علوم اجتماعية منسية: التأصيل الاجتماعي للهوية الفلسطينية

2023-10-19

علوم اجتماعية منسية: التأصيل الاجتماعي للهوية الفلسطينية

 

تصدر مزيج تلك الورقة كافتتاحية لسلسلة أوراق ودراسات عنونتها بـ "فلسطين قضية الأمة". واخترنا أن نبدأ تلك السلسلة بالحديث عن ماهية العلوم الاجتماعية الفلسطينية من حيث: أولًا آثار نعرات الأنظمة العربية المُطبعة على العرق الفلسطيني، وثانيًا تمظهرات الاجتماع المعيشي المتأثر بعملية الفصل العنصري، تلك العملية التي ينتهجها الاحتلال بكل دأب، فيقابل كل ذلك - طبقًا لنظرية الصراع - قوى فلسطينية أكاديمية وشعبية تفتعل درجات الحفاظ على هوية مأزومة، والأنموذج الذي سنتعرض لطرحه والحديث عنه بتلك الورقة هو دائرة سليمان الحلبي للدراسات الاستعمارية والتحرر المعرفي.

آثار نعرات الأنظمة العربية المُطبعة:

 

قد أفادنا (محمد رفعت صادق) وقد كان أستاذًا للجغرافيا بالمدرسة السعيدية بالجيزة بزيارته لفلسطين قبل عامين من نشر كتابه "بحوث جغرافية"، وقد نشر الكتاب عام 1936 قبيل انطلاق الثورة الفلسطينية؛ بروعة المناظر الخلابة التي رآها، ويصف ذلك بأنه كرحالة مصري لم يرَ في جمال شجر الزيتون والزعتر والورود البديعة هناك مبديًا ملاحظته لكثرة اليهود هناك، وأنهم يخدمون من يريد، ويرضون بأي مبلغ زهيد تعطيه لهم، وأنهم أنشؤوا حديقة زاهية هناك اسمها تل أبيب.

 

وكم المعاني التي يمكننا استخراجها من ذلك النص لا تحتاج لتأويل أو تحليل أو تفسير، فهي واضحة للبيان، فكيفية التغلغل داخل العنصر العربي الأصيل، وعرض الخدمات مقابل الأموال الزهيدة استخدمتها الصهيونية كخطة مُثلى اعتقدتها، لإقناع شعبي عام لاستقبال المزيد من الجماعات اليهودية داخل فلسطين وصولًا لنكبة 1948. فتظهر لنا تلك الخطة الصهيونية مبادئ الفصل العنصري وكيف نشأت، فالتخطيط المحكم طويل الأمد والمنبني بدرجات عدة بدأت بالتقرب والمساعدة، ومن ثم إسناد الحق لهم، وغير ذلك مما لا يخفى على القارئ وليس هو موضوع ورقتنا الأساسي، قد ساهم في ذلك. لكننا سنطرح فرضًا مقاربًا للرواية سالفة الذكر، ولكن على نحو مغاير، حيث يمكن أن تصدقه تلك السلسلة من الأوراق والدراسات بنهايتها ويمكن أن تكذبه. والفرض البحثي هو: أن النعرات التي تدعي العروبية من الأنظمة المحيطة بفلسطين جاهدت حتى تصفي القضية، وتقضي على العرق الفلسطيني، إلا أنها ساعدت بقوة لتعميق الهوية الفلسطينية داخل الهويات العربية بأسلوب الإحلال والتجديد، حيث أضحت الهوية الفلسطينية هوية الكثير من مواطني الدول العربية بشكل يمكننا رؤيته واضحًا جليًّا إذا ما قارنَّا حجم الوعي بالقضية بين ثلاثة أجيال متتالية عبر مقاييس اجتماعية محكمة ومبينة، وسنتعرض لتلك الفرضية وقياساتها بمقالات لاحقة.

 

تمظهرات الاجتماع المعيشي المتأثر بعملية الفصل العنصري:

 

قد يتساءل القارئ عن جدوى إمكانية علم الاجتماع، وما يمكنه فعله للحفاظ على هوية فلسطينية، وهو علم غربي نشأ واشتد عوده عن طريق الاستشراق والاحتلال وما يدعونه بقول مصطلح (الاستعمار)، وهذا طرح صحيح فقد نشأت العلوم الاجتماعية بالنظر إلى العربي بل الشرقي بوجه عام كـ(آخر)[1] أقل إنسانية وأقرب للبُداءة، وهنا تنطرح على الطاولة العلمية وجهتا نظر، الأولى تتخذ من (ابن خلدون) تأصيلًا، حيث إنه أسس ذلك العلم وسماه علم العمران البشري، وبالتالي يسعى منتهجو ذلك المنظور إلى ربط قراءاتهم الاجتماعية الحالية وأدبياتهم بمصطلحات مقدمة ابن خلدون، ويسعون لتوفيق قد يبدو صعب التحقق. أما وجهة النظر الثانية فتعتمد على مفهومات الخصوصية الثقافية والتاريخية، وأن الشعوب كلها تأخذ العلوم من بعضها عن طريق الترجمة، وأنه لولا العلوم العربية القديمة لما أقام الغرب علومه الحديثة وتستمر السيرورة، وتتساوى أمام ذلك المنظور الثاني رؤوس ابن خلدون مع ماركس مع فوكو، والأهم وجود الباحث المنظِّر الذي يستطيع تطبيق ما يناسب مجتمعه، ويستطيع أيضًا التفريق بين الاستنتاجات الإنسانية العامة، وغيرها من الاستنتاجات الثقافوية التي تنطبق على شعب بعينه دون غيره.

 

وبذلك المنظور الثاني نستطيع النظر إلى العلوم الاجتماعية كأدوات مرنة طيعة، يستخدمها المتمرس لإنتاج القراءة الاجتماعية الخاصة بمجتمعه الذي يعيش فيه، دون أن تلوي النظرية عنق المجتمع، بل يتعدى الأمر ذلك إلى اقتباس المصطلحات البنيوية وإنتاج المفاهيم الخاصة بنا لتلك المصطلحات المقتبسة، ويمكنك أن ترى ذلك جليًّا في تعريفات المصطلحات التي قدمها الأستاذ (خالد عودة الله) بمساق الشهيد باسل الأعرج للبحث المحارب في العلوم الاجتماعية، والذي ألقاه بالبيرة بفلسطين عام 2017 [2] فمن الأمثلة على ذلك مصطلح (الموضوعية)، فكل دارسي العلوم الاجتماعية يعرفون جيدًا ما هي الموضوعية، والمحاضر بهذا المساق سالف الذكر يطرح لك مفهومًا مغايرًا عن الغرب وأصيلًا لمجتمعه عن ماهية الموضوعية، فهل الموضوعية أن تتساوى عندك الرواية الصهيونية والرواية الفلسطينية أثناء البحث الاجتماعي؟ أم أنك بالأصل تتبع البينذاتية وهي من ضمن رؤى الموضوعية عالميًّا، لأنك انطلقت من ذاتية عربية، وتهدف لترسيخ جذر هوية تكاد تندثر؟

 

   وبذلك فالعلوم الاجتماعية تستطيع أن تكون بحوثًا محاربة كدرع ووقاية من التهويد داخل فلسطين، فإذا أردت أن تشاهد الصورة كاملة فعليك أن تتصور الصورة كاملة، حيث إن الفلسطينيين الموجودين داخل الخط الأخضر يعيشون بهوية إسرائيلية، فيسافرون بجواز سفر إسرائيلي، ويقرؤون الجرائد العبرية. فأنّى لهم، والدرجة التي تليهم أيضًا من فلسطينيي الداخل، بسرد هوية موحدة وعيش عرقي متناغم، دون علوم اجتماعية تتبع منهجية البحوث المحاربة وتُعرِّف الأنا بالنظر إلى المرآة أولًا، وتعريف الآخر ومغايرته ثانيًا؟

دائرة سليمان الحلبي للدراسات الاستعمارية والتحرر المعرفي:

الدائرة مجموعة تطوّعية مستقلة للبحث والتّعليم المجتمعيّ في فلسطين، تأسست عام 2011 في القدس، وتسمّت باسم الشّهيد سليمان الحلبي الذي اغتال الجنرال (كليبر) قائد الحملة الفرنسية على مصر، وفي ذلك بيت القصيد لما تقدمه الدائرة من معارف ودراسات ومساقات، فالمتأمل للاسم سيجد أن سليمان الحلبي طالب شامي، كان يعيش مع أسرته بالقطر السوري في حلب، وأسرته تلك منحدرة من أصول فلسطينية من الخليل، وأتى لمصر ليدرس بالأزهر الشريف وكانت مصر حينئذٍ محتلة من فرنسا (قوة عدائية غربية أيًّا اختلف مسماها)، ومن ثم تبرع السوري ذو الأصل الفلسطيني للقطر المصري بقتل زعيم الاحتلال آنذاك. فمسمى الدائرة غزير الدلالات، فإن كنت قد استوعبت أن مسميات الاحتلال واحدة لا تفرق بين فرنسا والصهيونية وبريطانيا وأمريكا، فمتى نعي أن مسميات الأقطار المنكوبة واحدة؟

 

ولذلك فالمعرفة المقدمة من الدائرة معرفة عربية، تستهدف بناء الهوية الفلسطينية بتأصيل اجتماعي وتاريخي كارتباط واحد من ما قبل نكبة 1948 إلى وقتنا هذا دون أي قطيعة تاريخية، لأن الاحتلال يعمل بدأب نحو افتعال القطائع التاريخية، وهي ذريعته الكبرى لفصل تشكل الهوية الاجتماعية للعرق الفلسطيني، فرواية الاحتلال تروج بشدة إلى أن فلسطينيي 1948 ماتوا واندثروا، ومن بعدهم هم جيل آخر جديد للمقاومة وقد تم القضاء عليه بنكسة 1967، ومن بعدهم جيل آخر جديد تم القضاء عليه باتفاقية أوسلو 1993، ومن ثم تكون غزة آخر معاقل المقاومة وإذا تم القضاء عليها تم القضاء على العنصر الفلسطيني هويةً وعرقًا.

 

ونقول إن الرد على تلك الرواية الباطلة قد أتى من الداخل المحتل، فقد أُنشِئت الدائرة بالقدس، وتقديم معارفها ومساقاتها يُعَدُّ تأكيدًا على الميثاق الغليظ لكل العرق الفلسطيني، وإحياءً للهوية التي لم تنقطع من 1948 إلى وقتنا هذا، حتى لو حمل هؤلاء الرجال هويات إسرائيلية وقرؤوا الجرائد العبرية، فالدائرة وما انبثق عنها من الجامعة الشعبية، وموقع باب الواد، حائط السد المنيع بالعلوم الاجتماعية دفاعًا عن الهوية الفلسطينية[3].    

خاتمة:

طرحت تلك الورقة وجهتي نظر باقتضاب تام، وسيجري الإسهاب فيهما بالأوراق القادمة. فوجهة النظر الأولى نقول فيها أن سعي الأنظمة العربية المُطبّعة مع الكيان نحو تصفية القضية الفلسطينية أتى بعكس ما سعوا، وانقلب السحر على الساحر، ونبين ذلك بمقاييس اجتماعية سنطبقها على ثلاثة أجيال متتالية تقيس الوعي بالقضية، وتكون تلك العائلات من الدول العربية المحيطة بفلسطين لنرى مدى صدق فرضيتنا. ووجهة النظر الثانية أن فلسطينيي 1948 عمقوا هويتهم، التي أراد لها الاحتلال الاندثار، بإنشاء علوم اجتماعية بينذاتية تحيي هويتهم وعرقهم الفلسطيني.

 

[1] https://mazeej.com/papers-studies/other-in-sociological-canons

[2] https://soundcloud.com/decolonizenow/sets/2017-2ba?si=50a5c48a64fd489ea664353aa382a776&utm_source=clipboard&utm_medium=text&utm_campaign=social_sharing

[3] https://babelwad.com/

التعليقات

أضف تعليقك

الكتاب

أحمد القاضي

أحمد القاضي

مدير النشر بمؤسسة مزيج الثقافية. وهو باحث ومترجم، حاصل على ماجستير العمل الاجتم…

أوراق ودراسات ذات صلة

مشاهدة المزيد
دين الرأسمالية (لاهوت النقود)
  • بينيات

دين الرأسمالية (لاهوت النقود)

جسد الَّذين أنعم الله عليهم
  • بينيات

جسد الَّذين أنعم الله عليهم

يا علبة الصبر:  كيف تورث الأغنية حكمة الأيام؟!
  • لا هذا ولا ذاك

يا علبة الصبر: كيف تورث الأغنية حكمة الأيام؟!

فرانسوا توسكييز وثورة الطب النفسي
  • تخصصات

فرانسوا توسكييز وثورة الطب النفسي

ملفات تعريف الارتباط

نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط الخاصة بنا وملفات تعريف الارتباط الخاصة بالجهات الخارجية حتى نتمكن من عرض هذا الموقع وفهم كيفية استخدامه بشكل أفضل ، بهدف تحسين الخدمات التي نقدمها. إذا واصلت التصفح ، فإننا نعتبر أنك قبلت ملفات تعريف الارتباط.