بدأت الفلسفة -كما هو معروف- برسم حد فاصل، بإقامة تقابُل صارم، بين ما كان يُعرَف في زمن الإغريق بالدوكسا (Doxa)، والإبستيمه (episteme). الدوكسا هي الآراء والمعتقدات؛ ولكل إنسان الحق في أن يتبنَّى ما يشاء من الآراء، ولا توجد ضرورة مُلحَّة لأن تكون هذه الآراء مبنية على أساس متين؛ فهي تعتمد على وجهات النظر الخاصة والأذواق والتفضيلات الشخصية. وكما أن المرء لا يسعه أن يجادل غيره في أذواقه، فلا يسعه -من حيث المبدأ- أن يجادله بجدية في آرائه، لكنه لا ينفك يفعل على الرغم من ذلك. ولا تسعنا المجادلة بجدية في الآراء لأنها مبنية على موقف المرء الشخصي: أنا أرى ذلك، أنا أشعر بذلك، أنا أحس بذلك، أنا أعتقد ذلك؛ ولأنها تحصيل حاصل (توتولوجية) في نهاية المطاف: أنا أرى ذلك لأنني أرى ذلك ببساطة، فرأيي الشخصي هو حقي وحريتي الخاصة، بل أحد الحريات المُبجَّلة في واقع الأمر؛ حرية الرأي. وفي مقابل ذلك، الإبستيمه هي المعرفة المبنية على أساس متين، على "الشيء في ذاته"، وليس على بعض الأذواق والتفضيلات الشخصية. المعرفة ترمي إلى الحقيقة —هذا هو مبتغاها— والحقيقة كُليَّة ومُلزِمة وليست مجرد رأي. لا بد للمعرفة أن تُثبَت، أن تُبنى على حجج متينة وأدلة واقعية وموضوعية محايدة، ولا بد لكل ذلك أن يكون مبنيًّا -في نهاية المطاف- على اللوجس (على العقل والمنطق)[4]. وعليه، دعونا نقول إن اللوجس هو الآخر الكبير (the big Other) الذي ينبغي أن يضمن المعرفة الحقَّة ويشهد على صحتها. دعونا نقول إن اللوجس هو الاسم الإغريقي المُبكِّر لما سيسميه جاك لاكان، بعد مضي 2500 سنة، بـ"الآخر الكبير"، الذي يضمن للمعرفة كُليَّتها وطبيعتها المُلزِمة[5]. اللوجس هو المرجعية التي يتعيَّن علينا جميعا أن نتوجَّه إليها عندما نتوخَّى المعرفة. ويعود هذا التقابل الصارم بين الدوكسا والإبستيمه، بين الرأي والمعرفة، إلى الأسس السقراطية للفلسفة؛ فسقراط -كما هو مشهور- قد أنفق وقته في تقويض آراء الناس والكشف عن عَوارها، مُبيِّنًا طبيعتها الاعتباطية وافتقارها إلى أي أساس. ولم يتطلَّب ذلك منه سوى طرح بعض الأسئلة المُربكة؛ وكان هذا شاغله المفضل.
من فيلم "Inglorious Bastards" (كوينتين ترانتينو، 2009)[3]
2.
والآن، لو تدبَّرنا في شأن الشائعات لوجدنا أنها تحتل مقامًا أدنى حتى من المقام الذي تحتله الآراء؛ فالمزية، التي يُمكِن نسبتها إلى الآراء، هو أن الناس يتبنَّونها على الأقل؛ يعاملونها كممتلكات عزيزة عليهم، بل إنهم ليفخرون بها حتى، ويعُدُّونها مُعبِّرة عن أنفسهم. وحرية التعبير عن النفس حقٌّ مُطلَقٌ لا يُنتزَع كما يُزعَم. وفي مقابل ذلك، ما يُعيِّن الشائعات هو أن لا أحد يتبنَّاها حقًّا، وإنما يقول الجميع: "سمعتُ أنَّ ..."، "يقول الناس ..."، "يُقال إنَّ ..."، "يُشاع أنَّ ..."[6]. إن الشائعات ليس لها مؤلف. إنها تنتشر، غُفْلًا، كما لو كانت تنشر نفسها بنفسها، من دون أن يكون وراءها أي أحد، تمامًا كنسمة الهواء التي تهبُّ علينا من حيث لا ندري فتغشانا ثم تمر إلى غيرنا. وفي طريقها، تتحول النسمة بسهولة إلى عاصفة، إلى إعصار- وقد أضحت هذه الاستعارة مثَلًا سيَّارًا، كليشيهًا، عن الشائعات على مر الدهور[7]- إذ يبدو نمو الشائعات كضرب من الخلق من العدم تقريبًا؛ فمن مثقال ذرة تنمو، بفضل مجرد تناقُلها، لتصبح مخلوقًا هائلًا. ليس للشائعة أصل يُمكِن عزوها إليه؛ فالمرء يسمعها فحسب ثم يُمرِّرها إلى غيره، الذي يُمرِّرها بدوره إلى غيره. وكلما مُرِّرت، تذكو الشائعة وتربو. بالطبع ثمة شائعات تُختلَق عمدًا وتُنشَر وفقًا لخطة مُبيَّتة، لكنها لا تُؤدِّي غرضها كشائعات إلا إذا بدت بلا مصدر مُتيقَّن منه. وكون الشائعات بلا مؤلف لا يقتضي كونها بلا سلطان (authority) بل على العكس من ذلك تمامًا؛ فلكونها غُفْلًا وغيرَ شخصية وعديمةَ الأصل، تتمتع بسلطانٍ أشد استغلاقًا وإلغازًا وعنادًا. ثمة شيء أشبه بتحوُّل غامض، تحوُّل مُعجِز، يقع للشائعات: إنها بلا دليل وبلا أصل وبلا مؤلف وبلا ضامن، لكنها، وعلى الرغم من ذلك، تتحول، على نحو "باطني" مُبهَم، إلى قوة جبارة، من العسير، بل من المستحيل تقريبًا، التصدي لها. إنها بلا أساس، لكنها تُؤدِّي غرضها بكفاءة عالية تتناقض تناقضًا صارخًا مع افتقارها إلى السند أو الركيزة؛ فـ"الجميع يعلم" أن هذه مجرد شائعة، لا تقوم على شيء، ومع ذلك لا يستطيع المرء أن يمنع نفسه من الإنصات لها وتمكينها من أن تعمل عملها[8]. في دراسة شهيرة تعود إلى سنة 1964، طرح أوكتاف مانوني عبارته الاصطلاحية الذائعة الصيت: ‘Je sais bien, mais quand même’، "أنا أعلم تمام العلم، لكن مع ذلك ..."[9]. ونجد في الشائعات مثاًلا نموذجيًّا على هذه العبارة: «أنا أعلم تمام العلم أن هذه مجرد إشاعة، لكن مع ذلك ... قد يكون فيها شيء من الصحة، أو هي شيِّقة ومسلية على الأقل، أو قد يتعرض بعض الناس بسببها لأذًى، لذا دعني أشارك بخبث في نشرها، مع أنني أعلم تمام العلم أنه لا يوجد فيها شيء من الصحة؛ أم أن فيها؟» علاوةً على ذلك، لا أحد يتبنَّى الشائعات («أنا لا أصدق ذلك، فهي مجرد شائعة سمعتها،» ومن ثم فالمرء معفيٌّ من المسؤولية عنها)، لذلك هي تلائم تمامًا عبارةً اصطلاحيةً أخرى طرحها روبرت فالر: ‘beliefs without owners’، "معتقدات بلا معتقدين"، أو "أوهام بلا أصحاب"[10]. فثمة معتقداتٌ منتشرةٌ حولنا لكن لا أحد يؤمن بها حقًّا (وإنما يعزو المرء دومًا الإيمان بها إلى الآخرين، السذَّج، المغفلين)، ومع ذلك، تتمتع هذه المعتقدات بتأثيرٍ كبيرٍ، بل إنها -وفقًا لفالر- أساسية لتكوين الروابط الاجتماعية والثقافة بعامةٍ[11].
يبدو الأمر إذن كما لو أن الشائعات تُرينا وجهًا مغايرًا للآخر الكبير: ليس وجه اللوجس (العقل والمنطق) والمعرفة والحقيقة، وإنما شيء لا يؤمن أي أحد بأنه حقيقي، لكنه، على الرغم من ذلك، يعمل عمله على الدوام، مُتمتِّعًا بمصداقية مشكوك فيها وبقبول عام. إنه مسألة فاعلية ونجاعة وليس حقيقة. ثمة ضرب من الانقلاب المُفارِق في شأن هذا الوجه للآخر الكبير: كلما بدا متزعزعًا وواهيًا وباطلًا وغير موثوق، عرض لنا الآخر الكبير في صورته النقية، في شكله المُجرَّد: إنه يتمتَّع بقدرة قاهرة، ليس على الرغم من كونه بلا أساس، وإنما تحديدًا بفضل كونه بلا أساس. يُتاح له أن يحكم على الرغم من معرفة الجميع أنه غير جدير بأن يحكم. يبدو الأمر إذن كما لو أننا هنا أمام وجهين متقابلين للآخر الكبير ليس بينهما أي قاسم مشترك: الأول: هو الآخر الكبير الذي يُمكِنه (وينبغي له) أن يمدنا بالأساس الإبستيمولوجي للمعرفة الحقَّة المبنية على العقل والمبتغية الحقيقة، والثاني: هو الآخر الكبير الذي لا يرتكن إلا على القيل والقال، على اللغو، لكنه مع ذلك يقف لازبًا راسخًا كالوتد. هذا هو شأن الشائعات: إنها تلزب وتثبت وتلتصق، سواء أراد المرء لها ذلك أم لم يُرِد؛ إنها تترك أثرًا غير قابل للمحو على ما يبدو. لكن، ألا يسعنا أن نقول إن الآخر الكبير- وعلى الرغم من هذا التقابل الصارخ- هو مخلوق واحد ذو وجهين كيانوس -الإله الروماني ذو الوجهين، إله الحدود والبوابات والممرات- وإن الوجهين متلازمان لا ينفصلان البتة؟ ألا يسعنا أن نقول "الآخر الكبير وظِله"، "الآخر الكبير وقرينه"؟
3.
والآن، لو أنعمنا النظر في سيرة سقراط لوجدناها مُعلَّقةً، على نحو أيقوني ونموذجي، تمامًا بين هذين الوجهين للآخر الكبير. فمن جهة، كان مسعاه الرئيس هو تقويض الآراء الواهية، وهداية أصحابها إلى سبيل البحث عن الحقيقة، عن العقل، الأساس الحق للمعرفة. لكن على الجهة الأخرى، كان هلاكه على يد الشائعات، هي التي أسقطته، هي سبب محاكمته في بداية المطاف وسبب موته في نهايته. فعندما مثَل سقراط بين يدي مجلس المحاكمة الأثينية (في سنة 399 قبل الميلاد)، افتتح دفاعه عن نفسه قائلًا:
لقد اتَّهمني الكثير من الناس عندكم، لسنين عددًا، بتهم باطلة جميعها. وخشيتي من هؤلاء أشد من خشيتي من أنيتوس ورفاقه [المُتهِمون الحاضرون المعروفون بأعيانهم] ... فهؤلاء الذين ينشرون عني الشائعات هم خصومي الأشد خطورةً أيها السادة ... علاوةً على ذلك، إنهم كثرة، ويتقوَّلون عليَّ الأقاويل لردح من الزمن ... إن هؤلاء الذين أقنعوكم بخبث وافتراء ... يعسر التعامل معهم أكثر من غيرهم؛ فليس بمقدور المرء أن يأتي بأيٍّ منهم إلى المحكمة ولا أن يدحض افتراءاته؛ وإنما يتعيَّن على المرء في دفاعه عن نفسه ضدهم أن يتقارع مع الظلال، إذا جاز القول، أن يستجوب من لن يُرجِع إليه قولًا ... حسنًا، سأدافع يقينًا عن نفسي، وسأحاول أن أجتثَّ من عقولكم، في هذا الوقت القصير للغاية، تلك الفِرية التي استقرَّت فيها منذ زمن[12].
إنه وضع نموذجي: سقراط، ذاك الذي حارب الآراء الباطلة وأيَّد سبيل الحقيقة المبنية على اللوجس أكثر من أي أحد آخر على مدار التاريخ، لدرجة أنه قد أضحى أُسوة هذا النضال ومنارته، كان هو نفسه عديم الحيلة أمام قوة الشائعات التي انتشرت عنه لسنين عددًا، شائعاتٌ ليس لها أي أساس على الإطلاق، ومع ذلك أدَّت إلى محاكمته وإدانته والحكم عليه بالموت. لقد كان بمقدوره أن يُقارِع خصومه المرئيِّين (أنيتوس ورفاقه)، بينما لم يكن بمقدوره أن يُقارِع الذين عبَّدوا لهم السبيل، خصومه غير المرئيين (مُروِّجي الشائعات عنه)؛ فمقارعتهم أشبه بمقارعة الظلال، لكن الظلال هي التي ربحت في نهاية المطاف. لقد تغلَّب وجه الآخر الكبير، المبني على الشائعات والفِرى والقيل والقال، على وجهه الآخر الجليل، المبني على اللوجس والحقيقة والمعرفة. لقد تبيَّن أن اللوجس عديم الحيلة أمام الشائعات، لقد انتصر سيلُ اللغو الغُفْل على أقوى الحجج وأمتنها. هذه حالة نموذجية: الآخر الكبير "الآخر" أشد قوةً من الآخر الكبير الرسمي الجليل والمُبجَّل؛ فالشائعات، بكل تفاهتها ووهيها، قادرة على بَزِّ اللوجس والتفوق عليه، كما لو أنه ليس كفوًا ولا ندًّا لها. وحتى سقراط، أكثر الرجال حكمةً (وفقًا لعرَّافة دلفي؛ كاهنة معبد أبولو)، كان عليه أن يُقِرَّ بالهزيمة على يديها.
4.
هناك مثَل لاتيني يقول: "Audacter calumniare, semper aliquid haeret"، "افترِ بجرأة؛ فدائمًا ما يلتصق شيءٌ من الافتراء (بالمفترَى عليه)"، "انشر الشائعات بتهوُّر ولا تخف؛ فدائمًا ما يلتصق بعضها (بمن تُقال في حقِّه)"[13]. فعلى الرغم من كونها واهية، دائمًا ما تترك الشائعات لطخة يستحيل محوها تقريبًا. توجد حسابات كلبيَّة هنا: يعلم المرء أن الشائعة قد لا تكون حقيقية، وأنه لا دليل عليها، لكنه يعلم أيضا أنها ستلتصق على الرغم من بطلانها. ويجد المرء شيئًا من المتعة في القدرة المجانية التي يُخوِّلها ذلك له؛ فللمرء أن يطلق سلاح الشائعات كيفما اتفق وهو شبه مُتيقِّن من أنه سيصيب مرماه على الدوام، ومن دون أن تتلوَّث يداه. ثمة ضرب من التفكير السحري في طريقة عمل الشائعات: اعتقاد المرء أن بمقدوره التأثير على الناس (والأشياء) بواسطة مجرد كلمات واهية، كلمات قادرة على تلطيخ ما تحيل عليه حتى لو كانت خاطئة وداحضة تمامًا؛ إنها تصير سِمة له، فأيًّا كان ما يعزوه المرء إلى الناس في الشائعات، سيصير سمة "شبحية" لهم، وليس بمقدور أي كمٍّ من الحجج المتينة أن يمحو هذه السِّمة، أن يغسل هذه اللطخة. إن المرء يجد نفسه بلا حيلة أمام الشائعة التي تُطوِّقه؛ يجد نفسه في موقف الدفاع سلفًا وبداهةً. في الشائعات، تبدو الكلمات كما لو كانت تعمل عملها بواسطة سحر لا واعٍ، فتُؤثِّر في الأشياء بمجرد تعيينها والإحالة عليها.
والحال أن ثمة تاريخًا طويلًا يشهد على قوة الشائعات الجبارة العصيَّة على القهر، تاريخًا من العويل والتفجُّع من ظلمها البيِّن. يكون المرء بريئًا، ثم تنتشر الشائعات عنه فيجد نفسه فجأةً في مقام المدافع سُدًى عن براءته؛ لأن الشائعات تتمكَّن -مع أن "الجميع يعلم" أنها باطلة- من تقويض براءته وإتلافها، من دون أن يرتكب أي جرم على الإطلاق. إنها تُطوِّق ضحاياها على نحو تام بحيث لا يقدرون على الخروج ببساطة من هذا الطوق. أجل، "الجميع يعلم" أن الشائعة باطلة، لكن الجميع أيضًا يظن، في سرِّه، أنه لا بد من أن يكون هناك شيءٌ من الصحة فيها. إن الكلمة (في الشائعة) ليست قادرة على تعيين ما تحيل عليه فحسب، وإنما على خلق (شبح) شيء ما غير موجود فيه أيضًا. والشكاوى من هذا الحال والحسرات عليه أكثر من أن تُحصى في تراثنا الثقافي. لذا دعوني أضرب لكم، بإيجاز، بعض الأمثلة البارزة، من حِقب تاريخية مختلفة، كدرس مُوجَز في التاريخ الثقافي للشائعات وقوتها، من سقراط إلى دونالد ترامب. وغاضًّا الطرف عن بدايات هذا التاريخ في العصور القديمة (البدايات التي تعود- على ما أرى- إلى فجر التاريخ البشري)، سأضرب ثلاثة أمثلة تُؤشِّر على ثلاث مراحل متتالية من التاريخ الحديث[14].
5.
لا يسعنا إلا أن نبدأ من عند شكسبير. أتى شكسبير على ذكر الشائعات في دزينة أو نحو ذلك من المواضع. لكن دعوني أكتفي بذكر اثنين فقط من المواضع البارزة. الأول- وهو الأكثر إدهاشًا وشهرةً بلا شك- من مسرحية "هَملِت". بعد مشهد المناجاة الشهير [التي تبدأ بـ«أكون أو لا أكون؟ تلك هي المسألة»]، راح هملت يتحدث إلى أوفيليا في حوار غريب للغاية لم ينفك يهينها فيه ويُحقِّرها. ومن ضمن ما قاله، قال لها التالي: «إن كنتِ ستتزوجين، فسأمهركِ بهذه اللعنة: لن تسلمي من الإفك حتى لو كنتِ عفيفة كالثلج وطاهرة كالجليد. فلتذهبي إلى الدير. الوداع.» (الفصل الثالث: المشهد الأول: الأبيات 135-139). هذا قول قاسٍ حقًّا: لو بلغتِ من العفاف والطهر كل مبلغ، فلن يغني عنكِ ذلك شيئًا يا أوفيليا؛ لن تجدي أبدًا سبيلًا لحماية نفسك من القذف والبهتان؛ وهذه اللعنة هي المهر الوحيد الذي فكَّر هملت في أن يهبه لها حال تزوجت[15]. ستتدنس سمعتكِ ما دمتِ في هذا العالم الدنِس، ستُلطِّخكِ الفِرى والشائعات، ولا ملاذ لكِ من هذا الدَّنس المُعمَّم إلا في الدير. لكن مهلًا، فالموقف ملتبسٌ وحمَّال أوجه: هل يريد هملت حقًّا أن يحمي براءتها من دنس الفرى، أم إنه هو نفسه الذي أوجَد، من خلال الطريقة التي خاطبها بها، عين الفِرية التي يُحذِّرها منها، اللطخة التي لن تَطهُر منها أبدًا؟ أليس هو- عاشقها- مصدر الفرية التي يزعم أنه يريد أن يحميها منها؟ كيف لها أن تُفلت من مصيرها وهو يعاملها كبغيٍّ يريد أن يرسلها إلى الدير؟
ومصدر هذا الالتباس التام هو أن كلمة الدير، التي ذُكِرت خمس مرات في هذا المشهد، كانت تُستعمَل في ذلك الزمن للتكنية عن المبغَى. أليس بمقدور المرء أن يلحظ في كلامه تعريضًا بها إذ يريد أن يرسلها إلى حيث تنتمي زعمًا؛ إلى بيت الدعارة؟ هل هو يلومها، ضمنيًّا، على كونها مِن جنس النساء مُنمذَجًا في أمِّه [التي تضاجع عمَّه بحماس بعدما أعانته على قتل أبيه]؟ أليس بمقدور المرء أن يلحظ في كلامه شعورًا بالغيرة من زواجها المُحتمَل؟ بلى، هملت متلبسٌ بكل ذلك من خلال تلميحه بشائعة متوارية تحت قناع نصيحة لاتِّقاء الشائعات. إنه يقول إن الفضيلة لا يُمكِن لها أن تنجو من البهتان. لكن بوهبها هذا التحذير مهرًا لها، قوَّض هملت بنفسه فضيلتها، بأن صار هو أصل هذا البهتان ومنبعه. إنه مهر مسموم. والحق أن هذا المشهد عنيف وقاسٍ، ومتسق مع شخصية هملت المُمزَّقة بالتناقضات الجوَّانية، المزامنة لظهور تناقضات العصر الحديث، إنه إنسانٌ بعقلين. إن قسوة المشهد والتباسه لتعبيرٌ نموذجيٌ عن العقل الحديث بقلقه وكدره، من خلال منظار غريب؛ منظار القذف والبهتان.
وإليكم مثالًا شكسبيريًّا آخر ذا صبغة مختلفة تماما[16]. في الخاتمة السعيدة لمسرحيته الهزلية المُبكِّرة "كوميديا الأخطاء"، وبعدما بُدِّدت جميع الأخطاء وتعارف الجميع في حبور مُعمَّم[17]، قالت كبيرة الراهبات ما يلي: «يا أيها الدوق، ويا زوجي، ويا ولديَّ، وأنتم يا من جئتم إلى الدنيا في اليوم نفسه، هلمُّوا جميعًا إلى عيد نميمة (gossip feast)، ولتبتهجوا معي. يا لها من فرحة أتت من بعد حزن طويل!» وعلى كلامها رد الدوق قائلًا: «بكل قلبي، سأنُمُّ في هذا العيد.» (الفصل الخامس: المشهد الأول: الأبيات 404-408). عيد (وليمة، حفلة) نميمة! أي شيء قد يكون ذلك بالضبط؟ لننظر في تأثيل كلمة "gossip" (نميمة):
كلمة "gossip" مُشتقَّة من "godsibb"، التي تعني في الإنجليزية القديمة "كفيل، أب روحي"، من God + sibb، الله + قريب[18]. ثم توسعت دلالتها في الإنجليزية الوسيطة (حوالي سنة 1300) لتعني "أحد معارف المرء، صديق، جار"، وعلى وجه الخصوص الصديقات المدعوَّات إلى حضور ميلاد طفل. ولاحقًا (1560s)، صارت تعني "كل من يخوض في لهو الحديث وفارغه، يلغو، يثرثر". ثم صارت تعني (1811) "كلام تافه، شائعة باطلة"[19].
وعليه، تشير كلمة "gossip" نميمة إلى جمع رفقة من الناس ليس بينهم قرابة أو صِلة رحم، إلى تكوين روابط اجتماعية بين مَن لا تربطهم روابطُ عائلية مباشرة؛ إلى تكوين رفقة "روحية". ومن أي شيء قد تتألف هذه "الروح"، في حدِّها الأدنى، إلا من النميمة؟ تشير النميمة إلى الرابطة المتجاوزة لروابط الدم والعائلة والتراتبيات الاجتماعية، إلى رابطة أفقية مدفوعة بإمكانية الابتهاج بالنمِّ، الانغماس في عيد نميمة[20]. لكنَّ لدى هذا الوجه البهيج للنميمة ميلًا فظيعًا إلى الانزلاق إلى نقيضه، إلى وجهها الآخر؛ وجهها البغيض. في كتابها عن الكوميديا (في طبعته السلوفينية فقط)، علَّقت ألينكا زوبانجج بإيجاز على هذا الموضع من المسرحية قائلةً إن المعنى البهيج، الذي أسبغه شكسبير المُبكِّر، على عيد النميمة عند فجر الحداثة، كان متجهًا لا محالة صوب أفق المعنى الجديد البغيض الذي سيُسبَغ عليه في عصر الآخر الكبير ما بعد الحديث؛ «هل تعلم الكلمات في زمنها الغابر، سلفًا، الاتجاه الذي ستمضي فيه معانيها الجديدة؟»[21] من الـ"gossip feast" إلى الـ"Facebook"، من عيد النميمة إلى الفيسبوك [إلى "النـمِّـبوك"؟]. "عيد نميمة"؛ ألا يصلح هذا المصطلح لأن يكون توصيفًا لائقًا للمأزق المضني الذي نعيش فيه راهنًا؟
6.
المثال الثاني، الذي يُؤشِّر على المرحلة التاريخية التالية، مأخوذٌ من أوبرا "حلَّاق إشبيلية"، التي عُرِضت بعد مضي 170 سنة على المرحلة السابقة (شكسبير، صدر الحداثة)، أي عندما كان عصر الأنوار في أوجِه[22]. وهذه الأوبرا مبنية في الأصل على مسرحية كوميدية، بالعنوان نفسه، كتبها المسرحي الفرنسي بيير أوجستين كارون دو بومارشيه، وعُرِضت على المسرح للمرة الأولى في سنة 1775، ولاقت نجاحًا باهرًا، بل صارت واحدة من أنجح مسرحيات القرن الثامن عشر، والكوميديا الأنوارية النموذجية من الزمن المفضي إلى الثورة الفرنسية. لكن هذه المسرحية الأصلية قد كُسِفت مرتين. المرة الأولى على يد دو بومارشيه نفسه، بكتابته لتتمَّة لها، عُرِضت لأول مرة سنة 1784، وهي مسرحية "زواج فيجارو" التي طبقت شهرتها الآفاق؛ فقد فاقت هذه المسرحية المُتمِّمة سابقتها شهرةً وتأثيرًا، لقد كانت كقنبلة في زمنها. ولو كان للمرء أن يُصدِّق الرأي المنسوب إلى نابليون؛ فإن مسرحية "زواج فيجارو" كانت «ثورة مندلعة» سلفًا، ولم يكن للثورة الفرنسية أن تقع من دونها (لكن كلمات نابليون هذه في حق المسرحية موضوعٌ للشائعات في واقع الأمر)[23]. ثم كُسِفت المسرحية الأصلية مرةً ثانية بنسختها الأوبرالية، "حلاق إشبيلية"، التي كتبها جواكينو روسِّيني في سنة 1816، أي بعد مضي 40 سنة على عرض المسرحية، وأضحت واحدة من أشهر الأوبرات وأكثرها عرضًا على مر العصور[24]. لكن ما يعنيني في هذا المقام هو مشهد واحد بعينه من أوبرا روسِّيني. وهاكم المشهد باختصار: دون بارتولو، عجوز ماجن، يريد أن يتزوج بربيبته روزينا، التي ينافسه عليها بشراسة الكونت ألمافيفا، الواقع في غرامها، والمستميت في طلب يدها. وفي هذا المشهد، يطلب الدون بارتولو من صديقه دون باسيليو أن ينصحه بالطريقة الأنجع للفتك بمنافسه. ولم يكن في جعبة باسيليو إلا نصيحة واحدة ليسديه إيَّاها: البهتان (الافتراء والإفك والقذف)؛ فبمقدور البهتان أن يُدمِّر أي أحد مهما كان. وفي أغنية (aria) شهيرة، بل واحدة من أشهر الأغاني الرجالية على طبقة صوت الباس الساخر في الذخيرة الأوبرالية برمتها[25]، تغنَّى باسيليو بمديح قوة البهتان الجبارة. وإليكم كلماتها:
الفرية نسمة رقيقة،
نسمة عليلة،
تشرع بلطف ورهافة وخفة وعذوبة في الهمس.
برفق ونعومة، هنا وهناك،
تهمس وتُصفِّر،
وتنساب وتتجوَّل.
إلى آذان الناس،
تتسلَّل خلسة،
وفي رؤوسهم وعقولهم
تطغى وتربو.
ومن الأفواه تخرج ثانية
فيعلو صوتها تصاعديًّا،
وتقوى رويدًا رويدًا،
وتأخذ مجراها من مكان إلى آخر،
لتغدو كرعد العاصفة،
الذي من أعماق الغابة،
يخرج يزجر ويهدر،
ليُجمِّد الدماء في عروق الجميع.
وأخيرًا بطرقعة ودوي،
تعم الأرجاء، وتتضاعف قوتها،
وتنفجر،
كقذيفة من فم مدفع،
كزلزال، كإعصار،
كزئير هادر،
يُدوِّي في الهواء.
أما المسكين البائس المفترَى عليه،
فيهوي، شائن السمعة،
منسحقًا تحت سياط العامة،
ويموت، لو أسعفه الحظ.[26]
لو كان للبهتان قصيدة مديح، خطبة مدح، أنشودة ثناء، ترنيمة حمد، لكانت هذه. إنها أغنية طريفة للغاية، واحدة من أعظم الأغاني في التاريخ الأوبرالي، ومن أشهر الأغاني على طبقة الباس كما أسلفنا. تبدأ الأغنية بصوت رقيق وخافت، ثم ينمو تصاعديًّا ليصل إلى ذروة صارخة وعارمة ("كقذيفة تخرج من فم مدفع"؛ كما تقول الأغنية)، لتنتهي بصوت رقيق مُتنعِّم، بمرح وخبث، بالسقوط المحتوم للضحية المسكينة، موته؛ إن البهتان قد يقتل حقًّا. والحال أن هذا المسار الموسيقي للأغنية (صوت رقيق جدًّا، صوت رقيق، صوت قوي، تصاعد للقوة، جوقة)، موجود سلفًا في نص بومارشيه النثري نفسه، في انتظار من يُحوِّله إلى موسيقى[27].
لكن هذا عصر الأنوار، في ذروة مجده، وها هي الثورة الفرنسية على الأبواب. لذلك فالوضع هنا مغاير تمامًا لما كان عليه في "هملت"؛ فلأنه عصر تفاؤل، كان لازمًا أن تُخفق الشائعات ولو لمرة. فالمفارقة الكبرى في هذا العمل هي التالية: على الرغم من هذا الثناء البليغ، والمقنع للغاية، على قوة البهتان الجبارة، فشلت هذه الفِرية المُهلَّل لها فشلًا ذريعًا في نهاية المطاف. لقد انتصر الحب الحقيقي (وتزوَّج ألمافيفا بروزينا). لقد خسئت المُخطَّطات الخبيثة والدنيئة للـ"ancien régime"، للنظام الاجتماعي القديم (بارتولو، العجوز الماجن)، بعون من فيجارو، صاحب الحيلة والدهاء، الخادم الأريب، الرجل العصامي بحق (حلاق)، الخليق بالعصر الجديد. لقد نجح فيجارو في ما أخفق فيه سقراط؛ لم يقدر سقراط على مقارعة ظلال البهتان، بينما قدر فيجارو الحلاق على ذلك؛ فبمقدور الخادم (فيجارو) أن يتغلَّب على السيد (بارتولو)؛ بمقدور الحصافة والألمعية أن تتغلَّب على الرتبة الاجتماعية. إن العبرة من هذه القصة هي التالية: يُمكِن التغلُّب على البهتان والشائعات. ويقينًا، بمقدور المرء أن يلحظ هنا الإيمان العميق بقدرات العقل الظافرة، التي يُمكِنها أن تقهر قوى البهتان والنمِّ الخفية (المُصاحِبة للنظام القديم). لقد انتصر أحد الآخرين الكبيرين على الآخر؛ لقد انتصر اللوجس على الشائعة؛ العقلُ على قرينه الشبحي. ويسوغ لنا أن نتخذ من ذلك تعريفًا بديلًا لمسعى التنوير. سينتصر العقل ويسود لا محالة، حتى على عدو منيع كالشائعات.
7.
أما المثال الثالث، فيصل بنا إلى الزمن المعاصر، وهو أقلُّ تفاؤلًا من المثال السابق، كما يُمكِن لنا أن نتوقَّع. لو فتحنا رواية "المحاكمة" لكافكا على صفحتها الأولى، وقرأنا أول جملة فيها، سنجدها تقول التالي: “Jemand mußte Josef K. verleumdet haben …”، «لا بد أن أحدًا قد نشر شائعاتٍ عن يوزيف ك.؛ لأنه اعتُقِل ذات صباح، من دون أن يرتكب أي جرم.»[28] ولو بحثنا في المعجم عن معنى الكلمة الألمانية "verleumdet" فسنجد المعاني التالية: «يفتري، يبهت، يقذف، يُلطِّخ سمعة، يقدح، يطعن، يغتاب». هذه واحدة من أشهر الجمل الافتتاحية، واحدة من أشهر البدايات في الأدب العالمي برُمَّته. في البدء، إذن، لم يكن اللوجس، الـكلمة (كما في الإنجيل)، ولا الفعل (كما في فاوست)، وإنما في البدء كانت شائعة. ها نحن أمام نُسختَي الآخر الكبير في عبارة باراديجمية (نموذجية): "في البدء كان اللوجس" في مقابل "في البدء كانت شائعة". لكن الشائعة كلمة أيضًا بكل تأكيد، بيد أنها ليست قطعًا الـكلمة، اللوجس، ليست هي على الإطلاق. نحن أمام ضربين من الكلمة أحدهما في مقابل الآخر. في البدء كانت الكلمة، لكن أي كلمة منهما بالضبط؟ اللوجس [الكلمة الحق] أم الشائعة [الكلمة الباطلة]؟ وجوابًا على ذلك، يُمكِن للمرء أن يقترح هذا "التوليف الدياليكتيكي" بين الكلمتين: "يُشاع أن في البدء كانت الـكلمة". والحال أننا لو نظرنا بتمعُّن في جملة المحاكمة الافتتاحية، «لا بد أن أحدًا قد نشر شائعات عن يوزيف ك.»، لوجدناها مُصاغةً سلفًا على هذا النحو التوليفي عينه؛ فهي لا تجزم بأن هناك شائعات منتشرة بالفعل عن يوزيف ك.، وإنما هي تستنبط، تُخمِّن، تحدس، تفترض أن هناك شائعات منتشرة عن يوزيف ك.، وعليه، يسوغ للمرء أن يعيد صياغتها هكذا: "يُشاع أن أحدًا قد نشر شائعات عن يوزيف ك."، وكأن هذه الجملة تنطوي على ميتا-شائعة؛ شائعة عن شائعة (يُشاع أن هناك شائعة). يا لها من جملة مُبلبِلة للعقل على الرغم من بساطتها الظاهرة!
ليس للشائعات، بحكم طبيعتها، مؤلف، لذلك تنسبها جملة المحاكمة الافتتاحية إلى "jemand"، شخصٍ ما، أحدٍ ما، لا يُمكِن تعيينه ولا الكشف عنه أبدًا. لقد بدأ الأمر برُمَّته بكلمة لا يُعرَف لها أصل، لكنها بالغة القوة. ومن ثم يجوز للمرء أن يقول أن وضع يوزيف ك. مشابه بعض الشيء لوضع سقراط؛ فسقراط هو الآخر كان ضحية لشائعات غُفْل انتشرت عنه لردح من الزمن، وأدَّت إلى القبض عليه وإدانته ومحاكمته. لكن في حالة سقراط، نحن نعلم على الأقل مضمون الشائعات التي انتشرت عنه، أو على الأقل مضمون التهم التي وُجِّهت إليه: إفساد الشباب، الاستخفاف بآلهة المدينة، إلخ. بينما في حالة يوزيف ك.، لم نعلم قط مضمون المزاعم التي قيلت في حقِّه، ولا التهمة التي وُجِّهت إليه، بل حقيقة الأمر أنه لم يُتهَم قط ولم يُحاكَم قط (باستثناء خضوعه لاستجواب واحد، غريب جدًا، ومن ثم من المذهل أن تُسمَّى الرواية بالمحاكمة). وعلى النقيض من سقراط، لم تُتَح ليوزيف ك. الفرصة لكي يدافع عن نفسه أمام المحكمة، لكنهما لاقيا المصير نفسه في نهاية المطاف، عند لحظة تنفيذ الحكم؛ سقراط مُتجرِّعًا لسُمِّ الشوكران، ويوزيف ك. مقتوًلا بسكين "ككلب"[29]. لقد قُتِلا في النهاية بسبب ما كان في أوله مجرد شائعة. سبب تافه لكن نتيجته كارثية (أو بالأحرى، بهتان لكن نتيجته كارثية[30]). يا للبون الشاسع بين السبب والنتيجة!
وهكذا نجد عند كافكا الشائعات في صورتها الأشد ظلمةً: إنها تقف عند المبتدأ، عند الأصل، إنها تحل في محل الأصل الغائب، إنها لا تحتاج إلى أن تُعيَّن أو تُفسَّر أو تُعلَّل بأي شكل من الأشكال؛ فهذه شائعة محضة، شائعة في أنقى أشكالها، وكل ما يسع المرء أن يقوله عنها إنها كانت مُوجَّهة ضد يوزيف ك. بطريقة أو بأخرى. إنها شائعة بلا مضمون وبلا محتوى، شائعة "schlechthin"، بحتة، شائعة "sans phrase"، مُطلَقة. هذا هو الوجه الآخر للآخر الكبير في أنقى أحواله: إنه لا يحتاج إلى أي مضمون لكي يعمل عمله، فهو يُطلِق شرارةً فحسب، يُطلِق شرارة سيرورة (بل يُطلِق شرارة "der prozess"، المحاكمة[31]) يستحيل إيقافها. إن ما كان مجرد فِرية، فِرية هزيلة للغاية، قد تعاظم على يد القانون، على يد المحكمة، حتى أضحى إعصارًا عاتيًا يستحيل دفعه. فكيف يُمكِن للمرء أن يدافع عن نفسه وليس هناك تهمة بعينها مرفوعةٌ ضده أصلًا؟ وعليه، إذا كان هذا الوجه الظليُّ للآخر الكبير- وجه الشائعة- يتمتع بهذا الحضور الطاغي والغامر، فإن وجهه الآخر، وجه اللوجس، آخذٌ في الانزواء على ما يبدو. إن المحكمة هي المؤسسة التي يُفترَض لها أن تكون مبنية على القانون، وعلى اللوجس في نهاية المطاف، أن تكون المُبشِّر باللوجس، بالعقل والمنطق والحكمة، في خضم مَرَج اجتماعي فوضوي، أن تكون الآخر الكبير المحايد الذي يفصل في أي نزاع. لكنها هنا مأخوذة رهينةً عند وجه اللوجس الآخر؛ لقد أخذت الشائعات المحكمة رهينةً عندها. إن المحكمة كيان منزوٍ ومنحسرٌ، إنها موجودة بكثافة في كل مكان، ومع ذلك لا يُمكِن رؤيتها في أي مكان (تمامًا كالقلعة — إن المحكمة والقلعة كلتاهما "موضوع للشائعات"، "خاضعة للشائعات"[32]). لقد اندمج وجها الآخر الكبير، ليس عن طريق تسوية أو اتفاق، وإنما عن طريق ابتلاع أحدهما للآخر — لقد أضحى اللوجس تابعًا لظلِّه ومُلحَقًا به، لقد كَسف الظل أصلَه المزعوم وغطَّى عليه.
لكن هنا مسألة أخرى: الـ"die Verleumdung"، الشائعة، الفِرية، البهتة، التي ابتدأت الأمر كله، مذكورة مرة واحدة فقط، في أول جملة فحسب. إن الرواية لم تعد قط إلى ذلك، إلى أصل المحاكمة المُفترَض، وليس فيها أي دليل من شأنه أن يهدينا إلى معرفة كُنه هذا الشخص الذي افترى على يوزيف ك.. علاوةً على ذلك، ثمة شيء فريد في هذه الجملة الافتتاحية الشهيرة، وهو أن الرواية كلها مكتوبة من منظور يوزيف ك.؛ إذ نرى كل شيء بعينيه وحده، ما عدا هذه الجملة[33]؛ فهي لا تشير إلى أن يوزيف ك. يفترض أن أحدًا قد نشر شائعات عنه، وإنما تشير إلى أن هذا افتراض من راوٍ محايد. ويُؤكِّد هذا الراوي أيضًا أن يوزيف ك. لم يرتكب أي جرم؛ أم أنه قد ارتكب؟ فلو أمعنَّا النظر في العبارة الألمانية وصيغتها الظنية، لوجدناها لا تجزم بأن يوزيف ك. لم يرتكب أي جرم، تقول العبارة: ‘ohne daß er etwas Böses getan hätte’، ويُمكِن ترجمتها على نحو أدق بـ«من دون أن يرتكب، زعمًا، أيَّ جرم». إن براءة يوزيف ك. مزعومة، إنها موضوع للشائعات هي الأخرى. وعلى أي حال، هذا الراوي المحايد موجود فقط لكي يرمي هذا الحجر الأول في ماء الرواية ثم سيختفي إلى الأبد؛ فمن بعدها لن نرى الأشياء إلا بعينَي يوزيف ك..
ولو شئنا أن نُخمِّن من الذي نشر الشائعات عن يوزيف ك.، فستكون الفرضيَّة الأشدُّ فتنةً هي القول بأن يوزيف ك.- وليس غيره- هو الذي نشر الشائعات عن نفسه. وهذه هي الفرضية التي طرحها جورجيو أجامبِن في دراسته المُعنوَنة بـ"ك."، التي ذكر فيها أن الافتراء قد مَثَّل في المحاكمات الرومانية خطرًا بالغًا على إنفاذ العدالة، لدرجة أن من يتهم غيره بالباطل كان يُعاقَب بوسم حرف ك (الحرف الأول من كلمة "Kalumniator"، مفترٍ في اللغة اللاتينية القديمة) فوق جبينه[34]، والتي ذهب فيها، بناءً على ذلك، إلى أن حرف الكاف، في اسم يوزيف ك.، يرمز إلى "Kalumniator"، أي مفترٍ[35]. وهكذا يُمكِن اعتبار يوزيف ك. مفتريًا كبيرًا، خليقًا بأن يُوسَم بحرف الكاف لأنه افترى (على نفسه) فِرية باطلة[36]. هنا نجد أنفسنا على مسافة أكثر بُعدًا عن هملت؛ فتحذير هملت من الافتراء قد ألحق- في نهاية المطاف- الضرر بأوفيليا، متخفيًا تحت قناع حمايتها المزعومة، أما يوزيف ك. فلم يضرَّ بفِريته التي افتراها أحدًا إلا نفسه، لقد كان هلاكه على يديه، حتى ولم يكن متعمدًا ذلك. وعليه، يبدو أن العصر الحديث قد أحرز، منذ هملت، تقدُّمًا في ما يخص شؤون البهتان والافتراء.
8.
قبل أن أنتقل بكم إلى الزمن الحاضر، دعوني أعطيكم مثالًا ذا صبغة مغايرة تمامًا؛ فأغلب الإحالات على مسألة الشائعات تقع تحت باب التشكِّي من قوتها الساحقة التي لا يُمكِن التصدِّي لها بالعقل ولا الأدلة ولا الحجج، لدرجة أن ذلك قد أضحى كليشيهًا مكرورًا، بينما ينظر هذا المثال إلى المسألة من زاوية مختلفة للغاية، وهو مأخوذ من مجموعة قصصية لسرفانتس بعنوان "Novelas ejemplares"، "قصص نموذجية"، نُشِرت سنة 1613، أي بعد مضي ثمان سنوات على نشر الجزء الأول من "دون كيخوته" ونجاحه المُدوِّي، وتحديدًا من قصة ‘El casamiento engañoso’، "الزيجة الخادعة"، التي تتضمَّن جزءًا شهيرًا للغاية من قصة نموذجية أخرى بعنوان "حوار الكلاب"، وهي واحدة من مفاخر الأدب الإسباني. يرقد أحد أبطال القصة في المستشفى، في حالة هذيان، وأثناء الليل نمى إلى سمعه حوار بين كلبين عجوزين.
في سكون الليل وآخره، أراد الكلبان، ثبيون وبيرجانثا، أن يحكيا بعضهما لبعض قصص حياتهما. لكن هذين الكلبين ليسا كحيوانات القصص الرمزية التي تتكلم ولا تُعقِّب، وإنما هما واعيان باستثنائية نعمة الكلام التي أُنعِم بها عليهما. لذلك لم ينفكَّا يتفكران، طوال حوارهما، في طبيعة الكلام ووظيفته وخصائصه، في قدراته الخفية ومعايبه. يروي أحد الكلبين، بيرجانثا، قصة حياته للكلب الآخر، حاكيًا له عن مغامرات حياته ككلب، وعن المشقَّات التي لاقاها من أربابه السابقين، وهلمَّ جرًّا. لكنه لم يستطع في إبَّان حكيه أن يُمسك لسانه عن الانغماس في البهتان والنميمة والغيبة، لذلك لم ينفكَّ الكلب الآخر ينهره على ذلك ويعظه بأن يتوخَّى الحرص وألا ينجرف مع اللغة في هذا الطريق. وردًّا على موعظته، قال له بيرجانثا ما يلي:
يقينًا، يا ثبيون، لا بد للواحد منا أن يتوخَّى غاية الحكمة والحذر إذا ما أراد أن يواصل ساعتين من الحوار من دون أن يخوض في النميمة. فبالرغم من كوني حيوانًا، فإنني بمجرد ما أفتح فمي بضع مرات، حتى أجد كلمات الطعن والبهتان تُهرَع إلى لساني كما يُهرَع الذباب إلى النبيذ. ولذلك سأعيد على مسامعك ما قلته آنفًا: نحن نرث أقوالنا وأفعالنا الخبيثة من آبائنا الأوَّلين، إننا نرتضعها مع اللبن من أثداء أمهاتنا. ويظهر لنا ذلك بجلاء في الطفل، الذي يُلوِّح بقبضة ذراعه، التي خرجت بصعوبة من أقماطه، كما لو كان يريد أن ينتقم لنفسه من الشخص الذي يظن أنه شتمه، والذي ينطق أول ما ينطق تقريبا بكلمة "قحبة"! سابًّا بها أمه أو مرضعته[37].
لو اتَّبعنا هذا الطرح فسنقول إن النميمة (البهتان، الإفك، إشاعة الشائعات، الغيبة، إلخ) ليست مجرد انحراف بسيط مؤسف عمَّا يكون الكلام عليه عادةً أو عمَّا ينبغي أن يكون عليه، وإنما هي مقترنة بوظيفة الكلام الأساسية، وتتسلَّل إليه في منبعه. لا يوجد كلام من دون نميمة، بدايةً من اللحظة التي يفتح فيها المرء فمه. إنها تسطو على الكلام في منبعه، ولا توجد لغة في منجى من هذا السطو؛ فلا توجد إحالة، ولا وصف محايد، ولا حكي موضوعي، من دون أن تتسلَّل إليه النميمة على الفور. لو سلَّمنا بهذا الطرح فسنجد أنفسنا أمام نقيض ما نحمله على محمل البداهة: ليست الوظيفة الأساسية للغة هي التواصل ونقل المعرفة- ما يُفترَض- وإنما الافتراء والإهانة؛ فأن تتكلم يعني أن تطعن وتجرح[38]، أن تتكلم يعني أن تنُمَّ وتنشر الشائعات، أن تتكلم يعني أن تغتاب وتبهت. حقًّا، أي مصير كان سينتظرنا لو أننا لا نتكلم إلا بالحقائق المُؤكَّدة والعبارات الدقيقة؟ يقينًا لم نكن لنُعمِّر ساعةً لو أننا لا ننطق إلا بعبارات من قبيل عبارة "القطة على السجادة" العزيزة على قلوب الفلاسفة التحليليين[39]، بل ربما كنا سنتوقف عن أن نكون بشرًا حينها[40].
ومن هذا المنظور، ليس الكلام بغرض التواصل ونقل المعرفة سوى محاولة لترويض كُنه الكلام الأصلي، أي النميمة، وتدجينه وتقليصه والتستُّر عليه. نحن لا نحتاج إلى اللغة، في الأساس، لكي ننقل المعرفة، وإنما نحتاج إليها لكي ننُمَّ، أي لكي نفعل الشيء الوحيد الذي لا يُمكِن للحيوان أن يفعله [الإنسان حيوان نمَّام؟]. من المعلوم أن عالم اللسانيات الشهير رومان ياكبسون قد طرح ست وظائف أساسية للغة، لكننا لا نجد النميمة بين هذه الوظائف[41]. وعلة ذلك -في ظني- هي أن علماء اللسانيات مفرطو الأدب والمثالية؛ إنهم يؤمنون بالتواصل والتعاون، بينما تنظر كلاب سرفانتس إلى الأشياء بنظرة أكثر واقعيةً، أو بالأحرى أكثر كلبيَّةً ("cynical"، المُشتقَّة من "kynos"، كلب). إنها قادرة على تبنِّي منظور أكثر ماديةً، لو جاز للمرء أن يقول ذلك. من وجهة نظر اللسانيين، يحب الناس بعضهم بعضًا أصالةً؛ إنهم يريدون أن يتواصلوا، ويتعاونوا، ويتبادلوا المعلومات النافعة. ومن وجهة نظر كلاب سرفانتس، يكره الناس بعضهم بعضًا أصالةً؛ إنهم يستعملون اللغة كسلاح، فبمجرد ما يفتحون أفواههم يشرعون في النمِّ والافتراء، في تقاذُف الشتائم، في الجرح والسب. أيهما أولى بالاتباع إذن؛ العالِم أم الكلب؟ ياكبسون أم بيرجانثا؟
يرى الكلب أن الكلمات والأفعال الخبيثة، أن الطعن والبهتان، أشياء جِبِلِّيَّة، مُتأصِّلة في طبيعتنا. إننا نرتضعها مع اللبن من أثداء أمهاتنا؛ إننا نرثها من "primeros padres"، آبائنا الأوَّلين. وفي أساس هذا الرأي، تكمن يقينًا فكرة الخطيئة الأصلية، التي ارتكبها أبوانا آدم وحواء. لقد ورثنا سقوطهما، ومن ثم لا غرو أننا نميل بالسليقة إلى البهتان. في الترجمة السلوفينية لهذه القصة، نجد عند هذا الموضع حاشية مذهلة تشير إلى أن الكلاب ليست من نسل آدم وحواء، في نهاية المطاف، ومن ثم لم ترث السقوط[42]. وبمقدورنا أن نستنبط منها الأطروحة التالية: نعمة اللغة، التي يتجادل بشأنها كلاب سرفانتس بحماسة، هي ما يُشكِّل السقوط. إن اللغة والسقوط متطابقان. اللغة هي خطيئتنا الأصلية، ومن هنا ميلها الطبيعي والعفوي إلى النميمة والافتراء. ولأن اللغة متطابقة مع الخطيئة الأصلية، لا عجب إذن أن تكون وظيفتها الأساسية هي نشر الشائعات الخبيثة العارية من الصحة، ولا عجب أن المرء لا يُمكِنه أن يتكلم، ولو لوقت قصير، من دون أن تتسلَّل هذه "الوظيفة الدنيا" صاعدةً إلى لسانه، ومهما بذل من جهد لمنعها من الصعود. لا يوجد تواصل محايد، لا يوجد إخبار محايد، لا توجد لغة من دون نميمة، منذ لحظة السقوط؛ والسقوط هو اللغة نفسها.
لا توجد لغة من دون نميمة، ويتجلَّى ذلك في سلوفينيا أكثر من أي مكان آخر؛ ففي اللغة السلوفينية، الكلمة التي تشير إلى شائعة، "govorica" (تُستعمَل في صيغة الجمع غالبًا؛ "govorice"، شائعات) هي الكلمة نفسها التي تشير إلى "لغة"، أي أن ثمة وحدة لغوية بين الاثنتين (في السلوفينية فحسب؟)، ثمة كلمة واحدة للإشارة إلى اللغة والشائعة[43]. في سلوفينيا، تتطابق نعمة الكلام مع نعمة الشائعات بحيث لا يعود في مقدور المرء التفريق بينهما. تحتاج اللغات الأخرى إلى استعارات للتعبير عن الشائعة، بينما في السلوفينية اللغة نفسها استعارة على الشائعة — أم العكس [الشائعة نفسها استعارة على اللغة]؟
يجدر بالمرء أن يتحلَّى بالحرص ويُميِّز بين الشتم والنميمة، ولا يدمجهما كما هو الحال في النظرية الكلبية المُستشهَد بها أعلاه؛ فالشتائم تُقذَف في وجه مُخاطَب حاضر، كـ"قحبة"! التي يسب بها طفل بيرجانثا أمه أو مرضعته، أما النميمة فتكون عن شخص غائب؛ فلا يُمكِن للمرء أن ينُمَّ عن شخص في حضرته (ولذلك تُسمَّى "غيبة"). تقوم النميمة على حضور جماعة من المتكلمين في حق آخرين غائبين، ومن ثم يُمكِن النمُّ عنهم، اغتيابهم. النميمة شتمة عن بُعد، شتمة فصلت نفسها عن حاضر موقف الكلام وراحت تُحيل على غائبه. يُؤلِّف النمَّامون جماعة قائمة على الاستبعاد، تُوفِّر لها الإحالة على الطرف الثالث- الغائب على نحو مريح- الأمانَ والحمايةَ من الانفضاح والغراء الذي يشد الأواصر بين أفرادها. لعل الفعل المُؤنسِن (humanizing) هو انتقال الكلام من الشتم إلى النمِّ؛ لأنه في النميمة وحدها تكتسب اللغة وظيفة بناء جماعة من المتكلمين عن طريق استبعاد آخرين غائبين. فلا يزال من الممكن اعتبار الشتائم امتدادًا للزمجرات التي تُطلقها الحيوانات في وجوه بعضها البعض، أما النميمة فتبدو شأنًا بشريًّا محضًا.
والآن، لو نظرنا كرَّةً أخرى إلى وجهَي الآخر الكبير- وجهه الرسمي ووجهه الظلي؛ وجه اللوجس ووجه الشائعة- في ضوء نظرية اللغة التي طرحها كلبا سرفانتس، لوجدنا أن الظل يأتي أولًا، يسبق ما يُفترَض أن يكون ظلًّا له، أو على الأقل يتسلَّل إليه في منبعه على الفور، يشاركه نشأته الأولى. لا يوجد آخر كبير إلا وهو مشوب بظلِّه منذ البدء. إن الآخر الكبير الرسمي لا يأتي إلا بعد فوات الأوان، وبعد مجيئه المتأخر، يحاول أن يتستَّر على ظلِّه السابق عليه، ولا يُفلح في ذلك أبدًا. يحاول أن يُظهره كمجرد ظل، مجرد انحراف للوجس؛ ضلاله المؤسف عن سواء السبيل، مجرد ضرر عارض. يحاول أن يدافع عن براءته بوضع اللوم كله على قرينه الخبيث.
علاوةً على نظريتهما عن اللغة وعلاقتها بالنميمة، طرح كلبا سرفانتس نظرية عن الفلسفة وعلاقتها بالنميمة. يقول ثبيون في معرض وعظه لبيرجانثا:
فلتحذر يا بيرجانثا، حتى لا يغدو الميل إلى التفلسف، الذي تقول إنه قد أخذ بناصيتك، فتنة لك من الشيطان؛ لأنه ليس للنميمة حجاب تستر به خبثها وفسقها أدقُّ وأدهى من زعم المشَّاء بالنميم أن كل ما يقوله ينطوي على حكمة الفلاسفة، وأن همز الناس ولمزهم ليس سوى تقريع مُستحَب قد يرقى إلى مرتبة الواجب الأخلاقي، وأن فضح عيوب الآخرين عمل صالح يُمليه الضمير[44].
بناءً على ذلك، ليست الفلسفة سوى ضرب أسمى من النميمة، نميمة متخفية، نميمة تتظاهر بأنها أرقى خُلقًا وأمتن أساسًا. وليست فتنة الشيطان (الذي أخرج آدم وحواء من جنة عدن في أول الأمر) هي مجرد الاستسلام لغواية النميمة والانغماس فيها، وإنما توجد فتنة أكبر؛ الفتنة الفلسفية، وهي تقديم النميمة باعتبارها حكمة فلسفية، باعتبارها اللوجس نفسه، بعدما قطع- بمكر- حبله السري الذي يربطه بأصله النميمي، وأضحى بمقدوره أن يسود حرًّا بمُثُله وكونيته الظاهرية. فتنة الشيطان هي تسويغ الشائعات وشرعنتها، تطهيرها، عوضًا عن نبذها لزيفها. ولذلك، الفلسفة هي أدق أحجبة الشيطان وأدهاها. إن مشكلة اللوجس هي استمتاعه (المُنكَر والمجحود) بالنميمة والشائعات، تواطؤه معهما، عجزه عن فصل نفسه عنهما فصلًا باتًّا. وهكذا يتبيَّن لنا أن وجهي الآخر الكبير مرتبطان بعضهما ببعض سرًّا، ويدعم أحدهما الآخر خفية، على الرغم من تناقضهما الصارخ وافتقارهما لأي قاسم مشترك في ما يبدو لنا.
وكاستطراد خاطف في النظرية اللاكانية، ألا ينبغي للمرء أن يستحضر هنا مقولة لاكان الشهيرة: "il n'y a pas d'Autre de l'Autre"، "ليس للآخر الكبير آخر كبير"؟[45] وبالنظر إلى قسط المتعة الذي يجده النَّمام في نمِّه، والذي يدفعه إلى النمِّ، ألا يُسوِّغ للمرء أن يقول إننا نجد هنا رابطًا جوهريًّا بين اثنتين من مقولات لاكان، وهما: "ça parle" ، "الـ"هو" يتكلم" ("الـit أو الـId يتكلم")، و"ça jouit et ça ne veut rien savoir"، "الـ"هو" يتمتَّع ولا يريد أن يعرف"؟ أليست النميمة الوسيط الذي يجمع بين الاثنين؟ الـ"هو" في "يُشاع أنـ(هـو)"؟[46]
9.
يوجد ذيل طريف جدًّا من التحليل النفسي على قصة سرفانتس هذه. أحد أبكر الوثائق التي بين أيدينا عن فرويد في سني صباه، هي المراسلة التي دارت بينه وبين صديقه إدوارد سيلبرشتين، الذي كان زميلًا لفرويد في المدرسة الثانوية وفي الجامعة لاحقًا. بدأ تراسُلهما في سنة 1871، عندما كان فرويد ابن خمسة عشر ربيعًا، وانتهى بعد عشر سنين، في 1881[47]. لقد كانت صداقتهما حميمة، وكان تراسُلهما محمومًا للغاية، على نحو مُنبئ بصداقته الحميمة اللاحقة مع فيلهلم فليس وتراسُلهما اللاحق المحموم. وإلى جانب تعلُّم اللغة الإنجليزية والفرنسية واللاتينية واليونانية في المدرسة، أراد الصبيَّان أن يتعلما اللغة الإسبانية بمفردهما من كتاب تمهيدي. ولهذا الغرض أسَّسا أكاديمية إسبانية، من تلميذين فحسب (لكن بخاتَم رسمي ووثائق رسمية)، وقرَّرا أن يتراسلا بالإسبانية على سبيل الممارسة[48]. وكتبا بإسبانية مُكسَّرة، تعج بالأخطاء، لكنها تحسَّنت مع الوقت. ولقد احتوى الكتاب الذي يدرسانه على- وهل لنا أن نتوقَّع خلاف ذلك؟!- شطر من قصة "حوار الكلاب". وهكذا، اتفقا على أن يلعبا دور الكلبين، وأن يُوقِّعا رسائلهما باسميهما؛ فرويد باسم ثبيون وسيلبرشتين باسم برجانثا. لقد كانت مراسلة صبيانية تتناول شؤون الحياة اليومية، وشؤون الفتيات، وتجارب الحب الأولى (فرويد إذ يقع في حب جِزيلا فِلَسّ[49])، وتضم -كما ينبغي لها- قدرًا لا بأس به من النميمة، تماشيًا مع روح قصة سرفانتس. لكنها راحت، مع الوقت، تتناول مواضيع فلسفية أكثر جديَّةً، وهنا نجد شهادة على أول احتكاك لفرويد بالفلسفة؛ ففي رسالة شهيرة، حكى عن لقائه بفرانز برِنتانو، الذي حضر فرويد دروسه، والذي يعُدُّه صاحب التأثير الأكبر عليه في الفلسفة[50]. وهكذا، تسمح لنا هذه المراسلة بإلقاء نظرة خاطفة على تكوين فرويد المُبكِّر جدًّا، على فرويد قبل ابتكاره للتحليل النفسي؛ أيسعنا أن نقول إننا نشهد هنا ولادة التحليل النفسي من روح كلبين؟ أهذه هي ولادة التحليل النفسي من روح النميمة؟ أيسعنا أن نقول إننا نشهد هنا استحالة فصل الآخر الكبير اللغوي (مفردات اللغة الإسبانية وقواعدها في هذه الحالة) عن قرينه النميمي؟ أهذه هي الانزلاقة من مجرد النميمة إلى الفلسفة باعتبارها ضربًا أسمى من النميمة؟
وعلى هذا الذيل، يوجد ذيل آخر لا يُصدَّق. مع مرور السنين، تفرَّقت السبل بالصديقين؛ فقد كان سيلبرشتين يهوديًّا رومانيًّا، وبعدما أنهى تعليمه عاد إلى رومانيا، وتزوج هناك لاحقًا، وحدث أن ابتُلِيَت زوجته الشابة بعِلَّة نفسية. ومن فرط قلقه عليها قرَّر- في نهاية المطاف- أن يُسفِّرها إلى فيينا لكي تُعرَض على الدكتور فرويد، الذي كان حينها طبيبًا ممارسًا راسخًا وذا سمعة طيبة كمعالج نفسي. لقد استنجد آيسًا بصديق صباه، بعد انقضاء عقد من الزمن على آخر رسالة بينهما. وحصلت المرأة الشابة على موعد لرؤية فرويد، الذي كانت عيادته وقتئذ في الطابق الثالث (قبل أن ينتقل إلى 19 شارع بيرجاسا). وفي أثناء صعودها إلى العيادة، في أحد أيام شهر مايو من سنة 1891، ألقت بنفسها من النافذة، فماتت، قبل أن ترى فرويد. فيا لها من نهاية غاية في الفظاعة لقصة كانت بدايتها غاية في المرح!
10.
وبعد، أين يتركنا هذا؟ أين يصل بنا؟ ماذا يعني بالنسبة إلى مأزقنا الراهن؟ هل يسعنا القول إننا نعيش في المرحلة التاريخية الرابعة في هذا المُخطَّط التاريخي التقريبي (بعد شكسبير وبومارشيه وكافكا)؟ ثمة شائعة منتشرة حاليًّا تقول إن الآخر الكبير غير موجود. ويبدو أن التحليل النفسي هو مصدر هذه الشائعة؛ فجاك لاكان لم ينفكَّ يُشدِّد على ذلك: الآخر الكبير مُفتقِر، الآخر الكبير لاغٍ، مشطوب (آخر كبير)، الآخر الكبير ناقص، وأخيرًا، الآخر الكبير غير موجود[51]. فهذا ما يُفترَض للتحليل النفسي أن يعلمنا إياه في نهاية المطاف[52]. لكن على المرء أن يضيف هنا أن الآخر الكبير قد يكون غير موجود، لكن ذلك لا يعني أنه غير مُؤثِّر؛ فواقع الحال أننا مقيدون بآثاره تقييدًا. إن افتقار الآخر الكبير ونقصَه لا يعني أن حبلنا صار على الغارب، وأن كل شيء صار مُباحًا. ولعل انشطار الآخر الكبير إلى شطرين؛ الآخر الكبير (اللوجس) وظله (الشائعة)، هو نتيجة لهذا الافتقار والنقص. أو هل يُسوَّغ للمرء القول بأن الشائعات تُجسِّد منذ البدء "عرَض" (symptom) اللوجس، بإقامتها في نقصه، وتبخترها بافتقاره، واستعراضها لقصوره وانخراقه وتزعزع أسسه؟
أحد الاستنتاجات الخاطئة، التي يُمكِن أن نخلص إليها من هذا، هو الاستنتاج الكلبي (التهكُّمي، الساخر): الآخر الكبير، المبني على اللوجس والحقيقة، غير موجود، وأن الموجود هو الآخر الكبير المبني على الشائعات، على وظيفة اللغة النميمية، التي لا يُمكِن للوجس أن يبتَّ نفسه عنها. ودعونا نقر بأننا جميعًا سواسية هنا؛ فكلنا نتمتَّع بالشائعات والنميمة، ليس على الرغم من أننا "نعلم تمام العلم" أنها واهية وباطلة، وإنما تحديدًا لأننا "نعلم تمام العلم" أنها واهية وباطلة. إنها فعالة وتتبختر بفاعليتها، وفوق ذلك هي- وعلى عكس الحقيقة- ممتعة (تمامًا كالشماتة). والأنكى أننا لا نرى في ذلك ما يستدعي أي شعور بالذنب، بما أن هذه هي الوظيفة الأساسية للغة وللاختلاط بالناس على أي حال. اللوجس الفلسفي ليس سوى شائعة مُتنكِّرة، تتظاهر عبثًا بأنها شيء آخر. وعليه، ليس الواقع كله في نهاية المطاف سوى واقع تظاهُر وادِّعاء (واقع كلبي، حرفيًّا)[53]، هذا هو لُبُّه؛ يوجد نميمة وخبث، لكن لا يوجد آخر كبير. ويبدو هذا الموقف على النقيض تمامًا من الموقف الفلسفي، الذي يرى -في العادة- أن وحده الآخر الكبير الحقيقي، آخر اللوجس، موجود، بينما الآخر الكبير الظلي بلا صُلب، مجرد انحراف عارض وعابر بلا أساس، مجرد ظل.
"الآخر الكبير غير موجود"، عبارة تصلح شعارًا لزماننا، أو نقطة انطلاق لتشخيص عِلله، اسم مختصر لسيرورة تردِّي الآخر الكبير التي دمغت الحداثة منذ زمن فيجارو والتنوير. فإذا جاز لنا أن نعُدَّ التنوير وانتصاره (المشكوك فيه) انتصارًا مظفرًا للآخر الكبير المبني على اللوجس والعقل، فسيجوز لنا أن نعُدَّ التاريخ التالي على التنوير تاريخَ اضمحلال هذا الآخر الكبير وتلاشيه. يُمكِن إيجاز قصة الحداثة على النحو التالي: لقد أطاح التنوير بالسلطات والمرجعيات التقليدية، الآباء والقساوسة والسادة الذين كانوا يسنُّون القوانين ويضعون القواعد ويُعيِّنون المُحرَّمات، ونصَّب مكانها الآخرَ الكبير بحق، المبني على العقل والعلم والديمقراطية وهلمَّ جرًّا. لكن، بعد ذلك، وهنت سلطة العقل والمعرفة التي قام عليها التنوير نفسه، وأضحت القوانين والقواعد الأخلاقية قابلة للتبديل، واضمحلَّت الضمانات المتعالية. لقد تقوَّض الفرق بين المعرفة والرأي، تدريجيًّا، على يد وسائل الإعلام الحديثة (الميديا) المزدهرة، التي وعدت بأن تكون أداة التنوير الأشدَّ بأسًا. لقد فرَّقت الفلسفة- عند مولدها– بصرامة بين الآراء والمعرفة، لكنهما أصبحا الآن، وعلى نحو لا ينفك يتزايد، مُتوحِّدين، أصبحا تجليًّا لشيء ثالث- الشائعات- التي تُؤدِّي دور الحد الأوسط، الأرضية المشترك، الوسيط بينهما. ويُسوَّغ للمرء أن يُوجِز هذا التشخيص قائلًا: لقد ربحت الشائعات في نهاية المطاف، لقد صرنا "متشائعين" (rumorized). وبالمثل، لقد تبدَّد الفرق بين العام (النطاق التقليدي للآخر الكبير) والخاص، وعلى نحو لا ينفك يتزايد، بحيث صار الإنترنت، وهو المصدر الأساسي للمعلومات العامة والخاصة في أيامنا، كخليط مُتمازِج من العام والخاص، قائم على أرضية الشائعات. بالطبع أنا أطرح هنا عرضًا استقرائيًّا وتبسيطيًّا لسردية معروفة. لكن على مدار القرن العشرين، تعزَّزت هذه السيرورة وتعاظمت، بفضل سيل وسائل الإعلام الجارف، بمختلف أشكالها وأحجامها، وسطوتها التي لا تنفك تتزايد. لقد طغت على العالم برمته، وصبغته بصبغتها. ومع نهاية القرن، وظهور الإنترنت، وصلت إلى مستوًى جديد، ثم وصلت إلى أوجِها (حتى الآن) مع وسائل التواصل الاجتماعي، كفيسبوك وتويتر وإنستجرام ويوتيوب والمنتديات، إلخ. فلا شيء قادر على نشر الشائعات، بكميات هائلة وفي طرفة عين، كالإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي (خصوصًا مع التحكُّم الآلي؛ إذ لم نعد بحاجة إلى الإنسان الحي، ومع الخوارزميات السرية المُوجَّهة بعناية؛ إذ تُستهدَف الجماهير على نحو مخصوص بناءً على الإحصائيات). يبدو أن الإنترنت، وعلى قصر تاريخه، قد جرى مجراه كاملًا، انطلاقًا من الآخر الكبير المبني على اللوجس (مع الوعد الطوباوي بإتاحة المعلومات، بكميات هائلة وفي لمح البصر، على نحو لم يسبق له مثيل، وبتيسير التواصل بين البشر، وبنشر التحرُّر والديمقراطية) وصولًا إلى قرينه الظلي، الآخر الكبير المبني على الإفك، الذي حاز قصب السبق مرة أخرى في ما يبدو؛ ففي وقت قصير للغاية، أنجز الإنترنت الانزلاقة الكبرى من ياكبسون إلى بيرجانثا، من الاستبشار به كوسيلة تنوير جديدة، إلى غُدوِّه أنجع ناشر للشائعات ونظريات المؤامرة. لقد بدأ من اللوجس وانتهى إلى اللوجو. إنه يبدو كتجسيد جديد ليانوس ذي الوجهين؛ وجه التواصل والمعرفة ووجه النميمة والشائعات، مع غلبة الوجه الثاني وهيمنته مرة أخرى. لقد صرنا مع الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي (في مقابل التلفاز والصحيفة، حيث وُجِد خط صارم فاصل بين المضمون المعروض والجمهور المتلقي) بصدد انهيار للخطوط الفاصلة: عام/خاص، مُمثِّل/مُتفرِّج، مُنتِج/مُستهلِك، رأي/معرفة، شائعة/معلومة. لا يُمكِن للإنترنت أن يكون الآخر الكبير بحق، ولا أن يتختَّم بخاتمه؛ فهو ليس سوى كثرة لانهائية من الآخرين الصغار. لكن مهما بلغ عدد هؤلاء الآخرين الصغار مجتمعين، لا يُمكِن لهم أبدًا أن يرتقوا إلى مقام الآخر الكبير.
يبدو أن هذا الإعصار الذي لا ينفك يزداد عُتوًّا (من المواطن كين إلى روبرت موردخ[54]، من التلفاز إلى الفيسبوك، حيث يستفحل الوضع مع كل خطوة إلى الأمام) يشير إلى اتجاه واحد، يُمكِن وسمه بأيٍّ من هذه الأقوال اللاكانية الوجيزة: "لا يوجد آخر كبير"، "الآخر الكبير غير موجود"، "الآخر الكبير مُفتقِر". ولذلك يبدو دونالد ترامب، أعلى المبشرين بهذه البشارة صوتًا، اللاكانيَّ الأكبر في الأرجاء؛ فمن الممكن ترجمة معظم تصريحاته ببساطة إلى: "لا يوجد آخر كبير"، "الآخر الكبير مفتقِر"[55]؛ فأي حقائق أو معلومات مزعجة تُنبَذ باعتبارها شائعات عارية من الصحة، ولأي حقائق توجد حقائق أخرى بديلة، وأي كذبة يُمكِن دعمها بألف كذبة أخرى. وكذلك يبدو ترامب الهيجلي الأكبر في الأرجاء. ففي مُلحة شهيرة، يُروى أن هيجل قد ردَّ على انتقاده بأن الحقائق تُناقِض نظريته قائلًا: ‘Um so schlimmer für die Fakten’ ، "هذه غلطة الحقائق"[56]، وهذا هو لسان حال ترامب كلما ناقضته الحقائق (لكن للمرء أن يضيف أن هذا القول المعزو إلى هيجل موضوعٌ للشائعات بما أنه بلا دليل وبلا مصدر). والآن، ما الذي ينبغي علينا فعله؟ أو على الأقل؛ ما الذي ينبغي على اللاكانيين والهيجليين من بيننا فعله، خصوصًا أن لديهم هذا الحليف المُتبوِّئ لمقامٍ بهذه الرِّفعة والمهابة[57]، هذا النصير المُتحمِّس، الذي يُطبِّق فكر هيجل ولاكان يوميًّا على ما يبدو؟!
وفي الختام، توجد انعطافة (تويست) أخيرة. ليست الشائعة القائلة بأن آية الأزمنة الحديثة هي زوال الآخر الكبير سوى "خبر زائف" آخر على الأرجح؛ إذ ثمة شيء خاطئ في هذا التشخيص على الرغم من وجاهته الظاهرة؛ ثمة شيء خاطئ في إجمال القول في مأزقنا الراهن بهذه العبارة: "لا يوجد آخر كبير، لقد زال." فلعل مأزقنا أكبر من ذلك بكثير: ليست المشكلة أن الآخر الكبير قد تردَّى وفقد سلطته كلها، وإنما المشكلة أن الآخر الكبير لا يزال حيًّا، وفي تمام العافية، وأضحى جَموحًا وعنيدًا أكثر من أي وقت مضى ربما[58]. وهذا الآخر الكبير ليس هو الآخر الكبير المبني على اللوجس (على النظام الرمزي والمعرفة والعقل والعلم، إلخ)، ولا الآخر الكبير المبني على اسم-الأب (على السيادة والنظام الأبوي)[59]. وليس طغيان الشائعة هو مجرد انتصار الجانب الظلي للآخر الكبير على جانبه الآخر، هيمنته عليه وإسقاطه، ولا هو مجرد عرَض لغياب الآخر الكبير وافتقاره، وإنما عرض لكونه مكبوتًا (أو منبوذًا بالأحرى؟) وبعيدَ المنال[60]. وإنما الآخر الكبير، الذي يتعيَّن علينا التعامل معه راهنًا، هو آخرُ كبيرٌ لا يُسبَر غوره، ثاوٍ في نظامنا الاجتماعي-الاقتصادي، وقائمٌ على حفظه. إن الآخر الكبير في زمننا هو بنيةُ عالمنا الرأسمالي العولمي عينها. وكلما نعينا هذا الآخر الكبير ورثيناه، أضحى أشد حياةً وقوةً. كلما عددناه شائعة، ساد وهيمن. كلما تبختر بافتقاره ونقصه، اشتد بأسه. وإليكم كيف عبَّرت ألينكا زوبانجج عن ذلك بوضوح:
في حقيقة الأمر، ما نشهده في أيامنا هذه ليس زوال الآخر الكبير، وإنما إدامته وحفظه، على نحو مرتاع إلى حدٍّ ما، في هيئة آخر كبير خامل تمامًا (أي غير مُتجسِّد في أي آخر صغير)، لكنه مُطلَق وسليمٌ ومعافًى تمامًا (بنية اقتصادية لا تُمَسُّ)؛ إذ يبدو النظام الرمزي (أي نظامـ"نا" الاقتصادي في الأساس) كملعب، نتمتَّع فيه بحرية تغيير أي شيء، واللعب بإمكانيات شتى وتنويعات لا نهائية. ومع ذلك، نحن بلا أي حول أو قوة في علاقتنا بحدود هذه البنية الاجتماعية-الاقتصادية نفسها؛ فليس بمقدورنا تغيير أبعادها ولا حتى المساس بها[61].
وهكذا يتبيَّن لنا أن "الآخر الكبير غير موجود" قولٌ مخادع، أبعد ما يكون عن مرمى القول اللاكاني "الآخر الكبير مُفتقِر"؛ إن الآخر الكبير يقوى ويشتد بأسه كلما رثينا زواله، وإننا في حاجة إلى ابتكار استراتيجية جديدة للإطاحة به غير تأليب أحد وجهيه ضد الآخر. لقد أضحت مهمتنا- إذا ما اتخذنا من لاكان وهيجل نبراسًا لنا- أصعب من أي وقت مضى.
وفي ما يخص الأوهام الموضوعية[62]، دعوني أطرح هذين الأُطروحتين. الأولى: الآخر الكبير وهمٌ موضوعيٌّ على الدوام؛ فنحن نعلم، بفضل التحليل النفسي، أن الآخر الكبير مُفتقِر وناقص، وأنه لا تقوم له قائمة إلا باكتساب طبيعته الوهمية هذه قبولًا موضوعيًّا. والثانية: يُمكِن لمقولة "الآخر الكبير مُفتقِر وناقص" أن تعمل كوهمٍ موضوعي، يستر على أفعال الآخر الكبير الخبيثة في زمننا، فيقوى ويشتد بأسه بقدر ما يتبختر بافتقاره ونقصه.
[1]* Mladen Dolar, “On Rumours, Gossip and Related Matters,” in Adrian Johnston, Boštjan Nedoh and Alenka Zupančič (eds.), Objective Fictions Philosophy, Psychoanalysis, Marxism (Edinburgh: Edinburgh University Press, 2022), 144-164.
[2]** الفيلسوف والمُحلِّل النفسي السلوفيني.
[3]*** الاقتباس من وضع المترجم، وهو الذي رقَّم أقسام الدراسة، وكل ما بين معقوفتين فيها من وضعه.
[4] تعني كلمة "logos"، في أصلها اليوناني، "كلمة، عبارة، كلام، خطاب"، و"يحسب، يقدر"، و"عقل، حكم، فهم". ولاحقًا استخدمها كتبة العهد الجديد بمعنى الكلمة الإلهية، كما في افتتاحية إنجيل يوحنا الشهيرة: في البدء كان الـ"logos" — كانت الكلمة، كلمة الله. ولهذه "الكلمة"، "لوجس"، تاريخ طويل وشهير في الفلسفات والإلهيات الغربية والشرقية، لكن ما يهمنا في هذا المقام هو معناها الأولي: "العقل (المنطق، الحجة)"، و"كلمة". [المترجم]
[5] يُفرِّق جاك لاكان - كما هو معلوم- بين نوعين من الآخرية: الآخر الصغير (other)، والآخر الكبير (Other)؛ الآخر الصغير هو الآخر المعروف: الأخ، الجار، الزميل، الصاحب، الزوج، إلخ. وعلاقة المرء بالآخر الصغير علاقة تخيُّلية، محاكية (بلغة ريني جيرار)، محكومة بالتنافس والغيرة والحسد. أما الآخر الكبير فهو السلطة أو المرجعية الاجتماعية، حارس النظام الرمزي (القانون، بالمعنى الواسع للكلمة)، الحاكم للمجتمع والقائم عليه: من يُقرِّر قيمة الأشياء والأفعال ومدى مشروعيتها، من يُعيِّن الصواب والخطأ، من يُفرِّق بين الرأي والإبستيمه، من يضع الأشياء في نصابها.
الآخر الكبير هو مَن يجيبني، أنا الآخر الصغير، عن الأسئلة التي لا أنفك أطرحها على نفسي: ما الذي ينبغي عليَّ أن أرغب فيه؟ ما الآراء التي ينبغي عليَّ أن أتبنَّاها؟ ما الأفعال التي ينبغي عليَّ أن أفعلها والتي ينبغي عليَّ ألَّا أفعلها؟ ما اللغة وما اللهجة التي ينبغي عليَّ أن أتكلم بها؟ ونحو ذلك من الأسئلة، لكنه لا يجيبني صراحةً في واقع الأمر، وإنما أنا الذي أستنبط جوابه تأويلًا. الآخر الكبير هو مَن أتوجَّه إليه لكي يضمن لي أنني على صواب. ولذلك فالعلاقة بين المرء والآخر الكبير علاقة رمزية (وليست تخيُّلية كما هي علاقته بالآخر الصغير)، تقوم على الإكبار والانصياع والاحترام.
الآخر الكبير ليس كيانًا ماديًّا، وإنما كيان رمزي بحت، لكنَّ له مُمثِّلين، يتجسَّد فيهم، وينطق على ألسنتهم (على سبيل المثال: الأب أو الأم ومن يحل محلهما، وأصحاب المقام الاجتماعي والسياسي المرموق، والمشاهير والمؤثرون في زمننا، إلخ).
وللآخر الكبير المُبجَّل والمُوقَّر وجه آخر، وجه تحتاني، مظلم، وفاحش ومُتبجِّح بفُحشه (على حد وصف سلافوي جيجك). ويُمكِن اعتبار الدراسة التي بين أيدينا دراسة في هذا الوجه الآخر، التحتاني، للآخر الكبير. ومن أشهر أقوال لاكان الاصطلاحية في شأن الآخر الكبير: "الآخر الكبير غير موجود"، و"ليس للآخر الكبير آخر كبير"، و"الآخر الكبير مُفتقِر"، وستتعرَّض الدراسة لهذه الأقوال لاحقًا. [المترجم]
[6] لنلاحظ التركيب الطريف للعبارة الإنجليزية الدارجة ‘rumor has IT’ [يُشاع أنَّ، يُشاع أنـهُ، أو يُشاع أنَّـ(هو)، بالأحرى]. فهذه الـ"IT" تشير إلى أنه قد يكون للشائعات حقًّا صلة بالـ"IT" الفرويدي [الـ"Id" أو الـ"هو"، ثالث الثلاثة: الـ"أنا" والـ"أنا"-الأعلى والـ"هو". ولنتذكر أن فرويد قد سمَّى الثلاثة في الألمانية بأسماء الضمائر العادية، لكن جيمس ستراكي، مترجم النشرة الإنجليزية المعتمدة لأعمال فرويد الكاملة، هو الذي استعمل المقابلات اللاتينية: ego وsuper ego وId ، عوضًا عن الضمائر الإنجليزية I وsuper I وIt؛ حتى يُضفي عليها صبغة مفهومية. ولذلك يستعمل لاكان، تبعًا لفرويد، الضمائر الفرنسية وليس اللاتينية]. وأنا مدين بهذه الملاحظة لهنريك يوكر بيرى.
[7] يقول المثل اللاتيني: "Fama crescit eundo"، أي "rumor grows as it goes"، كلما نُقِلت الشائعة نمت، إنها تكبر وتزيد في أثناء انتشارها. والمثل اللاتيني مأخوذ من أبيات لفيرجل في الإنيادة (4: 174-175).
[8] نجد مثاًلا مرحًا على قوة سلطان الشائعة، ونجاعة تأثيرها، ونموها من نسمة إلى إعصار، في فيلم إشاعة حب (فطين عبد الوهاب، 1960). [المترجم]
[9] Octave Mannoni, ‘I know well, but all the same . . .’, trans. G. M. Goshgarian, in Perversion and the Social Relation, ed. Molly Anne Rothenberg, Dennis Foster and Slavoj Žižek (Durham, NC: Duke University Press, 2003), pp. 68–92.
[طرح (المحلل النفسي الفرنسي) أوكتاف مانوني هذه العبارة في سياق تحليله للفيتشية، وبيان المقصود من المفهوم الفرويدي "الجحد الفيتشي" (fetishistic disavowal). فهذه العبارة تصلح شعارًا غير مُصرَّح به (لا واعٍ) لكل شخص فيتشي في علاقته بفيتشه؛ فالرجل الذي يتخذ من قدم المرأة (أو حذائها ذي الكعب العالي، إلخ) فيتشًا له، لا يعتقد ببساطة أن قدم المرأة قضيبًا (في التحليل الفرويدي الأساسي للفيتشية الجنسية، يقوم كل فيتش في لا وعي صاحبه مقام القضيب الذي تفتقر إليه الأم-المرأة، وبذلك يحميه من قلق الخصاء). فلو سألناه عن ذلك، لرد علينا قائلًا: «بالطبع لا، أنا أعلم تمام العلم أنها ليست قضيبًا، لكن مع ذلك ... أنا أعاملها كما لو كانت قضيبًا أو كما لو كنت لا أعلم أنها ليست قضيبًا.» وهذا هو الحال أيضًا خارج نطاق الفيتشية الجنسية (حيث يلعب الفيتش دورًا مطمئنًا ومضادًّا للقلق بعامة)، فلو سألنا من يُعلِّق كف يد (أو حدوة حصان أو صليبًا أو مسبحة أو حجابًا في بيته أو سيارته، إلخ): "هل تعتقد أن كف اليد (أو غيرها) تحمي حقًّا؟" لرد علينا قائلًا: «بالطبع لا، أنا أعلم تمام العلم أنها لا تنفع ولا تضر، لكن مع ذلك ... أنا أعاملها كما لو كانت تنفع وتضر، أو كما لو كنت لا أعلم أنها لا تنفع أو تضر.»]
[10] Robert Pfaller, On the Pleasure Principle in Culture: Illusions without Owners (London: Verso, 2014).
[11] طرح (الفيلسوف الألماني المعاصر) روبرت فالر هذه العبارة في سياق بيانه لأفكار أوكتاف مانوني عن "الجحد الفيتشي" وتوسعته لها والكشف عنها في شتى الظواهر الثقافية. والفكرة الأساسية التي ينطلق منها فالر هي تمييز مانوني بين نوعين من القناعات: الـ"faith" والـ"belief". والفرق الأساسي بينهما هو أن الـ"faith" هو نوع القناعات التي يتبنَّاها أصحابها، ويُصرِّحون باعتناقها جهرًا بلا حرج؛ بينما الـ"belief" هو نوع القناعات التي لا يتبنَّاها أي أحد، قناعات بلا أصحاب.
وما أدَّى بمانوني إلى هذا التمييز هو اكتشافه لنوع بعينه من الأوهام (أو المعتقدات الخرافية الباطلة) علاقته بالمعرفة مفارقة جدًّا: فإذا كان الأصل في الأوهام أنها توجد بسبب الجهل، ومن ثم يُمكِن تبديدها بواسطة المعرفة، إلا أنه ثمة نوعٌ من الأوهام لا يُمكِن تبديده بالمعرفة، وإنما هو يتعزَّز بالمعرفة ويقوى، بل لا يُمكِن له أن يوجد إلا بفضل هذه المعرفة. أو بعبارة أخرى: ثمة أوهام موجودة لا لأننا لا نعلم أنها أوهام وإنما تحديدًا لأننا نعلم تمام العلم أنها أوهام. فوحدَه الشخص الذي يعلم أنها أوهام هو الذي يُمكِن له أن يتأثر بها. وهذا الضرب من القناعات الوهمية هو الذي يُسمِّيه مانوني بالـ"belief"، ويعُرِّفه بأنه الوهم الذي: 1) يوجد دومًا مع معرفة بطلانه؛ 2) يُعزى الإيمان به دائمًا إلى الآخرين (بلا صاحب)؛ 3) غالبًا ما يكون المرء غير واعٍ به (لا يفكر في مضمونه، ولا في أنه قد يكون مؤمنًا به)؛ 4) تترك "التوكيدات" الظاهرة عليه -بفضل حدث عارض أو مصادفة على سبيل المثال- أثرًا عاطفيًّا قويًّا على المرء.
ولبيان هذه السمة الأخيرة، يضرب لنا مانوني المثال التالي: خطَّط شخص منذ فترة للسفر في يوم مُعيَّن. وعندما حان ذلك اليوم، قرأ في "حظك اليوم" أن هذا اليوم تحديدًا ملائم للسفر. سيضحك الشخص فرحًا حينها، لكن نبرة ضحكته ستتغير -يخبرنا مانوني- إذا ما كان المكتوب هو أن هذا اليوم تحديدًا غير ملائمٍ للسفر وينبغي تجنُّب السفر فيه. ولو سألنا الشخص عن ضحكه فرحًا (أو قلقًا) على ما قرأه، لأمكننا صياغة رده -وفقًا لعبارة مانوني عن الجحد الفيتشي- كالتالي: أنا أعلم تمام العلم أن ما تقوله الأبراج محضُ وهمٍ، وأن هذه مجرد مصادفة، لكن مع ذلك هذا يُفرحني (أو يُقلقني)، كما لو أنني لا أعلم أن ما تقوله الأبراج محض وهم.
ويضرب لنا فالر المثال التالي من حالة رجل الجرذان: حكى رجل الجرذان لفرويد أنه في إحدى المرات التي ذهب فيها إلى منتجع العلاج بالمياه، وجد أن الغرفة التي يُفضِّل النزول فيها (لأنها مواتية لخططه الجنسية) يشغلها رجل عجوز، فقال لنفسه مازحًا: «أتمنى أن يموت جزاءً لفعلته هذه.» لكن عندما علم أن العجوز قد مات بالفعل بُعَيد هذه الواقعة (بسبب جلطة)، انتابه شعور لاذع بالذنب، على الرغم من علمه أن أمنيته لم تقتل العجوز. ومن ثم يُمكِننا القول على لسانه بعبارة مانوني: «أنا أعلم تمام العلم أن هذه مجرد مصادفة وأن العجوز قد مات بسبب جلطة وليس بسبب أمنيتي، لكن مع ذلك ما حدث يشعرني بالذنب — كما لو أنني لا أعلم أن هذا مجرد مصادفة.»
ويضرب لنا سلافوي جيجيك مثلًا على هذه "المعتقدات بلا معتقدين"، "الأوهام عديمة الصاحب"، بـ نيلز بور، الفزيائي المرموق؛ إذ يروي أحد أصدقائه أنه عندما زاره في بيته وجده يُعلِّق حدوة حصان على بابه، فسأله الزائر عجبًا: هل تؤمن بذلك؟! فأجابه: بالطبع لا! لكن قيل لي إنها تعمل عملها حتى لو لم تكن مؤمنًا بها. لم يتأثر نيلز بور إذن بوهم تأثير حدوة الحصان؛ لأنه لا يعلم أنه وهم، وإنما تحديدًا لأنه يعلم تمام العلم أنه وهم. ينفي نيلز بور إيمانه بهذا الوهم، لكن من يؤمن به إذن؟ لا أحد؛ فالجميع يجحد (فيتشيًّا) الإيمان به، لذلك هو وهمٌ بلا صاحب؛ فالجميع يُعوِّل على الآخرين ليؤمنوا به عوضًا عنه، وهذا التعويل هو ما يجعله باقيًا وفعالًا. [المترجم]
[12] Plato, Apology, 18b–19a, trans. G. M. E. Grube, in Complete Works, ed. John M. Cooper (Indianapolis: Hackett, 1997), p. 19.
[13] هذا المثل مأخوذ من كتاب "De augmentis scientiarum" [تقدم العلم]، لفرنسيس بيكون، الصادر في سنة 1623. لكنه إعادة صياغة لعبارة عند المؤرخ اليوناني بلوتارخ.
[14] بلا شك، يوجد ما لا يُحصى من أمثلة على ذلك في شتى الثقافات، ومن ثم فأي اختيار لأمثلة بعينها فيه شيء من العشوائية. وكذلك يعترض المرء هنا خطر الاستغراق في سرد قائمة من الحكايا الآسرة التي يُمكِن مضاعفة عددها إلى ما لا نهاية. لذا سأحاول أن أقتصر على ذكر عدد صغير من الأمثلة الهامة، ممسكًا في أثناء ذلك بخيط نظري هادٍ.
[15] هملت يتحدث هنا كوَليٍّ لأوفيليا لا كخاطبٍ مُحتمَل لها؛ ففي ذلك الزمن كان وليُّ المخطوبة هو من يدفع مهرًا لخاطبها وليس العكس كما هو الحال في زمننا. [المترجم]
[16] بالإضافة إلى حفنة من النقول المنثورة في أعمال شكسبير، التي ترمي نحو المرمى نفسه —مثل: «الفِرى تقصم الظهر، قادرة على تدنيس حتى أطهر الخلق سمعة» (العين بالعين، الفصل الثالث: المشهد الثاني: البيت 174، إلخ)— نجد تشخيصًا مدهشًا للشائعة في هيئة بشرية، في افتتاحية الجزء الثاني من مسرحية هنري الرابع. لكن لن أخوض في ذلك لضيق المقام.
[17] مصدر الأخطاء هو الخلط المريع بين هويات أبطال المسرحية الأربعة، وهاكم القصة بإيجاز: وُلِد لإيجيون السرقوسي ولدان توأمان متشابهان تمامًا. وفي المكان نفسه والزمان نفسه لمولدهما، وُلِد لرجلٍ فقيرٍ ولدان توأمان متشابهان تمامًا. وخشية الإملاق؛ باع الرجل الفقير ولديه التوأمين لإيجيون، الذي اشتراهما بنيَّة أن يكونا خادمين لولديه. وفي أثناء سفرة بحرية، تحطَّمت السفينة التي تحمل إيجيون وأسرته، ونجوا جميعًا من الغرق لكن تفرَّق شملهم، بحيث انتهى المطاف بالأولاد الأربعة كالتالي: أحد أبناء إيجيون مع خادمه أحد أبناء الرجل الفقير في سرقوسة (في صقلية)، وابن إيجيون الآخر مع خادمه ابن الرجل الفقير الآخر في إفسوس (في تركيا حاليًّا). وشاء القدر أن يُسمَّى ابنا إيجيون بالاسم نفسه؛ أنتيفولوس، وأن يُسمَّى ابنا الرجل الفقير بالاسم نفسه؛ دروميو. وبذلك أصبح في إفسوس شابٌّ اسمه أنتيفولوس برفقة خادمه الذي يُسمَّى دروميو، وفي سرقوسة شابٌّ اسمه أنتيفولوس برفقة خادمه الذي يُسمَّى دروميو. وفي لحظة ما قرَّر أنتيفولوس، الذي يعيش في سرقوسة، أن يبحث عن توأمه الذي لا يعرف مكانه. وبضربة من ضربات القدر، حطَّ رحاله مع خادمه في إفسوس، حيث يعيش توأمه الذي يحمل اسمه نفسه مع توأم خادمه الذي يحمل أيضًا اسمه نفسه. وهكذا صار الأربعة- السيدان التوأمان؛ أنتيفولوس، والخادمان التوأمان، دروميو- في أفسوس من دون أن يكونوا على علم بذلك. وهنا تحديدًا تبدأ مهزلة الأخطاء، بسبب الخلط الفظيع بين أنتيفولوس الإفسوسي وأنتيفولوس السرقوسي من ناحية، وبين دروميو الإفسوسي ودروميو السرقوسي من ناحية أخرى. [المترجم]
[18] الأب الروحي أو الأب بالعِماد هو من يشهد على تعميد الطفل، ويتولَّى لاحقًا مهمة تعليمه أساسيات الدين المسيحي، ثم رعايته روحيًّا (دينيًّا) طوال حياته، بالنصح والهداية والإرشاد. ومن ثم هو أبوه الروحي (أو أبوه في الله، حرفيًّا — على غرار أخ في الله) في مقابل أبيه الذي أنجبه، أبيه الجسدي، لو جاز التعبير. ففي ضرب من "تقسيم عمل" تربية الطفل، يتولَّى أبوه البيولوجي رعاية دنياه، رعاية جسده، بينما يتولَّى أبوه الروحي رعاية دينه، رعاية روحه. ويُسمَّى في الكنائس الشرقية بالإشبين أو الشبين، وهي كلمة سريانية تعني الوصيَّ، الكفيل، الحارس. ويُسمَّى أيضًا بالعرَّاب، وهي كلمة سريانية أيضًا، بمعنى كلمة إشبين نفسه، وليست كلمة عربية كما يُظَنُّ عادةً. [المترجم]
[19] Online Etymology Dictionary <https://www.etymonline.com/word/gossip>.
[أما في العربية، فلكلمة نميمة ثلاثة معانٍ: 1) صوت الكتابة، و2) الصوت الخفي؛ الهمس، و3) نقل الحديث بين الناس بغرض الإفساد والوقيعة والوشاية. والمعنى الأخير هو الذي يعنينا في هذا المقام. وأصل النمِّ هو "الظهور، الانتشار، الانكشاف، الإعلان، الشيوع". ولنلاحظ هنا أن في العربية، كلمة نميمة، في معناها الثالث، مُحمَّلة بحمولة مذمومة من الأصل، أما في الإنجليزية فقد اكتسبت هذه الحمولة المذمومة: شائعة باطلة، مع مرور الزمن.]
[20] من الطريف أن نلاحظ هنا أن القرآن قد استعمل- في ذمِّه للغيبة- استعارة من الجنس نفسه لهذه الاستعارة لكن مع قلب المعنى: {وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوه} (الحجرات: 12). ثمة أكل في الاستعارتين، لكن الغيبة ليست وليمة فرح وحبور، وليمة عيد، كما هو الحال في المسرحية وإنما وليمة فظيعة، وليمة يُؤكَل فيها لحم ميت، جثث. [المترجم]
[21] Alenka Zupančič, Poetika, druga knjiga (Ljubljana: Društvo za teoretsko psihoanalizo, 2004), p. 134.
[22] بالإضافة إلى هذا المثال، توجد أمثلة أخرى عديدة من هذه المرحلة ينبغي أخذها في الاعتبار. وبما أننا حديثو عهد بوباء كوفيد-19، لا يسعني إلا أن آتي على ذكر هذا المثال من بينها: رواية دانيل ديفو التاريخية "يوميات سنة الطاعون" (1722)؛ ففيها نجد أن الطاعون نفسه يكون مسبوقًا ومصحوبًا على الدوام بشائعات عن الطاعون — لدرجة أن كلمة طاعون يُمكِن استعمالها كمجاز على الشائعات، أو أن الشائعات نفسها يُمكِن اعتبارها ضربًا من ضروب الطاعون. لكن رواية دانيل ديفو، المكتوبة بعد مضي نحو 60 سنة على هذا الطاعون (الذي تفشَّى في لندن في سنة 1665)، ليست مبنية على الشائعات، وإنما تمتاز بدقة تاريخية مثيرة للدهشة، ومعتمدة على بحث تاريخي جاد للغاية (فهي أفضل، من نواحٍ عدة، مِن شهادات مَن شهدوا هذا الطاعون عيانًا).
[23] كتب بومارشيه مسرحية ثالثة متممة لـ"زواج فيجارو"، بعنوان "الأم المذنبة"، وبذلك صارت ثلاثية فيجارو تتألف من: حلاق إشبيلية وزواج فيجارو والأم المذنبة. [المترجم]
[24] حوَّل موتزارت مسرحية زواج فيجارو إلى أوبرا بالعنوان نفسه في سنة 1786. وبذلك أضحى هناك أوبراتان تتنافسان على لقب الأوبرا الأشهر على مر العصور، كلتاهما مبنية على مسرحيتين لبومارشيه.
[25] طبقة الباس أو الجهير (Bass) هي اسم أدنى طبقة صوتية (أي الأقل حدةً والأكثر غلظةً) على سلم طبقات الصوت في الغناء الأوبرالي الرجالي. [المترجم]
[26] لقراءة كلمات الأغنية في لغتها الأصلية، الإيطالية، انظر:
<www.murashev.com/opera/Il_barbiere_di_Siviglia_libretto_Italian_English>.
[27] لسماع الأغنية مُغنَّاة على المسرح، افتح هذا الرابط:
https://www.youtube.com/watch?v=mdRmOxHSgck&ab_channel=ClassicalHDLive
[المترجم]
[28] توجد ترجمات إنجليزية عديدة لهذه الجملة: «لا بد أن أحدًا قد طعن (traduced) في يوزيف ك.» (ترجمة ويلا موير وإدوين موير). «لا بد أن أحدًا قد قال أكاذيب (telling lies) عن يوزيف ك.» (ترجمة ديفيد وايلي). «لا بد أن أحدًا قد افترى (slandered) على يوزيف ك.» (ترجمة بريون ميتشل). «لا بد أن أحدًا قد وشى (tell tales) بـيوزيف ك.» (ترجمة مايك ميتشل). «لا بد أن أحدًا قد اتهم يوزيف ك. بالباطل (made false accusation).»، وغيرها من الترجمات. لكن دعوني أترجمها هنا بـ «لا بد أن أحدًا قد نشر شائعات (spreading rumors) عن يوزيف ك.»، تماشيًا مع موضوع دراستنا. وللأصل الألماني، انظر:
<www.digbib.org/Franz_Kafka_1883/Der_Prozess>.
[29] لنلتفت إلى التورية المُضمَرة في عبارة "like a doge"، "ككلب"، فالمؤلف يحيل هنا على قصة كافكا القصيرة "Investigations of a Dog"، "أبحاث كلب". [المترجم]
[30] لنلتفت هنا إلى الجناس اللفظي بين كلمتَي "slender"، تافه، هزيل؛ و"slander"، بهتان، إفك. [المترجم]
[31] لنلتفت إلى الجناس المُضمَر في كلمة "prozess" الألمانية، فهي تعني "سيرورة"، "عملية"، لكنها تعني أيضًا "محاكمة". فهنا يشعل الآخر الكبير الآخر (الشائعة) شرارة انطلاق سيرورة، شرارة انطلاق محاكمة يوزيف ك. — انطلاق المحاكمة، عنوان رواية كافكا. [المترجم]
[32] لنلتفت إلى الجناس المُضمَر في عبارة “subject to rumors”، فهي تعني "موضوع للشائعات"، لكنها تعني أيضًا "خاضع للشائعات"، تمامًا كرهينة. [المترجم]
[33] أنا مدين بهذه الملاحظة لأليكس جارثيا دوتمان.
[34] قارن مع قصة كافكا "في مستعمرة العقاب"، المبنية على "وسم" حرف القانون، الحكم، فوق جسد المحكوم عليه [وانظر تحليل أجامبِن لهذه القصة في دراسته المحال عليها هنا].
[35] لا بد أن كافكا كان على معرفة جيدة بالقانون الروماني بما أنه كان محاميًا.
[36] Giorgio Agamben, Nudities (Stanford: Stanford University Press, 2011), p. 20–36.
[وانظر ترجمتي لهذه الدراسة هنا: https://boringbooks.net/2022/11/agamben-kafka-trial.html ]
[37] Miguel de Cervantes, Exemplary Stories, trans. Lesley Lipson (Oxford: Oxford University Press, 2008), p. 263.
وأنا مدين بهذا المرجع لآرون شوستر.
[38] لنلتفت إلى الجناس اللفظي بين كلّم وكلَم: كلّم فلانًا أي خاطبه، وكلَم فلانًا أي جرحه. بين كَلام وكِلام: كَلام أي حديث وكِلام أي جروح. وأنا مدين بهذه ال pun الفاتنة لأدهم عبد الباري.
[39] "القطة على السجادة"، ‘the cat is on the mat’، عبارة يكثر الفلاسفة التحليليون (فيتجنيشتين، رَسل) من استعمالها، كمثال، في معرض بيان نظرياتهم اللغوية والإبستيمولوجية. على سبيل المثال، لكي تكون عبارة ما صائبة فلا بد أن تتطابق بقدر ما مع ما تحيل عليه في العالم، فلكي تكون عبارة "القطة على السجادة" صائبة، فلا بد أن توجد قطة، وتوجد سجادة، وتكون القطة فوق السجادة. [المترجم]
[40] القول بأن النميمة هي الوظيفة الأساسية للغة قول له أنصاره بين علماء النفس والإناسة المحترمين، وأشهرهم عالم الأنثروبولوجيا التطورية البريطاني روبين دنبار، الذي صنَّف كتابًا في هذا الصدد بعنوان:
Grooming, Gossip and the Evolution of Language (Cambridge, MA: Harvard University Press, 1996).
يقول دنبار إن الـ"grooming" [عناية الرئيسيات بعضها بأجساد بعض بتنظيف الجلد من الوسخ، وتفلية الشعر والفرو، ونحو ذلك؛ وهو أصل أشكال التواصل البشري الجسدي، كتصفيف شعر الآخر والمسح على رأسه، والتربيت على يده وكتفه، واحتضانه، وتقبيله، وتمسيد جسده، وما إلى ذلك] يلعب في مجتمعات القرود دورًا أساسيًّا في شد أواصر الروابط الاجتماعية [بتكوين الجماعات والأحلاف التي من شأنها أن تحمي الفرد من مخاطر العيش منفردًا؛ فيجد من يهبُّ لنجدته في ساعة الحاجة والخطر. لكن قدرة الـ"grooming" على لعب هذا الدور مُقيَّدة بعدد أفراد الجماعة الواحدة؛ لأنه يتطلب الاحتكاك المباشر بين آحاد أفرادها. ومن ثم عندما تكبر الجماعة بحيث يستحيل الاحتكاك المباشر بين أفرادها، كما هو حال الجماعات البشرية، تغدو في حاجة إلى وسيلة أخرى غير الـ"grooming" لشد أواصر الروابط الاجتماعية بين أفرادها، فما هذه الوسيلة يا ترى؟ إنها اللغة، يرى دنبار أن اللغة قد تطورت عند البشر لاستكمال مهمة الـ"grooming"؛ لشد أواصر الروابط الاجتماعية في الجماعات البشرية وفي ما بينها]. وفي ضوء ذلك، يُمكِن اعتبار اللغة "grooming عن بعد": «تبدو اللغة، بطرق شتى، ملائمة تمامًا لأن تكون شكلًا رخيصًا وفعالًا للغاية من الـgrooming»(ص. 79).
[ولأن وظيفة اللغة الأساسية وظيفة اجتماعية بامتياز، نجد أن الغالب على محادثات الناس ليس تناقل المعارف العلمية والتقنية أو مناقشة المسائل الفكرية والفلسفية، وإنما تناقل أخبار الآخرين ومناقشة الشؤون الشخصية والاجتماعية، أي النميمة بالمعنى الواسع للكلمة] يقول دنبار: «يُصرَف ثلثا وقت أي محادثة إلى الموضوعات الاجتماعية، التي تتضمن مناقشة العلاقات الشخصية، وما يحبه الشخص وما يبغضه، والتجارب الشخصية، وسلوكيات الآخرين، وغيرها من الموضوعات المشابهة ... ومن أهم المنافع، التي تقدمها النميمة للمرء، أنها تُبقيه على علم بسُمعة الآخرين (والتأثير فيها بالطبع) وعلى علم بسُمعته عندهم. إن النميمة ... تدور في الأساس حول التحكم في السمعة [فلان غشاش وعلان أمين، فلان ماهر في صنعته وعلان خائب فيها، فلانة عفيفة وعلانة فاسقة، إلخ]» (ص. 123).
تدور النميمة إذن حول التشبيك الاجتماعي، حول تكوين الشبكات الاجتماعية، وتمييز شبكة علاقات المرء (جماعته) عن غيرها، وخصوصًا حول "التحكم في السمعة"، "إدارة السمعة"، يا له من مصطلح مُوفَّق! — على المرء أن يتتبع هذه السيرورة بدايةً من أشكالها الأولية؛ تكوين الروابط الاجتماعية البدائية، وصولًا إلى أشكالها المُعقَّدة؛ شبه السرطانية، على فيسبوك وتويتر.
[41] Roman Jakobson, ‘Linguistics and Poetics’, in Style in language, ed. Thomas A. Sebeok (Cambridge, MA: MIT Press, 1960), pp. 350–60.
[يميز ياكبسون بين ستة عناصر ضرورية لحصول التواصل اللفظي: 1. المخاطِب، 2. المخاطَب، 3. الرسالة، 4. السياق، 5. قناة الاتصال، 6.كود لغوي مشترك (لغة مشتركة ببساطة). ومن خلال تعلُّق الرسالة بكل عنصر من هذه العناصر الستة، تُؤدِّي اللغة وظائفها التالية، على الترتيب: 1. الوظيفة التعبيرية (عن العواطف والمشاعر)، 2. الوظيفة الإفهامية والتكليفية، 3. الوظيفة الشعرية، 4. الوظيفة الإحالية (الوصفية)، 5. الوظيفة التفاعلية (كما في التحيات، والعبارات التي تفتح الحوارات وتطيلها وتغلقها)، 6. الوظيفة الميتا-لغوية (الكلام عن اللغة نفسها).]
[42] Cervantes, Zgledne novele, trans. Anton Debeljak (Ljubljana: Slovenski knjižni zavod, 1951), p. 470.
[43] على نحو أدق، كلمة "govorica" لفظ عام يجمع في طيَّاته الـ"jezik" والـ"govor"، أي اللغة والكلام؛ إنها تترادف تقريبًا مع كلمة "le langage" الفرنسية. ويبدو أن السلوفينية تنفرد بهذه الخصيصة: الكلمة نفسها تعني إشاعة ولغة، وإن كنت لم أبحث بتعمُّق في هذه المسألة. لكن على وجه العموم، تأثيلات كلمة شائعة في اللغات التي أعرفها ليس لها علاقة بكلمة لغة؛ ففي الإنجليزية واللغات المنحدرة من اللاتينية [كالإيطالية والفرنسية والإسبانية والبرتغالية]، أصل كلمة "rumor" يعني "صخب، صياح". وفي الصربية-الكرواتية، أصل كلمة "glasine" يعني "صوت". وفي اللغة الألمانية واللغات الإسكندنافية، أصل كلمة "Gerücht" يعني "النداء" (بالإضافة إلى التأثيل الشائع الذي يردها إلى الشم). وفي الروسية، أصل كلمة "sluhi" يعني "سماع". [وفي العربية، أصل كلمة شائعة يعني الظهور والانتشار]. يبدو إذن أن كلمتَي "لغة" و"شائعة" لا يتطابقان إلا في السلوفينية. وغالبًا (لكن ليس دائمًا) يُفرَّق بين الكلمتين على أساس الإفراد والجمع؛ فعندما تُستعمَل الكلمة بمعنى شائعة غالبًا ما تكون في صيغة الجمع وليس المفرد (govorice)، بينما تكون غالبًا في صيغة المفرد عندما تُستعمَل بمعنى لغة، كما لو أن الجمع يُحوِّل وحدة اللغة إلى تعدُّدية الشائعات. ولعل هذا التحول يصلح لتفسير تاريخ سلوفينيا نفسه.
[44] Cervantes, Exemplary Stories, p. 266.
[45] أو "لا يوجد آخر كبير للآخر الكبير" (there is no Other of the Other). واحدة من أشهر مقولات لاكان الاصطلاحية، طرحها في السيمينار السادس، الرغبة وتأويلها، وقال عنها إنها «سر التحليل النفسي الأكبر». و يُمكِن توضيح معناها بتبسيط شديد كالتالي: على من يُعوِّل الآخر الصغير لمعرفة الصواب والخطأ؟ من الذي يضمن له المعرفة والحقيقة؟ من الذي يجيبه على سؤال رغبته؟ من الذي يضمن له صوابية تصرُّفاته؟ إنه الآخر الكبير؛ فهو الذي يمده بقانون، بنظام يحكم وجوده. لكن على من يُعوِّل الآخر الكبير نفسه؟ لا أحد. الآخر الكبير، وعلى خلاف الآخر الصغير، ليس له آخر كبير يرتكن إليه. وبعبارة أخرى، من الذي يضمن اتساق النظام الرمزي الحاكم؟ لا أحد. من الذي يمد النظام الرمزي بالقانون، بـ"النظام"؟ لا أحد. من الذي يضمن للآخر الكبير أنه على صواب؟ لا أحد. ولذلك النظام الرمزي متناقض وغير متسق ومُفتقِر لأي أساس متين. إن ما يمدنا بالقانون مفتقرٌ هو نفسه إلى القانون في واقع الأمر. إن الآخر الكبير يعاني من الفقد والتناقض والنقص والجهل تمامًا كما هو حال الآخر الصغير الذي يُعوِّل عليه. وعودةً إلى موضوع الدراسة، نقول إن الآخر الكبير ليس له آخر كبير بما أنه لا يرتكز على أساس متين، على اللوجس، العقل، وإنما على أساس واهٍ تمامًا، على شائعة، فِرية. وراجع الحاشية رقم 2. [المترجم]
[46] النميمة كلام، وليس معرفة، وممتعة. والـ"هو" (اللاوعي) يتكلم ويريد المتعة، وليس المعرفة. وعلى ذلك يُمكِن اعتبار النميمة حلقة الوصل بين الـ"هو" المتكلم والـ"هو" المتمتع. وبعبارة أخرى، النميمة هي كلام الـ"هو" المُمتِع. وراجع الحاشية رقم 3. [المترجم]
[47] The letters of Sigmund Freud to Eduard Silberstein, ed. Walter Boehlich (Cambridge, MA: Harvard University Press, 1990).
[48] كما لو أن لديهما- ويا للغرابة!- "إرادة تنظيمية"، "دافعًا مؤسسيًّا" — فما الذي يجعل مراهقين يتعلمان اللغة الإسبانية في حاجة إلى إطار مؤسسي، بشعار وختم وجميع ما يلزم؟ هل كانا في حاجة إلى ضمانة الآخر الكبير ومباركته؟ هل هذا نذير خافت ومُبكِّر من المصير الذي ستؤول إليه منظمات التحليل النفسي في ما بعد [كل اثنين في واحدة]؟
[49] ابنة إجناز فِلَسّ صديق عائلة فرويد، وأول حب في حياته (كان عمره حينها 15 سنة وعمرها 12 سنة). ويظهر من رسائله هذه أنه كان مفتونًا بأمها إلينورا كفتنته بها أو أشد، يقول عنها في واحدة من الرسائل: «إنها امرأة لا عديل لها بين جميع ذريتها». ولأن الحب الأول لا يُنسى، سيأتي فرويد على ذكر جزيلا لاحقًا في موضوعين من أعماله: في دراسته "الذكريات الحاجبة" (1899)، حيث سيحكي عن افتتانه بها (لكن مع عزوه إلى مريض غُفل). وفي حالة رجل الجرذان (1909)، حيث كانت محبوبة رجل الجرذان تحمل الاسم نفسه؛ جزيلا، ولما ورد ذكرها، وضع فرويد بعد اسمها ثلاث علامات تعجب، هكذا "!!!"، ولم يُعقِّب. وللمزيد عنها، انظر سيرة فرويد لإرنست جونز (1953، الجزء الأول، ص 27-29، 35-37). [المترجم]
[50] فرانز برِنتانو، (Franz Brentano 1838-1917)، فيلسوف ألماني، عُرِف بأعماله في فلسفة علم النفس، ويُعَدُّ رائد التقليد الفينومينولوجي (تتلمذ إدموند هوسرل على يديه). [المترجم]
[51] دعوني أنقل لكم قولًا واحدًا فقط من آخر أقوال لاكان العلنية [تُوفِّي لاكان في سنة 1981]:
‘L’Autre manque. Ça me fait drôle à moi aussi. Je tiens le coup pourtant, ce qui vous épate, mais je ne le fais pas pour cela.’ ‘Dissolution’, Ornicar?, vol. 20–1 (1980), p. 12.
«الآخر الكبير مُفتقِر. وأنا لست سعيدًا بذلك. وإنما أتحمَّله، وهو ما يدهشكم، لكنني لا أفعل ذلك ابتغاء دهشتكم.»
وبمقدور المرء أن يتبيَّن هنا ما يشبه مُسوَّدة لإتيقا التحليل النفسي: أن يتحمَّل المرء افتقار الآخر الكبير ويصطبر عليه.
[52] يُعَدُّ الموقف من الآخر الكبير نقطة تحوُّل فارقة في فكر جاك لاكان؛ فلاكان المُبكِّر ( أي حتى السمينار الخامس، تشكُّلات اللاوعي) كان مؤمنًا بالآخر الكبير؛ فقد قال بالحرف في السمينار الخامس: "الآخر الكبير موجود". ويرجع ذلك إلى أن لاكان حينها كان مؤمنًا بالنظام الرمزي، كان شغوفًا بالبحث عن القانون، بأشكاله الخمسة التي عيَّنها جاك آلان ملير (صهر لاكان، وأهم تلامذته وشُرَّاحه، ومُحرِّر دروسه والقائم على نشرها): اللغوي (دو سوسير وياكبسون)، والرياضي (رسل)، والديالكتيكي (هيجل)، والاجتماعي البنيوي (ليفي-شتراوس)، والأوديبي (فرويد). لكن بدايةً من السمينار السادس؛ الرغبة وتأويلها، سينقلب موقف لاكان من الآخر الكبير رأسًا على عقب؛ إذ سيقول في السمينار السادس- كما أسلفنا-: "ليس للآخر الكبير آخر كبير"، وسيقول في السمينار الرابع عشر؛ منطق الاستيهام: "الآخر الكبير غير موجود" (نقيض ما قاله آنفًا في السمينار الخامس). فكيف يُمكِن الجمع بين هذين القولين المتناقضين تمامًا؛ "الآخر الكبير موجود"، و"الآخر الكبير غير موجود"؟
بأن نقول إن نفي وجود الآخر الكبير لا يعني أنه عدم ببساطة، وإنما يعني أنه غير موجود على الحال الذي ينبغي له أن يكون عليه، أي إنه موجود لكنه يعاني من النقص والفقد والافتقار والتناقض، موجودٌ لكنه غير مرتكز على أي أساس متين، موجود لكنه بلا ضامن (بلا آخر كبير)، موجود لكنه "مخصي" (كالآخر الصغير). أو بأن نقول (مع ألينكا زوبانجج) إن الآخر الكبير غير موجود بمعنى أنه لم يعد من الممكن له أن يتجسَّد في أي آخر صغير (الأب، الرئيس، العالِم، إلخ)، لم يعد من الممكن لأي آخر صغير أن ينطق بلسان الآخر الكبير، أن يطلب منا طاعته والانصياع له. علاوةً على ذلك، يلفت تود مِجاوين انتباهنا إلى أنه لكي نتبيَّن أن الآخر الكبير غير موجود حقًّا يتعيَّن علينا أولًا أن نؤمن بأنه موجود، أي إن معرفة أن الآخر الكبير غير موجود لا يُمكِن تحصيلها (وعلى نحو هيجلي) إلا بعد السقوط في الوهم القائل بأنه موجود. وراجع الحاشية رقم 5، ورقم 45، وما يلي من المتن. [المترجم]
[53] لنلتفت إلى الجناس اللفظي المُضمَر في كلمة "doggy"، فهي تعني "تظاهُر وادعاء"، لكنها تعني "كلبيّ" حرفيًّا. [المترجم]
[54] الإحالة هنا بالطبع على شخصية تشارلز فوستر كين بطل فيلم Citizen Kane (أورسِن ويلز، 1941)، المبنية على شخصية وليام راندولف هيرست الذي كان قطبًا من أقطاب صناعة الإعلام في القرن المنصرم، تمامًا كروبرت موردخ، صاحب إمبراطورية فوكس الشهيرة. [المترجم]
[55] حتى نتوخَّى الدقة، ثمة ثلاث تنويعات أساسية (على الأقل) على هذه الترجمة: «أنا أتصرف كما لو أن الآخر الكبير غير موجود؛ أنا الناطق بلسان الآخر الكبير؛ الآخر الكبير حالٌّ في شخصيتي الكاريزميَّة.» انظر:
Aaron Schuster, ‘Beyond Satire’, in Sovereignty, Inc., ed. William Mazzarella, Eric L. Santner and Aaron Schuster (Chicago: University of Chicago Press, 2020), p. 190.
[56] أو كما قال د. هارتز في فيلم The Lady Vanishes (ألفريد هتشكوك، 1938)، رادًّا على النقد نفسه: «لقد كانت نظريتي صائبة تمامًا، أما الحقائق فقد كانت مُضلِّلة.» [المترجم]
[57] كان ترامب في البيت الأبيض وقت كتابة هذه الدراسة. [المترجم]
[58] من وجهة نظر أخرى، هذا عين ما يرمي إليه مفهوم الأنا-الأعلى (superego) الفرويدي: بعد زوال السلطة الأبوية، يحل الأنا الأعلى في محلها، ويزدهر ويقوى على نحو لم يسبق له مثيل [أو بعبارة أخرى، سلطة الأب الميت أقوى من سلطة الأب الحي. هذا ما نتعلمه من أسطورة فرويد التحليلية عن الرعيل الأولاني (في الطوطم والتابو): يستأثر الأب الأولاني بالمتعة لنفسه دون أولاده، فيجتمعون عليه ويقتلونه. لكنهم لا يقتحمون على إثر ذلك باب المتعة الذي كان الأب حاجبًا عليه، كما هو مُتوقَّع، وإنما يحرصون على إغلاقه بأنفسهم على نحو أوثق من أي وقت مضى في عهد الأب، حتى تستقيم حياتهم دون أن يقتل بعضهم بعضًا وحتى لا يخلقوا أبًا جديدًا. فيُحرِّمون على أنفسهم ما كان يُحرِّمه الأب عليهم في حياته، وبدرجة أشد. وهكذا يخلف الأنا الأعلى الأب الميت، ويُؤدِّي دوره على أكمل وجه]. بعد زوال السلطة الأبوية، يغدو الجانب التحتاني الفاحش للأنا الأعلى هو السمة المميزة [ليس الأنا-الأعلى مجرد آمر أخلاقي، "ضمير"، وإنما له وجه آخر سادي وفاحش جدًّا، وهذا الوجه تحديدًا هو الذي يسود بعد زوال السلطة الأبوية، بعد موت الأب].
[59] لا يشير دالُّ اسم-الأب (Name-of-the-Father) إلى الأب بالمعنى البيولوجي للكلمة، وإنما إلى "وظيفة الأب"، أي الأب بصفته واضع القانون (بالمعنى الواسع للكلمة) وحارسه؛ اسم-الأب هو تشخيص القانون، القانون مُجسَّدًا. ولنعُد هنا إلى عبارة "ليس للآخر الكبير آخر كبير": تتضمَّن العبارة آخرين كبيرين، فمن هما تعيينًا؟ يجيب ألان ملير بالتالي: الآخر الكبير الأول هو النظام الرمزي. والآخر الكبير الثاني، غير الموجود، هو اسم-الأب، أي القانون كما سلف وبيَّنَّا في الحاشية رقم 41. [المترجم]
[60] ينبغي التمييز هنا بين ثلاثة مفاهيم إكلينيكية: الجحد (disavowal) والكبت (repression) والنبذ أو الطرد (foreclosure). هذه هي أشكال الـ"negation" (النفي) الفرويدي الثلاثة، وهذه هي الآليات النفسية الأساسية التي تتكوَّن من خلالها العلل النفسية الأساسية في التحليل النفسي: الجحد هو آلية تكوين الانحراف الجنسي (perversion)، والكبت هو آلية تكوين العُصاب (neurosis)، والنبذ هو آلية تكوين الذهان (psychosis). وباختصار: الـ"repression" هو فصل الأفكار والرغبات التي لا تتناسب مع صورة المرء عن نفسه أو مع مبادئه الأخلاقية عن الوعي، وكبتها، حبسها، في اللاوعي؛ والـ"foreclosure" هو النبذ التام لمُكوِّن من مُكوِّنات النظام الرمزي (أي من اللغة)، لكن ليس أي مُكوِّن، وإنما المُكوِّن الأساسي الذي يقوم عليه النظام الرمزي وهو اسم-الأب. وعودةً إلى موضوعنا، يُسوَّغ لنا القول بأن طغيان الشائعة هو عرضٌ لكبت الآخر الكبير (عصابيًّا) أو لنبذه (ذهانيًّا)، والنبذ أليَق هنا. أما الجحد فقد سبق وتكلمنا عنه، راجع الحاشيتين 6 و8. [المترجم]
[61] Alenka Zupančič, Why Psychoanalysis? (Uppsala: NSU Press, 2008), p. 55.
[62] الـ"objective fictions"، الأوهام (الخيالات، الأباطيل) الموضوعية، هي موضوع الكتاب الذي نُشِرت فيه هذه الدراسة. والوهم الموضوعي هو مفهوم فلسفي يرمي إلى تبديد التفرقة الفلسفية التراثية: ذاتي/موضوعي، خيالي؛ وهمي/مادي، باطل، زائف/حقيقي. وذلك بوصف الوهم (الذاتي والخيالي والباطل والزائف ضرورةً) بأنه موضوعي (مادي وملموس وحقيقي)؛ إنه وهم يسير في الشارع، وهمٌ بقدمين (بعبارة لاكانية). والشائعات مثال نموذجي على الوهم الموضوعي: إنها مُختلَقة وباطلة وزائفة، لكنها موضوعية، بمعنى أنها بالغة التأثير على الواقع، أكثر من أي حقائق أخرى ربما. [المترجم]
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط الخاصة بنا وملفات تعريف الارتباط الخاصة بالجهات الخارجية حتى نتمكن من عرض هذا الموقع وفهم كيفية استخدامه بشكل أفضل ، بهدف تحسين الخدمات التي نقدمها. إذا واصلت التصفح ، فإننا نعتبر أنك قبلت ملفات تعريف الارتباط.