودِ البشريِّ من ( مواقفَ وجوديةٍ ) هامَّةٍ تُعبِّرُ عن عَلاقاتِهِ بالعالمِ والآخَرينَ والوجودِ العامِّ نفسِهِ ؟ هل نُخرِسُ لسانَ بسكالْ مثلًا حينما يتساءلُ في خطَراتِهِ فيقولُ:

"حينما أتأملُ الأمَدَ القصيرَ الذي كُتِبَ عليَّ أن أحياهُ ؛ ذلك الأمدَ المُستغرِقَ في الأزليةِ السابقةِ والأبديةِ اللاحقةِ ، وحينما أفكرُ في ذلك الحيزِ الصغيرِ الذي أشغَلُهُ ( بل وأشهدُهُ أيضًا ) ؛ ذلك الحيزِ الغارقِ في محيطٍ لا نهائيٍّ من العوالِمِ التي تجهلُني وأجهلُها ، فإنهُ سُرعانَ ما يتملَّكُني عندئذٍ الشعورُ بالرعبِ والدهشةِ ؛ إذْ أراني هنا بدلًا من أن أكونَ هناك ؛ في حينِ أنهُ ليسَ من سببٍ لأن أكونَ هنا ولا هناك ، وليس من مُبرِّرٍ لأن أُوجَدَ الآنَ وليسَ في أيِّ عصرٍ آخَرَ ! فمَنِ الذي وضعَني هنا ، ومَنِ الذي أرادَ ليْ أن أكونَ في هذا المكانِ بالذاتِ ، وفي هذا الزمانِ دونَ سواهُ ؟ هل نُحطِّمُ لوحةَ جوجانْ Gauguin المشهورةَ التي يتساءلُ فيها قائلًا : " مِن أين أتينا ؟ ومَن نكونُ ؟ وإلى أين نَمضي ؟  " . هل نخنُقُ في قلبِ الإنسانِ كلَّ صرخةٍ تنبعِثُ من أعماقِ وجودِهِ ، حاملةً في طيَّاتِها معانيَ التساؤلِ والحَيرةِ والدهشةِ والقلقِ والألمِ والأملِ ؟ هل نكتفي بأن نقولَ للإنسانِ : " عِشْ ولا تسَلْ عن وجودِكَ ، واعملْ ولا تنظرْ إلى حدودِكَ " ؟

D2f4afd3 7c8e 4e88 Abd6 Ed92f52b2e2b

ولكنَّ الإنسانَ ـ سواءٌ أرادَ أو لم يُرِدْ ـــ موجودٌ يعيشُ في الزمانِ ، بل موجودٌ يعيشُ الزمانَ ، إن لم نقُلْ بأنهُ هو الزمانُ نفسُهُ ! وإنني لأشعرُ في كثيرٍ من اللحظاتِ بأن الزمانَ هو نسيجُ وجوديْ ، إن لم يكنْ هو قرارةُ نفسي : لأنني حينما أهَبُ شخصًا أو شيئًا جانبًا من وقتي ، فإنني عندئذٍ إنما أمنحُهُ بِضعةً من نفسي ، وحينما أُضَيِّعُ وقتي أو أُبَذِّرُ لحظاتي ، فإنني في الحقيقةِ إنما أُضيِّعُ ذاتي وأفقِدُ حياتي ! وقد يتملَّكُني الشعورُ أحيانًا بأنني أفقِدُ ذاتي خلالَ ما يمرُّ عليَّ من لحظاتٍ متعاقبةٍ لا أستطيعُ أن أملأَها ، فتراني عندئذٍ أعملُ جاهدًا في سبيلِ الإمساكِ بكلِّ لحظةٍ واستبقائِها على حِدةٍ ، حتى يكونَ في وِسعي أن أُحقِّقَ خلالَها بعضَ ما أريدُ ! ولكنَّ كلَّ لحظةٍ من لحظاتِ الزمانِ تأبى إلا أن تلحَقَ بسابقاتِها ، أعني أنها ما تكادُ تطوفُ بي حتى تَفلِتَ من بينِ يديَّ ، دونَ أن يكونَ في وِسعيَ العدوُ وراءَها أو اللِّحاقُ بها !

وهكذا يشعرُ الإنسانُ بأنَّ لحظاتِ الزمانِ هي أشبهُ ما تكونُ بقطراتِ الماءِ ، فهيَ تتساقطُ من بينِ أصابعِنا ، دونَ أن نقوى على استبقائِها أو امتلاكِها أو القبضِ عليها بجمعِ أيدينا ! أليس الزمانُ هو استحالةُ الإعادةِ ، وامتناعُ الرجعةِ ؟ ألا تفُوتُ الفرصُ ويُولِّي الشبابُ ، وتنقضي لحظاتُ السعادةِ ، دونَ أن يكونَ في وسعِ المرءِ يومًا أن يُثبِّتَها أمامَ ناظرَيْهِ ، أو أن يسترجعَها حيةً نابضةً أمامَ شعورِهِ ؟ وا حسرتاهُ أيها الإنسانُ ! فإنَّ الماضيَ لا يعودُ ، والشبابَ المديرَ لا رجعةَ لهُ ، والسعادةَ الهاربةَ لا تُقتنَصُ من جديدٍ ، ونحنُ مجعولونَ لعبادةِ ما لمْ نرَهُ مرتَينِ !

"أيتها الأرضُ قِفي دورانَكِ ! وأنتِ أيتها الساعاتُ قِفي جريانَكِ ! ودعينا نتمتعُ بعاجلِ لذَّاتنا ، وننعمُ بأجملِ أيامِ شبابِنا .. على أنني يا ويلتاهُ كلما لَجَجْتُ في الطلبِ ، لجَّ الزمانُ في الهربِ ، فليسَ لسفينةِ الإنسانِ مرفَأٌ ، ولا لخضمِّ الزمانِ ساحلٌ : إنَّ الزمانَ ليتدفَّقُ ، وإنَّا مع تيارِهِ نمُرُّ ونمضي ... " هكذا صرخَ لامارتينْ في لوعةٍ وحرقةٍ ، حينما وجدَ نفسَهُ صريعًا لأمواجِ الزمانِ تدفعُهُ في ظلامِ الأبدِ من شاطئٍ إلى شاطئٍ ، دونَ أن يملِكَ الرجوعَ إلى ملجأٍ ، أو الرُّسُوَّ ذاتَ يومٍ على مرفأٍ ! والواقعُ أنَّ الذاتَ التي تحيا في الزمانِ لا بدَّ من أن تشعرَ بأنها محصورةٌ في ( الآنْ ) ، بينَ الـ ( قبلْ) ، والـ (بعدْ) ، بينَ الماضي والمستقبلِ ، بينَ يومِ الولادةِ ويومِ الموتِ ، بينَ اللاوجودِ الأصليِّ الذي صدَرَتْ عنهُ واللاوجودِ النهائيِّ الذي لا بدَّ أن تنحدِرَ إليهِ ! ونحنُ نُولَدُ ، لكيلا يلبثَ الزمانُ أنْ يستلِمَنا ، ثم هو ما يكادُ يستلمُنا حتى يلتهمَنا ! وقديمًا تعبَّدَ الإنسانُ للشمسِ ، لا لأنها مبعَثُ الحياةِ فحسبُ ، بل لأنها لسانُ حالِ الزمانِ أيضًا ! أليستِ الشمسُ هي التي تفرضُ علينا إيقاعَ النهارِ والليلِ ، ودوراتِ الفصولِ على مرِّ السنينَ ؟

إنَّ الزمانَ هو قرارةُ ذاتي ، ولكنهُ هو الذي يفصلُني أيضًا عن ذاتي : إنهُ ينخُرُ في قلبي ويحفِرُ في أعماقِ وجودي ، فلا يلبثُ أن يفصِلَني عمَّا كنتُهُ ، وعمَّا أريدُ أن أكونَهُ ، وعمَّا أودُّ أن أفعلَهُ ! وهكذا تصبحُ الذاتُ في كلِّ لحظةٍ مجردَ ناظرٍ أو متفرجٍ يشهدُ الأفعالَ التي حققَها ، والتي لم يعُدْ في وسعِهِ أن يُغيِّرَ من مجراها ... لقد كنتُ شابًّا ، ثم انتزعَ الزمانُ شبابي ، ولكنَّ هذا الشبابَ الضائعَ لم يعُدْ - من أجلِ هذا - شيئًا غريبًا عني وليسَ مِلكي ، وإنما هو مني بمثابةِ شيءٍ أتعرَّفُ فيهِ على ذاتيَ الماضيةِ وكأنَّ ذاتًا أخرى كنتُ أملِكُها تستعرضُ نفسَهـا أمـامَ ذاتـيَ الحـاضرةِ التـي أملِكُها!

فالزمانُ كالذاتِ ـ اتصالٌ وانفصالٌ ، تقاربٌ وتباعدٌ ، حضورٌ وغيابٌ ! ونحنُ نستعملُ الزمانَ أحيانًا للإشارةِ إلى الِاستمرارِ والدوامِ ، ولكننا نستعملُهُ أحيانًا أخرى للإشارةِ إلى الِانفصالِ والِابتعادِ : ألسنا نقولُ مثلًا إنَّ هذه المدينةَ تقعُ على بُعدِ ثلاثِ ساعاتٍ من العاصمةِ ، أو إنَّ هذا العملَ يستغرقُ في تحقيقِهِ ثلاثةَ أيامٍ .. إلخ ؟

إننا نتوهَّمُ في كثيرٍ من الأحيانِ أنَّ الزمانَ هو كالمكانِ ؛ مجردُ حدٍّ من حدودِ الإنسانِ ! ألسنا نقيسُ الزمانَ بالساعاتِ والأيامِ والشهورِ والسنينَ ، كما نقيسُ المكانَ بالأبعادِ والأطوالِ والأحجامِ والمساحاتِ ؟ ألَمْ يحاولْ بعضُ الروائيينَ أن يتصوَّرَ آلةً يتحركُ فيها المرءُ عبرَ الزمانِ ، كما يتحركُ في الطائرةِ أو القطارِ أو الباخرةِ عبرَ المكانِ ؟ ولكننا ننسى أنَّ التحركَ في المكانِ هو مجردُ ابتعادٍ ، وأما التحركُ في الزمانِ فإنهُ ابتعادٌ وليس افتراقًا ! أجلْ ، إنَّ الزمانَ ينأى بنا عن ماضينا ، ولكنهُ لا يفصلُنا تمامًا عن هذا الماضي . ولو لم يكُنِ الماضي حِملًا ثقيلًا يَرِينُ على كاهلِ الإنسانِ ، لَمَا كانَ الزمانُ قيدًا بغيضًا أو حدًّا أليمًا . فنحنُ نضيقُ ذَرعًا بالزمانِ لأننا نشعرُ بأنهُ لا يسيرُ إلا في اتجاهٍ واحدٍ ، ولا يقبلُ الإعادةَ بأيِّ حالٍ من الأحوالِ ، ولا سبيلَ إلى مَحوِهِ أوِ القضاءِ عليهِ ... وربما كانَ أقسى ألمٍ يعانيهِ الإنسانُ هو ذلكَ الألمُ المُنبعِثُ منِ استحالةِ عودةِ الماضي ، وعجزِ الإنسانِ في الوقتِ نفسِهِ عن إيقافِ سَيرِ الزمانِ ! حقًّا إنَّ الزمانَ ينتزِعُ منا رويدًا رويدًا كلَّ ما سبَقَ لهُ أن منحَنا ، ولكنَّ تجرِبةَ الشيخوخةِ الأليمةَ كثيرًا ما تُشعِرُ الذاتَ البشريةَ في حدةٍ وقسوةٍ ومرارةٍ بأنهُ هيهاتَ للمفقودِ أن يعودَ ! وإنَّا لنُحاولُ في حياتِنا العاديةِ أن ننسى الزمانَ أو نتناساهُ بأيِّ ثمنٍ ، ولكنَّ كلَّ ما في التجرِبةِ ينطِقُ باسمِ الزمانِ ، وكلَّ ما في الزمانِ يُذكِّرُنا بالفَناءِ ! أليستِ الحياةُ بالنسبةِ إلينا إنْ هيَ إلا دفنٌ مستمرٌّ لأجزاءٍ من شخصيتِنا وتاريخِنا وتجارِبِنا وحالاتِنا النفسيةِ ؟ ألا يُعفِّي الزمنُ على سعادتِنا الماضيةِ ، حتى ليكادَ يطمِسُ معالِمَها ويجعلُ منها مجردَ ذكرياتٍ باهتةٍ ؟ ومع ذلك ألسْنا نندَمُ على تلك السعادةِ الماضيةِ ، ونُؤنِّبُ أنفسَنا لأننا عِشناها في غفلةٍ ومن دونِ حسابٍ ؟ ألسْنا نتحسَّرُ على ذلك الماضي الذي انقضى سريعًا كعُمرِ الزهورِ ، ونتمنَّى على اللهِ لو أُتيحَتْ لنا الفرصةُ لأنْ نستعيدَهُ ولو في لحظةٍ إلهيةٍ خاطفةٍ؟

 بيدَ أننا ـ لحُسنِ الحظِّ أو لسُوئِهِ ـ نعرفُ أنَّ في كلِّ لحظةٍ حاسمةٍ من لحظاتِ حياتِنا شيئًا سحريًّا لا يقبلُ الإعادةَ ، أو عنصرًا فريدًا هيهاتَ أنْ يجوزَ عليهِ التَّكرارُ ! ومن هنا فإننا نشعرُ بجديةِ الزمانِ حينما يكونُ علينا أن نُحقِّقَ فعلًا ما نعلمُ مقدمًا أنهُ لن يكونَ في وسعِنا من بعدِ ذلك أنْ نمحوَ آثارَهُ . وعلى الرغمِ من أننا نعرفُ أننا كائناتٌ متناهيةٌ لا تملِكُ المُطلَقَ ، فإننا نحسُّ في بعضِ اللحظاتِ بأنَّ شخصيتَنا هي نسيجٌ وحدَها ، وأنَّ فيما تُحقِّقُهُ شيئًا منَ : المُطلَقِ  ! وربما كانَ أعجبُ ما في الإنسانِ أنهُ قد يستطيعُ أن يسموَ بنفسِهِ فوقَ الطبيعةِ ، أو أن يُحقِّقَ من أفعالِ البطولةِ ما لا طاقةَ لغيرِ الآلهةِ بهِ ، أو أن يُضحِّيَ بذاتِهِ في سبيلِ الآخرينَ ، ولكنَّ هذا كلَّهُ هيهاتَ أن يدومَ أكثرَ من ثانيةٍ ! إنهُ يملِكُ القدرةَ على أن يعلُوَ على الإنسانِ ، ولكنْ في لمحةٍ سريعةٍ خاطفةٍ كالبرقِ ، أو في ومضةٍ عابرةٍ زائلةٍ كطرفةِ عينٍ ! والواقعُ أنَّ الزمانَ واقفٌ لنا بالمرصادِ ؛ فهو يُشعِرُنا بأنهُ هيهاتَ لنا أن نَفلِتَ من طائلةِ الصيرورةِ ، أو أن نخرُجَ على دوامةِ الحياةِ ! ويأبى الإنسانُ إلا أن يُكذِّبَ الزمانَ ، فيُحقِّقَ من أفعالِ التضحيةِ أو المحبةِ أو الإيثارِ أو الشجاعةِ أو الحدسِ ما يحملُهُ على أعناقِ الأبديةِ إلى مصافِّ الآلهةِ ، ولكنَّ هذه الأفعالَ سُرعانَ ما تنطفئُ كالشرارةِ الخاطفةِ التي ما تكادُ تشتعلُ حتى تذرُوَها الرياحُ وتُخمِدَها العاصفةُ ! وهكذا يجيءُ الزمانُ فيُشعِرُنا بأننا لم نُخلَقْ للأبديةِ ، ولم نُجعَلْ للمُطلَقِ ، ولم نُجبَلْ للقداسةِ ! إنَّ الإلهـامَ المبـدعَ قد يُتيحُ للعبقريِّ أن يكتبَ "الكوميديا الإلهيةَ " ، ولكنهُ لن يُحرِّرَهُ من أجلِ ذلك من شتى ضروراتِ الطعامِ والشرابِ ! وقد تعلو بنا أفعالُ البطولةِ والشجاعةِ أو التضحيةِ ـ في لحظةٍ سريعةٍ خاطفةٍ ـ فوقَ الظروفِ الِاجتماعيةِ والدوافعِ الغريزيةِ ، ولكنها لن تُعفِيَنا لهذا السببِ من جَبريةِ القوانينِ ( كالثِّقَلِ مثلًا ) ولا من قضاءِ الموتِ!

الزمانُ إذنْ هو الذي يُشعِرُنا بما فينا مِن ضعفٍ ، ونقصٍ ، وتناهٍ ، ونسبيةٍ ، وعرَضِيةٍ ... إلخ . وعبثًا يحاولُ الإنسانُ أن يُلقيَ في روعِ نفسِهِ أنهُ هو المُطلَقُ ، فإنَّ نظرةً واحدةً يُلقيها على صورتِهِ وقدِ انعكستْ فوقَ غديرِ الزمانِ ، هي الكفيلةُ بأنْ تُبيِّنَ لهُ أنهُ كائنٌ مسيخُ الخلقةِ لا رأسَ لهُ ولا ذنَبَ ! وما أشبهَ الموجودَ البشريَّ بذلكَ المتفرجِ الذي مهما حاولَ أن يشهَدَ العرضَ من أوَّلِهِ ، فإنهُ لا بدَّ من أن يجيءَ إلى المشهدِ ليجدَ أنَّ العرضَ قدِ ابتدَأَ منذُ مدةٍ ؛ ومهما حاولَ أن يُجبِرَ نفسَهُ على أن يشهَدَ الروايةَ حتى النهايةِ ، فإنهُ لا بدَّ من أن يجدَ نفسَهُ خارجَ الصالةِ قبلَ أن يكونَ قد شهِدَ الخاتمةَ !

ومن هنا فقدْ آبَ الإنسانُ من كلِّ هذهِ الجوَلاتِ الميتافيزيقيةِ في رُبوعِ الوجودِ ؛ مهيضَ الجناحَينِ ذليلَ النفسِ خائبَ الأملِ ، وكأنما عزَّ عليهِ أن يظِلَّ أبدَ الدهرِ صريعَ الزمانِ !

وأجالَ الإنسانُ بصرَهُ فيما حولَهُ ، فلم يلبثْ أن تحقَّقَ من أنَّ كلَّ ما في الوجودِ هو مثلُهُ فريسةٌ للتغيُّرِ والصيرورةِ والتناهي والفَناءِ ! حقًّا إنَّ الزمانَ هو الذي يُنضِجُ الثمرةَ ، ولكنهُ هو الذي يُصيبُها بالتلفِ والخَسارةِ ، والزمانَ أيضًا هو الذي يُعتِّقُ الخمرةَ ، ولكنهُ هو الذي يشيعُ فيها طعمَ المرارةِ ! فلسنا نحنُ وحدَنـا صرعى الزمانِ ، وإنما الزمانُ ـ كالموتِ ـ حقٌّ على كلِّ حيٍّ ، فهو يعملُ عملَهُ في كلِّ موجودٍ ، وهو ينخُرُ كالسوسةِ في باطنِ كلِّ كائنٍ محدودٍ ! ولكنَّ غيرَنا منَ الموجوداتِ ـ لحُسنِ الحظِّ ـ أعجزُ من أن يستشعرَ وَخزَ الزمانِ ، فهوَ ينعمُ بسعادةٍ هيهاتَ أن يعرفَها الإنسانُ ، بينما يظِلُّ ابنُ آدمَ طَوالَ مَحياهُ يتحسَّرُ على الماضي ، ويتلهَّفُ على المستقبلِ ، دون أن يكونَ في وسعِهِ يومًا أن يقبِضَ على الحاضرِ بجمعِ يدَيهِ ! حقًّا إنَّ الأيامَ ـ كما يقولونَ ـ تتتابعُ دونَ أن تتشابهَ ، ولكن في تتابعِها نفسِهِ معنى التشابهِ ، لأنها تجلبُ علينا الآليةَ والرتابةَ والسأَمَ والمَلالَ ! وحينما نتحدثُ عنِ " السأَمِ " فإننا لا نتحدثُ عن شيءٍ دخيلٍ على الحياةِ البشريةِ ، بل عن عنصرٍ هامٍّ من مُقوِّماتِ وجودِنا البشريِّ بوصفِهِ وجودًا متناهيًا متناقضًا يتذبذبُ دائمًا : بینَ الِامتلاءِ والخَواءِ ، بينَ السعادةِ والشقاءِ ! وحينَ يسأَمُ الإنسانُ فإنهُ لا بدَّ من أن يشعرَ بالحاجةِ إلى قتلِ الوقتِ ، ومن هنا فقدِ اضطُرَّ الإنسانُ إلى أن يبتدِعَ حِيَلًا ينفُضُ بها عن نفسِهِ غبارَ المللِ بأن يُنفِقَ من وقتِهِ دونَ حسابٍ ! وهكذا تفنَّنَ بنو البشرِ في خلقِ وسائلِ التسليةِ ، ولكنهم سُرعانَ ما تحقَّقوا من أنَّ التسليةَ نفسَها لا بدَّ بدورِها من أن تُولِّدَ السأَمَ ، أعني أنَّ المرءَ لا يسأَمُ فحسبُ ، وإنما هو يسأمُ من التسليةِ أيضًا ! ولعلَّ هذا هو ما عناهُ بولْ فاليري Valery حينما وصفَ السأَمَ في كتابِهِ ( الروحُ والرقصُ ) فقالَ : " هذا المرضُ الذي هو مرضُ الأمراضِ ، وهذا السُّمُّ الذي هو سُمُّ السمومُ ؛ هذا السُّمُّ المضادُّ للطبيعةِ كلِّها ، إنما هو ما نُسمِّيهِ بالسأَمِ من الحياةِ ! إنه ليس بالمَلَلِ العارضِ ، مللِ التعبِ والكَلالِ أو المللِ الذي يمكنُ رؤيةُ أصلِ جرثومتِهِ أو الوقوفِ على حدودِهِ ، بل هو السأَمُ الكاملُ ، السأَمُ الخالصُ ، الذي لا يرجعُ منشؤُهُ إلى سوءِ الحظِّ أو المرضِ أو الضعفِ ، ويرضى بتأملِ أسعدِ ما يمكنُ من الظروفِ ، وأخيرًا هو هذا السأَمُ الذي ليسَ له مادةٌ سوى الحياةِ نفسِها ، وليس له سببٌ بعدَ ذلك سوى وضوحِ بصيرةِ الحيِّ ، هذا السأَمُ المُطلَقُ ليسَ في ذاتِهِ إلا الحياةُ عاريةً تمامًا ، إذا نظرَتْ إلى نفسِها بوضوحٍ .

والواقعُ أننا مهما حاولْنا أن نجعلَ حياتَنا مليئةً خصبةً ، فلا بدَّ من أن تجيءَ علينا لحظاتٌ نستشعرُ فيها العَوَزَ والخَلاءَ ، ومن ثم السأَمَ والمَلالَ . وإذا كانَ من شأنِ الفعلِ الذي يتحقَّقُ في ( الآنْ ) ، L'instant ، أن يُنسِيَنا الزمانَ ، فإنَّ من شأنِ المللِ الذي يقترنُ بالقلقِ أن يزيدَ من حدةِ شعورِنا بالزمـانِ . ومعنى هذا أننـا ـ كـمـا لاحـظَ شوبنهورْ – قلَّما نشعرُ بالزمانِ في لحظاتِ اللهوِ والسرورِ ، وإنما نحنُ نشعرُ بهِ على وجهِ الخصوصِ في لحظاتِ الضجرِ والألمِ والمللِ . وحينما يستبدُّ المللُ بالنفسِ البشريةِ ، فهنالك يشعرُ الإنسانُ بالخلاءِ ، والخَواءِ ، والضجَرِ ، والتبرُّمِ ، وضِيقِ الصدرِ ، وعدمِ الِاكتراثِ ! وليسَ أشَقَّ على الإنسانِ من أن يصارعَ المللَ ، فإنَّ الصراعَ ضدَّ المللِ هو صراعٌ ضدَّ الزمانِ نفسِهِ ، فضلًا عن أنهُ كثيرًا ما يكونُ المللُ غيرَ ذي موضوعٍ ! ألا يشعرُ المرءُ أحيانًا بسأَمٍ غريبٍ لا يعرفُ مصدرَهُ ، ولا يقوى على صدِّهِ ، فلا يجدَ بدًّا من أن يستسلمَ لذلكَ العذابِ النفسيِّ الذي لا موضوعَ لهُ سوى الحياةِ نفسِها ؟ وإذنْ أفلا يحقُّ لنا أن نقولَ إنَّ الزمانَ بما فيهِ من صيرورةٍ ورتابةٍ وتَكرارٍ هو الذي يجعلُ منَ السأَمِ جزءًا لا يتجزَّأُ من صميمِ وجودِنا ؟

التعليقات

أضف تعليقك

الكتاب

زكريا إبراهيم

زكريا إبراهيم

مفكر وكاتب مصري. ولد الدكتور زكريا إبراهيم في مدينة القاهرة في 24 يوليو 1924، حا…

أوراق ودراسات ذات صلة

مشاهدة المزيد
دين الرأسمالية (لاهوت النقود)
  • بينيات

دين الرأسمالية (لاهوت النقود)

جسد الَّذين أنعم الله عليهم
  • بينيات

جسد الَّذين أنعم الله عليهم

يا علبة الصبر:  كيف تورث الأغنية حكمة الأيام؟!
  • لا هذا ولا ذاك

يا علبة الصبر: كيف تورث الأغنية حكمة الأيام؟!

فرانسوا توسكييز وثورة الطب النفسي
  • تخصصات

فرانسوا توسكييز وثورة الطب النفسي

ملفات تعريف الارتباط

نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط الخاصة بنا وملفات تعريف الارتباط الخاصة بالجهات الخارجية حتى نتمكن من عرض هذا الموقع وفهم كيفية استخدامه بشكل أفضل ، بهدف تحسين الخدمات التي نقدمها. إذا واصلت التصفح ، فإننا نعتبر أنك قبلت ملفات تعريف الارتباط.